لا يخرج شيء من أفعال الله تعالى عن تمام الحكمة ، ولا يجوز خلو فعل من أفعاله عن الحكمة ،
قال ابن القيم رحمه الله :
" الله سبحانه حكيم ، لا يفعل شيئا عبثا ، ولا لغير معنى ومصلحة .
وحكمته : هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة، لأجلها فعل . كما هي ناشئة عن أسباب ، بها فعل .
وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا " انتهى من "شفاء العليل" (ص: 190) .
وقال أيضا :
" اللهُ سُبْحَانَهُ مَا أَعْطَى إِلَّا بِحِكْمَتِهِ، وَلَا مَنْعَ إِلَّا بِحِكْمَتِهِ، وَلَا أَضَلَّ إِلَّا بِحِكْمَتِهِ.
وَإِذَا تَأَمَّلَ الْبَصِيرُ أَحْوَالَ الْعَالَمِ وَمَا فِيهِ مِنَ النَّقْصِ: رَآهُ عَيْنَ الْحِكْمَةِ، وَمَا عَمَرَتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ ، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ ، إِلَّا بِحِكْمَتِهِ.
وقول أَهْلِ الْإِثْبَاتِ في تعريفها: إنَّهَا الْغَايَاتُ الْمَحْمُودَةُ الْمَطْلُوبَةُ لَهُ سُبْحَانَهُ بِخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، الَّتِي أَمَرَ لِأَجْلِهَا، وَقَدَّرَ وَخَلَقَ لِأَجْلِهَا.
وَهِيَ [ أيضا ] : صِفَتُهُ الْقَائِمَةُ بِهِ ، كَسَائِرِ صِفَاتِهِ: مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَعِلْمِهِ وَحَيَاتِهِ وَكَلَامِهِ " انتهى مختصرا من "مدارج السالكين" (2/ 450) .
ثالثا :
ليس بالضرورة أن تصل عقول العباد إلى معرفة الحكمة في أفعال الله ، وشرعه وأمره، بل قد يبين الله تعالى لعباده بعض تلك الحكم ، وقد يستر عنهم بعضها ، محنة لهم ، واختبارا لعبوديتهم وتسليمهم لربهم.
ولا شك أن معرفة الحكمة من الفعل ، أو الخلق ، أو الأمر : تزيد المرء إيمانا ، ولكن ليس شرطا في الإيمان أن نتعرف على تفاصيل حكمة الله تعالى في خلقه وأمره ، ونطلع عليها. وإنما مدار أمر العبد التسليم أولا ، وقبل كل شيء ؛ فإن أدرك الحكمة ، فليحمد الله ، وإن لم يدركها رجع إلى التسليم لربه تعالى ، مع إيمانه أنه سبحانه حكيم عليم ، لا يخرج فعل من أفعاله عن الحكمة .
فإن الناس متفاوتون في عقولهم وفهومهم ودينهم ، والله يصطفي من عباده من يشاء ، ويمن على من يشاء بما شاء من فضله ، وقد قال تعالى: ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) البقرة/ 269 .
قال ابن أبي العز رحمه الله :
" اعْلَمْ أَنَّ مَبْنَى الْعُبُودِيَّةِ وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ - عَلَى التَّسْلِيمِ ، وَعَدَمِ الْأَسْئِلَةِ عَنْ تَفَاصِيلِ الْحِكْمَةِ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالشَّرَائِعِ.
وَلِهَذَا لَمْ يَحْكِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ أُمَّةِ نَبِيٍّ ، صَدَّقَتْ بِنَبِيِّهَا ، وَآمَنَتْ بِمَا جَاءَ بِهِ، أَنَّهَا سَأَلَتْهُ عَنْ تَفَاصِيلِ الْحِكْمَةِ فِيمَا أَمَرَهَا بِهِ وَنَهَاهَا عَنْهُ ، وَبَلَّغَهَا عَنْ رَبِّهَا .
وَلَوْ فَعَلَتْ ذَلِكَ لَمَا كَانَتْ مُؤْمِنَةً بِنَبِيِّهَا، بَلِ انْقَادَتْ وَسَلَّمَتْ وَأَذْعَنَتْ، وَمَا عَرَفَتْ مِنَ الْحِكْمَةِ عَرَفَتْهُ، وَمَا خَفِيَ عَنْهَا لَمْ تَتَوَقَّفْ فِي انْقِيَادِهَا وَتَسْلِيمِهَا عَلَى مَعْرِفَتِهِ، وَلَا جَعَلَتْ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهَا، وَكَانَ رَسُولُهَا أَعْظَمَ عِنْدَهَا مِنْ أَنْ تَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا فِي الْإِنْجِيلِ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَقُولُوا: لِمَ أَمَرَ رَبُّنَا؟ وَلَكِنْ قُولُوا: بِمَ أَمَرَ رَبُّنَا .
