مشكلات في الدراسة والحياة


أبو البراء محمد بن عبدالمنعم آل عِلاوة

السؤال


الملخص:
فتاة تدرس في بلدٍ غير بلدها وتريد نصائح تتعلق بتحمُّل المسؤولية وكتم الأسرار، وتسأل: هل الأفضل الزواج بعد تخرُّجي كما يرى والدي، أم أثناء الدراسة؟
التفاصيل:
أنا فتاة في العشرين من عمري، أدرس بالسنة الثانية بكلية الطب، مشكلتي الأساسية هي دراستي، فقد كنتُ سأحطم نفسيًّا إن لم أدخُل كلية الطب التي كانت حلم الطفولة وحلم أهلي، وقد أكرَمني الله بالقَبول بها، ولكنني بعدما دخلتُ الكلية لم أنجح أبدًا من أول مرة، ففي كل ترم لا بد أن أرسُب وأدخل اختبارات الصيف، لكني والحمد لله أنجح، ومعدَّلي الآن مقبول، رغم أن كل ظروفي أكثر من رائعة، وأعيش حياة شبه مثالية؛ فقد أكرَمني الله رب العالمين بأهل يُحبونني كثيرًا وقد صبَروا عليَّ كثيرًا، وتحمَّلوا رسوبي رغم صدمتهم به كل مرة، بل إنهم في كل مرة يتركون إخوتي في بلدي مع أخي الكبير، ويتركون عملهم، ويأتون للجلوس معي في الدولة التي أدرُس فيها مدةَ اختباراتي الصيفية؛ كي يدعموني ويهتموا بي، كما أن اغترابي عن أهلي لا يجعلني حزينة، بل على العكس من ذلك؛ فلطالَما تمنَّيت أن أسكُن في سكن للطالبات وقد تحقَّق ذلك، ووالله إن هذا السكن أجمل بكثير مما توقعته، كذلك امتلاكي لصديقات رائعات، هذا بالإضافة إلى أنني حقَّقت أمنيتي بدراسة الطب في البلد الذي كنت أريده، رغم أنه كان أمامي دولٌ أخرى، وقَبولي في كليات أخرى في بلدي، كل هذه الحياة التي أحمد الله رب العالمين عليها لا يَنقُصها إلا أن أُتوِّجها بالنجاح، وأُدخِلَ السرور على أسرتي، ولا أُخفيكم سرًّا، فقد عشتُ حياةً قاسيةً جدًّا قبل كل ذلك، فقد عانيتُ أنا وأسرتي من العنف الأسري من قِبَلِ والدي، وكنت سابقًا لا أحبه، وأيضًا عشتُ سنتين بعيدًا عن والدتي مع أخواتي الصغريات، بينما كان أخي مع والدتي بمدينة أخرى؛ حيث نقلنا أبي إلى مدينةٍ غيرها لظروف عمله، ولم يستطع نقل والدتي وأخي لظروف عملها وجامعة أخي، فأصبحتُ أنا من يقوم بكل مهام المنزل وأنا بعدُ طالبةً في الثانوي، وكان لزامًا عليَّ الحصول على معدل عالٍ، وتحمُّل بُعد والدتي التي كانت تأتي مرة في الشهر مع أخي لزيارتنا مدة أربعة أيام، ولكن أحيانًا كنتُ لا أراها مدةَ شهرين أو ثلاثة، أضِف إلى ذلك مشاكلي في المدرسة من تنمُّر الفتيات، وسوء فَهْمٍ جعل الصفَّ كله يكرَهني.
