تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 14 من 14

الموضوع: أفعال الله تعالى لا يخرج شيء منها عن تمام الحكمة ،

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي أفعال الله تعالى لا يخرج شيء منها عن تمام الحكمة ،

    لا يخرج شيء من أفعال الله تعالى عن تمام الحكمة ، ولا يجوز خلو فعل من أفعاله عن الحكمة ،

    قال ابن القيم رحمه الله :

    " الله سبحانه حكيم ، لا يفعل شيئا عبثا ، ولا لغير معنى ومصلحة .
    وحكمته : هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة، لأجلها فعل . كما هي ناشئة عن أسباب ، بها فعل .
    وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا " انتهى من "شفاء العليل" (ص: 190) .
    وقال أيضا :
    " اللهُ سُبْحَانَهُ مَا أَعْطَى إِلَّا بِحِكْمَتِهِ، وَلَا مَنْعَ إِلَّا بِحِكْمَتِهِ، وَلَا أَضَلَّ إِلَّا بِحِكْمَتِهِ.
    وَإِذَا تَأَمَّلَ الْبَصِيرُ أَحْوَالَ الْعَالَمِ وَمَا فِيهِ مِنَ النَّقْصِ: رَآهُ عَيْنَ الْحِكْمَةِ، وَمَا عَمَرَتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ ، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ ، إِلَّا بِحِكْمَتِهِ.
    وقول أَهْلِ الْإِثْبَاتِ في تعريفها: إنَّهَا الْغَايَاتُ الْمَحْمُودَةُ الْمَطْلُوبَةُ لَهُ سُبْحَانَهُ بِخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، الَّتِي أَمَرَ لِأَجْلِهَا، وَقَدَّرَ وَخَلَقَ لِأَجْلِهَا.
    وَهِيَ [ أيضا ] : صِفَتُهُ الْقَائِمَةُ بِهِ ، كَسَائِرِ صِفَاتِهِ: مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَعِلْمِهِ وَحَيَاتِهِ وَكَلَامِهِ " انتهى مختصرا من "مدارج السالكين" (2/ 450) .
    ثالثا :
    ليس بالضرورة أن تصل عقول العباد إلى معرفة الحكمة في أفعال الله ، وشرعه وأمره، بل قد يبين الله تعالى لعباده بعض تلك الحكم ، وقد يستر عنهم بعضها ، محنة لهم ، واختبارا لعبوديتهم وتسليمهم لربهم.
    ولا شك أن معرفة الحكمة من الفعل ، أو الخلق ، أو الأمر : تزيد المرء إيمانا ، ولكن ليس شرطا في الإيمان أن نتعرف على تفاصيل حكمة الله تعالى في خلقه وأمره ، ونطلع عليها. وإنما مدار أمر العبد التسليم أولا ، وقبل كل شيء ؛ فإن أدرك الحكمة ، فليحمد الله ، وإن لم يدركها رجع إلى التسليم لربه تعالى ، مع إيمانه أنه سبحانه حكيم عليم ، لا يخرج فعل من أفعاله عن الحكمة .
    فإن الناس متفاوتون في عقولهم وفهومهم ودينهم ، والله يصطفي من عباده من يشاء ، ويمن على من يشاء بما شاء من فضله ، وقد قال تعالى: ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) البقرة/ 269 .
    قال ابن أبي العز رحمه الله :
    " اعْلَمْ أَنَّ مَبْنَى الْعُبُودِيَّةِ وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ - عَلَى التَّسْلِيمِ ، وَعَدَمِ الْأَسْئِلَةِ عَنْ تَفَاصِيلِ الْحِكْمَةِ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالشَّرَائِعِ.
    وَلِهَذَا لَمْ يَحْكِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ أُمَّةِ نَبِيٍّ ، صَدَّقَتْ بِنَبِيِّهَا ، وَآمَنَتْ بِمَا جَاءَ بِهِ، أَنَّهَا سَأَلَتْهُ عَنْ تَفَاصِيلِ الْحِكْمَةِ فِيمَا أَمَرَهَا بِهِ وَنَهَاهَا عَنْهُ ، وَبَلَّغَهَا عَنْ رَبِّهَا .
    وَلَوْ فَعَلَتْ ذَلِكَ لَمَا كَانَتْ مُؤْمِنَةً بِنَبِيِّهَا، بَلِ انْقَادَتْ وَسَلَّمَتْ وَأَذْعَنَتْ، وَمَا عَرَفَتْ مِنَ الْحِكْمَةِ عَرَفَتْهُ، وَمَا خَفِيَ عَنْهَا لَمْ تَتَوَقَّفْ فِي انْقِيَادِهَا وَتَسْلِيمِهَا عَلَى مَعْرِفَتِهِ، وَلَا جَعَلَتْ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهَا، وَكَانَ رَسُولُهَا أَعْظَمَ عِنْدَهَا مِنْ أَنْ تَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا فِي الْإِنْجِيلِ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَقُولُوا: لِمَ أَمَرَ رَبُّنَا؟ وَلَكِنْ قُولُوا: بِمَ أَمَرَ رَبُّنَا .
    وَلِهَذَا كَانَ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ الْأُمَمِ عُقُولًا وَمَعَارِفَ وَعُلُومًا - لَا تَسْأَلُ نَبِيَّهَا: لِمَ أَمَرَ اللَّهُ بِكَذَا؟ وَلِمَ نَهَى عَنْ كَذَا؟ وَلِمَ قَدَّرَ كَذَا؟ وَلِمَ فَعَلَ كَذَا؟ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مُضَادٌّ لِلْإِيمَانِ وَالِاسْتِسْلَا مِ، وَأَنَّ قَدَمَ الْإِسْلَامِ لَا تَثْبُتُ إِلَّا عَلَى دَرَجَةِ التَّسْلِيمِ.
    فَأَوَّلُ مَرَاتِبِ تَعْظِيمِ الْأَمْرِ : التَّصْدِيقُ بِهِ، ثُمَّ الْعَزْمُ الْجَازِمُ عَلَى امْتِثَالِهِ، ثُمَّ الْمُسَارَعَةُ إِلَيْهِ وَالْمُبَادَرَة ُ بِهِ الْقَوَاطِعَ وَالْمَوَانِعَ، ثُمَّ بَذْلُ الْجُهْدِ وَالنُّصْحِ فِي الْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، ثُمَّ فِعْلُهُ لِكَوْنِهِ مَأْمُورًا، بِحَيْثُ لَا يَتَوَقَّفُ الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى مَعْرِفَةِ حِكْمَتِهِ - فَإِنْ ظَهَرَتْ لَهُ فَعَلَهُ وَإِلَّا عَطَّلَهُ، فَإِنَّ هَذَا يُنَافِي الِانْقِيَادَ، وَيَقْدَحُ فِي الِامْتِثَالِ." انتهى من "شرح الطحاوية" (341) .
    والحاصل :
    أن من فهم الحكمة في البلاء والمرض صبر واحتسب وعلم أنه شيء قدره الله بحكمته وعلمه ، وأنه خير للمسلم في دينه ودنياه .
    ومن فهم الحكمة في الغنى والفقر ، شكر إذا أغناه الله ، وصبر إذا قدر الله عليه الحاجة .
    ومن فهم الحكمة في تشريع الجهاد ، بادر بالجهاد في سبيل الله بنفسه وماله ، لإعلاء كلمة الله ونشر دينه ، ومحاربة الكفر وأهله .
    ومن فهم الحكمة في الصدقة وعلم أنه يكون بها نماء المال وزكاؤه ونفع صاحبه في الدنيا والآخرة وأنه ما نقص مال من صدقة بادر بالصدقة حتى يكون ما يخرجه في الله أحب إلى نفسه مما يمسكه .
    ومن لم يعلم الحكمة :
    بادر بالتسليم والرضا، وعلم أنه ربما أتي من قِبَل جهله ، وعدم علمه ، فيسيء الظن بنفسه ، ويحسن الظن بربه ، فما أسعد المسلم بدينه ، إن هو علم الحكمة زادته إيمانا وفقها ، وعلما وعملا ، وإن هو جهلها أحسن الظن بربه ، وأساء الظن بنفسه ، وما زاده عدم العلم بها إلا تسليما لربه ، ورضا بما قدره وشاءه وشرعه سبحانه ، قال تعالى : (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) البقرة / 216.
    قال ابن القيم رحمه الله: " العبد لا يريد مصلحة نفسه من كل وجه ، ولو عرف أسبابها، فهو جاهل ظالم، وربه تعالى يريد مصلحته ، ويسوق إليه أسبابها .
    ومن أعظم أسبابها: ما يكرهه العبد؛ فإن مصلحته فيما يكره ، أضعاف أضعاف مصلحته فيما يحب " انتهى من "مدارج السالكين" (2/ 205) .
    فلا يتم إيمان المسلم حتى يثبت لربه تعالى ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات والأفعال ، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم كذلك ، ومما ثبت لله تعالى من الأسماء " الحكيم " ، ومما ثبت له من الصفات " الحكمة " ، فلم يخلق الله تعالى خلقاً إلا لحكمة ، ولم يشرع شرعاً إلا لحكمة ، وليس بالضرورة أن تصل عقول العباد إلى تلك الحكم دائما ، بل قد يبين الله تعالى لعباده بعض تلك الحكم ، وقد يستر عنهم بعضهم ، محنة لهم ، واختبارا لعبودئتهم وتسليمهم لربهم .

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: أفعال الله تعالى لا يخرج شيء منها عن تمام الحكمة ،

    الحكمة مِن خَلْق البشر

    من عظيم صفات الله تعالى " الحكمة " ، ومن أعظم أسمائه تعالى " الحكيم " ، وينبغي أن يُعلم أنه ما خلق شيئاً عبثاً ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، وإنما يخلق لِحِكَمٍ بالغة عظيمة ، ومصالح راجحة عميمة ، عَلِمَها من عَلِمها ، وجَهِلها من جهلها ، وقد ذكر الله تعالى ذلك في كتابه الكريم ، فبيَّن أنه لم يخلق البشر عبثاً ، ولم يخلق السموات والأرض عبثاً ، فقال تعالى : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ . فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) المؤمنون/115،116 ، وقال سبحانه وتعالى : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ) الأنبياء/16 ، وقال عز وجل : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) الدخان/38 ، 39 ، ويقول سبحانه وتعالى : ( حم . تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ . مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ) الأحقاف/1 – 3 .
    وكما أن ثبوت الحكمة في خلق البشر ثابت من ناحية الشرع , فهو ثابت – أيضاً - من ناحية العقل ، فلا يمكن لعاقل إلا أن يسلِّم أنه قد خلقت الأشياء لحكَمٍ ، والإنسان العاقل ينزه نفسه عن فعل أشياء في حياته دون حكمة ، فكيف بالله تعالى أحكم الحاكمين ؟!
    ولذا أثبت المؤمنون العقلاء الحكمة لله تعالى في خلقه ، ونفاها الكفار ، قال تعالى : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُون َ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) آل عمران/190 ، 191 ، وقال تعالى – في بيان موقف الكفار من حكمة خلقه - : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) ص/27 .
    قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله :
    " يخبر تعالى عن تمام حكمته في خلقه السموات والأرض ، وأنه لم يخلقهما باطلاً ، أي : عبثاً ولعباً ، من غير فائدة ولا مصلحة .
    ( ذلك ظن الذين كفروا ) بربهم ، حيث ظنوا ما لا يليق بجلاله .
    ( فويل للذين كفروا من النار ) فإنها التي تأخذ الحق منهم ، وتبلغ منهم كل مبلغ ، وإنما خلق الله السموات والأرض بالحق وللحق ، فخلقهما ليعلم العباد كمال علمه وقدرته ، وسعة سلطانه ، وأنه تعالى وحده المعبود ، دون من لم يخلق مثقال ذرة من السموات والأرض ، وأن البعث حق ، وسيفصل الله بين أهل الخير والشر ، ولا يظن الجاهل بحكمة الله ، أن يسوي الله بينهما في حكمه ، ولهذا قال : ( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ) هذا غير لائق بحِكمَتنا وحُكْمنا " انتهى .
    " تفسير السعدي " ( ص 712 ) .
    ثانياً :
    ولم يخلق الله تعالى الإنسان ليأكل ويشرب ويتكاثر ، فيكون بذلك كالبهائم ، وقد كرَّم الله تعالى الإنسان ، وفضَّله على كثيرٍ ممن خلق تفضيلاً ، ولكن أبى أكثر الناس إلا كفوراً فجهلوا أو جحدوا الحكمة الحقيقية من خلقهم ، وصار كل هَمِّهِم التمتع بشهوات الدنيا , وحياة هؤلاء كحياة البهائم , بل هم أضل ، قال تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ) محمد/12 ، وقال تعالى : ( ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) الحجر/3 , وقال تعالى : ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) الأعراف/179 . ومن المعلوم عند عقلاء الناس أن الذي يصنع الشيء هو أدرى بالحكمة منه من غيره ، ولله المثل الأعلى فإنه هو الذي خلق البشر ، وهو أعلم بالحكمة من خلقه للناس ، وهذا لا يجادل فيه أحد في أمور الدنيا ، ثم إن الناس كلهم يجزمون أن أعضاءهم خُلقت لحكمة ، فهذه العين للنظر ، وهذه الأذن للسمع ، وهكذا ، أفيُعقل أن تكون أعضاؤه مخلوقةً لحكمة ، ويكون هو بذاته مخلوقاً عبثاً ؟! أو أنه لا يرضى أن يستجيب لمن خلقه عندما يخبره بالحكمة من خلقه ؟!
    ثالثاً :
    وقد بيَّن الله تعالى أنه خلق السموات والأرض ، والحياة والموت للابتلاء والاختبار ، ليبتلي الناس , مَنْ يطيعه ليثيبه ، ومَنْ يعصيه ليعاقبه ، قال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) هود/ 7 ، وقال عز وجل : ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) الملك/ 2 .
    وبهذا الابتلاء تظهر آثار أسماء الله تعالى وصفاته ، مثل اسم الله تعالى " الرحمن " ، و " الغفور " و " الحكيم " و " التوَّاب " و " الرحيم " وغيرها من أسمائه الحسنى .
    ومن أعظم الأوامر التي خلق الله البشر من أجلها – وهو من أعظم الابتلاءات - : الأمر بتوحيده عز وجل وعبادته وحده لا شريك له ، وقد نصَّ الله تعالى على هذه الحكمة في خلق البشر فقال تعالى : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات/56 .
    قال ابن كثير رحمه الله :
    " أي : إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي ، لا لاحتياجي إليهم ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : إلا ليعبدون ، أي : إلا ليقروا بعبادتي طوعاً أو كرهاً ، وهذا اختيار ابن جرير ، وقال ابن جريج : إلا ليعرفون ، وقال الربيع بن أنس : إلا ليعبدون ، أي : إلا للعبادة " انتهى .
    " تفسير ابن كثير " ( 4 / 239 ) .
    وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله :
    " فالله تعالى خلق الخلق لعبادته ، ومعرفته بأسمائه وصفاته ، وأمرهم بذلك ، فمن انقاد ، وأدى ما أمر به ، فهو من المفلحين ، ومن أعرض عن ذلك ، فأولئك هم الخاسرون ، ولا بد أن يجمعهم في دار ، يجازيهم فيها على ما أمرهم به ونهاهم ، ولهذا ذكر الله تكذيب المشركين بالجزاء ، فقال : ( ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ) أي : ولئن قلتَ لهؤلاء ، وأخبرتهم بالبعث بعد الموت ، لم يصدقوك ، بل كذبوك أشد التكذيب ، وقدحوا فيما جئت به ، وقالوا : ( إن هذا إلا سحر مبين ) ألا وهو الحق المبين " انتهى .
    " تفسير السعدي " ( ص 333 ) .
    والله أعلم .
    المصدر: الإسلام سؤال وجواب

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: أفعال الله تعالى لا يخرج شيء منها عن تمام الحكمة ،

    الحكمة من خلق الملائكة

    قدر الله تعالى أن يخلق الملائكة ، ولا شهوة لهم إلى المعصية ، بل همتهم مصروفة بالكلية إلى طاعة رب العالمين ؛ فليس لهم في الدنيا اختبار ولا ابتلاء ، ولا عليهم في الآخرة حساب ولا جزاء .
    قال ابن القيم – رحمه الله - :
    فإن الله سبحانه خلق خلقَه أطواراً ، فخلق الملائكة عقولاً لا شهوات لها ولا طبيعة تتقاضى منها خلاف ما يراد من مادة نورية لا تقتضي شيئاً من الآثار والطبائع المذمومة ، وخلق الحيوانات ذوات شهوات لا عقول لها ، وخلق الثقلين الجن والإنس وركب فيهم العقول والشهوات والطبائع المختلفة لآثارمختلفة بحسب موادها وصورها وتركيبها ، وهؤلاء هم أهل الامتحان والابتلاء ، وهم المعرضون للثواب والعقاب ، ولو شاء سبحانه لجعل خلقه على طبيعة خلق واحد ولم يفاوت بينهم ، لكن ما فعله سبحانه هو محض الحكمة ، وموجب الربوبية ، ومقتضى الإلهية .
    " طريق الهجرتين " ( ص 203 ) .

