منهج التربية والتعليم في الحلقات القرآنية .
فايز بن سعيد الزهراني
أَنْ تبني بعض المؤسسات القرآنية عملها التربوي والتعليمي داخل حلقات تحفيظ القرآن الكريم على منهج معتمد واضح؛ فإن ذلك هو الأصل في تعليم القرآن الكريم وتحفيظه، ولو كانت تلك المؤسسات القرآنية صغيرة الحجم، أو كانت لا تصل إلى المستوى الجيد في بناء المنهج. أما غير الطبيعي فهو أن تبني المؤسسات والحلقات القرآنية عملها التربوي والتعليمي على منهج غير واضح، لا في أهدافه، ولا مقرراته، ولا طرائق التدريس فيه؛ بالتزامن مع التطور الهائل في الفكر التربوي والتعليمي، والذي من شأنه أن يسهل على هذه المؤسسات والحلقات بناء عملها التعليمي على «المنهج».
في فترة ماضية.. كان غياب المنهج التربوي والتعليمي في المؤسسات القرآنية له ما يبرره إلى حد ما، أو على الأقل له ما يفسره، أما اليوم فلا يمكن تفسير غياب المنهج في الحلقات القرآنية بشيء منطقي مقبول، ذلك أنه الركيزة الأساسية التي يصح بها التعليم.
والحديث عن عناصر المنهج في الحلقات يستغرق مئات الصفحات، وله مكان آخر، غير أننا سنتعرض في هذه المقالة إلى المعالم والأطر التي نطمح أن يسير المنهج على ضوئها: السمات، الشروط، المخرجات.
الكتاتيب القرآنية
«دار القرّاء» قامت في المدينة النبوية على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لتعليم القرآن الكريم[1]، ونشأت «الكتاتيب» في وقت باكر بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: لقد قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة من القرآن؛ وإن زيد بن ثابت له ذؤابتان في الكتّاب[2]. و«الكُتّاب» مفردٌ للكتاتيب، ويقال لها أحيانًا: المكاتب جمع مكتب، وهو: مكان يجتمع فيه الأولاد لتعلم القرآن الكريم والكتابة والحساب.
ولقلة الكتابة بين الأنصار، وللحاجة إلى تعليم الكتابة في الكتاتيب؛ استثمر النبي صلى الله عليه وسلم فرصة وقوع عدد من مشركي قريش في الأسر في غزو بدر، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان ناسٌ من الأسارى يوم بدر ليس لهم فداء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أنْ يعلّموا أولاد الأنصار الكتابة[3]، وقال الشعبي: كان فداء أهل بدر أربعين أوقية، فمن لم يكن عنده علّم عشرة من المسلمين الكتابة، فكان زيد بن ثابت ممن عُلِّم[4]. علمًا أن زيد بن ثابت رضي الله عنه هو من قام فيما بعد بمهام الجمع والكتابة للقرآن الكريم في مرحلتيه.
وأيًّا ما كان، فإن وجود الكتاتيب في عهد نبينا صلى الله عليه وسلم يلزم منه وجودُ منهج تعليمي وطريقة إدارية، ولو كانا بسيطي التركيب والبناء. فإن الكُتّاب يتعلمون فيه القرآنَ الكريم بالدرجة الأولى وبعض العلوم الأساسية كالكتابة والحساب، وله معلمون محددون، وله أيضًا مكان يجتمع فيه التلاميذ، ومن غير اللائق أن نعتقد أن هذه الكتاتيب تسير بعشوائية وارتجال.
مكونات المنهج:
المنهج في اللغة: الطريق الواضح، ونَهَجَ الدابة: سار عليها، ونَهَجَ الطريق: سلكه[5].
أما في اصطلاح التربويين، فإن المنهج التربوي هو مخططٌ شامل ومنظّم للعملية التربوية، بما فيها الخبرات والنشاطات، تنظمه المؤسسة التربوية وتقدمه لطلابها، لتحقيق أهداف تربوية[6].