كنت طالبة جديدة، وكانت لي صديقات أُحبهم كثيرًا، وقد تركنني؛ لأني أخطأتُ من دون قصد مع إحداهن، وما حصل أن صديقتي المفضلة التي رغبت بالقدوم إلى بلد دراستي من أجلها، كانت تحصل على المراكز الأولى، وتُكرَّم من قِبَلِ المدرسة؛ فأحببتُ أن أُهديَها أيَّ شيء، ولكنني لم أجد شيئًا مميزًا بالبيت كي أعطيَه لها، ولم أستطع الصبر أبدًا لليوم التالي كي أشتريَ شيئًا لها، فأخذتُ علبة جميلة صغيرة، وبدأت بملئها بأي شيء أراه أمام عيني، فوضعت لها قلمًا وممحاة صغيرة جميلة وبعض السكاكر، وفتحت أحد الأدراج، فوجدتُ فيه علب كبريت، فوضعتُ إحداهن مع رسالتين، غاب عن ذهني تمامًا أن الكبريت ممنوع في المدرسة، أعلم أنكم قد تستغربون كثيرًا مني؛ فأنا شخصيةٌ عفوية متسرعة، على أنني لا أنسى أي تفاصيل جرحتني يومًا أو أسعدتني، المهم لم أتوقع أبدًا أن تشعلَ الفتاة الكبريت بالمدرسة، فاكتشفتِ المعلمات ذلك، وتسبَّب ذلك في نزولنا للإدارة، ولكنهم سامحونا ولم يفعلوا لنا شيئًا؛ كوننا متفوقتين ومؤدبتين، ولكنها عندما أخبرت والدتها بذلك غضبت كثيرًا وقالت لها: ابتعدي عن تلك الفتاة، وما حصل لم يكن ذنبي كاملًا؛ ربما كثير من الذنب يقع عليَّ، ولكنني لم أطلُب منها إشعال الكبريت، في اليوم التالي أخبرتني أنه يجب علينا أن ننسى أننا كنا أصدقاءَ في أحد الأيام، حاولتُ الاعتذار كثيرًا ولكنها مشت وتركتني، وتركتني البقية تضامنًا معها، ولن أنسى أبدًا هذا الموقف الذي أثَّر عليَّ كثيرًا، رغم محبتي الكبيرة لها، والدي الآن - ولله الحمد - قد تغير كثيرًا، فلم يعد يَضرِبنا رغم استمرار خلافاته مع والدتي كلما اجتمعوا بنفس المكان، أنا في الوقت الحالي في بلد دراستي وأخواتي عُدْنَ للعيش مع والدتي وأخي، والدي يسكُن وحده بمدينة أخرى، ولكنه حاليًّا معي بلد دراستي لأجل اختباراتي الصيفية التي أخاف ألَّا أنجحَ فيها، على الرغم أنني كنت لا أُحبه في صغري، ولكنني عندما كبرت أدركتُ أنه مهما فعل والدُك، فسيظل هو سندُك وحمايتك، وهو أكثر رجل سيحبك في الدنيا، وهو مستعد لفعل أي شيء لأجلك.
بالنسبة لدراستي، فلا أقول إنني كنت أبذل جهدًا كبيرًا بالمرحلة الثانوية، بل كنت أهمل وألعب، ولكنني كنت أدرس أيضًا، ووفَّقني الله وأكرمني بمعدل عالٍ رغم كل الضغوط التي عانيت منها، ولكن كل ما حصل لي في حياتي سابقًا جعلني أكثرَ قوة الآن، وأفادني كثيًرا، فقد اعتدتُ العيش بعيدًا عمن أُحب فترات طويلة؛ ما ساعدني في ألا أشعر بالغربة هنا، وأيضًا تعلمي للطبخ سيفيدني مستقبلًا، أنا لا أشعر أن مناهج الطب صعبة لتلك الدرجة، خصوصًا أننا لا زلنا بأول سنتين، ولكن الإهمال مني أنا، فالوقت كافٍ والظروف رائعة جدًّا، ولكنني أضيع وقتًا كثيرًا في النوم والجوال، بل لا أبالغ إذا قلت أنني لا أبذل جهدًا أصلًا، فأنا أدخل الاختبار برُبع المنهج أو أقل منه، وفي بداية كل ترم أحضر المحاضرات ولكن بعدها أتكاسل وأتغيب كثيرًا، أتمنى أن يكون عندي إرادة وصبر وقوة، كذلك أشعر بأني أُصبت بحالة من انعدام المبالاة، فأكون متأكدة من رسوبي، ومع ذلك لا أشعُر بتأنيب ضمير، وكذلك أشعر أني ناكرةٌ للجميل؛ فأهلي يدفعون لدراستي تكاليف باهظة.