    الملائكة الكرام خلقٌ من خلق الله تعالى ، عبادٌ مكرمون ، لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يُؤمرون ، يكلفهم ربهم تعالى بما يشاء ، وإذا علمتَ تلك الوظائف والأعمال التي يقوم بها أولئك الخلق الكرام فهي الحكمة من خلقهم ،
    ومجمل هذه الأعمال والوظائف ثلاثة :

    الأولى : عبادة الله تعالى ، وتمجيده ، وتعظيمه ، وتسبيحه .
    قال تعالى : ( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ) الأنبياء/ 20 ، وقال تعالى – على لسان الملائكة الكرام - : ( وَإنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ . وَإِنّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ ) الصافات/ 165 ، 166 .
    عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ ، أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ ) .
    رواه الترمذي ( 2312 ) وابن ماجه ( 4190 ) ، وحسَّنه الألباني في " صحيح الترمذي " .
    وانظر شرح الحديث في جواب السؤال رقم ( 131516 ) .
    الثانية : القيام بأمر خلق الله تعالى وملكوته تعالى بإذن ربهم وتكليفه .
    فمن الملائكة مكلفون بحمل العرش وعددهم ثمانية ، ومنهم مكلفون بتبليغ الوحي ، ومنهم خزنة الجنة ، ومنهم خزنة النار ، ومنهم ملائكة الأرزاق ، وهكذا في سلسلة أعمال جليلة كلفهم بها الرب سبحانه وتعالى .
    الثالثة : القيام بأمر بني آدم بإذن ربهم وتكليفه .
    فمن الملائكة من يحرس بني آدم ، ومنهم من يسجل أعمال بني آدم ، ومنهم مكلفون بقبض الأرواح ، ومنهم المكلف بسؤال الميت في قبره ، والمستغفر للمؤمنين ، وهكذا في سلسلة أعمال جليلة تتعلق بابن آدم .
    وأما قولك " وهل عندما خلق الله إبليس كان يعرف نهايته ومستقبله في الأرض ؟ " ؛ فاعلم ـ أولاً ـ أنه لا يصح إسلام العبد إلا أن يؤمن أن الله تعالى يعلم ما كان وما يكون ، وما لم يكن لو كان كيف يكون ؟ وأن من تشكك في شيء من ذلك : فهو كافر بالله العظيم .
    ألست تقرأ قول الله تعالى ( عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) سبأ/ 3 ، وقوله تعالى ( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ) الطلاق/ 12 ، وقوله ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) المجادلة/ 7 ، وقوله ( هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) الحديد/ 3 ؟! فأين أنت عن هذه الآيات ومئات مثلها ، ومئات من الأحاديث ؟! .

    خامساً:
    أما قولك " وهل لم يستطع الله خلق إبليس على الهدى الذي أراده له ؟ " : فهذا أيضاً منك عجيب ، فإن كنتَ مسلماً فكيف آمنتَ برب عاجز ؟ وكيف آمنت - إذاً - بربٍّ خلق الملائكة عباداً طائعين فكان ما أراد الله تعالى منهم ؟ .
    ..............ومما يرشدك إلى تمام قدرة الله جل جلاله ، وعظيم ملكه ؛
    فقد خلق من خلقه من لا يعصيه طرفة عين ، بل هو طائع له أبدا ، وهم الملائكة ،
    وخلق من لا يطيع أمره أبدا ،بل هو عاص له ، كافر به ، معاند لأمره ؛ وهم الشياطين ؛
    وخلق من جمع بين الوصفين : الإيمان والكفر ، والطاعة والمعصية ، وهم بنو آدم .
    والكل خلق الله ،
    لو شاء لجعلهم على ملة واحدة ، وخلقة واحدة ، ودين واحد ،
    لكن حكمته وقدرته اقتضت ذلك ،
    وهو المحمود على كل فعله ، وكل قوله ، وكل خلقه سبحانه : ( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) الأنبياء/23 .
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
    " وَهُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ ، وَلَهُ فِيمَا خَلَقَهُ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ، وَنِعْمَةٌ سَابِغَةٌ ، وَرَحْمَةٌ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ ؛ وَهُوَ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ، لَا لِمُجَرَّدِ قُدْرَتِهِ وَقَهْرِهِ ؛ بَلْ لِكَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ ، وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (8/79) .

    المصدر: الإسلام سؤال وجواب

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: أفعال الله تعالى لا يخرج شيء منها عن تمام الحكمة ،

    الحكمة من خلق الحيوانات الضارّة
    السؤال
    ما الحكمة من خلق الله حيوانات مثل الأفاعي والعقارب والفئران وما إلى ذلك إذا كنا لا نأكلها؟
    نص الجواب
    الإجابة على هذا السؤال من جانبين عام وخاصّ : أمّا العام : فإنّ المسلم يؤمن بأنّ الله حكيم عليم لا يخلق شيئا عبثا وكلّ أفعاله صادرة عن حكمة ، فإذا خفيت الحكمة من فعل من أفعاله تعالى على المؤمن فإنّه يلوذ بهذا الأصل ولا يُسيء الظنّ بربّه .
    - وأما الخاص : فإنّ من الحكم في خلق مثل هذه المخلوقات ظهور إتقان صنعة الله في خلقه وتدبيره عزّ وجلّ في مخلوقاته فعلى كثرتها فإنّه يرزقها جميعا وكذلك فإنّه سبحانه يبتلي بها ويأجر من أصيب بها وتظهر شجاعة من قتلها وكذلك يبتلي بخلقها عباده من جهة إيمانهم ويقينهم فأمّا المؤمن فيرضى ويسلّم وأمّا المرتاب فيقول ماذا أراد الله بهذا الخلق !! وكذلك يظهر ضعف الإنسان وعجزه في تألمه ومرضه بسبب مخلوق هو أدنى منه في الخلقة بكثير ، وقد سئل بعض العلماء عن الحكمة من خلق الذباب فقال : ليذلّ الله به أنوف الجبابرة ، وبوجود المخلوقات الضارة تظهر عظم المنّة من خلق الأشياء النافعة كما قيل : وبضدّها تتبيّن الأشياء . ثمّ قد ظهر بالطبّ والتجربة أنّ عددا من العقاقير النافعة تُستخرج من سمّ الأفاعي وما شاكلها ، فسبحان من جعل في الأمور التي ظاهرها الضرر أمورا نافعة ، ثمّ إنّ كثيرا من هذه الحيوانات الضارّة تكون طعاما لغيرها من الدوابّ النافعة مما يشكّل حلقة في التوازن الموجود في الطبيعة والبيئة التي أحكم الله خلقها .
    هذا ويجب أن يعتقد المسلم أنّ كلّ أفعاله تعالى خير وليس في مخلوقاته شرّ محض بل لابدّ أن يكون فيها خير من وجه آخر وإن خفي على بعضنا كخلق إبليس وهو رأس الشرّ . فإنّ خلقه فيه حكم ومصالح منها أن الله يبتلي به خلقه ليتبيّن أهل الطاعة من أهل المعصية وأهل المجاهدة من أهل التفريط فيتميّز أهل الجنة من أهل النار .

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: أفعال الله تعالى لا يخرج شيء منها عن تمام الحكمة ،

    الحكمة من خلق الخير والشر

    اعلم أن أهل العلم قد ذكروا أنه ليس من الأدب أن يوصف الله بأنه أراد الشر بعباده وإن كان سبحانه هو خالقه وموجده. ويستدلون بمثل قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء:80]، وبمثل قول الجن كما في سورة الجن: (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) [الجـن:10]، فنبي الله إبراهيم لم يقل وإذا أمرضني، والجن لما ذكروا الشر ذكروه بالفعل المبني للمجهول، ولما ذكروا الخير أضافوه إلى ربهم وهذا من أدبهم، وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بالدعاء المأثور في قيام الليل ومنه: "والشر ليس إليك". فإذا قال قائل: إننا نرى مثلاً بعض الشرور تحصل، وذلك كالأمراض، وكذلك نرى المعاصي والفجور وغير ذلك، فيقال أولاً: إن أفعال الله سبحانه وتعالى كلها خير وحكمة وليس فيها شر بإطلاق، وإن كانت شراً على بعض الخلق بسبب كسبهم واختيارهم. ثانياً: الشر هذا الذي نراه إنما هو في مقدوراته ومفعولاته، ويوضح هذا أننا نجد في بعض المخلوقات المقدورات شراً كالحيات والعقارب، ونجد الأمراض والفقر والجدب وما أشبه ذلك، فكل هذه بالنسبة للإنسان شرا لأنها لا تلائمه، لكن باعتبار نسبتها إلى الله هي خير لأن الله لم يقدرها إلا لحكمة عرفها من عرفها وجهلها من جهلها. وليس هذا موضع تفصيل، لكن عليك أخي بمعرفة هذا القدر، ثم اعلم أن الله تعالى قد أرشدنا في كتابه أن لا نقحم أنفسنا بمثل هذه التساؤلات وإنما علينا الانقياد والتسليم، قال الله تعالى: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)[الأنبياء:23]
    قال ابن القيم رحمه الله : فى الحكمة من خلق ابليس والكفر والشر
    أما الشر المحض الذي لا خير فيه فذاك ليس له حقيقة بل هو العدم المحض ، فإن قيل : فإبليس شر محض ، والكفر والشر كذلك ، وقد دخلوا في الوجود ، فأي خير في إبليس وفي وجود الكفر ؟ قيل : في خلق إبليس من الحِكم والمصالح والخيرات التي ترتبت على وجوده ما لا يعلمه إلا الله ، كما سننبه على بعضه ، فالله سبحانه لم يخلقه عبثا ولا قصد بخلقه أضرار عباده وهلاكهم ، فكم لله في خلقه من حكمة باهرة وحجة قاهرة وآية ظاهرة ونعمة سابغة ، وهو وإن كان للأديان والإيمان كالسموم للأبدان ، ففي إيجاد السموم من المصالح والحكم ما هو خير من تفويتها . انتهى .

    وقال في موضع آخر عن خلق إبليس : في ذلك من الحِكم مالا يحيط بتفصيله إلا الله ، فمنها :
    أن يُكمل لأنبيائه وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة عدو الله وحزبه ومخالفته ومراغمته في الله وإغاظته وإغاظة أوليائه والاستعاذة به منه والإلتجاء إليه أن يعيذهم من شره وكيده فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لم يحصل بدونه ...
    ومنها خوف الملائكة والمؤمنين من ذنبهم بعد ما شاهدوا من حال إبليس ما شاهدوه ، وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المنزلة الإبليسية ؛ يكون أقوى وأتم ولا ريب أن الملائكة لما شاهدوا ذلك حصلت لهم عبودية أخرى للرب تعالى ، وخضوع آخر ، وخوف آخر .
    إلى أن قال : فاقتضت الحكمة الإلهية إخراجه وظهوره ، فلا بد إذاً من سبب يُظهر ذلك ، وكان إبليس مَحَـكّـاً يُميز به الطيب من الخبيث . انتهى كلامه رحمه الله .
    وذكر أيضا ما يتعلق بحكمة وجود الكفار وغير ذلك ، ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى الكتاب المذكور .

    وقد يقول بعض الناس إن الموت مصيبة وربما ظـنّـوه شـراً
    وليس الأمر كذلك
    فقد قال عليه الصلاة والسلام : مستريح ومستراح منه . قالوا : يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه ؟ قال : العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله ، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب . متفق عليه .

    ففي الموت راحة للمؤمن ، وراحة من الفاجر والكافر .

    وكم من أمر يكرهه العبد ويرى أن فيه شـراً ، وليس كذلك
    ولذا قال الله عز وجل : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ
    خَيْرٌ لَّكُمْ )
    وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا أبالي أصبحت على ما أحب أو على ما أكره ؛ لأني لا أدري الخير فيما أحب أو فيما أكره .
    وقال الحسن : لا تكْرهوا النقمات الواقعة والبلايا الحادثة ، فلربّ أمر تكرهه فيه نجاتك ، ولرب أمر تؤثره فيه عطبك .

    وكان الشيخ العثيمين رحمه الله يكره أن يُقال : الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه .

    كره هذا اللفظ لأنه يُشعر بعدم الرضا

    والأولى أن يُستبدل بقوله عليه الصلاة والسلام : الحمد لله على كل حال .

    وأذكر أنني ألقيت درساً في شرح أركان الإيمان ، ومنها : الإيمان بالقدر خيره وشـرِّه

    ثم فصّـلت التفصيل المتقدّم ، وقلت : إن الشر قد يكون في نظر العبد ، ولو كُشفت للعبد حُجب الغيب لما تمنى غير ما قدر الله وقضى .

    فكثر السؤال حول هذه المسألة فقام رجل فقال : أنا في هذا البلد مهاجر ! وقد طُردت من بلدي ، وظننت أن ما حصل لي شـر ، وإذا بي أرى الخير من خلال ذلك الذي ظننته شـراً

    قلت له : ذكرتني كلمة جميلة لابن القيم رحمه الله حيث قال : كم مِن محنة في طيّـها مِنحـة .[عبد الرحمن السحيم]

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: أفعال الله تعالى لا يخرج شيء منها عن تمام الحكمة ،

    الحكمة من خلق الخلق مع كون الله غنيا عنهم

    فجواب هذا السؤال قد بينه الله عز و جل بما يكفي ويشفي ويغني عن قول كل قائل، قال جل وعلا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ* مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ* إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ {الذاريات:56-57-58}، واعلم هدانا الله وإياك أن الله تعالى حكيم، لا يفعل شيئاً عبثاً، ولا يقدر شيئاً سدى وأن عقول البشر عاجزة، قاصرة عن إدراك حكمة الله عز وجل في كل فعل من أفعاله، فإذا أعيتك معرفة حكمته تعالى في أمر من الأمور فعليك بالقاعدة العامة التي بينها الله لخلقه، وهي قوله تعالى: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ {الأنبياء:23}، فترد إليها ما أشكل عليك من هذا الجنس.
    وربنا عز وجل له الأسماء الحسنى والصفات العلا، وهو تعالى يحب أن يظهر آثار أسمائه وصفاته، فهو يحب أن يجيب دعوة الداعين، ويكشف كرب المكروبين، ويثيب الطائعين، ويعاقب العاصين، فاسمه الرحمن الرحيم ترى ظهور آثاره بادية في ذرات هذا الكون: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {الروم:50}، واسمه العزيز ظهرت آثاره وتظهر في إهلاكه للمكذبين وقهره للمعاندين، واسمه التواب تظهر آثاره في إقالته العثرات، وعفوه عن الزلات، وهكذا في جميع أسمائه الحسنى وصفاته العلا، فهو تعالى يحب أن يدعوه الخلق فيجيبهم، ويعبدوه فيثيبهم، ومن أسمائه تعالى الخالق البارئ المصور، ومن أسمائه تعالى الخلاق العليم.. فهذا القول كله أثر من آثار هذه الأسماء، وهو تعالى غني عن خلقه وعن عبادتهم ومع ذلك فقد رحمهم بأن بعث إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب وهداهم النجدين ووعدهم على الطاعات اليسيرة الأجور الكثيرة.

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: أفعال الله تعالى لا يخرج شيء منها عن تمام الحكمة ،

    الحكمة من خلق الإنسان

    فهذا سؤال عظيم القدر، جمَّ الفائدة، إذ هو سؤال عن غاية خلق الإنسان في هذه الحياة، وقد أوضح الله هذه الحقيقة، ولم يدع العباد في عماية من أمرهم، فقال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].
    قال الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: أي إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي لا لاحتياجي إليهم.
    فواجب العبد وغايته في هذه الحياة هو التحلي الكامل بصفة العبودية التي هي شرف للعبد، وتاج يفتخر به أمام العالمين، ومن تمام التحلي بهذه الصفة أن يدعو الناس إليها، كما قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف: 108].
    فهذه هي الحكمة الحقيقية لخلق الإنسان.