فهو إذًا مخطط تعليمي مكتوب، يوضح الأهداف التربوية التي يسعى البرنامج إلى تحقيقها، ويوضح كذلك الموضوعات التعليمية التي يقدمها، والأساليب التي تتم بوساطتها عملية التعليم والتعلّم، وطرائق التقويم المستخدمة للتحقق من بلوغ الطالب الأهداف التعليمية[7].
ومن خلال التعريف والتوضيح السابقين يتبين لنا أن المنهج التربوي يحوي العناصر التالية:
أولًا / بيئة المنهج:
البيئة التي يصمَّمُ فيها المنهج ويطوَّر وينفَّذ تؤثِر في مكوناته، بأبعادها التاريخية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية[8]؛ ومن المؤثرات البيئية على المنهج: وجود تجارب سابقة، وتفاوت المستوى المعيشي، وعنصرا الانفتاح والمحافظة، وتوفر الإمكانات المادية وغير ذلك.
ثانيًا / الأهداف التربوية:
هي التغير التربوي الذي ترغب المؤسسة إحداثه في الطالب.
كل عمل تربوي تعليمي يُحْدِث تغيّرًا في الطالب؛ والأهداف التربوية تجعل هذا التغيّر مقصودًا بذاته، يتطلّع المربي إليه ويسعى نحوه، فهو يبدأ عمله التربوي ويرسم النتيجة في ذهنه.
مثال ذلك: أن يلتزم الطالب أذكار الصباح والمساء كل يوم. هذا هدف تربوي، يرسمه المعلم قبل البدء بالعمل، ويوجّه أنشطته التربوية لغرس هذا الهدف في نفس الطالب. وبعد جهود حقيقية على هذا النحو، ولمدة معينة محددة، نجد أن الطالب يلتزم أذكار الصباح والمساء كل يوم فعلًا.
هذا هو مفهوم الأهداف التربوية: نتيجة تتعلق بالجانب التربوي لدى الطالب، تسعى المؤسسة لتحقيقها. ومن ثمّ لا يصح أن يكون الهدف التربوي مُعبّرًا عن إجراءات التدريس وجهود التعليم، بل يعبّر الهدفُ التربوي عن نتيجة سيؤول إليها الطالب المستفيد تجاه البرنامج التعليمي.
والتربية الإسلامية في الحلقات القرآنية عمومًا لها غاية كبرى، وهي تخريج جيلٍ يحمل القرآن في قلبه ويتمثل أحكامه ويتخلق بأخلاقه. وهذه الغاية تمثل ضوء الشمس الذي ينير للمعلمين طريقهم وعملهم التربوي.
ثم تأتي بعد هذه الغاية الكبرى ثلاثة مستويات للأهداف.
المستوى الأول: الأهداف العامة؛ وهي أهداف بعيدة المدى يمكن صياغتها بعبارات عامة تصفُ منتجًا حياتيًّا عامًا مرغوبًا، يَحْدث خارج العملية التعليمية.
وتكمن أهميتها في كونها الموجّه للأهداف المتفرعة والأنشطة الخادمة للأهداف، كما أنها تكشف مدى ملائمة الأنشطة والإجراءات للأهداف المتفرعة، ومن أمثلة الأهداف لهذا المستوى: «تخلّق الطلاب بأخلاق القرآن».
المستوى الثاني: الأهداف التعليمية التربوية أو الأهداف المرحلية؛ وهي أهداف متوسطة المدى، تمثل أجزاءً للهدف العام، وبمجموعها يتحقق ذلك الهدف العام. ويمكن صياغتها بعبارات فيها عمومية لكنها أقل من عمومية الأهداف العامة، فمثلًا «أن يتمثل الطالب الآدابَ الأسرية» فتلاحظ في الهدف أننا وصفناه بـ«أن يفعل»؛ وهذا في حدّ ذاته تحديد، غير أن المفعول به في هذا الهدف شيءٌ عام يحتاج إلى تفتيت وتجزيء ليتم إنتاجه بشكل منتظم وسلس ونافع.
