«احفظ الله يحفظك» خير الخطائين التوابون


الشيخ: رائد الحزيمي




من طبيعة الإنسان الوقوع في الخطأ والذنب، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : «كل بني آدم خطاء، وخير الخطّائين التوابون». (الترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه)، وقال -سبحانه-: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِي نَ}، وقوله -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ}؛ فمن تدبر هاتين الآيتين ومعناهما، علم أنه لا عذر له في الإقامة على الذنب، وقد دعاه الله -عز وجل- إلى التوبة كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله -عز وجل- يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل». (مسلم) وقال: «لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم، سقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة».(البخاري).

آثار المعاصي والذنوب

ولا شك أن للمعاصي وكثرتها أثراً سيّئاً على المسلم في حياته وآخرته وحتّى في صحّته وبدنه، ولقد ذكر ابن القيّم -رحمه الله- أن للمعصية آثاراً كثيرةً عظيمةً عائدةً على المسلم، منها: حرمان العلم، وحرمان الرّزق؛ فإنّ العلم نورٌ يجعله الله -تعالى- في قلب عباده، والمعصية تطفئ نور الله أينما حلّت، وأمّا في حرمان الرّزق؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم لمن أتى معصية: «إنَّ الرَّجُلَ لَيُحرَمُ الرِّزقَ بالذَّنبِ الَّذي يُصيبُه».

البعد عن الله -تعالى

ومن آثار المعاصي على المسلم أيضاً، أنّها تجعل بين العبد وربّه وحشةً وبعداً، حتّى أنّها لتضيّق على صاحبها علاقته مع النّاس من حوله، ولقد قال بعض الصّالحين: «إنّي لأعصي الله؛ فأرى ذلك في خلق دابتي وامرأتي»، والعاصي لله معرّضٌ نفسه للعسر في أموره وقضاء حاجاته؛ فإنّ الله -تعالى- وعد المتّقين باليُسر وتدبير الأمور، وكذلك كان للبعيد عن الله وتقواه العسر في شؤونه، وقد يكون من آثار المعاصي على الإنسان أنّها تحرمه القيام بالطّاعات وتقعده عنها؛ فيُصبح المرء مع تكرار الذّنوب، وإتيان الحرام كسولاً عن الطّاعات، ضعيف الهمّة لها.

المعصية تجرّ أختها

بل وأكثر من ذلك، أنّ المعصية قد تجرّ أختها من خلفها؛ فتتوالى المعاصي على الإنسان حتّى يكاد يهلك بها، لكثرتها، ثمّ تضعف همّته وييأس من التوبة والإقبال على الله بعد ذلك؛ ولأنّ من طبع القلب القسوة إذا تراكمت عليه الذّنوب؛ فإنّ الإنسان إذا غفل عن الله -تعالى- وأتبع نفسه هواها حيناً من الزّمن؛ فإنّه يعرّض نفسه لغشاوة القلب والرّان عليه، حتّى تصير هذه عادته بعد ذلك، وحينئذٍ قد يغلب عليه الانتكاس والتقهقر حتّى يسيطر عليه الشّيطان ويسوقه حيث أراد، وكلّ ذلك من شؤم المعصية الأولى وإن استصغرها الإنسان واستحقرها.

من عمل الشيطان

إنّ تهاون الإنسان بالمعاصي والذّنوب واستصغارها من عمل الشيطان وتزيينه للمسلم؛ فإنّه يوسوس للإنسان بأنّ أعماله عظيمةٌ، وأنّ قيامه بواجباته جيدٌ يؤهله لقبول عمله والنّجاة من النّار يوم القيامة، ويظلّ يزيّن الشّيطان للإنسان أفعاله الحسنة، ويصغّر سيّئاته مقارنةً بأقرانه أو أصحابه ممن يتساهلون بالمحرّمات، حتّى تستقرّ نفس الإنسان، وتطمئنّ أنّ ما يحدثه من ذنوبٍ لا يكاد يُذكر، وهي صغيرةٌ لا تحتاج لتوبةٍ ولا إلى قلقٍ من كثرتها، أو زيادتها يوماً بعد يومٍ.

استصغار الذّنوب

لقد حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلم أيّما تحذيرٍ من استصغار الذّنوب والتّهاون بها! لسوء خاتمة هذا العمل؛ فقال صلى الله عليه وسلم : «إياكمْ ومحقراتِ الذنوبِ!؛ فإنَّما مثلُ محقراتِ الذنوبِ كمثلِ قومٍ نزلوا بطنَ وادٍ؛ فجاءَ ذا بعودٍ، وجاءَ ذا بعودٍ، حتى حملوا ما أنضجُوا به خبزَهم، وإنَّ محقراتِ الذنوبِ متى يؤخذُ بها صاحبُها تهلكُه»؛ فإنّ الذّنوب إذا أتاها الإنسان مستحقراً إيّاها متهاوناً بها؛ فجعل معصيةً في اليد، ومعصيةً في الّلسان، ومعصيةً في العين؛ فإنّ كلّ هذه المعاصي ستجتمع عليه، وحينئذٍ لن تبقى صغائر، بل إنّها ستكون وبالاً عليه، وتهلكه كما وصف النبيّ صلى الله عليه وسلم .

عِظمُ الذنب في حقّ الله -تعالى

والمسلم الذي يحبّ الله -تعالى- ويسعى لمرضاته، يدرك قيمة الذّنب مهما صغر، ويعلم أنّه عظيمٌ في حقّ الله -تعالى-؛ فيخافه ويسعى للتّوبة منه في أقرب فُرصةٍ، مع النيّة على عدم العودة إليه في أيّ حال، ولقد وصف عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه حال المؤمن الحقّ إن وقع في معصيةٍ بقوله: «إنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ؛ فقال به هكذا وجعل يده على أنفه»، وهذا يدلّ على أنّ المؤمن قد يذنب الذّنب ولكنّه يخافه ويستغفر منه ويتوب، ولا يكرّره ويستحقره، بل يراه عظيماً سيّئاً، يخاف أن ينقلب عليه فيهلكه.