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: أفعال الله تعالى لا يخرج شيء منها عن تمام الحكمة ،

    حكمة خلق السماوات والأرض في ستة أيام

    سئل الشيخ ابن باز رحمه الله
    السؤال:

    يقول القرآن: إن الله  خلق السماوات والأرض في ستة أيام هل بإمكانكم توضيح ذلك لنا في ضوء معرفتنا بأنه يكفي أن يقول الله كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]؟

    الجواب:
    خلق الله سبحانه السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، كما أخبر وهو الصادق جل وعلا أنه خلقها في ستة أيام، وهو قادر على أن يخلقها في لمحة بصر، كما قال : إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شيئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
    ولكن ذكر العلماء رحمهم الله أنه خلقها في ستة أيام ليعلم عباده عدم العجلة وأن يتدبروا الأمور ويتعقلوها، فربهم الذي يعلم كل شيء وهو القادر على كل شيء لم يعجل في خلق السماوات ولا في خلق الأرض، بل جعلها في ستة أيام، ولم يعجل في خلق آدم ولم يعجل في خلق الأشياء الأخرى، بل نظمها ودبرها أحسن تنظيم وأحسن تدبير، ليعلم عباده التريث في الأمور وعدم العجلة في الأمور، وأن يعملوا أمورهم منظمة موضحة تامة على بصيرة وعلى علم من دون عجلة وإخلال بما ينبغي فيها، وهو سبحانه مع كونه قادرا على كل شيء وعالما بكل شيء مع ذلك لم يعجل بل خلقها في ستة أيام وهو قادر على خلقها في لمحة أو دقيقة إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شيئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] ، فجعلها منظمة مدبرة في أيام معدودات، ليعلم عباده كيف يعملون، وكيف ينظمون أمورهم، وكيف يتريثون في الأمور، ولا يعجلون حتى تنتظم مصالحهم، وحتى تستقيم أمورهم على طريقة واضحة وطريقة يطمئنون إليها، فيها مصالحهم، وفيها ما ينفعهم ويدفع الضرر عنهم.
    وقد أشار الله سبحانه إلى هذا المعنى في آيات، قال : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7]، فأخبر أنه خلقها هكذا؛ ليبلونا وليختبرنا أينا أحسن عملا، وأتقن عملا، وأكمل عملا. فالعجل الذي لا يتدبر الأمور قد يخل بالعمل، فالله خلقها في ستة أيام ليبتلي العباد، بإتقان أعمالهم، وإحسان أعمالهم، وعدم العجلة فيها، حتى لا تختل شؤونهم ومصالحهم وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7]، قال سبحانه: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7]، وجعل ما على الأرض من جبال وأشجار ونبات وحيوانات ومعادن وغير ذلك؟ ليبلو العباد (ليختبرهم) أيهم أحسن عملا في استخراج ما في هذه الأرض والاستفادة من ذلك والانتفاع بذلك، وقال سبحانه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2].
    ففي هذه الآيات وما جاء في معناها الدلالة على أنه سبحانه خلق هذه الأشياء بهذا التنظيم وبهذه المدة المعينة ليبلو عباده ويختبرهم أيهم أحسن عملا، ما قال أكثر عملا قال: أحسن، فالاعتبار بالإتقان والإكمال والإحسان لا بالكثرة https://binbaz.org.sa/fatwas

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: أفعال الله تعالى لا يخرج شيء منها عن تمام الحكمة ،

    الحكمة من خلق إبليس

    في خلق الله تعالى لإبليس من الحكم والمصالح ما لايعلمه إلا الله تعالى ، وكذلك الأمر في خلق الكفار والعصاة وأنواع الشرور . وقد أجاد الإمام ابن القيم رحمه الله في بيان ذلك، فقال في كتابه: شفاء العليل: (قولهم أي حكمة في خلق إبليس وجنوده؟ ففي ذلك من الحكم مالا يحيط بتفصيله إلا الله ،
    فمنها: أن يكمل لأنبيائه وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة عدو الله وحزبه ومخالفته ومراغمته في الله وإغاظته وإغاظة أوليائه والاستعاذة به منه والإلجاء إليه أن يعيذهم من شره وكيده فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لم يحصل بدونه، وقدمنا أن الموقوف على الشيء لا يحصل بدونه.
    ومنها: خوف الملائكة والمؤمنين من ذنبهم بعد ما شاهدوا من حال إبليس ما شاهدوه وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المنزلة الإبليسية يكون أقوى، وأتم ولا ريب أن الملائكة لما شاهدوا ذلك حصلت لهم عبودية أخرى للرب تعالى وخضوع آخر وخوف آخر كما هو المشاهد من حال عبيد الملك إذا رأوه قد أهان أحدهم الإهانة التي بلغت منه كل مبلغ وهم يشاهدونه فلا ريب أن خوفهم وحذرهم يكون أشد.
    ومنها: أنه سبحانه جعله عبرة لمن خالف أمره وتكبر عن طاعته وأصر على معصيته كما جعل ذنب أبي البشر عبرة لمن ارتكب نهيه أو عصى أمره ثم تاب وندم ورجع إلى ربه فابتلى أبوي الجن والإنس بالذنب وجعل هذا الأب عبرة لمن أصر وأقام على ذنبه وهذا الأب عبرة لمن تاب ورجع إلى ربه فلله كم في ضمن ذلك من الحكم الباهرة والآيات الظاهرة .
    ومنها: أنه محك امتحن الله به خلقه ليتبين به خبيثهم من طيبهم فإنه سبحانه خلق النوع الإنساني من الأرض وفيها السهل والحزن والطيب والخبيث فلا بد أن يظهر فيهم ما كان في مادتهم كما في الحديث الذي رواه الترمذي مرفوعا "أن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على مثل ذلك، منهم الطيب والخبيث والسهل والحزن وغير ذلك" فما كان في المادة الأصلية فهو كائن في المخلوق منها فاقتضت الحكمة الإلهية إخراجه وظهوره فلا بد إذا من سبب يظهر ذلك وكان إبليس محكا يميز به الطيب من الخبيث كما جعل أنبياءه ورسله محكا لذلك التمييز، قال تعالى (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) فأرسله الى المكلفين وفيهم الطيب والخبيث فانضاف الطيب الى الطيب والخبيث الى الخبيث واقتضت حكمته البالغة أن خلطهم في دار الامتحان ، فإذا صاروا إلى دار القرار يميز بينهم وجعل لهؤلاء دارا على حدة ولهؤلاء دارا على حدة حكمة بالغة وقدرة قاهرة.
    ومنها: أن يظهر كمال قدرته في خلق مثل جبريل والملائكة وإبليس والشياطين وذلك من أعظم آيات قدرته ومشيئته وسلطانه فإنه خالق الأضداد كالسماء والأرض والضياء والظلام والجنة والنار والماء والنار والحر والبرد والطيب والخبيث.
    ومنها: أن خلق أحد الضدين من كمال حسن ضده فإن الضد إنما يظهر حسنه بضده فلولا القبيح لم تعرف فضيلة الجميل ولولا الفقر لم يعرف قدر الغنى كما تقدم بيانه قريبا. ومنها: أنه سبحانه يحب أن يشكر بحقيقة الشكر وأنواعه ولا ريب أن أولياءه نالوا بوجود عدو الله إبليس وجنوده وامتحانهم به من أنواع شكره ما لم يكن ليحصل لهم بدونه فكم بين شكر آدم وهو في الجنة قبل أن يخرج منها وبين شكره بعد أن ابتلي بعدوه ثم اجتباه ربه وتاب عليه وقبله.
    ومنها: أن المحبة والإنابة والتوكل والصبر والرضا ونحوها أحب العبودية إلى الله سبحانه وهذه العبودية إنما تتحقق بالجهاد وبذل النفس لله وتقديم محبته على كل ما سواه فالجهاد ذروة سنام العبودية وأحبها إلى الرب سبحانه، فكان في خلق إبليس وحزبه قيام سوق هذه العبودية وتوابعها التي لا يحصى حكمها وفوائدها وما فيها من المصالح إلا الله.
    ومنها: أن في خلق من يضاد رسله ويكذبهم ويعاديهم من تمام ظهور آياته وعجائب قدرته ولطائف صنعه ما وجوده أحب إليه وأنفع لأوليائه من عدمه كما تقدم من ظهور آية الطوفان والعصا واليد وفلق البحر وإلقاء الخليل في النار وأضعاف أضعاف ذلك من آياته وبراهين قدرته وعلمه وحكمته فلم يكن بد من وجود الأسباب التي يترتب عليها ذلك كما تقدم .
    ومنها: أن المادة النارية فيها الإحراق والعلو والفساد وفيها الإشراق والإضاءة والنور فأخرج منها سبحانه هذا وهذا كما أن المادة الترابية الأرضية فيها الطيب والخبيث والسهل والحزن والأحمر والأسود والأبيض فاخرج منها ذلك كله حكمة باهرة وقدرة قاهرة وآية دالة على أنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
    ومنها: أن من أسمائه الخافض الرافع المعز المذل الحكم العدل المنتقم وهذه الأسماء تستدعي متعلقات يظهر فيها أحكامها كأسماء الإحسان والرزق الرحمة ونحوها ولا بد من ظهور متعلقات هذه وهذه.
    ومنها: أنه سبحانه الملك التام الملك ومن تمام ملكه عموم تصرفه وتنوعه بالثواب والعقاب والإكرام والإهانة والعدل والفضل والإعزاز والإذلال فلا بد من وجود من يتعلق به أحد النوعين كما أوجد من يتعلق به النوع الآخر.
    ومنها: أن من أسمائه الحكيم والحكمة من صفاته سبحانه وحكمته تستلزم وضع كل شيء موضعه الذي لا يليق به سواه فاقتضت خلق المتضادات وتخصص كل واحد منها بما لا يليق به غيره من الأحكام والصفات والخصائص وهل تتم الحكمة إلا بذلك فوجود هذا النوع من تمام الحكمة كما أنه من كمال القدرة .
    ومنها: أن حمده سبحانه تام كامل من جميع الوجوه فهو محمود على عدله ومنعه وخفضه وانتقامه وإهانته كما هو محمود على فضله وعطائه ورفعه وإكرامه فلله الحمد التام الكامل على هذا وهذا وهو يحمد نفسه على ذلك كله ويحمده عليه ملائكته ورسله وأوليائه ويحمده عليه أهل الموقف جميعهم، وما كان من لوازم كمال حمده وتمامه فله في خلقه وإيجاده الحكمة التامة كما له عليه الحمد التام فلا يجوز تعطيل حمده كما لا يجوز تعطيل حكمته .
    ومنها: أنه سبحانه يحب أن يظهر لعباده حلمه وصبره وأناته وسعة رحمته وجوده فاقتضى ذلك خلق من يشرك به ويضاده في حكمه ويجتهد في مخالفته ويسعى في مساخطه بل يشبهه سبحانه، وهو مع ذلك يسوق إليه أنواع الطيبات ويرزقه ويعافيه ويمكن له من أسباب ما يلتذ به من أصناف النعم ويجيب دعاءه ويكشف عنه السوء ويعامله من بره وإحسانه بضد ما يعامله هو به من كفره وشركه وإساءته ، فلله كم في ذلك من حكمة وحمد ، ويتحبب إلى أوليائه ويتعرف بأنواع كمالاته كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله يجعلون له الولد وهو يرزقهم ويعافيهم" وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه "شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك أما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون عليه من إعادته" وهو سبحانه مع هذا الشتم له والتكذيب يرزق الشاتم المكذب ويعافيه ويدفع عنه ويدعوه إلى جنته ويقبل توبته إذا تاب إليه ويبدله بسيآته حسنات ويلطف به في جميع أحواله ويؤهله لإرسال رسله ويأمرهم بأن يلينوا له القول ويرفقوا به. قال الفضيل بن عياض: ما من ليلة يختلط ظلامها إلا نادى الجليل جل جلاله: من أعظم مني جودا، الخلائق لي عاصون وأنا أكلأهم في مضاجعهم كأنهم لم يعصوني وأتولى حفظهم كأنهم لم يذنبوا، أجود بالفضل على العاصي وأتفضل على المسيء، من ذا الذي دعاني فلم ألبه ومن ذا الذي سألني فلم أعطه أنا الجواد ومني الجود أنا الكريم ومني الكرم ومن كرمي أني أعطي العبد ما سألني وأعطيه ما لم يسألني ومن كرمي أني أعطي التائب كأنه لم يعصني فأين عني يهرب الخلق وأين عن بابي يتنحى العاصون.
    وفي أثر إلهي: إني والإنس والجن في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر سواي.
    وفي أثر حسن ابن آدم ما أنصفتني، خيري إليك نازل وشرك إلى صاعد كم أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك وكم تتبغض إلى بالمعاصي وأنت فقير إلي ولا يزال الملك الكريم يعرج إلي منك بعمل قبيح.
    وفي الحديث الصحيح "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم" فهو سبحانه لكمال محبته لأسمائه وصفاته اقتضى حمده وحكمته أن يخلق خلقا يظهر فيهم أحكامها وآثارها فلمحبته للعفو خلق من يحسن العفو عنه، ولمحبته للمغفرة خلق من يغفر له ويحلم عنه ويصبر عليه ولا يعاجله، بل يكون يحب أمانه وإمهاله، ولمحبته لعدله وحكمته خلق من يظهر فيهم عدله وحكمته، ولمحبته للجود والإحسان والبر خلق من يعامله بالإساءة والعصيان وهو سبحانه يعامله بالمغفرة والإحسان فلولا خلق من يجري على أيديهم أنواع المعاصي والمخالفات لفاتت هذه الحكم والمصالح وأضعافها وأضعاف أضعافها فتبارك الله رب العالمين وأحكم الحاكمين ذو الحكمة البالغة والنعم السابغة الذي وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته وله في كل شيء حكمة باهرة كما أن له فيه قدرة قاهرة وهدايات إنما ذكرنا منه قطرة من بحر وإلا فعقول البشر أعجز وأضعف وأقصر من أن تحيط بكمال حكمته في شيء من خلقه فكم حصل بسبب هذا المخلوق البغيض للرب المسخوط له من محبوب له تبارك وتعالى، يتصل في حبه ما حصل به من مكروهه.
    والحكيم الباهر الحكمة هو الذي يحصل أحب الأمرين إليه باحتمال المكروه الذي يبغضه ويسخطه إذا كان طريقا إلى حصول ذلك المحبوب ووجود الملزوم بدون لازمه محال فإن يكن قد حصل بعدو الله إبليس من السرور والمعاصي ما حصل فكم حصل بسبب وجوده ووجود جنوده من طاعة هي أحب إلى الله وأرضى له، من جهاد في سبيله ومخالفة هوى النفس وشهوتها له وتحمل المشاق والمكاره في محبته ومرضاته وأحب شيء للحبيب أن يرى محبه يتحمل لأجله من الأذى والوصب ما يصدق محبته.
    من أجلك قد جعلت خدي أرضا للشامت والحسود حتى ترضى، وفي أثر إلهي بغيتي ما يتحمل المتحملون من أجلي، فلله ما أحب إليه احتمال محبيه أذى أعدائه لهم فيه وفي مرضاته، وما أنفع ذلك الأذى لهم وما أحمدهم لعاقبته وماذا ينالون به من كرامة حبيبهم وقربه قرة عيونهم به، ولكن حرام على منكري محبة الرب تعالى أن يشموا لذلك رائحة أو يدخلوا من هذا الباب أو يذوقوا من هذا الشراب، فقل للعيون العمى للشمس أعين سواك يراها في مغيب ومطلع، وسامح يؤسا لم يؤهل لحبهم فما يحسن التخصيص في كل موضع فان أغضب هذا المخلوق ربه فقد أرضاه فيه أنبياؤه ورسله وأولياؤه وذلك الرضى أعظم من ذلك الغضب وإن أسخطه ما يجري على يديه من المعاصي والمخالفات فإنه سبحانه أشد فرحا بتوبة عبده من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه إذا وجدها في المفاوز المهلكات، وإن أغضبه ما جرى على أنبيائه ورسله من هذا العدو فقد سره وأرضاه ما جرى على أيديهم من حربة ومعصيته ومراغمته وكبته وغيظه وهذا الرضى أعظم عنده وأبر لديه من فوات ذلك المكروه المستلزم لفوات هذا المرضي المحبوب، وإن أسخطه أكل آدم من الشجرة فقد أرضاه توبته وإنابته وخضوعه وتذلله بين يديه وانكساره له، وإن أغضبه إخراج أعدائه لرسوله من حرمه وبلدته ذلك الخروج، فقد أرضاه أعظم الرضى دخوله إليها ذلك الدخول، وإن أسخطه قتلهم أولياءه وأحباءه وتمزيق لحومهم وإراقة دمائهم فقد أرضاه نيلهم الحياة التي لا أطيب منها ولا أنعم ولا ألذ في قربه وجواره.
    وإن أسخطه معاصي عباده فقد أرضاه شهود ملائكته وأنبيائه ورسله وأوليائه سعة مغفرته وعفوه وبره وكرمه وجوده والثناء عليه بذلك وحمده وتمجيده بهذه الأوصاف التي حمده بها والثناء عليه بها أحب إليه وأرضى له من فوات تلك المعاصي وفوات هذه المحبوبات.
    وأعلم أن الحمد هو الأصل الجامع لذلك كله فهو عقد نظام الخلق والأمر، والرب تعالى له الحمد كله بجميع وجوهه واعتباراته وتصاريفه فما خلق شيئا ولا حكم بشيء إلا وله فيه الحمد فوصل حمده إلى حيث وصل خلقه وأمره حمدا حقيقا يتضمن محبته والرضا به وعنه والثناء عليه والإقرار بحكمته البالغة في كل ما خلقه وأمر به، فتعطيل حكمته عين تعطيل حمده كما تقدم بيانه، فكما أنه لا يكون إلا حميدا فلا يكون إلا حكيما فحمده وحكمته كعلمه وقدرته وحياته من لوازم ذاته ولا يجوز تعطيل شيء من صفاته وأسمائه عن مقتضياتها وآثارها فإن ذلك يستلزم النقص الذي يناقض كماله وكبريائه وعظمته. انتهى كلامه رحمه الله.