أمرٌ آخرُ حدث مؤخرًا وهو أن طبيبة تعرَّفت على والدتي - وهي طبيبة أيضًا - في العمل، وتحدثوا قليلًا، ثم عرضت عليها أن يخطبني ابنها وهو طبيب في السنة السادسة، وهم من البلد التي أدرُس فيها، وما شاء الله ابنها من الأوائل، وحالتهم المادية ممتازة أيضًا، وقد قابلته مرة مع والدتي، وأعجبني وارتحتُ له بعد الاستخارة ثلاث مرات، وأنا أيضًا أعجبته، كلانا ليس له علاقات مع الجنس الآخر، فأنا لا أكلم شبابًا أبدًا، وكنت أساسًا معقدة من فكرة الزواج، وكنتُ أكره الرجال جميعهم بسبب ما عِشته بطفولتي، ولكنني كبرت وتغيرت أفكاري كثيرًا، وأنا موافقة عليه، ولكنني خائفة نوعًا ما من الزواج والمسؤوليات، ومن أن يتحكم بي أو أعيش معه بأسلوب غير الذي اعتدتُ عليه، فوالدي رغم عيوبه إلا أن له ميزات كثيرة؛ فهو كريم ومعطاء، ويثق بي ويسمح لي بالخروج لأماكن معينة مع صديقاتي، ونحو ذلك، فأخاف أن يَخنقني مَن سأتزوَّجه، لكنه غيرُ موافق وغضِبَ جدًّا عندما فاتحته أمي بالموضوع، بدأ يشتم الشاب، ويقول: لا أريد لابنتي أن تصبح خادمة عند أحدهم، ودراستها ونجاحها أهم شيء عندي، وعندما تحدثت معه والدة الشاب أغلق الهاتف بوجهها ورفض طلبها، لكن ذلك ما زادها إلا إصرارًا على إتمام الخِطبة؛ فهي تحبني كثيرًا، وأيضًا أخته تحبني وأنا أتواصل معهما، أنا أُحب حقًّا أهل البلد التي أدرس فيها، فمعاملتهم جميلة جدًّا وهم خدومون جدًّا، وطيبون معي، ولم أشعر أبدًا بأي عنصرية هنا، بل لو كنتُ في بلدي، لَما تلقيتُ كل هذه المعاملة المحبة من قِبَلِ أهل هذا البلد.
أردت أن أسالكم: هل الأفضل أن أتزوَّج بعد تخرجي كما يقول والدي، أو مثلًا بعد سنتين؟ وأعطوني نصائحَ كي أُحسِّنَ دراستي ويصبح لديَّ بعض المسؤولية تجاهها، كذلك أعطوني نصائحَ تجعلني أكتم أسراري وتفاصيل حياتي عن زميلاتي وصديقاتي غير المقربات، وشكرًا جزيلًا لكم.


الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أما بعد:
أولًا: مرحبًا بكِ أيتها الأخت الفاضلة، ونسأل الله لكِ الهداية والتوفيق والتيسير والسداد.
ثانيًا: أُحييكِ على حسن عرضكِ لمشكلتكِ، وفي الحقيقة أنكِ قد أحسنتِ في وصف الداء والدواء لحالتكِ، فما من مشكلة إلا وتعلمين سببها وحلَّها، وهذا في حد ذاته جيدٌ في الخروج مما أنتِ فيه؛ فمعرفة المرء بنقاط ضعفه وأسباب تقويتها أول العلاج.
فما أراه ينقُصكِ أيتها الأخت الفاضلة - بعد عون الله والاستعانة به ودعائه - القدوةُ الحسنة؛ فغياب دور الأب والأم التربوي واضحٌ تأثيره على شخصيتكِ، فعليكِ باختيار القدوة لكِ، ولا مانع من تحسين علاقتكِ بأبيكِ والكلام معه أو مع أمكِ بشكلٍ أكثرَ، وقد قلتِ أنكِ أعدتِ النظر في حُبِّكِ له، ولا مانعَ من القراءة في سِيَر أُمهات المؤمنين والصحابيات لتقوية جانب القدوة في حياتكِ.