وَلِهَذَا كَانَ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ الْأُمَمِ عُقُولًا وَمَعَارِفَ وَعُلُومًا - لَا تَسْأَلُ نَبِيَّهَا: لِمَ أَمَرَ اللَّهُ بِكَذَا؟ وَلِمَ نَهَى عَنْ كَذَا؟ وَلِمَ قَدَّرَ كَذَا؟ وَلِمَ فَعَلَ كَذَا؟ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مُضَادٌّ لِلْإِيمَانِ وَالِاسْتِسْلَا مِ، وَأَنَّ قَدَمَ الْإِسْلَامِ لَا تَثْبُتُ إِلَّا عَلَى دَرَجَةِ التَّسْلِيمِ.
فَأَوَّلُ مَرَاتِبِ تَعْظِيمِ الْأَمْرِ : التَّصْدِيقُ بِهِ، ثُمَّ الْعَزْمُ الْجَازِمُ عَلَى امْتِثَالِهِ، ثُمَّ الْمُسَارَعَةُ إِلَيْهِ وَالْمُبَادَرَة ُ بِهِ الْقَوَاطِعَ وَالْمَوَانِعَ، ثُمَّ بَذْلُ الْجُهْدِ وَالنُّصْحِ فِي الْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، ثُمَّ فِعْلُهُ لِكَوْنِهِ مَأْمُورًا، بِحَيْثُ لَا يَتَوَقَّفُ الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى مَعْرِفَةِ حِكْمَتِهِ - فَإِنْ ظَهَرَتْ لَهُ فَعَلَهُ وَإِلَّا عَطَّلَهُ، فَإِنَّ هَذَا يُنَافِي الِانْقِيَادَ، وَيَقْدَحُ فِي الِامْتِثَالِ." انتهى من "شرح الطحاوية" (341) .
والحاصل :
أن من فهم الحكمة في البلاء والمرض صبر واحتسب وعلم أنه شيء قدره الله بحكمته وعلمه ، وأنه خير للمسلم في دينه ودنياه .
ومن فهم الحكمة في الغنى والفقر ، شكر إذا أغناه الله ، وصبر إذا قدر الله عليه الحاجة .
ومن فهم الحكمة في تشريع الجهاد ، بادر بالجهاد في سبيل الله بنفسه وماله ، لإعلاء كلمة الله ونشر دينه ، ومحاربة الكفر وأهله .
ومن فهم الحكمة في الصدقة وعلم أنه يكون بها نماء المال وزكاؤه ونفع صاحبه في الدنيا والآخرة وأنه ما نقص مال من صدقة بادر بالصدقة حتى يكون ما يخرجه في الله أحب إلى نفسه مما يمسكه .
ومن لم يعلم الحكمة :
بادر بالتسليم والرضا، وعلم أنه ربما أتي من قِبَل جهله ، وعدم علمه ، فيسيء الظن بنفسه ، ويحسن الظن بربه ، فما أسعد المسلم بدينه ، إن هو علم الحكمة زادته إيمانا وفقها ، وعلما وعملا ، وإن هو جهلها أحسن الظن بربه ، وأساء الظن بنفسه ، وما زاده عدم العلم بها إلا تسليما لربه ، ورضا بما قدره وشاءه وشرعه سبحانه ، قال تعالى : (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) البقرة / 216.
قال ابن القيم رحمه الله: " العبد لا يريد مصلحة نفسه من كل وجه ، ولو عرف أسبابها، فهو جاهل ظالم، وربه تعالى يريد مصلحته ، ويسوق إليه أسبابها .
ومن أعظم أسبابها: ما يكرهه العبد؛ فإن مصلحته فيما يكره ، أضعاف أضعاف مصلحته فيما يحب " انتهى من "مدارج السالكين" (2/ 205) .
فلا يتم إيمان المسلم حتى يثبت لربه تعالى ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات والأفعال ، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم كذلك ، ومما ثبت لله تعالى من الأسماء " الحكيم " ، ومما ثبت له من الصفات " الحكمة " ، فلم يخلق الله تعالى خلقاً إلا لحكمة ، ولم يشرع شرعاً إلا لحكمة ، وليس بالضرورة أن تصل عقول العباد إلى تلك الحكم دائما ، بل قد يبين الله تعالى لعباده بعض تلك الحكم ، وقد يستر عنهم بعضهم ، محنة لهم ، واختبارا لعبودئتهم وتسليمهم لربهم .