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: أفعال الله تعالى لا يخرج شيء منها عن تمام الحكمة ،

    سئل الشيخ عبد العزيز الراجحى فى الحكمة من خلق ابليس
    ما الحكمة من خلق إبليس؟
    الإجابة:
    حكم عظيمة، الله تعالى له الحكمة البالغة. من الحكم في خلق إبليس وهو ظهور قدرة الله على وجود المتباينات والمتضادات، فخلق إبليس والشياطين في مقابل خلق الملائكة والنبيين والصالحين، فظهرت قدرة الله على وجود الأشياء المتضادة. الشياطين وإبليس ضد والأنبياء والصالحين والملائكة، هؤلاء أهل الخير وهؤلاء أهل الشر. ومن الحِكَم في خلق إبليس: انقسام الناس إلى شقي وسعيد. الله خلقه حتى يوسوس لبعض الناس ويدعوهم إلى الشرك حتى ينقسم الناس إلى شقي وسعيد. ومن الحِكَم: ظهور العبودية المتنوعة، لولا أن الله خلق إبليس لما ظهرت العبودية المتنوعة: عبودية الجهاد في سبيل الله، وعبودية الصبر على ترك الهوى، وعبودية الولاء والبراء، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الجهاد في سبيل الله، ولو كان الناس كلهم على الإيمان أين عبودية الجهاد في سبيل الله، إذا كان الناس كلهم مؤمنون ما في إبليس، وإذا كان الناس كلهم مؤمنون أين عبودية الجهاد في سبيل الله، أين عبودية الولاء والبراء، أين عبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أين انقسام الناس إلى حزب الرحمن وحزب الشيطان، هذه بعض الحكم، والحكم كثيرة، لكن هذا شيء منها يسير، وربك على كل شيء قدير، إن ربك حكيم عليم، إن ربك عليم حكيم، نعم، له الحكمة البالغة سبحانه وتعالى في خلقه وأمره ونهيه وشرعه وقدره

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: أفعال الله تعالى لا يخرج شيء منها عن تمام الحكمة ،

    الحكمة في خلق قوم يكفرون بالله وخلق جهنم لهم

    قال ابن القيم رحمه الله قال رحمه الله : يريد رحمه الله - يعني: أبا إسماعيل الهروي- بشهود العدل في هدايته من هداه، وفي إضلاله من أضله أمرين: أحدهما: تفرده بالخلق، والهدى، والضلال.
    والثاني: وقوع ذلك منه على وجه الحكمة والعدل، لا بالاتفاق، ولا بمحض المشيئة المجردة عن وضع الأشياء مواضعها، وتنزيلها منازلها، بل بحكمة اقتضت هدى من علم أنه يزكو على الهدى، ويقبله ويشكره عليه، ويثمر عنده، فالله أعلم حيث يجعل رسالاته، أصلا وميراثا، قال تعالى: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين} [الأنعام: 53]. وهم الذين يعرفون قدر نعمته بالهدى، ويشكرونه عليها، ويحبونه، ويحمدونه على أن جعلهم من أهله، فهو سبحانه ما عدل عن موجب العدل والإحسان في هداية من هدى، وإضلال من أضل، ولم يطرد عن بابه، ولم يبعد عن جنابه من يليق به التقريب والهدى والإكرام، بل طرد من لا يليق به إلا الطرد والإبعاد، وحكمته وحمده تأبى تقريبه وإكرامه، وجعله من أهله وخاصته وأوليائه. ولا يبقى إلا أن يقال: فلم خلق من هو بهذه المثابة؟ فهذا سؤال جاهل ظالم، ضال، مفرط في الجهل، والظلم والضلال؛ لأن خلق الأضداد والمتقابلات هو من كمال الربوبية، كالليل والنهار، والحر والبرد، واللذة والألم، والخير والشر، والنعيم والجحيم. اهـ. من مدارج السالكين.
    وقد ذكر ابن القيم أيضا جملة من الحِكم في خلق الله جل وعلا للكفر والعصيان، وعدم هداية الخلق جميعا للإيمان، ومن ذلك ما بينه - في كلام طويل عن حكمة خلق إبليس- إذ قال: ..أنه سبحانه خلق إبليس، الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال، والاعتقادات والإرادات، وهو سبب شقاوة العبيد، وعملهم بما يغضب الرب تبارك وتعالى. وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله، ويرضاه بكل طريق، وكل حيلة. فهو مبغوض للرب سبحانه وتعالى، مسخوط له. لعنه الله ومقته، وغضب عليه. ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى، ترتبت على خلقه، وجودها أحب إليه من عدمها.
    منها: أن تظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات، فخلق هذه الذات - التي هي أخبث الذوات وشرها، وهي سبب كل شر- في مقابلة ذات جبريل، التي هي أشرف الذوات، وأطهرها وأزكاها، وهي مادة كل خير. فتبارك الله خالق هذا، وهذا. كما ظهرت لهم قدرته التامة في خلق الليل والنهار، والضياء والظلام، والداء والدواء، والحياة والموت، والحر والبرد، والحسن والقبيح، والأرض والسماء، والذكر والأنثى، والماء والنار، والخير والشر. وذلك من أدل الدلائل على كمال قدرته وعزته، وسلطانه، وملكه. فإنه خلق هذه المتضادات، وقابل بعضها ببعض. وسلط بعضها على بعض، وجعلها محال تصرفه وتدبيره، وحكمته. فخلو الوجود عن بعضها بالكلية، تعطيل لحكمته، وكمال تصرفه، وتدبير مملكته.
    ومنها: ظهور آثار أسمائه القهرية، مثل القهار، والمنتقم، والعدل، والضار، وشديد العقاب، وسريع الحساب، وذي البطش الشديد، والخافض، والمذل. فإن هذه الأسماء والأفعال كمال. فلا بد من وجود متعلقها. ولو كان الخلق كلهم على طبيعة المَلَك، لم يظهر أثر هذه الأسماء والأفعال.
    ومنها: ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه، ومغفرته وستره، وتجاوزه عن حقه، وعتقه لمن شاء من عبيده. فلولا خلق ما يكره من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء، لتعطلت هذه الحكم والفوائد. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم.
    ومنها: ظهور آثار أسماء الحكمة، والخبرة. فإنه سبحانه الحكيم الخبير، الذي يضع الأشياء مواضعها. وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه، ولا ينزله غير منزله، التي يقتضيها كمال علمه وحكمته، وخبرته. فلا يضع الحرمان والمنع، موضع العطاء والفضل. ولا الفضل والعطاء، موضع الحرمان والمنع. ولا الثواب موضع العقاب، ولا العقاب موضع الثواب، ولا الخفض موضع الرفع، ولا الرفع موضع الخفض، ولا العز مكان الذل، ولا الذل مكان العز، ولا يأمر بما ينبغي النهي عنه، ولا ينهى عما ينبغي الأمر به. فهو أعلم حيث يجعل رسالته. وأعلم بمن يصلح لقبولها. ويشكره على انتهائها إليه ووصولها، وأعلم بمن لا يصلح لذلك، ولا يستأهله. وأحكم من أن يمنعها أهلها، وأن يضعها عند غير أهلها. فلو قدر عدم الأسباب المكروهة البغيضة له، لتعطلت هذه الآثار. ولم تظهر لخلقه، ولفاتت الحكم والمصالح المترتبة عليها. وفواتها شر من حصول تلك الأسباب. فلو عطلت تلك الأسباب - لما فيها من الشر- لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب. وهذا كالشمس، والمطر، والرياح التي فيها من المصالح ما هو أضعاف، أضعاف ما يحصل بها من الشر والضرر. فلو قدر تعطيلها - لئلا يحصل منها ذلك الشر الجزئي - لتعطل من الخير ما هو أعظم من ذلك الشر، بما لا نسبة بينه وبينه.
    فصل:
    ومنها: حصول العبودية المتنوعة، التي لولا خلق إبليس لما حصلت، ولكان الحاصل بعضها، لا كلها. فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سبحانه. ولو كان الناس كلهم مؤمنين، لتعطلت هذه العبودية وتوابعها: من الموالاة فيه سبحانه، والمعاداة فيه، والحب فيه، والبغض فيه. وبذل النفس له في محاربة عدوه، وعبودية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر، ومخالفة الهوى، وإيثار محاب الرب، على محاب النفس.
    ومنها: عبودية التوبة، والرجوع إليه، واستغفاره. فإنه سبحانه يحب التوابين، ويحب توبتهم. فلو عطلت الأسباب التي يتاب منها، لتعطلت عبودية التوبة والاستغفار منها.
    ومنها: عبودية مخالفة عدوه، ومراغمته في الله، وإغاظته فيه. وهي من أحب أنواع العبودية إليه؛ فإنه سبحانه يحب من وليه أن يغيظ عدوه ويراغمه، ويسوءه. وهذه عبودية لا يتفطن لها إلا الأكياس.
    ومنها: أن يتعبد له بالاستعاذة من عدوه، وسؤاله أن يجيره منه، ويعصمه من كيده وأذاه.
    ومنها: أن عبيده يشتد خوفهم وحذرهم إذا رأوا ما حل بعدوه بمخالفته، وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المرتبة الشيطانية. فلا يخلدون إلى غرور الأمل بعد ذلك.
    ومنها: أنهم ينالون ثواب مخالفته ومعاداته، الذي حصوله مشروط بالمعاداة والمخالفة. فأكثر عبادات القلوب، والجوارح مرتبة على مخالفته.
    ومنها: أن نفس اتخاذه عدوا، من أكبر أنواع العبودية، وأجلها. قال الله تعالى: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} [فاطر: 6] . فاتخاذه عدوا أنفع شيء للعبد، وهو محبوب للرب.
    ومنها: أن الطبيعة البشرية مشتملة على الخير والشر، والطيب والخبيث. وذلك كامن فيها كمون النار في الزناد. فخلق الشيطان مستخرجا لما في طبائع أهل الشر من القوة إلى الفعل. وأرسلت الرسل تستخرج ما في طبيعة أهل الخير من القوة، إلى الفعل. فاستخرج أحكم الحاكمين ما في قوى هؤلاء من الخير الكامن فيها، ليترتب عليه آثاره، وما في قوى أولئك من الشر، ليترتب عليه آثاره، وتظهر حكمته في الفريقين، وينفذ حكمه فيهما، ويظهر ما كان معلوما له، مطابقا لعلمه السابق. وهذا هو السؤال الذي سألته ملائكته حين قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30] . فظنت الملائكة أن وجود من يسبح بحمده ويطيعه، ويعبده، أولى من وجود من يعصيه، ويخالفه. فأجابهم سبحانه بأنه يعلم من الحكم والمصالح، والغايات المحمودة في خلق هذا النوع، ما لا تعلمه الملائكة.
    ومنها: أن ظهور كثير من آياته، وعجائب صنعه: حصل بسبب وقوع الكفر والشرك من النفوس الكافرة الظالمة، كآية الطوفان، وآية الريح، وآية إهلاك ثمود، وقوم لوط، وآية انقلاب النار على إبراهيم بردا وسلاما، والآيات التي أجراها الله تعالى على يد موسى، وغير ذلك من آياته التي يقول سبحانه عقيب ذكر كل آية منها في سورة الشعراء: {إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم} [الشعراء: 8] . فلولا كفر الكافرين، وعناد الجاحدين، لما ظهرت هذه الآيات الباهرة، التي يتحدث بها الناس جيلا بعد جيل إلى الأبد.
    ومنها: أن خلق الأسباب المتقابلة التي يقهر بعضها بعضا، ويكسر بعضها بعضا: هو من شأن كمال الربوبية، والقدرة النافذة، والحكمة التامة، والملك الكامل - وإن كان شأن الربوبية كاملا في نفسه، ولو لم تخلق هذه الأسباب- لكن خلقها من لوازم كماله وملكه، وقدرته وحكمته. فظهور تأثيرها وأحكامها في عالم الشهادة: تحقيق لذلك الكمال، وموجب من موجباته. فتعمير مراتب الغيب والشهادة بأحكام الصفات، من آثار الكمال الإلهي المطلق بجميع وجوهه، وأقسامه، وغاياته.
    وبالجملة: فالعبودية، والآيات، والعجائب التي ترتبت على خلق ما لا يحبه ولا يرضاه، وتقديره ومشيئته: أحب إليه سبحانه وتعالى من فواتها، وتعطيلها بتعطيل أسبابها.
    فإن قلت: فهل كان يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟ قلت: هذا سؤال باطل؛ إذ هو فرض وجود الملزوم، بدون لازمه. كفرض وجود الابن بدون الأب، والحركة بدون المتحرك، والتوبة بدون التائب. اهـ.
    إلى أن قال: اعلم أن أسباب الخير ثلاثة: الإيجاد، والإعداد، والإمداد. فهذه هي الخيرات، وأسبابها.
    فإيجاد السبب خير. وهو إلى الله. وإعداده خير. وهو إليه أيضا. وإمداده خير. وهو إليه أيضا. فإذا لم يحدث فيه إعداد، ولا إمداد حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل. وإنما إليه ضده.
    فإن قلت: فهلا أمده إذ أوجده؟ قلت: ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده. فإنه -سبحانه- يوجد ويمده، وما اقتضت الحكمة إيجاده وترك إمداده: أوجده بحكمته، ولم يمده بحكمته. فإيجاده خير. والشر وقع من عدم إمداده. فإن قلت: فهلا أمد الموجودات كلها؟ قلت: فهذا سؤال فاسد، يظن مورده أن التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة. وهذا عين الجهل، بل الحكمة كل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الواقع بينها .اهـ. من مدارج السالكين.
    والله أعلم.

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: أفعال الله تعالى لا يخرج شيء منها عن تمام الحكمة ،