وتصف هذه العبارات منتجًا تعليميًّا عامًا مرغوبًا يحدث داخل النظام التعليمي. ويمكن تحديدها بزمن معين: فصل دراسي، أو عام، أو شهر، ونحو ذلك، بحسب حجم الهدف التربوي والاحتياج الزمني المقرر له، فهي مرحلية باعتبارين: الزمن، والمحتوى.
المستوى الثالث: الأهداف السلوكية (الإجرائية)، أو التدريسية. وهي أهداف قصيرة المدى (آنية) يمكن صياغتها بعبارات إجرائية محددة، تصف منتجًا مرغوبًا داخل عملية التدريس الواحدة، يحدث في أثنائه أو ختامه. مع ملاحظة أن عملية التدريس قد لا تكون حصة دراسية فحسب، بل تشمل كافة المناشط التعليمية المؤدية للهدف التدريسي ذاته.
فلو قلنا إن كل عملية تدريسية بكافة متعلقاتها من أنشطة وواجبات تعتبر وحدة؛ فإن هذه الوحدة لها أهداف سلوكية محددة.
ومن أمثلة الأهداف لهذا المستوى: «أنْ يذكر الطالب آداب الاستئذان على الوالدين مُرتبة».
وإن معلّم الحلقة الحاذق هو من يردم الفجوة بنجاح بين واقع الطالب التربوي وبين النتيجة التي يسعى ذلك المعلم أو المؤسسة التعليمية إلى تحقيقها.
ثالثًا / المحتوى:
هو مجموعة من الحقائق والمفاهيم والمبادئ والمهارات والقيم والأنشطة التي يتضمنها المنهج المراد للطلاب أن يتعلموه[9].
ويسمى «المقرَّر الدراسي» ويسمى أيضًا «المواد الدراسية» ويصاغ في كتاب أو أكثر، فتجد على سبيل المثال للمادة الواحدة أحيانًا ثلاثة كتب: كتاب الطالب، وكتاب النشاط، ودليل المعلم.
والمحتوى يُعدّ ترجمة عملية واقعية للأهداف التربوية، ونظرًا لأن المحتوى مهمٌّ في بلوغ الأهداف التربوية فإنه ينبغي تحري الدقة المتناهية لاختيار الموضوعات المناسبة التي تساهم في بلوغ الأهداف التربوية المرغوبة في سهولة ويسر وبأقل وقت وأدنى جهد وأرخص تكلفة[10].
ويتم تصميم المحتوى عبر الخطوات الآتية:
أولًا: تقوم المؤسسة القرآنية بوضع الأهداف العامة للتربية المزمع العمل عليها لفترة زمنية قادمة محددة. ويشارك المعنيين من هذه المؤسسة أحدُ خبراء التخطيط التربوي أو أكثر، حيث تُعقد ورشة عمل بهذا الشأن تعتمد العصف الذهني والتفكير الناقد، وتستشرف مستقبل الفئة المستفيدة ومحيطها ومجتمعها وتحدياتها. ولا يصح التقليل من قيمة هذه العملية لكونها جانبًا تنظيريًّا بحتًا، بل يجب الاهتمام بها لأنها تشكّل الأساسَ الفكري لكل الممارسات العملية في المجال التربوي للمؤسسة.
ثانيًا: إحالة مهمة صياغة المنهج إلى متخصصين تربويين، بمتابعة من المؤسسة القرآنية، لتقوم هي بالاعتماد أو الاستدراك في كل مرحلة من مراحل بناء المنهج.
إننا اليوم لأشد حاجة إلى أولئك المتخصصين التربويين ليشاركونا الخيرية في قوله صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلّم القرآن وعلمه»[11]؛ وذلك من خلال تطويع خبراتهم العلمية والفنية في خدمة القرآن الكريم، كما أننا نعيش زمن التخصصات وفي الوقت نفسه نعيش زمن التحالفات، فما أروع أن يتحالف أهل القرآن مع المتخصصين التربويين، ولو كلفَنا الكثير، لما سيؤول إليه هذا التحالف من الخير العظيم.
