دروس من أقوال عمر "رضي الله عنه"
د. محمد حسان الطيان - منسق مقررات اللغة العربية

كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري:
«خذ الناس بالعربية، فإنها تزيد في العقل، وتثبت المُروءة».
هذه الكلمة من روائع ما نقل عن عمر "رضي الله عنه" ، وهي تدل على نفاذ بصيرة، وقوة عارضة، وصواب رأي، فضلا عما تشتمل عليه من علو بيان، وفصاحة كلام، وروعة إيجاز.
إذ أدرك أبوحفص بحسه المرهف وحذقه البصير الخطر الداهم على العربية بعد كثرة الفتوح، -- وانتشار الصحابة في البلدان، ومخالطتهم للأعاجم، وبعدهم عن موئل الصفاء اللغوي، وبيئة الفصاحة والبيان، وخصوصا بعد تفشي اللحن في الكلام والقراءة والكتابة، وورود إشارات تؤذن بذلك.
وفيها تأسيس لقاعدة لغوية فكرية، باتت بحكم المسلمات في علم اللغة واللسانيات والفكر، وهي علاقة اللغة بالفكر والتفكير، والعقل والذكاء، هذه العلاقة الجدلية التي قطباها اللغة والفكر وكل منهما يؤثر ويتأثر، فكلما نمت اللغة وقويت نما الفكر وتطور، وكلما ضعفت وهزلت عاد الفكر واهيا هزيلا، والعكس صحيح أيضا، فالفكر السديد الصحيح يرقى باللغة ويسمو بها، والفكر الضعيف الضحل ينزل باللغة إلى الحضيض.
واللغة ليست مجرد رموز أو مواصفات فنية، بل هي أسلوب تفكير ونمط بناء وتثقيف للشخصية الإنسانية، وبقدر ما تكون اللغة دقيقة يكون الفكر دقيقًا والرأي صائبًا، فالإنسان عندما يفكر لا يستطيع ذلك إلا إذا وجد مخرجًا لكل فكرة بعبارة يقولها أو يكتبها، وما لم تتحول الفكرة إلى لغة فإنها تموت، ومن هنا فإن زيادة الثروة اللغوية يؤدي إلى زيادة الثروة الفكرية، ومن هنا أيضا كان الخلل في اللغة خللًا في التفكير كما قال الفيلسوف زكي نجيب محمود: «إذا دبّ خلل في اللغة دبّ خلل في التفكير» ذلك أن العلاقة بين اللغة والفكر علاقة جدلية أزلية فلا فكر دون لغة ولا لغة دون فكر.
هذا وإن ضعف اللغة أو قوتها معيار تقاس به ثقافة الأمم وحياتها، فالمجتمع الذي تقوى لغته ترقى ثقافته وحياته وفكره. «وكم عز أقوام بعز لغات».

من شعائر الله

والعربية تزيد على سائر اللغات أنها شعيرة من شعائر الله جل في علاه، ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب، وهي إلى هذا الرباط المقدس المتين الذي يشد بعض أبنائها إلى بعض، ويصل مشرق هذه الأمة بمغربها، وحاضرها بماضيها ومستقبلها، وهي هوية الأمة.. ووعاء فكرها.. ووسيلة تواصلها.. وأداة المعرفة فيها.
واستهدافها يعطل نمو تفكير الأمة، ويلغي عقلها، ويطمس شخصيتها، ويعبث بثقافتها، ويقطع أوصالها، ويجفف ينابيعها، ويجتث جذورها ويتركها في مهب الريح، ولاسيما أنها لغة العقيدة والقيم والثقافة والحضارة والعلم والتعليم والعبادة.
وليست العربية لغة إقليمية تخص بلدًا معينًا أو شعبًا مخصصًا، بل هي لغة الأمة كل الأمة، ولست أعني الأمة العربية فحسب بل الأمة الإسلامية أجمع لأنها لغة القرآن الكريم.
من هنا كان لزاما على كل عربي صادق في ولائه، بل على كل مسلم ملتزم بإيمانه، أن يرعى هذه اللغة حق الرعاية، وأن يحفظها ويعنى بها حق الحفظ والعناية، يقول الإمام الزبيدي: «ولم تزل الأئمة من الصحابة الراشدين ومن تلاهم من التابعين يحضّون على تعلم العربية وحفظها والرعاية لمعانيها، إذ هي من الدين بالمكان المعلوم، فبها أنزل الله كتابه المهيمن على سائر كتبه، وبها بلّغ رسوله عليه السلام وظائف طاعته وشرائع أمره ونهيه».

ومن تنكّب عن ذلك ففي عروبته شك، وفي إسلامه نقص، كما يصرح أستاذنا الدكتور مازن المبارك حيث يقول: «وليس مخلصا للإسلام ولا واعيا في خدمة كتاب الله من لم يدعه حبُّه وإخلاصه ووعيه إلى العناية باللغة العربية، إن العربية صوت القرآن وصورته، ولا يطعن فيها أو يفصلها عنه إلا شعوبي».
ومن هنا نفهم شطر الكلمة التي قالها عمر، أي «تزيد في العقل» أما شطرها الآخر، أي تثبت المروءة، فالمروءة كلمة جامعة لمكارم الأخلاق العربية التي جاء رسولنا الكريم " صلى الله عليه وسلم" متممًا لها، وحاضًّا عليها، وأسوةً يؤتسى به فيها. والعربية بشعرها ونثرها وعيون أخبارها ودرر أمثالها، بل بنصوص قرآنها، وأحاديث أفصح من نطق بها، تهدي إلى هذه المكارم وتدل عليها، وتربي كل ناطق بها على أحسنها وأقومها. وفي هذا يقول شاعرها الحكيم أبوتمام:
ولولا خلالٌ سنَّها الشعر ما درى
بغاةُ النّدى من أين تؤتَى المكارمُ

وبعد فهل أزيدك شيئا؟ إن ما صدَّر به عمر كلامه من قوله: «خذ الناس بالعربية» يشتمل على الحل الأمثل لما نعانيه اليوم من تردًّ في لغتنا وضعف في عربيتنا، لأن الله يزَع بالسلطان ما لا يزَع بالقرآن، كما قال سيدنا عثمان.