    فقه الحكمة في كل ما خلقه الله وأمر به
    حكمته سبحانه قائمة به كسائر صفاته، وهي الغاية المحبوبة له سبحانه، المطلوبة التي هي متعلق محبته وحمده، ولأجلها خلق فسوى، وقدر فهدى، وأمات وأحيا، وأسعد وأشقى، وأضل وهدى، ومنع وأعطى.
    ومصدر الخلق والأمر، والقضاء والشرع عن علم الرب وعزته وحكمته، فارتباط الخلق بقدرته التامة يقتضي ألا يخرج مخلوق عن قدرته.
    وارتباطه بعلمه التام يقتضي إحاطته به، وتقدمه عليه.
    وارتباطه بحكمته يقتضي وقوعه على أكمل الوجوه وأحسنها، واشتماله على الغاية المحمودة المطلوبة للرب سبحانه.
    وكذلك أمره سبحانه بعلمه وحكمته وعزته، فهو العليم بخلقه وأمره، الحكيم في خلقه وأمره، العزيز في ملكه وسلطانه.
    ولهذا كان الحكيم من أسمائه الحسنى، والحكمة من صفاته العلا، والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة، والرسول المبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2].
    والحكمة: هي سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهي تتضمن العلم بالحق، والعمل به، والدعوة إليه، فكل هذا يسمى حكمة.
    وكما لا يخرج مقدور عن علمه ومشيئته، فكذلك لا يخرج عن حكمته وحمده، وهو سبحانه المحمود على جميع ما في الكون من خير وشر حمداً استحقه لذاته، وصدر عنه خلقه وأمره، فمصدر ذلك كله عن الحكمة.
    ففي كل ما خلقه الله وأمر به حكمة، وكله خير من جهة إضافته إليه سبحانه، وأن جهة الشر منه من جهة إضافته إلى العبد كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَبَّيْكَ! وَسَعْدَيْكَ! وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» أخرجه مسلم فهذا النفي يقتضي امتناع إضافة الشر إليه سبحانه، فلا يضاف إلى ذاته، ولا أسمائه، ولا صفاته، ولا أفعاله.
    فذاته سبحانه منزهة عن كل شر .. وأسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم ذم ولا عيب .. وصفاته صفات كمال لا نقص فيها .. وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وإحسان وعدل لا تخرج عن ذلك ألبتة.
    وهو سبحانه المحمود على ذلك كله، فيستحيل إضافة الشر إليه.
    وبيان ذلك:
    أن الشر ليس هو إلا الذنوب وعقوباتها، وهي شرور النفس، وسيئات الأعمال، وهي ذنوب تأتي من نفس العبد.
    فإن سبب الذنب الظلم والجهل وهما من نفس العبد.
    كما أن سبب الخير الحمد والعلم والحكمة والغنى وهي صفات ذاتية للرب، وذات الرب مستلزمة للحكمة والخير والجود والإحسان، وذات العبد مستلزمة للجهل والظلم، وما فيه من العلم والعدل فإنما حصل له بفضل الله عليه، وهو أمر خارج عن نفسه كما قال سبحانه: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)} [يوسف: 53].
    فمن أراد الله به خيراً أعطاه هذا الفضل، فصدر منه البر والإحسان والطاعة.
    ومن أراد به شراً أمسكه عنه، وخلاه ودواعي نفسه وطبعه وموجبها، فصدر منه موجب الجهل والظلم من كل شر وسوء وفساد.
    وليس منعه لذلك ظلماً منه سبحانه، فإنه فضله، وليس من منع فضله ظالماً لا سيما إذا منعه عن محل لا يستحقه ولا يليق به، ولا يزكو فيه.
    وأيضاً هذا الفضل هو توفيقه وإرادته من نفسه أن يلطف بعبده ويوفقه ويعينه، ولا يخلي بينه وبين نفسه، وهذا محض فضله.
    والله تبارك وتعالى أعلم بالمحل الذي يصلح لهذا الفضل، ويليق به، ويثمر به، ويزكو به.
    وهو سبحانه أعلم بمن يعرف قدر هذه النعمة، ويشكره عليها كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53].
    وأصل الشكر: هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة، فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلاً بها لم يشكرها.
    ومن عرفها ولم يعرف المنعم لم يشكرها أيضاً.
    ومن عرف النعمة والمنعم بها لكن جحدها فقد كفرها.
    ومن عرف النعمة، والمنعم بها، وأقر بها، لكن لم يخضع للمنعم ويحبه ويرضى عنه لم يشكرها أيضاً.
    ومن عرف النعمة .. وعرف المنعم بها .. وخضع للمنعم بها .. وأحبه .. ورضي به .. ورضي عنه .. واستعملها في طاعته ومحابه .. فهذا هو الشاكر لها.
    فلا بد في الشكر من علم القلب، وعمل يتبع العلم، وهو الميل إلى المنعم ومحبته، والخضوع له، والتقرب إليه بما يرضيه.
    وكل رجل، وكل امرأة، وكل عبد يتقلب بين نعمة من ربه، وذنب من نفسه.
    فعليه أن يحدث للنعمة شكراً، وللذنب استغفاراً، ويبوء إلى الله بنعمته عليه، ويبوء بذنبه، ويرجع إليه بالاعتراف بهذا وهذا، رجوع عبد مطمئن إلى ربه منيب إليه، فهو معبوده ولا صلاح له إلا بعبادته كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا أنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأنَا عَبْدُكَ، وَأنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أنْتَ» أخرجه البخاري
    فالخير كله من الله، والنعم كلها من الله كما قال سبحانه: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)} [النحل: 53، 54].
    فالذي انفرد بإعطائكم ما تحبون، وصرف عنكم ما تكرهون، هو الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له، ولكن أكثر الناس يظلمون أنفسهم، ويجحدون نعمة ربهم عليهم.
    والله عزَّ وجلَّ هو الذي يحبب الإيمان إلى العباد، ويزينه في قلوبهم، بما أودع فيها من محبة الحق وإيثاره، وبما نصب على الحق من الأدلة على صحته، وقبول القلوب والفطر له، وتوفيقهم للإنابة إليه كما قال سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)} [الحجرات: 7].
    وهو سبحانه الذي كره إليكم الكفر والفسوق والعصيان بما أودع في القلوب من كراهة الشر، وعدم إرادة فعله، وما نصبه من الأدلة على فساده، وعدم قبول الفطر له، وبيان أضراره.
    فكل فضل ونعمة وخير يحصل للعباد إنما حصل لهم بفضل الله وإحسانه إليهم، لا بحولهم ولا بقوتهم، وهو العليم بمن يشكر النعمة فيوفقه لها، ممن لا يشكرها ولا تليق به، فيضع فضله حيث تقتضيه حكمته: {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)} ... [الحجرات: 8].
    والله عزَّ وجلَّ وإن كان أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، فإنه كذلك أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، لا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها، ولا يناقض جوده وكرمه، ورحمته وفضله، حكمته وعدله.
    ولو أن أحداً من العقلاء وضع المسك في الحش، أو وضع النجاسة في موضع الطيب، لاشتد نكير الناس عليه، والقدح في عقله، وكذلك لو وضع العقوبة موضع الإحسان، أو وضع الإحسان موضع العقوبة، لسفهوه وقدحوا في عقله، وغير ذلك مما يخل بالحكمة.
    فالعليم الحكيم الذي بهرت حكمته العقول والألباب كيف يليق به أن يضع الأشياء في غير مواضعها اللائقة بها، أو يمنعها من هو أهل لها؟.
    وأجل النعم التي أنعم الله بها على العباد هي نعمة الإيمان بالله، ومعرفته ومحبته طاعته، والرضا به، والإنابة إليه، والتوكل عليه، ولزوم عبوديته، وهذا كله من تمام حكمته ورحمته بعباده.
    والله سبحانه من حكمته خلق الأضداد كما خلق الليل والنهار .. والحر والبرد .. والداء والدواء .. والعلو والسفل .. والذكر والأنثى .. واليابس والماء.
    وكذلك الأرواح منها الطيب والخبيث .. وكذلك القلوب منها الشريف الزكي .. ومنها القلب الخسيس الخبيث.
    وهو سبحانه أعلم بالقلوب الزاكية، والأرواح الطيبة، التي تصلح لاستقرار نعم الله فيها، وإيداعها عندها، ويزكو بذرها فيها.
    فليس من الحكمة أن يبذر الإنسان البر في الصخور والسباخ، وفاعل ذلك غير حكيم ولا رشيد.
    فما الظن ببذر الإيمان والقرآن والحكمة في المحال التي هي أخبث المحال، فهو سبحانه العليم الحكيم، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، ويضع أمانته.
    وهو سبحانه أعلم بمن يصلح لتحمل رسالته فيؤديها إلى عباده، ويقوم بحقها، ويصبر على أوامره، ويشكره على نعمه، ويعظمه ويتقرب إليه سبحانه، ومن لا يصلح لذلك.
    وكذلك الله عزَّ وجلَّ أعلم بمن يصلح من الأمم لوراثة رسله، وإبلاغ دينه، فإن الله نظر في قلوب العباد، فرأى قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب أهل الأرض، فاختصه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد، فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته.
    فالله عزَّ وجلَّ إذا علم من محل أهلية لفضله ومحبته، ومعرفته وتوحيده، حبب إليه ذلك، ووضعه فيه، وكتبه في قلبه، وأعانه عليه، ويسر له طرقه، وأغلق دونه الأبواب التي تحول بينه وبين ذلك، ثم تولاه بلطفه وتدبيره، فلا يزال يعامله بلطف، ويختصه بفضله ورحمته، ويمده بعونه، ويريه مواقع إحسانه إليه، وبره به، فيزداد العبد به معرفة، وله محبة، وإليه إنابة، وعليه توكلاً، وله ذكراً.
    فهذا القلب الزاكي هو الذي اقتضت حكمة الله وكرمه وإحسانه أن يبذر فيه بذور الإيمان والمعرفة، وأن يسقيه بماء العلم النافع، ليقطف منه صاحبه ثمرة العمل الصالح، وصرف عنه الآفات المانعة من حصول الثمرة.
    فأنبتت أرضه الزاكية من كل زوج كريم كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أصَابَ أرْضاً، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأنْبَتَتِ الْكَلا وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أجَادِبُ، أمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا.
    وَأصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أخْرَى، إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أرْسِلْتُ بِهِ» متفق عليه
    فشبه - صلى الله عليه وسلم - القلوب بالأرض، والوحي بالماء:
    فمن الأرض أرض طيبة قابلة للماء والنبات .. وهذه الأرض بمنزلة القلب القابل لهدى الله ووحيه .. المستعد لزكاته فيه .. وثمرته ونمائه .. وهذا القلب خير قلوب العالمين.
    ومن الأرض كذلك أرض صلبة قابلة لحفظ الماء .. لكن ليس فيها قوة الإنبات .. فهذه الأرض بمنزلة القلب الذي حفظ الوحي وأداه إلى من هو أفقه منه .. وهذا في الدرجة الثانية.
    ومن الأرض كذلك أرض قيعان .. وهي الأرض المستوية التي لا تنبت لكونها سبخة، فإذا وقع عليها الماء ذهب ضائعاً، لم تمسكه لشرب الناس .. ولم تنبت به كلأً .. لأنها غير قابلة.
    وهذا حال أكثر الخلق، وهم الأشقياء الذين لم يقبلوا هدى الله، ولم يرفعوا به رأساً، ومن كان بهذه المثابة فليس من المسلمين.
    والله عزَّ وجلَّ أعلم بمواقع فضله ورحمته وتوفيقه، ومن يصلح لها، ومن لا يصلح لها.
    وحكمته جل وعلا تأبى أن يضع ذلك عند غير أهله، كما تأبى أن يمنعه من يصلح له.
    وهو سبحانه الذي جعل المحل صالحاً، وجعله أهلاً وقابلاً.
    فمنه الإعداد .. ومنه الإمداد .. ومنه التوفيق.
    فإن قيل فهلا جعل المحال كلها كذلك، وجعل القلوب على قلب واحد؟
    قيل هذا القائل من أجهل الناس، وأضلهم، وأسفههم، وأصغرهم عقلاً.
    وهو بمنزلة من يقول: لم خلق الله الأضداد؟.
    وهلا جعلها كلها سبباً واحداً؟.
    فلم خلق الليل والنهار .. والشياطين والملائكة .. والحر والبرد .. والداء والدواء .. والروائح الطيبة والكريهة .. والحلو والمر .. والحسن والقبيح .. والذكر والأنثى؟.
    ومن له أدنى مسكة من عقل يعلم أن هذا السؤال يدل على حمق سائله، وفساد عقله.
    وهل خلق هذه الأشياء المتقابلة إلا موجب ربوبيته وإلهيته، وملكه وقدرته، ومشيئته وحكمته، ومحال أن يتخلف موجب صفات كماله عنها؟.
    وهل حقيقة الملك إلا بإكرام الأولياء، وإهانة الأعداء؟.
    وهل تمام الحكمة، وكمال القدرة، إلا بخلق المتضادات والمتقابلات والمختلفات، وترتيب آثارها عليها؟.
    وهل ظهور آثار أسمائه وصفاته في العالم إلا من لوازم ربوبيته وملكه جل جلاله وعز سلطانه؟.
    فهل يكون رزاقاً وغفاراً، وحليماً ورحيماً، ولم يوجد من يرزقه، ولا من يغفر له، ولا من يحلم عنه ويرحمه؟.
    وهل انتقامه إلا من لوازم ربوبيته وملكه؟.
    فممن ينتقم إن لم يكن له أعداء ينتقم منهم؟.
    ويري أولياءه كمال نعمته عليهم، واختصاصه إياهم دون غيرهم بكرامته وثوابه.
    وليس في الحكمة تعطيل الخير الكثير لأجل شر جزئي يكون من لوازمه.
    فالغيث الذي يحيي الله به البلاد والعباد، والشجر والدواب، كم يحبس من مسافر؟، وكم يهدم من بناء؟، وكم يعوق من مصلحة؟.
    ولكن أين هذا مما يحصل به من المصالح العظيمة من الإرواء والإنبات والحياة؟.
    وهل تلك المفاسد في جنب هذه المصالح العامة النافعة إلا كتفلة في بحر؟.
    وهل تعطيله لئلا تحصل تلك المفاسد، إلا موجبٌ لأعظم المفاسد والهلاك والدمار؟.
    وهذه الشمس التي سخرها الله لمنافع عباده، وإنضاج ثمارهم وأقواتهم، كم تؤذي بحرّها مسافراً وغيره؟، وكم تجفف رطوبة؟، وكم تعطش من البهائم؟، وكم تحرق من نبات أخضر؟.
    ولكن أين يقع هذا في جنب ما فيها من المنافع والمصالح؟.
    فتعطيل الخير الكثير لأجل الشر اليسير شر كثير، وهو خلاف موجب الحكمة الذي تنزه الله سبحانه عنه.
    فحقيقة الإنسان أن نفسه جاهلة ظالمة، فقيرة محتاجة للعلم والهدى.
    والشر الذي يحصل للإنسان نوعان: عدم .. ووجود.
    فالأول: كعدم العلم والإيمان، وعدم الصبر وإرادة الخير، وعدم العمل بذلك.
    والثاني: الشر الوجودي: كالعقائد الباطلة، والإرادات الفاسدة.
    فذلك من لوازم ذلك العدم، فمتى عدم العلم النافع والعمل الصالح من النفس، لزم أن يخلق الشر والجهل وموجبهما ولا بد، لأن النفس لا بد لها من أحد الضدين، فإذا لم تشتغل بالأمر النافع الصالح، اشتغلت بالضد الضار الفاسد.
    وهذا الشر الوجودي هو من خلقه تعالى، لأنه خالق كل شيء، لكن كل ما خلقه الله فله فيه حكمة لأجلها خلقه، فلو لم يخلقه فاتت تلك الحكمة.
    وليس في الحكمة تفويت هذه الحكمة التي هي أحب إليه سبحانه من الخير الحاصل بعدمها، فإن في وجودها من الحكمة والغايات التي يحمد عليها سبحانه أضعاف ما في عدمها من ذلك.
    ومن أرادت من الأرواح الخبيثة السفلية أن تكون مجاورة للأرواح الطيبة العلوية، في مقام الصدق بين الملأ الأعلى، فقد أرادت ما تأباه حكمة أحكم الحاكمين، والتي تفرق بين الأبرار والفجار كما قال سبحانه: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13، 14].
    ولو أن ملكاً من ملوك الدنيا جعل خاصته وحاشيته سفلة الناس وسقطهم من أهل الردى والدناءة والقبائح، لقدح الناس في ملكه، وقالوا: لا يصلح للملك، لاختياره ما لا يليق به ولا بملكه.
    فما الظن بمجاوري الملك الأعظم، مالك الملوك في داره، وتمتعهم برؤية وجهه، وسماع كلامه، ومرافقتهم للملأ الأعلى، الذين هم أطيب خلقه وأزكاهم وأشرفهم.
    أفيليق بذلك الرفيق الأعلى، والمحل الأسنى، والدرجات العلا، أرواح سفلية أرضية، قد أخلدت إلى الأرض، وعصت ربها، وعكفت على شهواتها كالحيوانات والبهائم السائمة.
    فلا ترى نعيماً ولا لذةً ولا سروراً إلا بما وافق طباعها من مأكل ومشرب ومنكح، من أين كان؟، وكيف كان؟.
    فالفرق بينها وبين الكلاب والحمير انتصاب القامة، ونطق اللسان، والأكل باليد، والمشي على القدمين.
    أما الطبع بالقلب فعلى شاكلة هذه الحيوانات وطباعها.
    بل ربما كانت طباع الحيوانات خيراً من طباع هؤلاء وأسلم وأقبل للخير، ولهذا جعلهم الله شر الدواب كما قال سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)} [الأنفال: 22].
    فهل يليق بحكمة العزيز الحكيم أن يجمع بين خير البرية وأزكى الخلق، وبين شر البرية وشر الدواب في دار واحدة؟.
    ويكونون فيها على حال واحدة من النعيم أو العذاب؟.
    هذا لا يكون أبداً، وتأباه حكمة أحكم الحاكمين: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين َ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم: 35، 36].
    وهل يليق بحكمة العزيز الحكيم أن يجمع بين المؤمن والفاسق في دار واحدة يوم القيامة: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِين َ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص: 28].
    فالله عزَّ وجلَّ خالق كل شيء، خلق الليل والنهار، والماء والتراب، والحر والبرد، والسهل والحزن، والضار والنافع، والبر والفاجر ونحو ذلك لنعرف كمال قدرته، وكمال حكمته، وكمال رحمته.
    فكمال القدرة بخلق الأضداد، وكمال الحكمة بتنزيلها منازلها، ووضع كل منها في موضعه، وكمال الرحمة بالانتفاع بها، والاتعاظ بها.
    والمؤمن يربط القدرة بالحكمة، فلا يكون شيء إلا بقدر الله ومشيئته وحكمته، وكما لا يخلو مخلوق من علم الله، فكذلك لا يخلو من حكمته.
    فكل ما يحصل من النار من نفعها هو من فضل الله ورحمته، وما يحصل بها من شر هو من طبيعتها التي خلقت عليها، والتي لا تكون ناراً إلا بها.
    وكذلك النفس، فما يحصل لها من خير فهو من فضل الله ورحمته، والله خالقها، وخالق كل شيء قام بها، وما يحصل لها من شر فهو منها ومن طبيعتها ولوازم نقصها وجهلها.
    فالنفس ليس عندها خير يحصل لها منها بل ذلك إلى الله، والنفس متحركة بالذات، فإن لم تتحرك بالخير تحركت بالشر فضرت صاحبها.
    والنفس لا تكون إلا مريدة عاملة، فإن لم توفق للإرادة الصالحة وقعت في الإرادة الفاسدة والعمل الضار كما قال سبحانه: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)} [المعارج: 19 - 22].
    فخلق الله عزَّ وجلَّ الإنسان على هذه الصفة، ومن كان على غيرها فلأجل ما زكاه الله به من فضله وإحسانه من الإيمان والتقوى.
    وخلقه على هذه الصفة هو من الأمور التي يحمد عليها الرب سبحانه، وهو موجب حكمته وعزته، وهي بالنسبة إلى الخالق سبحانه خير وعدل وحكمة.
    وبالنسبة إلى العبد تنقسم إلى خير وشر، وحسن وقبيح، كما تكون بالنسبة إليه طاعة ومعصية، وبراً وفجوراً.
    ولله تبارك وتعالى الحكمة البالغة، والنعمة السابغة، والحمد المطلق على جميع ما خلقه وأمر به، وعلى توفيقه الموجب لطاعته، وعلى خذلانه الموقع في معصيته.
    والله عزَّ وجلَّ رحمته سبقت غضبه، وما يحصل للبشر من الضرر والأذى، فله في ذلك أعظم حكمة مطلوبة.
    فكما أن الزارع يحصد الزرع ثم يجعل الحب الطيب في مكان يناسبه، والعيدان والقصب في مكان آخر، فالأول للإطعام والانتفاع، والثاني للإحراق والإتلاف.
    فكذلك الله تبارك وتعالى بحكمته ورحمته وفضله يجعل في الجنة من كان طيباً، وزرع خيراً، وجنى طيباً، ويجعل في النار من العباد من لا خير فيه، كالعيدان والشوك الذي لا يصلح إلا للنار.https://kalemtayeb.com/safahat/item/18291

