التذكرة بأسباب حسن الخاتمة
صلاح عامر
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، مَن يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
أولًا: ((وإنما الأعمال بالخواتيم)):
عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدَكم لَيَعمَلُ بعملِ أهل الجنَّة حتى ما يكونُ بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبِقُ عليه الكتابُ، فيعمَلُ بعمل أهل النار فيدخُلها، وإن أحدكم ليعملُ بعمل أهل النار، حتى ما يكونُ بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها))[1].
فالخاتمة المقصودة أن يُختم للعبد بما يُحب اللهُ عز وجل ويرضاه. فعن عبدالله، قال: حدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الصادقُ المَصْدُوق - قال: ((إن أحدَكم يُجمَع في بطن أمِّه أربعين يومًا، ثم علقة مثل ذلك، ثم يكون مُضْغَة مثل ذلك، ثم يبعَثُ الله مَلَكًا فيُؤمَر بأربعٍ: برِزقه وأجَلِه، وشقي أو سعيد، فواللهِ إن أحدكم - أو الرجل - يعمَلُ بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باعٍ أو ذراع، فيسبِقُ عليه الكتاب فيعمَل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعملُ بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراعٍ أو ذراعين، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها))، قال آدم: ((إلا ذراع))[2].
وعن سهلِ بن سعدٍ: أن رجلًا من أعظم المسلمين غَناءً عن المسلمين، في غزوةٍ غزاها مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((مَن أحَبَّ أن ينظر إلى الرجل من أهل النار، فلينظر إلى هذا))، فاتَّبعه رجلٌ من القوم، وهو على تلك الحال من أشدِّ الناس على المشركين، حتى جُرِح، فاستعجَل الموتَ، فجعل ذُبابةَ سيفِه بين ثديَيْه حتى خرج مِن بين كتفَيْه، فأقبَلَ الرجلُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسرعًا، فقال: أشهدُ أنك رسول الله! فقال: ((وما ذاك؟!))، قال: قلتَ لفلان: ((مَن أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار، فلينظر إليه))، وكان من أعظمنا غَناءً عن المسلمين، فعرَفْتُ أنه لا يموت على ذلك، فلما جُرح استعجل الموت فقَتَل نفسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: ((إن العبدَ ليعمَلُ عملَ أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عملَ أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم))؛ رواه البخاريُّ (6607). إن حسن الخاتمة هو أن يُوفَّق العبدُ قبل موتِه للابتعاد عما يُغضِب الربَّ سبحانه، والتوبةِ مِن الذنوب والمعاصي، والإقبالِ على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موتُه بعد ذلك على هذه الحالِ الحسنة، ومما يدل على هذا المعنى ما صحَّ عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا، استعمله))، قالوا: وكيف يستعمله؟ قال: ((يُوفِّقه لعملٍ صالح قبل موته))[3].
وعن عمرو بن الحَمِق الخُزاعي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا، عَسَلَه قبل موته))، قيل: وما عَسَلَه؟ قال: ((يفتح له عملًا صالحًا بين يدي موته حتى يرضَى عنه))[4].
ثانيًا: من أسباب حسن الخاتمة:
السبب الأول: تحقيق الإيمان:
لقوله تعالى: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27].
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم إذا سئل في القبر، يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فذلك قوله: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [إبراهيم: 27 ))[5].
وعن قتادةَ رضي الله عنه عن أنسِ بن مالك رضي الله عنه أنه حدَّثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن العبد إذا وُضِع في قبره، وتولَّى عنه أصحابه، إنه لَيسمَعُ قرعَ نعالِهم، أتاه ملَكانِ فيُقعِدانه، فيقولانِ: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجل، لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم؟ فأما المؤمن، فيقول: أشهد أنه عبدُ الله ورسولُه، فيقال له: انظر إلى مقعدِك من النار، قد أبدَلَك الله به مقعدًا من الجنة، فيراهما جميعًا)) - قال قتادة: وذكر لنا أنه يُفسَح له في قبره - قال: ((وأما المنافق والكافر، فيُقال له: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنتُ أقول ما يقولُ الناسُ، فيقال له: لا دريتَ ولا تليتَ، ويُضرَبُ بمطارقَ من حديدٍ ضربةً، فيصيح صيحةً يسمعها من يليه غيرَ الثقلين))[6].
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قبر الميتُ أتاه مَلَكانِ أسْودانِ أزرقانِ، يقال لأحدهما: المنكر، وللآخر: النَّكير، فيقولان: ما كنتَ تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبد الله ورسوله، فيقولان له: قد كنا نعلَمُ أنك تقول هذا، ثم يُفسَح له في قبره سبعون ذراعًا في سبعين، ثم ينوَّر له فيه، ثم يقال: نَمْ كنومةِ العروس الذي لا يُوقِظه إلا أحَبُّ أهله إليه، حتى يبعثَه الله تعالى، وإن كان منافقًا أو كافرًا، قال: سمعتُ الناس يقولون قولًا، فقلتُ مثله، لا أدري، فيقولان: قد كنا نعلَمُ أنك تقول ذلك، فيقال للأرض: التَئِمِي عليه، فتلتَئِمُ عليه، فتختلف أضلاعُه، فلا يزال فيها معذَّبًا حتى يبعَثَه الله من مضجعه ذلك))[7].
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: خرَجْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازةِ رجلٍ من الأنصار، فانتهَيْنا إلى القبر ولمَّا يُلحَد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رؤوسِنا الطير، وفي يده عودٌ ينكُتُ به في الأرض، فرفع رأسه، فقال: ((استعيذوا بالله من عذاب القبر)) مرتين أو ثلاثًا. زاد في حديث جريرٍ ((هاهنا)). وقال: ((وإنه ليسمَعُ خفقَ نعالِهم إذا ولَّوا مُدبِرينَ، حين يقال له: يا هذا، مَن ربُّك؟ وما دينك؟ ومَن نبيُّك؟)). قال هنَّاد: قال: ((ويأتيه ملكانِ فيُجلِسانه، فيقولان له: مَن ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولانِ له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعِث فيكم؟))، قال: ((فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان: وما يُدرِيك؟ فيقول: قرأتُ كتاب الله، فآمنتُ به وصدَّقت)). زاد في حديث جرير: ((فذلك قول الله عز وجل: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ الآية [إبراهيم: 27])). ثم اتفقا، قال: ((فيُنادِي منادٍ من السماء: أَنْ قد صدق عبدي، فأفرِشوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، وألبِسوه من الجنة))، قال: ((فيأتيه مِن رُوحها وطِيبها))، قال: ((ويفتح له فيها مدَّ بصرِه))، قال: ((وإن الكافر)) - فذكر موته قال -: ((وتُعاد رُوحه في جسده، ويأتيه ملَكان فيُجلسانه فيقولان: له من ربك؟ فيقول: هاه هاه هاه، لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، فينادي منادٍ من السماء: أن كذَب، فأفرِشوه من النار، وألبِسوه من النار، وافتَحُوا له بابًا إلى النار))، قال: ((فيأتيه مِن حرِّها وسَمُومها))، قال: ((ويضيق عليه قبره حتى تختلفَ فيه أضلاعه)). زاد في حديث جرير قال: ((ثم يُقيَّض له أعمى أبكمُ، معه مرزبَّةٌ من حديد، لو ضُرب بها جبل لصار ترابًا))، قال: ((فيضرِبُه بها ضربةً يسمَعُها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين، فيصير ترابًا))، قال: ((ثم تعاد فيه الروح))[8].
السبب الثاني: الاستقامة: قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ﴾ [فصلت: 30، 31]. وعن سفيان بن عبدالله الثقفي رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله، قُلْ لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال: ((قُلْ: آمنتُ بالله، ثم استَقِمْ))[9]،
وذكر تمام الحديث. وقوله: (﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ ﴾) : قال مجاهد والسدي، وزيد بن أسلم، وابنه: يعني عند الموت قائلين: ﴿ أَلَّا تَخَافُوا ﴾: قال مجاهد، وعكرمة، وزيد بن أسلم: أي مما تقدمون عليه من أمرِ الآخرة. ﴿ وَلَا تَحْزَنُوا ﴾؛ [أي]: على ما خلَّفتموه من أمر الدنيا، من ولد وأهل، ومال أو دَين، فإنا نخلفكم فيه. ﴿ وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾، فيُبشِّرونهم بذَهابِ الشر، وحصولِ الخير. وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أحَبَّ لقاء الله عز وجل، أحبَّ الله لقاءه، ومَن كرِه لقاء الله عز وجل، كرِه الله لقاءه))، فقالت عائشة: يا رسول الله، كراهية لقاء الله أن يكره الموت، فواللهِ إنَّا لنكرَهُه؟ فقال: ((لا، ليس بذاك، ولكن العبد المؤمن إذا قضى اللهُ عز وجل قبضه، فرَّج له عما بين يديه من ثواب الله عز وجل وكرامته، فيموت حين يموت وهو يحبُّ لقاء الله عز وجل واللهُ يحب لقاءه، وإن الكافر والمنافق إذا قضى الله عز وجل قبضَه، فرَّج له عما بين يديه من عذاب الله عز وجل وهوانه، فيموت حين يموت، وهو يكره لقاء الله والله يكره لقاءه))[10].
السبب الثالث: فعل العبد ما يوعظ به: لقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُ مْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ [النساء: 66 - 68].
السبب الرابع: الحفاظ على الصلاة: عن عبدالله رضي الله عنه، قال: "مَن سرَّه أن يلقى اللهَ غدًا مُسلمًا، فليحافِظْ على هؤلاء الصلوات حيث يُنادى بهنَّ، فإن الله شرع لنبيِّكم صلى الله عليه وسلم سننَ الهدى، وإنهن من سننِ الهدى، ولو أنكم صلَّيتم في بيوتكم كما يصلِّي هذا المتخلِّفُ في بيته، لتركتُم سُنَّة نبيكم، ولو تركتم سنةَ نبيكم لضلَلْتُم، وما من رجلٍ يتطهَّر فيُحسِن الطهورَ، ثم يعمدُ إلى مسجدٍ من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكلِّ خطوة يخطوها حسنةً، ويرفعه بها درجة، ويحطُّ عنه بها سيئة، ولقد رأيتُنا وما يتخلَّف عنها إلا منافقٌ معلومُ النفاق، ولقد كان الرجل يُؤتى به يُهادَى بين الرجلينِ حتى يُقامَ في الصف"[11].
الشاهد من الحديث: "مَن سرَّه أن يلقى الله غدًا مسلمًا، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث يُنادى بهن".
السبب الخامس: فعل الطاعات وترك السيئات: لقوله تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [الجاثية: 21]. عن قتادة رضي الله عنه: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ... ﴾ الآية، لَعَمْري لقد تفرَّق القوم في الدنيا، وتفرَّقوا عند الموت، فتباينوا في المصير.
السبب السادس: حسن اختيار الرفيق:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الرجلُ على دين خليلِه، فلينظُرْ أحدكم مَن يُخالِل))[12].
قوله: ((الرجل))؛ يعني الإنسان. ((على دين خليله))؛ أي: على عادة صاحبه وطريقته وسيرته. ((فلينظُرْ))؛ أي: فليتأمَّل وليتدبر. ((مَن يُخالِل)): من المخالَّة، وهي المصادقة والإخاء، فمَن رضي دينَه وخُلُقه خالَلَه، ومَن لا، تجنَّبَه؛ فإن الطباع سرَّاقة، والصُّحبة مؤثِّرة في إصلاح الحال وإفساده. قال الغزالي: مجالسة الحريص ومخالطته تُحرِّك الحرص، ومجالسة الزاهد ومخاللته تزهد في الدنيا؛ لأن الطباع مجبولةٌ على التشبه والاقتداء، بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري. وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما مَثَل الجليسِ الصالح والجليس السُّوء كحامل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك إما أن يُحْذِيَك، وإما أن تبتاعَ منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيِّبة، ونافخ الكِير إما أن يُحرِقَ ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثة))[13].
السبب السابع: المداومة على عبادة الله: لقوله تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99]. وعن مجاهد رضي الله عنه في قوله: ﴿ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾، قال: الموت[14].
وقال أبو إسحاق: مجازُ هذا الكلام مجازٌ أبدًا؛ المعنى: اعبُدْ ربك أبدًا؛ لأنه لو قيل: اعبُدْ ربك - بغير توقيتٍ - لجاز إذا عبد الإنسان مرةً أن يكون مطيعًا، فإذا قال: ﴿ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾؛ أي: أبدًا، وما دمتَ حيًّا، فقد أمر بالإقامة على العبادة[15].
وقال تعالى عن نبيِّه عيسى عليه السلام - وهو في المهد -: ﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾ [مريم: 31].
السبب الثامن: تجدد التوبة لكل ذنب: لقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [آل عمران: 135، 136]، ولقوله تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70].
قال العلامة القرطبي رحمه الله في تفسيره: "... فلا يبعد في كرمِ الله تعالى إذا صحَّت توبة العبد أن يضع مكانَ كلِّ سيئةٍ حسنةً، وقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: ((أَتْبِعِ السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها، وخَالِقِ الناسَ بخُلُق حسن))".
ففي صحيح البخاري من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: ((إن المؤمنَ يرى ذنوبه كأنه قاعدٌ تحت جبل يخافُ أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذُبابٍ مرَّ على أنفه، فقال به هكذا)). قال العلامة ابن بطَّال رحمه الله في شرحه لصحيح البخاري: (فينبغي لمن أراد أن يكونَ مِن جملة المؤمنين أن يخشى ذنوبه، ويعظُم خوفُه منها، ولا يأمَن عقاب الله عليها فيستصغرها؛ فإن الله تعالى يعذِّب على القليل وله الحجة البالغة في ذلك).
السبب التاسع: الاهتمام بصلاح القلب: عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الحلال بيِّن، وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمورٌ مشتبهات، لا يعلَمُهنَّ كثيرٌ من الناس، فمَن اتَّقى الشبهات استبرأَ لدينه وعِرْضه، ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمَى يُوشِك أن يرتَعَ فيه، ألا وإنَّ لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمُه، ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلَحت صلَح الجسد كلُّه، وإذا فسَدت فسَد الجسد كله، ألا وهي القلب))[16].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينظر إلى صُوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))[17].
يتبع