التحدّي
أمْسَكَ الأسْتَاذُ توفيقُ عبدُ التَّوَّابِ الأدِيبُ الشهِير بِكُوبِ الشَّايِ المُمْتَزِجِ بِعَصِيرِ اللَّيْمُونِ وهُوَ يَجْلِسُ على الكُرْسِيِّ الهزازِ في حديقةِ مَنزِلِهِ، وأمَامَهُ المِنْضَدةُ، وإذا بِيَدِهِ تَهْتَزُّ، ولَا تُحْكِمُ السَّيْطَرَةَ على الكُوبِ؛ فَانسَكَبَ الشَّايُ عَلَى مَلَابِسِهِ، وعلى الأوْراقِ التِي يَكْتُبُ فِيهَا قَصِيدَتَهُ الجَدِيدَةَ، لَمْ يَدْرِ مَاذَا حَدَثَ لِيَدِهِ كَيْ تفقِدَ سَيطَرَتَهَا، وتَهْتَزّ بهذهِ الطريقةِ، إلَّا أنُّهُ أدْرَكَ ما اعْتَرَاهُ من نَزْلَةِ البَرْدِ التِي اضطَرَّتْهُ لِتَنَاوُلِ المُضادَّاتِ الحَيَوِيَّةِ؛ فَألقَى عَلَيْهَا تُهْمَةَ ضَعْفِهِ، واهتزازِ يَدِهِ، وعدَمِ تَحَكُّمِهَا فيمَا تُمْسِكُ، وقَامَ فأصْلَحَ مَلابِسَهُ، وجَفَّفَ المِنْضَدَةَ والأوراقَ مِمَّا أصابَهُ وَأصَابَهَا، وعَرّضَها للهَوَاءِ عَلَّهُ يُعِيدُ لها تمَاسُكَهَا وقَوَامَهَا، ويُوَاصِلُ كِتَابَة ما تَوَقَّفَ عنهُ مِنْ ذَاتِهِ التي يَسْكُبُهَا على الوَرَقِ، فَهَبَّتْ عاصفة تطايَرَتْ معها الأوْرَاقُ بمَا تحْمِلُ مِنْ مَشَاعِرِهِ التِي سجَّلَهَا فيها، فتَتَبَّعَهَا، وأخَذَ يُجَمِّعُها، ووَضَعَهَا على المِنْضَدَةِ، ووضَعَ فوقَهَا كِتَابًا يُثقِّلُها حتَّى لا تَفِرَّ مِنهُ مرَّةً أُخْرَى، وإذا بِهِ يُحِسُّ بإرْهاقٍ شِدِيدٍ من الجُهْدِ الذِي بَذَلَهُ لِتَجْمِيعِ أورَاقِهِ المُتَطَايِرَةِ ، ورغم أنه يجلس على المقعد إلا أنه أحَسَّ بِرَغْبَةٍ في الرَّاحَةِ؛ فقام من مجْلِسِهِ؛ وانْتَبَهَ لِمَا يَحْدُثُ لَهُ مِنْ تَدَهْوُرِ حَالَتِهِ الصحِّيَّةِ يَوْمًا بعد يومٍ، وسألَ نفْسَهُ: ألِهَذا الحَدِّ تَتَسَرَّبُ صِحَّتِي دُونَ أن أنْتَبِه، وتنسَلِخُ عنِّي بهذه السُّرْعَةِ؟، ويجِفُّ من مفاصِلِي مَاؤُهَا ممَّا يُشعِرُنِي بِآلامِهَا؟؛ فَرَدَّ كأنَّهُ يُعَاتِبُ ذاتَهُ: ومَا الذِي يُبقِي الصّحَّةَ فِي جَسَدٍ يُكثِرُ صَاحِبُهُ الاستِغْرَاقَ في التفْكِيرِ في أشيَاءَ ليْسَ له دَوْرٌ في حُدُوثِهَا، ولا يَسْتَطِيعُ تغْييرَهَا، ولو اسْتَطَاعَ ما تَغيّرَتْ؟ ألسْتَ تجْلِس في دارِكَ تنتظرُ الموْتَ عندَمَا رَأيتَ الشيْبَ قد اشتعلَ برأسِكَ؟ وتَعَاوَنْتَ معَ الزمَانِ علَى إِحْنَاءِ ظَهْرِكَ؟ فأصبَحْتَ حَزِينًا على نَفْسِكَ، مُرْهَقًا من أيِّ جُهْدٍ تَبذُلُهُ، أو عمَلٍ تُؤَدِّيهِ! لقد استسْلَمْتَ لتسَرُّبِ الشيخُوخَةِ إليك، وَقَبَعْتَ في مَنْزِلِكَ تَنْتَظِرُ الأجَلَ! لا تتحَرَّكُ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَلَا تَسِيرِ بين النَّاسِ إلَّا إلى طَارِئ!
واستمَرَّ حِوَارُهُ مَعَ نَفْسِهِ: إنَّ النِّهَايةَ قَادِمَةٌ لا مَحَالةَ، فهلَ أنْتَظِرُهَا بِالْآلَام، والأحْزَانِ، ومعاناةِ الأوجاعِ، والأمراضِ، والاستغراقِ في التفكيرِ، أليسَ مِن حَقِّي أن أعيشَ حياتي إلى أن يحين أجَلِي بلا ألمِ، أو حُزنٍ، أو معاناة؟! أيُمْكِنُنِي أن أعُودَ إلى الحياةِ ما دُمْتُ حَيًّا؟ أنطَلِقُ، وأتذَوَّقُ مَرَّةً أخرَى حلاوَةَ الحياة، وأستمْتِعُ بِجَمَالِهَا؟ ربما يَزْدَرِينِي أولادي، ومَن يُحِيطون بي إذا رَأَونِي أتأهَّبُ للخُرُوجِ مِمَّا أنَا فِيهِ من وَقَارٍ، واتِّزَانٍ، وهدوءِ حَرَكَةٍ؟ قد ينتقدونني، أو يتهمونني بالخفة والخروج عن حُدودِ الرَّزَانَةِ، وقد يَرْمُونَنِي بالجُنُونِ، أو الانْحِرَافِ في هَذِهِ السِنّ! فلينتَقِدُوا، أو لِيَتَّهِمُوا، أو لِيَظُنُّوا، ولِيَفْعَلُوا ما يَشَاؤون! وردَّ على نفسِهِ قائلًا: مَنْ قَبْلَك اسْتَطَاعَ أن يُرضِيَ الناسَ؟ هَمْ في كلِّ الأحْوَالِ ينتقِدُون، إذَنْ، عليك أن تخْرُجَ مِن هذه المُعَاناةِ التي أثقلتْ كاهِلَكَ، وأن تطرَحَ جانبًا ذلك المَرَضَ الذي احْتَلَّ جَسَدَك؛ لانتِظَارِكَ المَوْتَ!، وأرْهَق جَسَدَكَ بالمُضَادَّاتِ الحَيَوِيَّةِ التي إنْ أصْلَحَتْ شَيْئًا، فَقَدْ تُفْسِدُ أَشْيَاءَ.
إذَا كَانَتْ النِّهَايَةُ مَحْتُومَةً لَا بُدَّ مِنْهَا لِكُلِّ البَشَرِ-و"كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ"-؛ فَلِمَاذَا تَتَرَقَّبُ أنْتَ على وَجْهِ الخُصُوصِ وُصُولَهَا بهَذِهِ الكَآبةِ، والألمِ، والحُزْنِ؟! ألا تتَوَقَّفُ مَسِيرَةُ الحَيَاةِ إذا فَعَلَ كُلُّ مَن يَنتظِرُ المَوْتَ مِثْلَ مَا تَفْعَلُ؟ لا بُدَّ أنْ تَعِيشَ؛ فَلَا تَلْتَفِتْ إلى نَقْدٍ خَائِبٍ، أو ظنٍ مَشْكُوكٍ في ذِمَّتِه، أو عَقْلِيَّاتٍ فَقَدَتْ بَوْصَلَةَ الفِكْرِ السَّدِيدِ.
انتفَضَ من جِلْسَتِهِ، ولَمْلَمَ أورَاقَهُ، ودَلَفَ إلى دَاخِلِ دَارِهِ، وشَدَّ انتباهَهُ مَوْضِعُ المِرْآَةِ من القاعة؛ فتفرَّس نفسَهُ؛ فإذا بِهِ يَرَى شَخْصًا مُتَهَالِكًا يَقِفُ أمَامَهُ، لَا تتَّضِحُ لَهُ مَعَالِمُه، يَشْكُو دُنُوَّ أجَلِه؛ فأمْسَكَ بخِرْقَةِ، ومَسَحَ سَطْحَ المرْآةِ البَاهتِ؛ فَعَادَ إليْهَا شَيْئًا من بَرِيقِهَا، لكنَّ بَرِيقَ الشَّخْصِ المُتهَدِّل الذي يَرَاهُ فِيهَا لمْ يَعُدْ، بَلْ ظلَّ جَامِدًا بَاهتًا مُتَهَدِّلًا، يَنْظُرُ كلٌّ مِنْهُمَا إلى الآخَرِ كَأَنَّهُ يَعْرِفُهُ! لَمْلَمَ هُمُومَهُ، وأوْرَاقَهُ، وانْزَوَى إلَى مَكتبَتِهِ بَعْضَ الوَقْتِ، ومِنْهَا أوَى إلَى مخْدعِهِ، وقد عقدَ العزْمَ على شَيْءٍ.
فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهِ صَلَّى الصُّبْحَ في الصَّفِّ الأوَّلِ دُونَ أنْ يَجْلِسَ على كُرْسِيِّهِ الذِي اعْتادَ أنْ يُصَلِّيَ عليه، وعَادَ إلى بَيْتِهِ، دون أن يَتَناوَلَ جُرْعَةَ المُضَادِّ الحيويِّ، وَارْتَدَى مَلابِسَهُ الرِّياضِيَّةَ، وخَرَجَ -وهو يُمَارِسُ رياضة الجَرْيِ- إلى حَيْثُ النادِي الرِّياضِيِّ القريبِ من دارِهِ، وَلَمْ يَعْبَأْ بكلِّ مَن قابَلُوهُ بنظرةِ ازدِرَاءٍ، أو ألقَوْا عليه السَّلامَ مَمْزُوجًا بِبعضِ السُّخْرِيةِ، أو مَنْ بَادَرُوهُ بتحيةٍ حَمَلَتْ فِي طَيَّاتِها اسْتِخفافًا، أو اسْتِغْرَابًا، وعندما وصلَ إلى النادِي كان قدْ أحسَّ بالتَّعَبِ، وتَعَرَّقَ جَسَدَهُ، وزَادَتْ ضَربَاتُ قلبِهِ ، فبحَثَ عن أقربِ مقعدٍ؛ لِيَسْترِيحَ، وَسَمِعَ بَعضَ المَلَامَةِ مِن الذين أدْرَكُوا ما هُوَ فِيهِ مِنْ إِرْهَاقٍ من مثل: يجبُ عليك أن تُرَاعِيَ سِنَّكَ يا أستاذُ تَوْفِيقُ!، وآخر سَألَهُ: ألَمْ تدرِكْ سعادتك أنَّكَ قارَبْتَ السِّتِّينَ؟ ومَنْ تَمَثَّل -فِي ألَمٍ عَلَيْهِ- قَوْلَ أبِي العَتَاهِيَةِ:
أَلَا لَيْتَ الشَّبَابَ يَعُودُ يَوْمًا *** فَأُخْبِرُهُ بِمَا فَعَل َ المَشِيبُ
لكِنَّهُ لَمْ يَأبَهْ بِهمْ جَمِيعًا، ومَا هِيَ إلا دَقَائِقُ مَعْدُودَةٌ، وقدْ هَدَأَ قَلْبُهُ، وذَهَبَ إلَى عَددِ ضَرَبَاتِهِ المُعْتَادِ، ومَسَحَ عَرَقَ جَبِينِهِ، ووجْهِهِ، واستغْرَبَ اعتدالَ دَرَجَةِ حرارتِهِ بدونِ جُرْعَةِ الدَّوَاءِ؛ فَتَحَسَّسَ نَاصِيَتَهُ، وَخدَّيْهِ بِكفِّهِ، وانتَابَهُ بعضُ شُعُورٍ بِالِانْتِصَار عَلَى نَزْلَةِ البَرْدِ! عَادَ إلَى بَيْتِهِ جَرْيًا، وَمَارَسَ طقوسَهُ بِالقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ بِدُونِ جُرْعَاتٍ عِلِاجِيَّةٍ، وفِي اليَوْمِ التالِي اسْتيقظ مُبَكِّرًا وكَأنَّهُ خَرَجَ لِتَوِّهِ مِن مَعْرَكةٍ ضُرِبَ فيها ضَرْبًا مُبَرّحًا؛ فاتَّجَهَ إلى مَوْضِعِ عِلَاجِهِ مِن حُجْرَةِ نَوْمِهِ؛ لِيَدْهِنَ رُكْبَتَيْهِ وأكتافهُ ببعض المُسَكِّنَات، وَتَوَقَّفَ فَجْأَةً كأنَّهُ تَذَكَّرَ اعْتِزَامَهُ التحدِّي لاسْتِعَادَةِ حَيَاتِهِ مِنْ بيْنِ أنقَاضِ شَيْخُوخَتِهِ؛ فطَرَحَ ما فِي يدِهِ مِنْ عِلاجٍ جَانِبًا، وارْتَدَى مَلَابِسَهُ الرياضِيَّةَ، واتَّجَهَ إلَى النَّادِي يُهَرْوِلُ...
د/عبد الناصر بدري أمين
جامعة أم القرى – عمادة البحث العلمي
مكة المكرمة