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: أفعال الله تعالى لا يخرج شيء منها عن تمام الحكمة ،

    جميع ما خلقه الله عزَّ وجلَّ فله فيه حكمة،
    والحكمة تتضمن شيئين:
    أحدهما: حكمة تعود إليه سبحانه يحبها ويرضاها وهي الإيمان والتوحيد.
    الثاني: حكمة تعود إلى عباده وهي نعمه عليهم، يفرحون بها، ويتلذذون بها، وهذا في المخلوقات والمأمورات:
    أما في المأمورات فإن الطاعات كلها يحبها الله ويرضاها، ويفرح بها، يفرح سبحانه إذا فعل العبد ما أمره الله به، ويغار إذا فعل العبد ما نهاه عنه.
    وكذلك الطاعات عاقبتها سعادة العبد في الدنيا والآخرة، يفرح بها العبد المطيع، فكل ما أمر الله عزَّ وجلَّ به له عاقبة حميدة تعود إليه وإلى عباده، ففيها حكمة له، وفيها رحمة بعباده.
    وكذلك المخلوقات، فكل ما خلقه الله خلقه لحكمة تعود إليه يحبها .. وخلقه رحمة بالعباد ينتفعون بها.
    ومن أعظم حكمة الرب وكمال قدرته خلق الضدين، إذ بذلك تُعرف ربوبيته وقدرته وملكه، كما خلق الليل والنهار، وكما خلق جبريل وإبليس.
    فخلق أطيب الأرواح وأزكاها وأطهرها وأفضلها، وأجرى على يديه كل خير.
    وخلق أخبث الأرواح وأنجسها وأرداها، وأجرى على يديه كل شر وكفر وفسوق وعصيان.
    وجعل سبحانه الطيب منحازاً إلى تلك الروح الطيبة، والخبيث منحازاً إلى هذه الروح الخبيثة.
    فتلك تجذب كل طيب .. وهذه تجذب كل خبيث .. ولكل منهما عمل ودار.
    وأي حكمة وقدرة أبلغ من هذا؟.
    وقد خلق الله الإنسان من الأرض، وهي مشتملة على الطيب والخبيث، والله عزَّ وجلَّ يريد تخليص الطيب من الخبيث بالوحي الذي أنزله، ليجعل الطيب مجاوراً له في دار كرامته، مختصاً برؤيته والقرب منه.
    ويجعل الخبيث في دار الخبث، حظه البعد منه، والهوان والطرد والإبعاد، إذ لا يليق بحمده وحكمته وكماله أن يكون مجاوراً له في داره مع الطيبين وهو خبيث فاسد نجس.
    فسبحان الحكيم العليم الذي خلق من المادة النارية من جعله محركاً للنفوس الخبيثة .. داعياً لها إلى محل الخبث والإحراق وهو الشيطان .. لتنجذب إليه النفوس الخبيثة بالطبع .. وتميل إليه بالمناسبة .. فتنحاز إلى ما يناسبها عدلاً وحكمة .. لا يظلمها في ذلك بارئها وخالقها.
    بل أقام بحكمته وعدله داعياً يظهر بدعوته إياها واستجابتها له ما كان معلوماً لخالقها وبارئها من أحوالها، وكان خفياً على العباد.
    فلما استجابت لأمره، وآثرت طاعته على طاعة ربها، الذي تتقلب في نعمه، ظهر حينئذ لملائكته ورسله وأوليائه حكمته وعدله في تعذيب هذه النفوس الخبيثة، وطردها عنه، وإبعادها عن رحمته.
    وأقام سبحانه للنفوس الطيبة داعياً يدعوها إليه .. وإلى مرضاته وكرامته .. فلبت دعوته واستجابت لأمره .. فعلم عباده حكمته في تخصيصها بمثوبته وكرامته.
    فظهر للعباد حمده التام، وحكمته البالغة في الأمرين، وعلموا أن خلق ولي الله وعبده جبريل وجنوده وحزبه، وخلق عدو الله إبليس وجنوده وحزبه، هو عين الحكمة والمصلحة، وأن تعطيل ذلك منافٍ لمقتضى حكمته وحمده.
    فسبحان من هذا خلقه، وهذا أمره، وهذه حكمته: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} [آل عمران: 18].
    والرضا بالقضاء الكوني القدري الجاري على خلاف مراد العبد ومحبته مما لا يلائمه ولا يدخل تحت اختياره مستحب، وهذا كالمرض والفقر، وأذى الخلق له، والحر والبرد ونحو ذلك.
    والرضا بالقدر الجاري عليه باختياره مما يكرهه الله ويسخطه وينهى عنه كأنواع الظلم والفسوق والعصيان حرام يعاقب عليه، وهو مخالفة لربه تعالى، فإن الله لا يرضى بذلك ولا يحبه.
    فإن قيل كيف يريد الله عزَّ وجلَّ أمراً لا يحبه ولا يرضاه؟.
    قيل: الله سبحانه يكره الشيء ويبغضه في ذاته، ولا ينافي ذلك إرادته لغيره،
    وكونه سبباً إلى ما هو أحب إليه من غيره، كما خلق إبليس الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال، والاعتقادات والإرادات، وهو سبب شقاوة العبيد، ووقوع ما يغضب الرب تبارك وتعالى.
    فهو مبغوض للرب، مسخوط له، لعنه الله ومقته، وغضب عليه.
    ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه، ووجودها أحب إليه من عدمها:
    منها ظهور قدرة الرب للعباد في خلق المتضادات، فخلق هذه الذات التي هي أخبث الذوات، وسبب كل شر، في مقابلة جبريل التي هي أشرف الذوات وسبب كل خير.
    وخلق الليل والنهار، والحياة والموت، والذكر والأنثى، والماء والنار، والخير والشر، كل ذلك يدل على كمال قدرة الله وعزته، وعظمة سلطانه وملكه، فإنه خلقها وجعلها محل تصرفه وتدبيره.
    فتبارك الله خالق هذا وهذا، وهو الحكيم العليم.
    ومنها ظهور آثار أسمائه القهرية كالقهار، وشديد العقاب، والمعز المذل، والنافع الضار، ونحوها، فإن هذه الأسماء والأفعال من كمال ذاته، فلا بد من وجود متعلقها، ولو كان الخلق كلهم على طبيعة الملك، لم يظهر أثر هذه الأسماء والأفعال.
    ومنها ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه، ومغفرته وستره، فلولا خلق ما يكره من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد.
    ومنها ظهور آثار الأسماء المتضمنة للحكمة والخبرة، فإنه سبحانه الحكيم الخبير، الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه.
    فلا يضع سبحانه الحرمان والمنع موضع العطاء والفضل، ولا الفضل والعطاء موضع الحرمان والمنع، ولا الثواب موضع العقاب، ولا الخفض موضع الرفع، ولا العز مكان الذل، ولا يأمر بما ينبغي النهي عنه، ولا ينهى عما ينبغي الأمر به.
    فهو سبحانه الحكيم العليم الذي يعلم أين يجعل رسالته، وأعلم بمن يصلح لقبولها، ويشكره على وصولها، وأعلم بمن لا يصلح لذلك.
    وهو أحكم من أن يمنعها أهلها، وأن يضعها عند غير أهلها.
    فلو قدر سبحانه عدم الأسباب المكروهة البغيضة له لتعطلت هذه الآثار ولم تظهر لخلقه، ولتعطلت تلك الحكم والمصالح المترتبة عليها، وفواتها شر من حصول تلك الأسباب.
    وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها من المصالح والمنافع ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر والضرر.
    ومنها حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت، فالله عزَّ وجلَّ يحب عبودية الجهاد في سبيل الله، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية، وتوابعها من الموالاة في الله، والمعاداة فيه، وعبودية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر، ومخالفة الهوى.
    فسبحان من بهرت حكمته العقول والألباب، وهو الحكيم الخبير.
    ومنها عبودية التوبة والاستغفار، فهو سبحانه يحب التوابين، ولو عطلت الأسباب التي يتاب منها لتعطلت عبودية التوبة والاستغفار.
    ومنها عبودية مجاهدة عدو الله، ومراغمته في الله، ومخالفته، وذلك من أحب العبودية إليه، فإنه سبحانه يحب من وليه أن يغيظ عدوه ويراغمه، ويجاهده.
    ومنها أن يتعبد له بالاستعاذة من عدوه، وسؤاله أن يجيره منه، ويعصمه من كيده ومكره وشره.
    ومنها أن عبيده يشتد خوفهم وحذرهم إذا رأوا ما حل بعدوه من الطرد واللعن بسبب معصيته، فيحذرون معصيته، ويبادرون إلى طاعته.
    ومنها أنهم ينالون ثواب مخالفته ومعاداته.
    ومنها أن نفس اتخاذه عدواً من أكبر أنواع العبودية وأجلها، وهو محبوب للرب عزَّ وجلَّ.
    ومنها أن الطبيعة البشرية جعلها الله مشتملة على الخير والشر، والطيب والخبيث، وذلك كامن فيها كمون النار في الزناد.
    فخلق الله الشيطان مستخرجاً لما في طبائع أهل الشر من القوة إلى الفعل.
    وأرسل الرسل تستخرج ما في طبيعة أهل الخير من القوة إلى الفعل.
    فاستخرج أحكم الحاكمين ما في قوى هؤلاء من الخير الكامن فيها ليترتب عليه آثاره، وما في قوى أولئك من الشر ليترتب عليه آثاره، وتظهر حكمته في إكرام أهل الخير وعقوبة أهل الشر.
    فالملائكة ظنوا أن وجود من يسبح بحمده ويقدسه أولى من وجود من يعصيه ويخالفه، فأجابهم سبحانه بأنه يعلم من الحكم والمصالح في خلق هذا النوع ما لا تعلمه الملائكة كما حكى الله عنهم ذلك بقوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [البقرة: 30].
    ألا ما أقل علم الخلق بقدرة رب العالمين، وحكمة أحكم الحاكمين.
    ومنها أن ظهور كثير من آيات الله وعجائب صنعه إنما حصل بسبب وقوع الكفر والشر من النفوس الكافرة الظالمة، كآية الطوفان في قوم نوح، وآية الريح في قوم عاد، وآية إهلاك ثمود، وقوم لوط، وآية انقلاب النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وآية موسى مع فرعون وبني إسرائيل بانفلاق البحر، وخروج الماء من الحجر، ونحو ذلك.
    فلولا كفر الكافرين، وعناد الجاحدين لما ظهرت هذه الآيات الباهرة كما قال سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)} ... [الشعراء: 139، 140].
    ومنها أن خلق الأسباب المتقابلة التي يقهر بعضها بعضاً، ويكسر بعضها بعضاً هو من شأن الربوبية القاهرة، والقدرة النافذة، والحكمة التامة، والملك الكامل.
    والرب سبحانه كامل في نفسه، ولو لم يخلق هذه الأسباب، لكن ظهور آثارها وأحكامها في عالم الشهادة تحقيق لذلك الكمال الإلهي.
    فالعبودية والآيات والعجائب التي ترتبت على خلقه ما لا يحبه ولا يرضاه، وتقديره ومشيئته، أحب إليه سبحانه وتعالى من فواتها وتعطيلها بتعطيل أسبابها.
    فإن قيل هل يمكن حصول تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟.
    قيل هذا محال، وهو سؤال باطل، إذ هو فرض وجود الملزوم بدون لازمه كفرض وجود الابن بدون الأب، والكتابة بدون كاتب، والحركة بدون متحرك، والتوبة بدون تائب.
    فإن قيل: فهذه الأسباب مرادة للرب، فهل تكون مرضية محبوبة له؟.
    قيل: هو سبحانه يحبها من جهة إفضائها إلى محبوبه، وإن كان يبغضها لذاتها.
    وسر المسألة:
    أن الرضا بالله يستلزم الرضا بأسمائه وصفاته، وأفعاله وأحكامه، ولا يستلزم الرضا بمفعولاته كلها، بل حقيقة العبودية أن يوافق العبد ربه في رضاه وسخطه، فيرضى منها ما يرضى به، ويسخط منها ما سخطه.
    فإن قيل: كيف يجتمع الرضا بالقضاء الذي يكرهه العبد من المرض والفقر والألم مع كراهته؟.
    قيل: لا تنافي في ذلك، فإنه يرضى به من جهة إفضائه إلى ما يحب، ويكرهه من جهة تألمه به كالدواء الكريه الذي يعلم أن فيه شفاءه، فإنه يجتمع فيه رضاه به، وكراهته له.
    فإن قيل: كيف يرضى لعبده شيئاً ولا يعينه عليه؟.
    قيل: لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له، وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)} [التوبة: 46، 47].
    والطاعة: هي موافقة الأمر لا موافقة القدر، ولو كانت موافقة القدر طاعة لله لكان إبليس من أعظم المطيعين لله، وكان قوم نوح وعاد، وثمود وقوم لوط، وقوم فرعون، كلهم مطيعين لله، فيكون قد عذبهم أشد العذاب على طاعته، وانتقم منهم لأجلها، وهذا غاية الجهل بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله.
    والله حكيم عليم، فقد جعل في خلق من يكفر به ويشرك به ويعاديه من الحكم الباهرة، والآيات الظاهرة، ما لم يكن يحصل بدونه.
    فلولا كفر قوم نوح لما ظهرت آية الطوفان التي أغرق الله بها الكفار والظالمين.
    ولولا كفر عاد لما ظهرت آية الريح العقيم التي دمرت ما مرت عليه.
    ولولا كفر قوم صالح لما ظهرت آية إهلاكهم بالصيحة.