أما عن دراستكِ، فالعلاج في تنظيم وقتكِ والاهتمام بها وفقط، فلا أجد مشكلة في كلامكِ سوى هذا، وأنتِ بالفعل قد ذكرتِ الإهمال والكسل، ومما ينبغي التنبيه عليه في هذه المشكلة أن تخرُجي من الإحساس بالفشل، وأن تنمِّي ثقتكِ بنفسكِ عن طريق تذكر ما حققتِهِ من نجاحات في حياتكِ في مراحل التعليم، وأنكِ تحققين النجاح بأقل مجهود، فما بالُكِ لو زدنا في الاهتمام والحرص؟ حدِّثي نفسكِ بالنجاح وعزِّزي ثقتكِ بنفسكِ، واتركي الرسائل السلبية التي تدور بداخلكِ، فالاعتراف بالخطأ وتحديد السلبيات جيدٌ، والأهم لكِ تطوير النواحي الإيجابية في شخصيتكِ من خلال التجربة والخبرة.
أما عن إفشاء سرِّكِ وحديثكِ في مشاكلكِ مع كل أحد، فهذا سببه غياب التوجيه والتسرع في اختيار الشخص المناسب لسماع المشكلة، فعليكِ بحسن الاختيار؛ فالمستشار لا بد أن يكون أمينًا دَيِّنًا، عنده الخبرة التي تُفيدكِ، وإلا فلا فائدة من كلامه، وعليكِ بمعرفة خطورة الكلمة وآفات اللسان، وأن العاقل لسانه خلف عقله، فَيَزِن الكلام ويتفكر في أضراره قبل التلفظ به؛ لذلك نتمنى أن تحاولي دائمًا أن تكوني قليلة الكلام، وتحاولي دائمًا أن تحسبي الكلمات قبل إخراجها، وتحاولي دائمًا أن تحفظي للناس أسرارهم، وأن تحفظي أسرار نفسكِ، وألا تتكلمي بكل ما تسمعين، فإن من الإساءة أن يُحدِّث الإنسان بكل ما سمع، وهذا حذَّر منه سلف الأمة الأبرار، والإنسان كثير الكلام لا يخلو من المبالغة والغِيبة والنميمة؛ لذا وصانا النبي صلى الله عليه وسلم بقلة الكلام وطول الصمت؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت))؛ [البخاري (6475)، ومسلم (47) من حديث أبي هريرة].
قال الغزالي: "من تأمَّل جميع آفات اللسان، علِمَ أنه إذا أطلق لسانه لم يَسلَم، وعند ذلك يعرف سر قوله صلى الله عليه وسلم: ((مَن صمَت نجَا))؛ [الترمذي (2501)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6367)]؛ لأن هذه الآفات كلها مهالك ومعاطَبُ، وهي على طريق المتكلم، فإن سكت سلِمَ من الكل، وإن نطق وتكلم خاطر بنفسه، إلا أن يوافقه لسان فصيح، وعلم غزير، وورع حافظ، ومراقبة لازمة، ويقلل من الكلام، فعساه يسلم عند ذلك، وهو مع جميع ذلك لا ينفك عن الخطر، فإن كنت لا تقدر على أن تكون ممن تكلم فغنِمَ، فكن ممن سكت فسلِمَ، فالسلامة إحدى الغنيمتين"؛ [إحياء علوم الدين (3/ 162)].
أما عن زواجكِ، فنرى أن تتزوَّجي من هذا الشاب ما دام ذا خُلق ودين، وظني أن زواجكِ سوف يحقق لكِ ما ترغبين فيه من نجاح وثقة وقدوة والحفاظ على سركِ، وفوق هذا كله تحققين الأنس الأسري الذي فقدتِهِ جرَّاء التشتت الأسري الذي مررتِ به.
أخيرًا: أيتها الأخت الفاضة من توكل على الله كفاه، ومن استعان به هداه، ومن استجار به استجاب دعاه، لذا صلِّي صلاة استخارة في أمر زواجكِ، وحاولي إقناع والدكِ بالزواج. أما عن خوفكِ من عدم القيام بالحقوق الزوجية بناءً على تجربتكِ الأسرية، فقد سبق أن قُلنا: لا تجعلي الفشل يسيطر على تفكيركِ، فدعي عنكِ هذه الظنون السيئة، وتعلمي حقوق الزوج، وتعلمي كيف تسعدين نفسكِ وزوجكِ، واعلمي أن الزوج باب من أبواب دخول الجنة، ونرجو أن تتعلمي من هذه التجربة وتُحسني إلى زوجكِ، وتعتني بأولادكِ إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
هذا وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/fatawa_counse...#ixzz6Fdkw38zW