ثالثًا: تقسيم المنهج التربوي على الفترة المعتمدة، فلو كانت الفترة ثلاث سنوات لقسّمنا المنهج على ثلاث سنوات، وكل سنة ثلاثة فصول أو أكثر أو أقل، وهكذا.
رابعًا: الاستفادة من التجارب التربوية في الساحة، والاطلاع على أكبر عدد ممكن منها ودراستها، لتوفير كثير من الوقت والجهد والمال. وفي الساحة دراسات عديدة وتجارب مفيدة، منها ما قامت به بعض جمعيات تحفيظ القرآن الكريم، ومنها ما قامت به مؤسسات تربوية مستقلة.. جهود مشكورة وبُذِلتْ فيها غوالي الأوقات والأفكار[12].
خامسًا: تحكيمُ المنهج من خلال طلبة علم شرعيين ومتخصصين تربويين غير الذين شاركوا في الإعداد، وأخذُ ملحوظاتهم وتوصياتهم بعين الاعتبار، والعملُ على تعديلها في جوٍّ من التجرد والإخلاص وإرادة الصواب.
سادسًا: تجريب المنهج في بعض مراحله أو كلها؛ وهو لا يزال في طور الإعداد، ليتمّ تحسين المنتج في فترة الإعداد.
سابعًا: اعتماد المنهج التربوي لحلقات القرآن الكريم من الإدارة العليا للمؤسسة القرآنية، ليتم تفعيله على أحسن صورة. ولعلّ ما واجه كثيرًا من المربين من إشكالات التربية القرآنية.. كان السبب الرئيس فيها هو ضعف اقتناع الإدارة العليا في المؤسسة بالمنهج التربوي المقدم أو عدم موافقتها أو ترددها.
رابعًا / طرق التدريس:
هي مخطط تدريسي عام يتم اشتقاقه وصياغته بدءًا من تحديد مجموعة من الأهداف [السلوكية]، وانتهاء بالتقويم الذي يحدد مدى تحقق تلك الأهداف، وطريقة التدريس هي وصفٌ للأسلوب أو الإستراتيجية التي يستخدمها المعلم ليحقق أهداف الدرس[13].
وبعض التربويين يسمي طرق التدريس: أساليب التدريس، والبعض الآخر يسميها: إستراتيجيات التدريس، والمؤدى شيء واحد.
ولا توجد طريقة تدريس أفضل من غيرها، ويختار المعلمون دائمًا طريقة التدريس التي تناسب مقتضيات الموقف التعليمي[14] وفق معايير تربوية.
وحين نتحدث عن طرق التدريس في الحلقات القرآنية فإنه يَعرِضُ لنا جانبان، يتفقان في بعض النقاط ويختلفان في البعض الآخر، وهما: طرق تدريس القرآن الكريم، وطرق تدريس المقررات التربوية والعلمية.
خامسًا / التقويم:
وهو الوسيلة التي يمكن بواسطتها تحديد مدى نجاح المنهج في تحقيق الأهداف التي وضِع من أجلها[15]. وكما أنه يقيس مدى تحقيق الأهداف التربوية؛ فهو كذلك يكشف الصعوبات والمعوقات التي أثّرت في تحقيقها، ويسهم في البحث عن علاج الطلاب المتأخرين تربويًّا وتعليميًّا، وهو أيضًا يسهم في إصدار أحكام على جودة المناهج والبرامج والفعاليات التربوية، بحيث تتميز هذه الأحكام بالموضوعية.
ويمثل التقويم نوعًا من التغذية الراجعة لمنظومة المنهج. وينبغي التأكيد هنا على أن مفهوم التغذية الراجعة لا ينحصر في تقويم النواتج أو المخرجات فقط، بل يمتد ليشمل كل المكونات الأساسية والعناصر المؤلفة للمناهج. فالتقويم بهذا المعنى يمثّل اتصالًا مستمرًا بجميع عناصر المنظومة دون أن يقتصر على جانب منها[16].
يتبع