    ولولا كفر فرعون وقومه لما ظهرت تلك الآيات والعجائب التي تتحدث بها الأمم أمة بعد أمة، واهتدى بها من شاء الله من عباده.
    وهلك بها من هلك عن بينة، وحيى بها من حيى عن بينة، وظهر بها فضل الله وعدله، وقدرته وحكمته، وآيات رسله.
    ولولا مجيء المشركين يوم بدر بقوة السلاح، وكثرة الرجال، والكبر والبطر، لما حصلت تلك الآيات العظيمة من النصر، ونزول الملائكة، والتي ترتب عليها من الإيمان والهدى والخير، ما لم يكن حاصلاً مع عدمها.
    وكم حصل بها من الهدى والإيمان؟.
    وكم حصل بها من محبوب للرحمان، وغيظ للشيطان؟.
    وتلك المفسدة التي حصلت في ضمنها للكفار مغمورة جداً بالنسبة إلى مصالحها وحكمها وآثارها العظيمة.
    والله حكيم عليم أراد أن يري عباده السابق واللاحق ما هو من أعظم آياته، وهو أن يربي هذا المولود الذي ذبح فرعون ما شاء الله من الأولاد في طلبه في حجر فرعون، وفي بيته، وعلى فراشه، ثم جعل زوال ملكه وإهلاكه على يده.
    فكم حصل بقصة موسى - صلى الله عليه وسلم - مع فرعون من عبرة وحكمة، ورحمة وهداية.
    وكذلك المفسدة التي حصلت لأيوب (من مس الشيطان له بنصب وعذاب، اضمحلت وتلاشت في جنب المصلحة التي حصلت له ولغيره عند مفارقة البلاء، وتبدله بالنعماء، بعد ذلك الصبر والدعاء.
    وكذلك كفر قوم إبراهيم وشركهم، وتكسيره لأصنامهم، وغضبهم لها، وإيقاد النيران العظيمة له، وإلقاؤه فيها، كل ذلك أوصله إلى أن صارت النار التي ألقي فيها برداً وسلاماً عليه.
    وصارت تلك آية وحجة وعبرة على مر الزمن.
    وكم بين إخراج الرسول (من مكة مختفياً على تلك الحال، وبين دخوله إليها ذلك الدخول الذي لم يفرح به بشر حبوراً لله، وقد اكتنفه المسلمون من جميع الجهات، والمهاجرون والأنصار قد أحدقوا به، والملائكة من فوقهم، والوحي من الله ينزل عليه، وقد أدخله حرمه ذلك الدخول المهيب الرهيب.
    فأين مفسدة ذلك الإخراج الذي كأن لم يكن في جنب هذا النصر المبين؟.
    ولولا معارضة السحرة لموسى - صلى الله عليه وسلم - بإلقاء العصي والحبال، حتى أخذوا أعين الناس واسترهبوهم، لما ظهرت آية عصا موسى - صلى الله عليه وسلم - التي ابتلعت عصيهم وحبالهم فآمنوا فوراً، وانقلبوا على فرعون، وقاموا في وجهه معتزين بدينهم، مدافعين عنه.
    فسبحان الحكيم العليم الذي جميع أفعاله كلها حكم وآيات: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)} [الأنعام: 18].
    وهو سبحانه الملك الذي يتصرف في عباده بالحكمة والعلم، بالعدل لا بالظلم، بالإحسان لا بالإساءة، بما يصلحهم لا بما يفسدهم.
    فهو يأمرهم وينهاهم إحساناً إليهم، وحمايةً وصيانةً لهم، لا حاجةً إليهم، ولا بخلاً عليهم بل جوداً وكرماً، ولطفاً وبراً، ورحمةً وإحساناً.
    ويثيبهم إحساناً وتفضلاً ورحمةً، لا لمعاوضة واستحقاق منهم، أو دين واجب لهم يستحقونه عليه.
    ويعاقبهم عدلاً وحكمةً، لا تشفياً ولا مخافةً ولا ظلماً كما يعاقب الملوك والجبابرة وغيرهم.
    بل هو سبحانه على الصراط المستقيم، وهو صراط العدل والإحسان، في أمره ونهيه، وثوابه وعقابه، وقضائه وقدره كما قال هود - صلى الله عليه وسلم -: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56].
    فهو سبحانه على صراط مستقيم في عطائه ومنعه .. وهدايته وإضلاله .. وفي نفعه وضره .. وعافيته وبلائه .. وإعزازه وإذلاله .. وإنعامه وانتقامه .. وثوابه وعقابه .. وتحليله وتحريمه .. وأمره ونهيه .. وإحيائه وإماتته .. وفي كل ما يخلقه .. وفي كل ما يأمر به .. وفي كل ما يدعو إليه.
    وهذه المعرفة بالله لا تكون إلا للأنبياء ولورثتهم من المؤمنين.
    وهو سبحانه على صراط مستقيم في تصرفه في ملكه، يتصرف بالعدل، ومجازاة المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ولا يظلم مثقال ذرة، ولا يعاقب أحداً بما لم يجنه، ولا يهضمه ثواب عمله، ولا يحمل عليه ذنب غيره، ولا يأخذ أحداً بجريرة أحد، ولا يكلف نفساً ما لا تطيقه، ومصير العباد كلهم إليه، وطريقهم عليه، لا يفوته أحد منهم، فيجازيهم بما عملوا: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون: 116].
    وكل دابة تحت قبضته وإرادته، وهو آخذ بناصيتها، فلا يقع في ملكه من أحد المخلوقات شيء بغير مشيئته وقدره، ومن ناصيته بيد الله فلا يمكنه أن يتحرك إلا بتحريكه، ولا يفعل إلا بإقداره، ولا يشاء إلا بمشيئته: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)} ... [الإنسان: 30].
    فهو سبحانه الحق، وقوله الحق، ووعده الحق، وأمره الحق، وجزاؤه الحق، وأفعاله كلها حق، وكتبه كلها حق، وكيف يليق بالملك الحق أن يخلق خلقه عبثاً، ويتركهم سدى، لا يأمرهم ولا ينهاهم، ولا يثيبهم ولا يعاقبهم: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} [المؤمنون: 115].
    وهو سبحانه المولى الكريم، الذي هدى الضالين، وعلَّم الجاهلين، وأصلح الفاسدين، وأنقذ الهالكين، وبصر المتحيرين، وتاب على المذنبين، وأقبل بقلوب المعرضين، وذكر الغافلين، وآوى الشاردين.
    وإذا أوقع سبحانه عقاباً أوقعه بعد شدة التمرد والعتو عليه، ودعوة العبد إلى الرجوع إليه مرة بعد مرة.
    حتى إذا أيس من استجابته أخذه ببعض كفره وعتوه وتمرده، بحيث يعذر العبد من نفسه، ويعترف بأنه سبحانه لم يظلمه، وأنه هو الظالم لنفسه كما قال سبحانه: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} [الملك: 11].
    فهو سبحانه لكمال حكمته وعدله، يضع العقوبة في موضعها الذي لا يليق به غيرها، فوضعه في الموضع الذي يقول من علم الحال لا تليق العقوبة إلا بهذا المحل، ولا يليق به إلا هذه العقوبة.
    وقد أخبر الله عزَّ وجلَّ في كتابه أنه أهلك أعداءه، وأنجى أولياءه، ولا يعمهم بالهلاك بمحض المشيئة والإرادة، بل بسبب عملهم كما قال سبحانه: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)} [الفرقان: 37].
    وقال عن فرعون وقومه: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُ مْ أَجْمَعِينَ (55)} [الزخرف: 55].
    وقال عن عاد حين كذبوا هوداً (: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُ مْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [الشعراء: 139].
    وقد ضمن الله عزَّ وجلَّ زيادة الهداية للمجاهدين في سبيله، والمتقين الذين يتبعون رضوانه، وأخبر أنه لا يضل إلا الفاسقين: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)} [البقرة: 26، 27].
    وأنه إنما يضل من آثر الضلال واختاره على الهدى، فيطبع حينئذ على سمعه وقلبه، وأنه يقلب قلب من لم يرض بهداه إذا جاءه ولم يؤمن به ودفعه ورده، فيقلب فؤاده وبصره عقوبة له على رده، ودفعه لما تحققه وعرفه.
    وأنه سبحانه هو العليم الحكيم الذي لو علم في تلك المحال والنفوس التي حكم عليها بالضلال والشقاء خيراً لأفهمها وهداها، ولكنها لا تصلح لنعمته، ولا تليق بها كرامته، فهم شر الدواب كما قال سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: 22، 23].
    وقد أزاح سبحانه العلل، وأقام الحجج، ومكن من أسباب الهداية، فمن أقبل على الله هداه، ووفقه لما يحبه ويرضاه، ومن أعرض عنه، فإن الله لا يهدي القوم الكافرين ولا الظالمين ولا الفاسقين، ولا يطبع إلا على قلوب المعتدين، ولا يركس في الفتنة إلا المنافقين بكسبهم، وأن الرين الذي غطى به قلوب الكفار هو عين كسبهم وأعمالهم كما قال سبحانه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14].
    وأخبر سبحانه أنه لا يضل من هداه حتى يبين له ما يتقي، فيختار لشقوته وسوء طبيعته الضلال على الهدى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)} [التوبة: 115].
    وأما المكر والكيد والخداع الذي وصف به نفسه، فهو مجازاته للماكرين والكائدين، والمخادعين لأوليائه ورسله، فيقابل مكرهم السيئ بمكره الحسن، فيكون المكر منهم أقبح شيء، ومنه أحسن شيء، لأنه عدل ومجازاة.
    وكذلك الكيد والمخادعة منه جزاء على مخادعة رسله وأوليائه وكيدهم، فلا أحسن من تلك المخادعة والمكر كما قال سبحانه: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال: 30].
    وأما كون الرجل يعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيدخل النار، فهذا عمل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس، ولو كان عملاً صالحاً مقبولاً للجنة قد أحبه الله ورضيه، لم يبطله عليه، فقد يكون به آفة كامنة خذل بها في آخر عمره، والله يعلم من سائر العباد ما لا يعلمه بعضهم من بعض.
    والله تبارك وتعلى يعلم ما في قلب إبليس من الكفر والكبر والحسد ما لا يعلمه الملائكة، فلما أمرهم بالسجود لآدم، ظهر ما في قلوبهم من الطاعة والمحبة، والخشية والانقياد، وبادروا إلى الامتثال، وأظهر ما في قلب عدوه إبليس من الكبر والغش والكفر والحسد، فأبى وامتنع من السجود لربه كما قال سبحانه: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} [البقرة: 34].
    وأما خوف أوليائه من مكره فحق، فإنهم يخافون أن يخذلهم بذنوبهم فيصيرون إلى الشقاء، فخوفهم من ذنوبهم، ورجاؤهم لرحمته.
    والذي يخافه العارفون بالله من مكره، أن يؤخر عنهم عذاب المعاصي، فيأنسوا بالذنوب، فيأتيهم العذاب على غرة، أو أن يغفلوا عنه، وينسوا ذكره، فيتخلى عنهم إذا تخلوا عن ذكره وطاعته، فيسرع إليهم البلاء والفتنة، أو أن يعلم من ذنوبهم ما لا يعلمونه، فيأتيهم المكر من حيث لا يشعرون، أو يبتليهم بما لا صبر لهم عليه فيفتنون به، وذلك مكر.
    ومن علم الله منه أنه لا يؤمن، ولا يصلح للهداية، فإنه لا يؤمن ولو جاءته كل آية كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)} [يونس: 96، 97].
    ومن ضل عن قبول الحق والاهتداء به .. فهذا إضلال ناشئ عن علم الله السابق في عبده أنه لا يصلح للهدى ولا يليق به .. وأن محله غير قابل له .. فالله أعلم حيث يضع هداه وتوفيقه .. كما هوأعلم حيث يجعل رسالته.
    وكما أنه ليس كل محل أهلاً لتحمل الرسالة، وأدائها إلى الخلق، فليس كل محل أهلاً لقبولها والتصديق بها: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53].
    وتأمل حكمة الرب جل جلاله في عذاب الأمم السابقة بعذاب الاستئصال، لما كانو أطول أعماراً، وأعظم قوى، وأعتى على الله وعلى رسله.
    فلما تقاصرت الأعمار وضعفت القوى، رفع الله عذاب الاستئصال، وجعل عذابهم بأيدي المؤمنين.
    وما أعظم حكمة الرب جل جلاله في إرسال الرسل في الأمم واحداً بعد واحد .. كلما مات رسول خلفه آخر .. لحاجتها إلى تتابع الرسل والأنبياء .. لضعف عقولها .. وعدم اكتفائها بآثار شريعة الرسول السابق.
    فلما انتهت النبوة إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - .. أرسله إلى أكمل الأمم عقولاً ومعارف .. وأصحها أذهاناً .. وبعثه بأكمل شريعة ظهرت في الأرض.
    فأغنى الله الأمة بكمال رسولها، وكمال شريعته، ووكلهم بها حتى يؤدوها إلى نظرائهم، ومن وراءهم، ومن بعدهم إلى يوم القيامة، فلم يحتاجوا معه إلى رسول آخر ولا نبي ولا محدّث.
    فسبحان الخلاق العليم، العزيز الحكيم، البصير بأحوال خلقه وملكه، الذي له في كل ذرة في هذا الكون فما فوقها:
    خلق من خلقه .. وقضاء من قضائه .. وأمر من أمره .. وحكمة من حكمه.
    فتبارك الله أحسن الخالقين، وأحكم الحاكمين.