الرغبة الصادقة

ومن يدرك هذه الآثار وخطورتها، لابد أن يكون لديه الرغبة والعزم الصادق على التوبة، ويجتهد في تحقيق ما يعينه على التخلص من الذنب؛ فيلجأ إلى ربه ويسأله التوفيق للتوبة النصوح، وأن يكون ذا بصيرة بمداخل الشيطان وشهوة النفس التي توقعه في الذنوب؛ فكل إنسان بصير بنفسه وهو طبيبها؛ فإن أراد لها السلامة؛ فلن يعجزه الظفر بها متى استعان بربه -تعالى- وصدق في توبته.

باب الرجاء

ومما جاء في فتح باب الأمل والرجاء للإنسان، مهما بلغت ذنوبه ومعاصيه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله -تبارك وتعالى-: «يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة» رواه الترمذي وصححه ابن القيم وحسنه الألباني.

من أرجى الأحاديث

قال العلماء عن هذا الحديث: إنه من أرجى الأحاديث في السنة؛ ففيه بيان سعة عفو الله -تعالى- ومغفرته لذنوب عباده، وهو يدل على عظم شأن التوحيد، والأجر الذي أعده الله للموحدين، كما أن فيه الحث والترغيب على الاستغفار والتوبة والإنابة إلى الله -سبحانه وتعالى-، وقد تضمن هذا الحديث أهم ثلاثة أسباب تحصل بها مغفرة الله وعفوه عن عبده مهما كثرت ذنوبه وظمت، وهذه الأسباب هي:

الدعاء مع الرجاء

فقد أمر الله عباده بالدعاء ووعدهم عليه بالإجابة؛ فقال -سبحانه-: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} (غافر: 60) ، وقال صلى الله عليه وسلم : «الدعاء هو العبادة، ثم قرأ هذه الآية». رواه أحمد، ولكن هذا الدعاء سبب مقتض للإجابة عند استكمال شرائطه وانتفاء موانعه؛ فقد تتخلف الإجابة لانتفاء بعض الشروط والآداب، أو لوجود بعض الموانع، ومن أعظم شروط الدعاء حضور القلب، ورجاء الإجابة من الله -تعالى.

الاستغفار مهما عظمت الذنوب

السبب الثاني من أسباب المغفرة المذكورة في الحديث، الاستغفار مهما عظمت ذنوب الإنسان، حتى لو بلغت من كثرتها عنان السماء وهو السحاب، أو ما انتهى إليه البصر منها، وقد ورد ذكر الاستغفار في القرآن كثيراً، فتارة يأمر الله به كقوله -سبحانه-: {واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} (المزمل: 20)، وتارة يمدح أهله كقوله -تعالى-: {والمستغفرين بالأسحار} (آل عمران: 17)، وتارة يذكر جزاء فاعله كقوله -تعالى-: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} (النساء: 110)، والاستغفار الذي يوجب المغفرة، هو الاستغفار مع عدم الإصرار على المعصية والذنب، وهو الذي مدح الله -تعالى- أهله ووعدهم بالمغفرة في قوله: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} (آل عمران: 135).

التوحيد الخالص

السبب الثالث من أسباب المغفرة تحقيق التوحيد، وهو من أهم الأسباب وأعظمها؛ فمن فقدَه فقَدَ المغفرة، ومن جاء به فقَدْ أتى بأعظم أسباب المغفرة، قال -تعالى-: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما} (النساء: 48)، والتوحيد في الحقيقة ليس مجرد كلمة تنطق باللسان من غير فقه لمعناها، أو عمل بمقتضاها، إذاً لكان المنافقون أسعد الناس بها؛ فقد كانوا يرددونها بألسنتهم صباح مساء، ويشهدون الجمع والجماعات، ولكنه في الحقيقة استسلام وانقياد، وطاعة لله ولرسوله، وتعلق القلب بالله -سبحانه- محبة وتعظيما، وإجلالا ومهابة، وخشية ورجاء وتوكلا، كل ذلك من مقتضيات التوحيد ولوازمه، وهو الذي ينفع صاحبه يوم الدين.

باب التوبة مفتوح

وليعلم الإنسان أن باب التوبة مفتوح؛ فمن رحمةِ الله -تعالى- بعباده أنهم إذا أذنبوا وارتكبوا معصيةً مهما كانت تلك المعصيةُ في العظمِ والجرمِ؛ فإنه يقبل توبتَهم، ويصفح عن زلتِهم، حتى ولو كانت تلك المعصيةُ أعظمَ الذنوب وهي الشركُ به -سبحانه-؛ فكيف بالزنى ونحوه، يقول الله -تعالى-: {قُل يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِم لا تَقنَطُوا مِن رَحمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغفِرُ الذٌّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ}(الزم ر: 53)، بل إن اللهَ -تعالى- حث على توبتِك ورجوعِك إليه؛ فقال -جل في علاه-: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا}(التحريم: 8).

ما لم يغرغر

وقال صلى الله عليه وسلم : «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر»، قال المناوي في التيسير في شرح الجامع الصغير: «إن الله يقبل توبة العبد»، أي رجوعه إليه من المخالفة إلى الطاعة «ما لم يغرغر»، أي تصل روحه حلقومه؛ لأنه لم ييأس من الحياة؛ فإن وصلت لذلك، لم يعتدّ بها ليأسه؛ ولأنّ من شروط التوبة العزم على عدم المعاودة وقد فات ذلك.