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: أفعال الله تعالى لا يخرج شيء منها عن تمام الحكمة ،

    تعليل أفعال الله وإثبات الحكمة فيها


    كل ما خلقه الله تعالى فله فيه حكمة، والحكمة تتضمن شيئين:
    أحدهما: حكمة تعود إليه تعالى، يحبها ويرضاها.
    والثاني: حكمة تعود إلى عباده، هي نعمة عليهم، يفرحون بها، ويلتذون بها، وهذا يكون في المأمورات وفي المخلوقات (1) .
    فهو "سبحانه حكيم، لا يفعل شيئا عبثا ولا بغير معنى ومصلحة وحكمة، هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى" (2) ، وقد ذكر ابن القيم بعضها (3) .
    وقد وقع الخلاف في مسألة تعليل أفعال الله على أقوال:
    1- قول من نفى الحكمة وأنكر التعليل، وهؤلاء يقولون: إن الله تعالى خلق المخلوقات، وأمر المأمورات، لا لعلة ولا لداع ولا باعث، بل فعل ذلك لمحض المشيئة، وصرف الإرادة، وهذا مذهب الجهمية والأشاعرة وهو قول ابن حزم وأمثاله (4) .
    2- إن الله فعل المفعولات وخلق المخلوقات، وأمر بالمأمورات لحكمة محمودة، ولكن هذه الحكمة مخلوقة، منفصلة عنه، لا ترجع إليه، وهذا قول المعتزلة ومن وافقهم (5) .
    3- قول من يثبت حكمة وغاية قائمة بذاته تعالى، ولكن بجعلها قديمة غير مقارنة للمفعول.
    4- إن الله فعل المفعولات وأمر بالمأمورات لحكمة محمودة، وهذه الحكمة تعود إلى الرب تعالى، لكن بحسب علمه، والله تعالى خلق الخلق ليحمدوه ويثنوا عليه ويمجدوه، فهذه حكمة مقصودة واقعة، بخلاف قول المعتزلة فإنهم أثبتوا حكمة هي نفع العباد. وهذا قول الكرامية الذين يقولون: من وجد منه ذلك فهو مخلوق له وهم المؤمنون، ومن لم يوجد منه ذلك فليس مخلوقا له (6) .
    5- قول أهل السنة وجمهور السلف وهو أن لله حكمة في كل ما خلق، بل له في ذلك حكمة ورحمة
    هذه خلاصة الأقوال في هذه المسألة، ويلاحظ أنها تنتهي إلى قولين أحدهما: نفاة الحكمة، وهو قول الأشاعرة ومن وافقهم.
    والثاني: قول الجمهور الذين يثبتون الحكمة. وهؤلاء على أقوال: أشهرها قول المعتزلة الذين يثبتون حكمة تعود إلى العباد ولا تعود إلى الرب، وقول جمهور السلف الذين يثبتون حكمة تعود إلى الرب تعالى (7) .
    ويلاحظ أن من نفى الحكمة والتعليل – كالأشاعرة – دفعه ذلك إلى الميل إلى الجبر وإثبات الكسب والقدرة غير المؤثرة للعبد. ومن إثبات حكمة تعود إلى العباد، جعلوا هذه الحكمة لا تتم إلا بأن تكون العباد هم الخالقين لأفعالهم وهذا قول المعتزلة.
    أما أهل السنة فلم يلزمهم لازم من هذه اللوازم الباطلة، ولذلك جاء مذهبهم وسطا في باب القدر – كما سيأتي إن شاء الله.
    والأشاعرة الذين نفوا الحكمة والتعليل، احتجوا على مذهبهم بعدة حجج أهمها:
    أ- أن ذلك يستلزم التسلسل، فإنه إذا فعل لعلة، فتلك العلة أيضا حادثة فتفتقر إلى علة، وهكذا إلى غير نهاية وهو باطل.
    وقد رد شيخ الإسلام على هذه الحجة من وجوه:
    1- يقال لهم في الحكمة ما يقولونه هم في "الفعل"، وذلك بأن يقال لهم: "لا يخلو إما أن يكون الفعل قديم العين أو قديم النوع، أو لا يمكن ذلك فإن جاز أن يكون قديم العين أو قديم النوع، جاز في الحكمة التي يكون الفعل لأجلها أن تكون قديمة العين أو قديمة النوع" (8) . ويلاحظ هنا أن القول بأن الفعل قديم "العين" هو قول الفلاسفة، ومعلوم أن الفلاسفة نفاة للحكمة – فهم موافقون للأشاعرة في هذا – فهذا الإلزام صالح لهم. ومن قال هذا ممتنع – أي قدم العين أو النوع في العقل – قيل وكذلك الحكمة يمتنع تسلسلها.
    "وإن لم يمكن أن يكون الفعل لا قديم العين ولا قديم النوع، فيقال إذا كان فعله حادث العين والنوع، كانت حكمته كذلك" (9) .
    فتبين أن معنى كونه تعالى يفعل لحكمة "أنه يفعل مرادا لمراد آخر يحبه، فإذا كان الثاني محبوبا لنفسه، لم يجب أن يكون الأول كذلك، ولا يجب في هذا تسلسل" (10) .
    2- يقال لهم في الحكمة ما يقال في الأسباب، فإذا كان تعالى خلق شيئا بسبب، وخلق السبب بسبب آخر حتى ينتهي إلى أسباب لا أسباب فوقها فكذلك خلق لحكمة والحكمة لحكمة حتى ينتهي إلى حكمة لا حكمة فوقها (11) .
    3- أن هذا التسلسل الذي يدعونه إنما هو تسلسل في الحوادث المستقبلة لا في الحوادث الماضية، فإنه إذا فعل فعلا لحكمة كانت الحكمة حاصلة بعد الفعل – والتسلسل في المستقبل جائز عند جماهير المسلمين وغيرهم، والجنة أكلها دائم (12) .
    ب- والحجة الثانية للأشاعرة على نفي الحكمة والتعليل هي حجة الكمال والنقصان، ومعناها – عندهم – أن الله "لو خلق الخلق لعلة لكان ناقصا بدونها مستكملا بها، فإنه إما أن يكون وجود تلك العلة وعدمها بالنسبة إليه سواء، أو يكون وجودها أولى به، فإن كان الأول امتنع أن يفعل لأجلها، وإن كان الثاني ثبت أن وجودها أولى، فيكون مستكملا بها، فيكون قبلها ناقصا" (13) وهذه الحجة أصلها مبني على نفي حلول الحوادث.
    وقد سبق مناقشة هذه الحجة في مسألة الصفات، عند مناقشة الصفات الاختيارية القائمة بالله التي يسميها الأشاعرة وغيرهم حلول الحوادث.
    وقد ناقش شيخ الإسلام هذه الحجة هنا – في مبحث التعليل – من وجوه:
    1- "أن هذا منقوض بنفس ما يفعله من المفعولات، فما كان جوابا في المفعولات، كان جوابا عن هذا، ونحن لا نعقل في الشاهد فاعلا إلا مستكملا بفعله" (14) .
    2- أن قولهم "مستكمل بغيره" باطل، لأن هذا إنما حصل بقدرته ومشيئته، لا شريك له في ذلك، فلم يكن في ذلك محتاجا إلى غيره وإذا قيل: كمل بفعله الذي لا يحتاج فيه غيره، كان كما لو قيل كمل بصفاته، وبذاته" (15) .
    3- "أن العقل الصريح يعلم أن من فعل فعلا لا لحكمة، فهو أولى بالنقص ممن فعل لحكمة كانت معدومة، ثم صارت موجودة في الوقت الذي أحب كونها فيه، فكيف يجوز أن يقال: فعله لحكمة يستلزم النقص، وفعله لا لحكمة لا نقص فيه" (16) .
    4- "أنه ما من محذور يلزم بتجويز أن يفعل لحكمة، إلا والمحاذير التي تلزم بكونه يفعل لا لحكمة أعظم وأعظم..." (17) . (36)
    ويرى الأشاعرة أن أفعال الله وأحكامه لا تعلل بالعلل والأغراض ولا تتوقف على الحكم، إذ كل ذلك بمحض مشيئته وإرادته.
    قال الآمدي: "مذهب أهل الحق أن الباري تعالى خلق العالم وأبدعه لا لغاية يستند الإبداع إليها ولا لحكمة يتوقف الخلق عليها!، بل كل ما أبدعه من خير وشر ونفع وضر لم يكن لغرض قاده إليه ولا لمقصود أوجب الفعل عليه" (18) .
    فتراه ينفي توقف الخلق على الحكمة، والأشاعرة لا ينفون ثبوت الحكمة، إذ لا ينكرون ترتب الحكم على أفعال الله، وإنما الممنوع عندهم أن تكون مقصودة سابقة للفعل، وهذا ظاهر من كلام الآمدي، أما إثباتها ففي مثل كلام الباجوري حيث قال معدداً صور المماثلة التي ينزه الله عنها: "أو يتصف بالأغراض في الأفعال والأحكام... "ثم قال": فلا ينافي أنه لحكمة وإلا لكان عبثاً وهو مستحيل في حقه تعالى" (19) .
    ومما ينبغي أن يعلم أن بعض الأشاعرة يثبت الحكم في الأحكام فيعلل بها، وهذه طريقة من تأثر منهم بالفقه كقول التفتازاني: "والحق أن تعللي بعض الأفعال لا سيما شرعية الأحكام بالحكم والمصالح ظاهر... ولهذا كان القياس حجة إلا عند شرذمة لا يعتد بهم وأما تعميم ذلك بأن لا يخلو فعل من أفعاله عن غرض فمحل بحث" ا هـ (20) . وقال الرازي: "إن غالب أحكام الشرع معلل برعاية المصالح المعلومة" (21) وهو قد ذكر أدلة كثيرة في كتبه على نفي تعليل أفعال الله بالحكمة (22) ولكنه قد يذكر في بعض المواضع جواز ذلك تفضلاً من الله وإحساناً لا وجوباً عقلياً على الله (23) . وهذا ينافي ما ساقه من أدلة تنفي جواز التعليل!.
    وأصل هذا النزاع كان بين المعتزلة والأشاعرة، فالأولون أثبتوا العلل والحكم القائمة بالخلق ولا يثبتون ما قام بالخالق وجروا على عادتهم في الإيجاب على الله تعالى بعقولهم، فشبهوا أفعاله بأفعال خلقه، فقابلهم الأشاعرة وغلوا في نفي ذلك، فنفوا مع الباطل حقاً. وسأعرض الشبه الحاملة لهم على نفي الحكم التي يسمونها أغراضاً إن شاء الله، فمنها:-
    الشبهة الأولى: (24)
    قالوا: لو كان الباري فاعلاً لغرض لكان في ذاته مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض، سواء قيل إن الغرض عائد حكمه إليه أو إلى خلقه.
    الجواب: (25) وهو من وجهين:
    الأول: من باب المعارضة: إن الأشاعرة يقولون: إن الأفعال حادثة بعد أن لم تكن، ولا يقولون إن الله كان ناقصاً قبل حدوثها، إذ أنه سبحانه فاعل بالقوة – أي أن الفعل ممكن له – فيقال لهم: ينبغي على قولكم هذا أن تحذوا بالحكمة حذو الفعل، فإن الله متصف بالحكمة أزلاً كسائر صفات ذاته، ثم تقع الأشياء حسب ما تقتضيه حكمته، وعليه فليس عدم كل شيء نقصاً، بل الصحيح أن يقال: حدوث ما لا تقتضيه الحكمة هو النقص كما أن عدم وجود ما تقتضي الحكمة وجوده هو نقص أيضاً.
    الثاني: من جهة حل الشبهة: وهو أن قد أثبتنا الحكمة صفة لله تعالى، والصفات كلها الذاتية والفعلية قائمة بذات الله تعالى، فالحكمة إذن ليست منفكة عن الذات حتى يقال إنه صار مستكملاً بغيره، وإنما هي صفة قائمة به – وعليه فلا إشكال إذا قيل أنه كمل بحكمته، إذ هو نظير قولنا كمل بذاته وصفاته.
    الشبهة الثانية:
    قال الباقلاني: "لو كان تعالى فاعلاً للعالم لعلة أوجبته لم تخل تلك العلة من أن تكون قديمة أو محدثة، فإن كانت قديمة وجب قدم العالم لقدم علته وألا يكون بين العلة القديمة وبين وجود العالم إلا مقدار زمان الإيجاد، وذلك يوجب حدوث القديم، لأن ما لم يكن قبل المحدوث إلا بزمان أو أزمنة محدودة وجب حدوثه، لأن فائدة توقيت وجود الشيء هو أنه كان معدوماً قبل تلك الحال، فلما لم يجز حدوث القديم لم يجز أن يكون العالم محدثاً لعلة قديمة. وإن كانت تلك العلة محدثة فلا يخلو محدثها أن يكون أحدثها لعلة، أو لا لعلة، فإن كانت محدثة لعلة وعلتها محدثة وجب أن تكون علة العلة محدثة لعلة أخرى وكذلك أبداً إلى غير غاية، وذلك يحيل وجود العالم جملة لتعلقه بما يستحيل فعله وخروجه إلى الوجود. وإن كانت العلة والخاطر والداعي والباعث والمحرك محدثة لا لعلة، وكانت بالوجود لما وجدت من فاعلها أولى منها بالعدم لا لعلة، وكان فاعلها حكيماً غير سفيه جاز حدوث سائر الحوادث منه لا لعلة وكان حكيماً غير سفيه..." (26)
    والجواب من وجوه:
    الوجه الأول: - قوله "فإن كانت قديمة وجب قدم العالم لقدم علته" ينتقض بصفة الإرادة، فالأشعرية يقرون بقدمها مع قولهم بحدوث المراد، فلما لم يلزم من القول بقدم الإرادة قدم المراد لم يلزم من قدم الحكمة قدم الفعل – أي المفعول - (27) .
    الوجه الثاني: وهو عن لزوم التسلسل إذا قيل إن العلة محدثة، وهي محدثة لعلة وهكذا...
    وجوابه، إن هذا التسلسل الصحيح أنه في المستقبل، لأن الحكمة من الفعل تحصل عقبه وإن كانت مقدمة عليه في التصور، ولا شك أن التسلسل في الآثار المستقبلة جائز بل واقع كما هو الحال في نعيم الجنة وعذاب النار الدائمين، وهذا مما يسلم به الأشعرية فيلزم أن يسلموا به في الحكمة، وعليه فقولهم: "وجب أن تكون علة العلة محدثة لعلة أخرى..." قول ممنوع، وهو وارد على تعليل العلل، أي إذا فعل فعلاً لعلة فما هي علة هذه العلة وهكذا... فإنا نقول: الحكمة التي ذكروها هي التي يعود حكمها إلى الرب، وكل الحكم تعود على حكمة لا حكمة فوقها "فالمفعول لأجله مراد للفاعل محبوب له، والمراد المحبوب تارة يكون مراداً لنفسه وتارة يكون مراداً لغيره، والمراد لغيره لابد أن ينتهي إلى المراد لنفسه قطعاً للتسلسل، وهذا كما نقوله في خلقه بالأسباب: إنه يخلق كذا بسبب كذا، وكذا بسبب كذا حتى ينتهي الأمر إلى أسباب لا سبب لها سوى مشيئة الرب، فكذلك يخلق لحكمة، وتلك الحكمة لحكمة حتى ينتهي الأمر إلى حكمة لا حكمة فوقها" (28) .
    الوجه الثالث:- وهو عن لزوم القول بوجود محدث أحدث ابتداء لا لعلة، ومن ثم لزوم نفي العلل كلها؛ وهو في قوله: "وإن كانت العلة والخاطر والداعي... إلخ" فالجواب: إنا قد قدمنا في الوجه الثاني أن الحكم تنتهي إلى حكمة لا حكمة فوقها، ولم نسلم بأنه لا توجد حكمة تعود إليها كل الحكم، ولذلك فهذا الاحتمال – وهو قوله: "محدثة لا لعلة" – احتمال غير وارد ولا نسلم به، مع ملاحظة أن استعمال ما جاء به الشرع من لفظ الحكمة هو الصحيح، ولا يجوز التعبير بما يوهم باطلاً كالمحرك والباعث والخاطر...
    ثم إن قوله: "جاز حدوث سائر الحوادث منه لا لعلة" فكلام مبني على توهم وجود فعل خلا من الحكمة وقد منعناه، مع ملاحظة أن دعواه أعم من دليله، فهو قد جوز خلو الأفعال من الحكم بناءً على نفي علة العلة الأولى للفعل، فما ذكره فيه سلب العموم لا عموم السلب، كيف وقد بينا سابقاً أن الحكم كلها تعود إلى حكمة لا حكمة فوقها فدليله من أساسه منهار، ومع انهياره فهو لا يدل على ما ادعاه.
    الشبهة الثالثة (29) :
    قالوا: لو كان شيء من الممكنات غرضاً لفعل الباري لما كان ذلك الممكن حاصلاً بخلق الله ابتداءً، وإنما بتوسط الغرض، والغرض هو إيصال اللذة إلى البعد أو دفع الألم عنه، وقد علم إجماعاً أن الله قادر على إيجادها ابتداءً فيكون إثبات هذه الوسائط عبثاً ينزه الله عنه.
    الجواب:
    لا نسلم أن الحكمة منحصرة في الشيئين المذكورين فقط – لأن هذه الحكمة راجعة إلى المخلوق، ونحن نثبت حكمة أخرى – غير هذه معها – يعود حكمها إلى الله من حيث إنه يحبها ويرضاها، كما أننا ننكر تسمية الحكمة بالغرض – وعلى فرض التسليم – بحصر الحكمة فيما ذكروه – فإن غاية هذه الشبهة هو أن الله قادر على تحصيل الحكمة بدون هذه الوسائط وقادر على تحصيلها بها، والعدول عن أحد المقدورين إلى الآخر لا يسمى عبثاً إلا إذا كان المعدول إليه مساوياً للآخر من كل وجه أو كان دونه، وهذا ما لا يمكن إثباته، بل الشرع والعقل بخلافه، فإنه لا يمكن أحداً أن يقول مثلاً: إرسال الرسل وعدم إرسالهم سواء، ومعلوم أن الشيء يكون عبثاً إذا كان لا فائدة منه، أما إذا كان وجود الوسيط سبباً أو شرطاً لحصول شيء لم يكن وجوده عبثاً كوجود آلات الإحساس التي هي شرط لتحصيل الحس، ولا يقول عاقل إن وجودها عبث، فإن وجودها ضروري، وما قال أحد بالعبث في إيجادها، فكذلك يقال في بقية الحكم المعلومة وغير المعلومة لنا (30) .
    الشبهة الرابعة (31) :
    قالوا: لو كانت أفعاله معلقة بالأغراض والحكم ما خلا فعل منها، والمشاهد خلو بعضها عن ذلك، كإيلام الأطفال وخلق الشرور والكفر.
    الجواب:
    لما أثبت أهل السنة الحكمة لم يدعوا علمهم بكل حكمة، وما أورده الأشاعرة غاية ما فيه: عدم علمهم بالحكمة فيما ذكروه، وعدم العلم بالحكمة لا يعني عدمها – وهو واضح – وتمام الإجابة على هذه الشبهة وبالعلم بأن أفعال الله كلها خير، وكل خير فإنه داخل في أسماء الله وصفاته ومفعولاته بالذات وبالقصد الأول، والشر لا يدخل في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله، فهو إنما يدخل في معقولاته بالعرض لا بالذات، وبالقصد الثاني لا الأول دخولاً إضافياً، وهذا مثل إنزال المطر والثلج وتصريح الرياح والشمس، فهذه كلها خيرات في نفسها وفيها حكم ومصالح وإن كانت شراً نسبياً إضافياً في حق من تضرر بها (32) .
    ويلاحظ أن الأشاعرة قد استعملوا لفظ (الغرض) مكان (الحكمة) وهذا الاستعمال غير صحيح لإيهامه الباطل، ثم إن ما ذكر من الأدلة الدالة على إثبات الحكمة لله تعالى كثيرة لا يمكن دفعها، وقد تقدم ذكر شيء منها، وبمعرفتها والتيقن منها تزول الشبهات الواردة من نفاتها، إذ لا قرار للشبهات مع الحق المتيقن الثابت.
    إلزامات على نفاة الحكمة (33) :
    1- من المعلوم أن الله يستحق الحمد بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فالله له الحمد على جميع ما خلقه ويخلقه لما له فيه من الحكم والغايات المحمودة المقصودة بالفعل، فيلزم من نفي الحكمة أن ينفي الحمد معها، إذ الحمد من لوازم الحكمة، والحكمة إنما تكون في حق من يفعل شيئاً لأجل شيء، وعندهم أن الله بخلقه ما ينفع العباد أراد مجرد وجوده لا نفعهم، فكيف يحمد على أصلهم على فعل ليست له فيه حكمة – وهي منفعة العباد -! ويتبين هذا بضرب مثال في فعل العدل وترك الظلم.
    فالله تعالى حمد نفسه على فعل العدل وترك الظلم، وعباده المؤمنون يحمدونه على ذلك، وهذه من الحكم، أما الأشاعرة الذين يفسرون الظلم بأنه الممتنع الذي لا يدخل تحت المقدور فيقال لهم:
    من المعلوم أنه لا يمدح الممدوح بترك ما لو أراده لم يقدر عليه، وعندكم أن الظلم لا يقدر الله عليه فأي مدح له على شيء لم يفعله لعدم قدرته عليه؟!
    ونحن نقول: إن الله قادر عليه إلا أنه لا يفعله لتمام حكمته وعدله ورحمته سبحانه وتعالى، ومما يدل على قدرته عليه قوله في الحديث القدسي: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)) (34) ، فقوله: ((وجعلته بينكم محرماً)) يدل على أنه ظلم مقدور يستحق تاركه الحمد والثناء.
    2- من اعتمد منهم إثبات العلل والمصالح في الأحكام الشرعية يقال له: لم فرقت بين إثبات العلل والحكم في أحكامه وبين إثباتها في أفعاله؟ ولن يجد لذلك جواباً فإما أن يلتزم نفي الجميع فيكون الرد عليه بما تقدم، وإما أن يلتزم إثبات الجميع وهو الحق.
    3- قالوا في دليل إثبات العلم لله بالعقل: "الله تعالى فاعل فعلاً متقناً محكماً بالقصد والاختيار، وكل من كان كذلك وجب له العلم" (35) .
    فيقال لهم: قد استدللتم على إثبات علم الرب بما في مخلوقاته من الإحكام والإتقان بشرط قصد ذلك، فأثبتم له قصداً، ونحن نقول إنه قصد حكمة أرادها من خلقه، فأثبتم قصده في العلم ونفيتموه في الحكمة، وكان اللازم إثباتهما حتى لا يحدث اضطراب وتناقض، وإلا لزم من نفي الحكمة نفي العلم. والصواب إثبات القصد في العلم والحكمة. فمن نفاه في الحكمة وأثبته في العلم كان متناقضاً
    موسوعة الفرق - تعليل أفعال الله وإثبات الحكمة فيها

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •