محمد بن إسحاق (عمدة كُتّاب السيرة)
أحمد عبد الحميد عبد الحق


مقدمة:
كثير هم العلماء الذين كتبوا في سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبر التاريخ الإسلامي، بل قلما يمر عام إلا وتخرج لنا دور النشر عشرات المصنفات في هذا الأمر، ومن عجيب الأمر أنه ما من كتاب كُتب في هذا الشأن إلا وكان كتاب ابن إسحاق المسمى "المبتدأ والمبعث والمغازي "والذي لخصه بعده ابن هشام بعنوان "السيرة النبوية " هو المصدر الأول له والمعتمد لديه، سواء أكان ذلك بطريق مباشر أو غير مباشر، فمن هو ابن إسحاق صاحب ذلك الفضل والسبق في كتابة السيرة النبوية؟ وما الثقافة التي أهلته لهذا الفضل؟ وما رأي العلماء فيه؟ وما طبيعة كتابه الذي عمت شهرته الآفاق؟ ذلك ما سنعرفه في السطور التالية.
هو محمد بن إسحاق بن يسار، كان جده أحد الأسرى الذين وقعوا في أيدي المسلمين عند فتح منطقة "عين التمر" على حدود العراق، فمنّ عليه قيس بن مخرمة بن عبد المطلب، ووهبه حريته بعد إسلامه فانشغل بطلب العلم وسماعه؛ حتى صار من أوعيته.
ميلاده ونشأته:
ولد محمد بن إسحاق في مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بين عامي 80، 85 من الهجرة، ورغم أن أسرته كانت من الموالي، وليست من العرب الخالصين إلا أنها عوضت ذلك وما فاتها من شرف النسب بمحبة العلم وطلبه، فكان أبوه كما ذُكر وكذلك سائر أعمامه ممن شُغفوا بجمع الأحاديث، والعكوف على حفظها وروايتها، وخاصة ما يتعلق منها بالسيرة.
فلما شب وكمل إدراكه وجد العلم بضاعته وصنعة آبائه فأقبل عليه بحب وسعادة، وساعده على ذلك أيضاً أنه كان على صلة بعبد الله بن أبي بكر بن حزم، وعاصم بن عمر بن قتادة، ويزيد بن رومان، والزهري أبرز المحدثين الذين اهتموا بالروايات التاريخية في هذا الوقت، فجمع ووعى ما عندهم حتى صار بحراً من بحور العلم.
رحلاته العلمية:
ولم يكتف ابن إسحاق بسماع العلم بالمدينة مسقط رأسه، وإنما رحل إلى كثير من أقطار العالم الإسلامي، فقد زار مصر بعد أن أتم الثلاثين من عمره، ونزل الإسكندرية حيث سمع من مشايخها أمثال يزيد بن أبي حبيب، وعبد الله بن المغيرة، وعبد الله بن أبي جعفر، ثم رجع إلى المدينة مرة أخرى، فواصل سماع المغازي من الزهري الذي كان يحتل مكانة طيبة عند الأمويين، وعلى صلة وثيقة بهم، وانتقل بعد ذلك إلى مكة، وفيها واصل حفظ المغازي حيث قال: " حفظت المغازي بمكة مرة، ثم تفلتت مني ثم عدت فحفظتها "(1).
وعاد بعد ذلك إلى المدينة فسمع منه المغازي بعد جمعها إبراهيم بن سعد، وزياد البكائي، وعبد الله بن إدريس، ثم غادرها مرة أخرى إلى العراق، مركز الخلافة وقتئذ ومطمح العلماء والراغبين في الثراء والعطاء، فقضى ما تبقى من عمره في تعلم العلم وتعليمه، حتى وافته منيته ودفن بها في مقابر الخيزران سنة 150 هـ أو 151 أو152 على اختلاف بين العلماء.
سعة معارفه:
ونظرة عجلى إلى قائمة شيوخ ابن إسحاق التي أوردها الذهبي في كتابيه " سير أعلام النبلاء " " وأسماء رجال روى عنهم ابن إسحاق" يظهر لنا مدى سعة معارفه، ولا غرو فقد كان ذكياً حافظاً، جامعة لكل ما يلقى على سمعه؛ حتى قال عبد الله بن فايد: " كنا إذا جلسنا إلى محمد بن إسحاق فأخذ في فن من الفنون قضى مجلسه في ذلك الفن "(2).
ومن أبرز هذه المعارف:
ا- الحديث الشريف، قال ابن المديني " مدار حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ستة، ثم صار علم الستة عند اثني عشر أحدهم ابن إسحاق "(3).
ب- الفقه والأحكام، يقول إبراهيم بن حمزة: " كان عند ابن إسحاق نحو من سبعة عشر ألف حديث في الأحكام سوى المغازي "(4).
ج- التفسير وقد سمعه من عمرو بن أبي أحمد والمغيرة بن عبيد، والذي يطالع مروياته عند ابن هشام يعرف مهارته في هذا الفن.
د- المغازي: وهي حرفته التي لم ينافس فيها، قال ابن شهاب الزهري وقد سئل عن المغازي: " هذا يقصد ابن إسحاق أعلم الناس بها "(5) وقال الشافعي: " من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على ابن إسحاق "(6).
هـ- الأنساب: قال ابن سيد الناس: " لم يكن أحد في الحجاز أعلم بأنساب الناس وأيامهم من ابن إسحاق "(7).
وقد جمع مع ذلك كما قال الكلاعي: " فصاحة في الإيراد وحسن بيان "(8).
أقوال العلماء فيه:
تباينت أقوال العلماء في ابن إسحاق، وآراؤهم فيه ما بين مفرط في مدحه والثناء عليه، وبين معتدل في حكمه عليه، وبين مبالغ في اتهامه، فالثوري مثلاً يقول: " جالست ابن إسحاق منذ بضعة وسبعين سنة وما يتهمه أحد من أهل المدينة ولا يقول فيه شيئاً "(9).
وقال شعبة: " لو سود أحد في الحديث لسود ابن إسحاق "(10) وقال يحيى بن معين: " ثقة، وكان حسن الحديث "(11) قال الزهري: " لا يزال بالمدينة علم ما كان فيهم ابن إسحاق "(12) وقال عاصم بن عمر بن قتادة: " لا يزال في الناس علم ما عاش فيهم ابن إسحاق "(13) وقال أبو زرعة: " وقد اختبره أهل الحديث فرءوا صدقاً وخيراً "(14).
وقال ابن حبان: " كان يكتب عمن فوقه ومثله ودونه، ولو كان يتحمل الكذب لم يحتج إلى النزول فهذا يدل على صدقه(15) وقال العجلي: ثقة (16) وقال سفيان بن عيينة: أمير المؤمنين في الحديث (17).
أما من تكلموا فيه فمنهم مالك بن أنس الذي قال عنه: إنه كذاب(18) * وذكر يحيى بن معين عن يحيى القطان: أنه كان لا يرضى عن ابن إسحاق ولا يروي عنه(19) وقال أحمد بن حنبل: إنه كان لا يبالي عمن يأخذ عن الكلبي وغيره (20) وقال هشام بن عروة: كذاب (21) وقال أبو داود الطيالسي: حدثني بعض أصحابنا قال: سمعت ابن إسحاق يقول: حدثني الثقة، فقيل له: من؟ قال: يعقوب اليهودي (22) وهذه الرواية ليست دليلاً كافياً على الطعن في ابن إسحاق؛ لأنها عن مجهول، وقد تكون من المتحاملين عليه.
وقد حاول بعض العلماء دفع هذه التهم عنه، ومن هؤلاء إبراهيم بن المنذر شيخ البخاري الذي قال: وأما كلام مالك فلا يكاد يبين (23) أي ليس هناك ما يدل على أنه كذاب أو يبين ذلك، وابن المديني الذي قال: مالك لم يجالسه ولم يسمع منه(24).
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل في اتهام هشام لابن إسحاق أنه لم ير امرأته قط سألت أبي فقال: " ولمّ ينكر هشام؟ لعله جاء فاستأذن عليها فأذنت له ولم يعلم"(25).
أما من توسط فيه فابن سعد الذي قال: ثقة ومن الناس من تكلم فيه (26) وكذلك ابن نمير الذي قال: " إذا حدث عمن سمع من المعروفين فهو صدوق، وإنما أوتي من أنه يحدث عن المجهولين أحاديث باطلة "(27) أي سبب حمل الناس عليه، وأما ابن عدي فقال: " لو لم يكن لابن إسحاق من الفضل إلا أنه صرف الملوك عن الاشتغال بكتب لا يحصل منها شيء إلى الاشتغال بمغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومبعثه لكانت هذه فضيلة سبق بها "(28).
وقال الذهبي: " مجمل القول فيه أنه صالح صادق، وما انفرد به ففيه نكارة "(29) وقال السخاوي: " كان بحراً جماً في معرفة أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي السيرة عجائب ذكرها بلا إسناد وتلقفها، وفيها نفع كثير لمن له نقد ومعرفة "(30).
وهذان القولان الأخيران هما ما يعنينا في دراستنا التاريخية، فقارئ تراث ابن إسحاق يحتاج إلى أن يكون ذا نقد ومعرفة؛ حتى يستطيع أن يميز غثه من ثمينه.
التهم التي رمى بها ابن إسحاق *:
اتهم ابن إسحاق من بعض العلماء بتهم عديدة مثل التشيع، والميل إلى العباسيين، ومحاولة استرضائهم، والكلام في القدر، والتدليس في الحديث، والنقل عن كل من يقابله دون ورع، وأخذ كتب الناس ووضعها في كتبه دون سماعها، والرواية عن اليهود والنصارى، وأنه كانت تعمل له الأشعار، ثم يؤتى بها فيضعها في كتابه، فما مدى صحة هذه التهم؟ وهل لها تأثير على مروياته؟ هذا ما سأوضحه بعون الله وتوفيقه.
فأما بالنسبة لتشيعه، فهذا أمر ذكره كثير من القدماء، قال ابن المديني: سمعت ابن سعيد القطان يقول: كان ابن إسحاق والحسن بن حمزة وإبراهيم بن محمد كل هؤلاء يتشيعون، وقال أحمد بن يونس: أصحاب المغازي يتشيعون كابن إسحاق(31) ولعل هؤلاء قد استندوا في هذا إلى بعض ما نقله من روايات تتسم بسمة التشيع، أو تعبر عن أفكار الشيعة ووجهة نظرهم، ومن هذه الروايات:
ا- ما حدث به عن عبد الغفار بن القاسم عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أمر بتبليغ قومه أمر علي بن أبي طالب أن يجمع له قومه، ثم يصنع لهم طعاماً، وبعد أن فرغوا قال: " … فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي فيكم؟ قال: - أي علي بن أبي طالب- فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت وإني لأحدثهم سناً، وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقاً؛ أنا يا نبي الله، أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي ثم قال: هذا أخي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا، قال: فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع "(32).
ب- ما حدث به عن وهب بن كيسان عن عبد الله بن الزبير قال: " كنت مع أبي يوم اليرموك فلما تعبى استعد المسلمون لبس الزبير لأمته … فلما اقتتل المسلمون والروم نظرت إلى ناس وقوف على تل لا يقاتلون مع الناس، قال: فأخذت فرساً للزبير كان خلفه في رحله فركبته، ثم ذهبت إلى أولئك الناس فوقفت معهم، فقلت: أنظر ما يصنع الناس؛ فإذا أبو سفيان في مشيخة من قريش مهاجرة الفتح وقوفاً لا يقاتلون؛ فلما رأوني غلاماً حدثاً، فلم يتقوني.
قال: فجعلوا والله إذا مال المسلمون وركبتهم الروم، يقولون: إيه بلأصفر! فإذا مالت الروم وركبهم المسلمون، قالوا: يا ويح بلأصفر! فجعلت أعجب من قولهم، فلما هزم الله الروم ورجع الزبير، جعلت أحدثه خبرهم، قال: فجعل يضحك ويقول: قاتلهم الله! أبوا إلا ضغناً! وماذا لهم أن يظهر علينا الروم! لنحن خير لهم منهم "(33).
ج- عن رجل مجهول عن عكرمة عن ابن عباس قال: بينما عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في بعض أصحابه يتذاكرون الشعر، فقال بعضهم: فلان أشعر، وقال بعضهم: بل فلان أشعر، فقال عمر: قد جاءكم أعلم الناس بها، فقال عمر: من شاعر الشعراء يابن عباس؟ قال: فقلت: زهير بن أبي سلمى، فقال عمر: هلم من شعره ما نستدل به على ما ذكرت! فقلت: امتدح قوماً من … فقال: - أي عمر يابن عباس أتدري ما منع قومكم منهم بعد محمد؟ فكرهت أن أجيبه، فقلت: إن لم أكن أدري فأمير المؤمنين يدريني، فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتبجحوا - فتفتخروا - على قومكم بجحاً، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت، فقلت يا أمير المؤمنين: إن تأذن لي في الكلام وتمط عني الغضب تكلمت، فقال عمر: تكلم يابن عباس، فقلت: أما قولك يا أمير المؤمنين: اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت، فلو أن قريشاً اختارت لأنفسها حيث اختار الله - عز وجل - لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود.
وأما قولك: إنهم كرهوا أن تكون لنا النبوة والخلافة فإن الله - عز وجل - وصف قوماً بالكراهية فقال] (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُم) [(34) فقال عمر: هيهات والله يابن عباس! قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن أقرك عليها، فتزيل منزلتك مني، فقلت: وما هي يا أمير المؤمنين؟ فإن كانت حقاً فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك، وإن كانت باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه، فقال عمر: بلغني أنك تقول إنما صرفوها عنا حسداً وظلماً، فقلت: أما قولك ظلماً فقد تبين للجاهل والحليم، وأما قولك حسداً فإن إبليس حسد آدم ونحن ولده المحسودون، فقال عمر: هيهات! أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا حسداً ما يحول، وضغناً وغشاً ما يزول(35).
وإذا تأملنا هذه الروايات السابقة وجدناها تدل على أن قائلها يعتنق التشيع، ولكنها ليست دليلاً على اتهام ابن إسحاق بذلك، وأرجح أنه أوردها على سبيل الحكاية، وقد كان من عادته أن يحشد كل ما وصل إليه في كتابته .
كما أنه أورد روايات تناقض هذه الروايات تماماً، خذ مثلاً الرواية الأولى التي تحاول أن تثبت حق علي في الخلافة بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أول الدعوة الإسلامية، فإن ما أورده لأبي بكر الصديق يعارض ذلك تماماً، إذ ينص على أفضلية أبي بكر الصديق وأحقيته في الخلافة.
من ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته: ((انظروا هذه الأبواب اللافظة في المسجد فسدوها إلا بيت أبي بكر، فإني لا أعلم أحداً كان أفضل في الصحبة عندي يداً منه))(36) وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو كنت متخذاً من العباد خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صحبة وإخاء وإيمان حتى يجمع الله بيننا)) (37).
وما حدث به عن حمزة بن عبد الله بن عمر أن عائشة قالت: لما استعز برسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشتد به المرض - … قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، قالت: قلت: يا نبي الله إن أبا بكر رجل رقيق، ضعيف الصوت، كثير البكاء إذا قرأ القرآن، قال: مروه فليصل بالناس، قالت: فعدت بمثل قولي، فقال: إنكن صواحب يوسف، فمروه فليصل، قالت: فوالله ما قلت ذلك إلا لأني كنت أحب أن يصرف ذلك عن أبي بكر، وعرفت أن الناس لا يحبون رجلاً قام مقامه أبداً … "(38).
وفي رواية له عن الزهري أن عمر لما صلى بالناس وأبو بكر غير موجود قال رسول الله: " يأبى الله ذلك والمسلمون" قال: فبعث إلى أبي بكر، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة، فصلى بالناس"(39).
فإذا كان الله والمسلمون يأبون غير أبي بكر في الصلاة أيرضون غيره في الخلافة؟! وأما حديث ابن عباس مع عمر أقصد المنسوب إليه فيعارضه تماماً ما ذكره ابن إسحاق عن الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك عن ابن عباس " …خرج يومئذ علي بن أبي طالب يقصد يوم أن خطب رسول الله خطبته الأخيرة في صحوة الموت وكان قد خف ما به من مرض، فقال له الناس: يا أبا الحسن، كيف أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أصبح بحمد الله بارئاً.
قال: فأخذ العباس بيده ثم قال: يا علي، أنت والله عبد العصا بعد ثلاث، أحلف بالله لقد عرفت الموت في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما كنت أعرفه في وجوه بني عبد المطلب، فانطلق بنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن كان الأمر فينا عرفنا، وإن كان في غيرنا أمرناه فأوصى بنا الناس، فقال له علي: إني والله لا أفعل ذلك! والله لئن منعناه لا يؤتيناه أحد بعده "(40).
وأما حديث وهب بن كيسان الذي يطعن في إسلام أبي سفيان، ويظهر أن هوى ابن إسحاق لم يكن مع بني أمية، وأنه كان متحاملاً عليهم، فليس دليلاً كافياً على الطعن فيه بذلك، لأنه أورد كثيراً من الروايات لصالح الأمويين منها:
ا- ما ذكره أن أبا سفيان لم يكن موافقاً على غزوة بدر أو على القتال يوم بدر، إذ يقول: " ولما رأى أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش: إنكم خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم فقد نجاها الله، فارجعوا، فقال أبو جهل بن هشام: لا نرجع حتى نرد بدراً"(41).
ب- ما ذكره عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم في موقف أبي سفيان وزوجه هند بنت عتبة من هجرة زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد بدر إذ يقول: " حدثت عن زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: بينا أنا أتجهز بمكة للحوق بأبي لقيت هند بنت عتبه فقالت: يا بنت محمد، ألم يبلغني عنك أنك تريدين اللحوق بأبيك؟ قالت: فقلت: ما أردت ذلك فقالت: أي ابنة عمي لا تفعلي، إن كانت لك حاجة بمتاع مما يرفق بك في سفرك أو بمال تبلغين به إلى أبيك، فإن عندي حاجتك، فلا تضطني أي لا تستحي مني، فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال، قالت: والله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل "(42)، ويقول أبو سفيان في نفس الرواية لكنانة بن الربيع ": لعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة، وما لنا في ذلك من ثؤرة "(43).
وهذا معاوية بن أبي سفيان الذي صب عليه المتشيعون التهم صباً يقول عنه ابن إسحاق: إنه استعمل عبد الله بن زياد وقال له: " اتق الله، ولا تؤثر على تقوى الله شيئاً، فإن في تقواه عوضاً، وقِ عرضك من أن تدنسه، وإذا أعطيت عهداً ففِ به، ولا تبيعن كثيراً بقليل، ولا تخرجن منك أمراً حتى تبرمه، فإذا خرج فلا يردن عليك، وإن لقيت عدوك فكن أكثر من معك، وقاسمهم على كتاب الله، ولا تطمعن أحداً في غير حقه، ولا تؤيسن أحداً من حق له ثم ودعه"(44)، ولو كان ابن إسحاق شيعياً أو متشيعاً لما أورد مثل هذه الروايات. وقد ذكر بعضهم أنه يقدم علياً على عثمان رضى الله عنهما وإن صح هذا فلا شيء فيه، فأهل الشورى أنفسهم الذين عينهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كانوا مختلفين فيمن يقدمونه منهما، حتى قر قرارهم على عثمان - رضي الله عنه -، وهذا لم يمنعه من أن يذكر كثيراً من الأخبار في فضل عثمان ومناقبه، ومن ذلك:
أ- قوله عند حديثه عن الاستعداد لغزوة تبوك "وأنفق عثمان في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها "(45) وأما ما قاله الأعلمي -أحد علماء الشيعة- عنه: " إنه لم يكن عامياً أي من أهل السنة وإنما كان يخالط العوام "(46) فلا حجة فيه لأنه معروف عند الشيعة أنهم كانوا ينسبون إليهم من ليس منهم، خاصة إذا كان مشهوراً أو نابغاً.
وأما ما ذكره بعض المستشرقين أمثال هورفتش أنه كان يميل إلى العباسيين أو يحاول استرضاءهم(47) فإني أقول: إن ابن إسحاق أورد فعلاً مرويات مبالغاً فيها عن شخصية العباس بن عبد المطلب، والأدوار التي كان يقوم بها حتى قبل إسلامه، من ذلك ما رواه في قصة نذر عبد المطلب ذبح أحد أولاده ثم همه بذبح عبد الله " أن العباس هو الذي اجتذب عبد الله من تحت رجل أبيه حين وضعها عليه ليذبحه، فيقال: إنه شج وجهه شجاً لم يزل في وجهه إلى أن مات "(48) مع إن المشهور أن العباس كان يكبر رسول لله - صلى الله عليه وسلم - بثلاث سنين تقريباً، ومن ذلك أيضاً الروايات التي تحكي أدوار العباس يوم الفتح، وكيف أنه بات مهموماً حزيناً خوفاً مما قد يصيب قريشاً، ولكن ذلك لم يصل به إلى درجة وضع أو اختلاق الأخبار من أجل إرضاء بني العباس.

وأما اتهامه بأنه كان قدرياً فلم أجد له روايات تتعلق بهذا الأمر، وبحث ذلك مجاله العقيدة لا التاريخ، ويكفينا قول محمد بن عبد الله بن نمير: " كان ابن إسحاق يرمى بالقدر، وكان أبعد الناس منه "(49) وإن صح ما رمي به فهذا لا يوجب رد روايته إلا بضمينة أخرى كما قال ابن سيد الناس(50).
وكذلك اتهامه بالتدليس وهذا حق لا يوجب رد روايته فالتدليس " منه القادح في العدالة وغيره، ولا يحمل ما وقع فيه على التدليس القادح في العدالة "(51) وأما اتهامه بأنه كان يأخذ كتب الناس فيضعها في كتبه، فإن أهل المدينة كما قال الذهبي: كانوا يرون الأخذ عن الكتاب جائزاً (52).
كما أن هذا الأمر إن عيب في الحديث فإنه لا يعاب في كتابة التاريخ، ما دام ينسب الكلام إلى صاحبه أو مصدره.
وأما اتهامه بأنه كان يروي عن اليهود والنصارى، ويكتب عن كل واحد، فإنه فعل ذلك حقاً في حديثه عن بعض أخبار السابقين، ولعله كان مستنداً إلى قول رسول الله لله - صلى الله عليه وسلم -: " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج … "(53) وعذره في ذلك أنه لم يجد أمامه مصدراً آخر لهذه الأخبار غير ما يُروى عنهم.
وأما اتهامه بأنه كانت تعمل له الأشعار، ثم يدخلها في كتابه، فقد أشار إليها أبو عمرو الشيباني حين قال: "سمعت أبي يقول: رأيت ابن إسحاق يعطي الشعراء الأحاديث يقولون عليها الشعر"(54) صحيح أن في مرويات ابن إسحاق أشعاراً تبدو بعيدة عن الصحة مثل ما نسب لأبي طالب وعبد المطلب وغيرهما من القصائد الشعرية *، ولكني لا أظن أن الأمر قد وصل بابن إسحاق إلى الدرجة التي وصفه بها أبو عمرو الشيباني، لأنه لا مصلحة له في أن يشارك في مثل هذا الأمر، وهو رجل يشتغل برواية الحديث، وأرجح أن هذه الأشعار كانت تتردد على ألسنة رواة الأخبار أو القصاص فأخذها منهم ابن إسحاق وأدمجها في مروياته.
ــــــــــــ
الهوامش:
(1) ابن أبي حاتم الرازي: الجرح والتعديل جـ8 صـ192
* راجع الذهبي: سير أعلام النبلاء جـ7 صـ34 وما بعدها وتراجم رجال روى عنهم ابن إسحاق تحقيق المستشرق الألماني فيشر.
(2) الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد جـ1 صـ220.
(3) الذهبي: سير أعلام النبلاء جـ7 صـ37.
(4) السابق: جـ7 صـ39
(5) الذهبي: سير أعلام النبلاء جـ7 صـ36
(6) السابق جـ7 صـ36
(7) ابن سيد الناس: عيون الأثر جـ1 صـ25
(8) الكلاعي: الاكتفاء في مغازي رسول الله e والثلاثة الخلفاء جـ1 صـ4 تحقيق ا / مصطفى عبد الواحد. مكتبة الخانجي القاهرة سنة 1387 هـ
(9) الخطيب البغدادي تاريخ بغداد جـ1 صـ227 وهذا الكلام فيه مبالغة لأن ابن إسحاق ربما لم يعش هذه المدة، كما أن بعض علماء الجرح تكلموا فيه كما سنرى ولم يجمعوا على توثيقه
(10) السابق جـ1 صـ218
(11) السابق جـ1 صـ218
(12) الذهبي سير أعلام النبلاء جـ7 صـ36
(13) الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد جـ1 صـ220
(14) السابق: جـ1 صـ224
(15) ابن حجر: تهذيب التهذيب جـ9 صـ36
(16) محمد بن صالح العجلي: الثقات جـ2 صـ232 نشر
(17) الذهبي: سير أعلام النبلاء جـ7 صـ47
(18) البغدادي: تاريخ بغداد جـ1 صـ223
* كان مالك - رحمه الله - من أشد الناس قولاً في ابن إسحاق فمرة يصفه بالكذب ومرة بأنه دجال ومرة يقول: يا أهل الكوفة من يغت يفسد عليكم بعد ابن إسحاق. سير أعلام النبلاء جـ9 صـ38، 53 ولعل الذي جعل مالكاً يشن عليه هذه الحملة - والله أعلم - هو تساهله في رواية بعض الأخبار والقصص التي شاعت على ألسنة العوام من غير أهل العلم، وأكثرها بعيد عن الصحة، ومن جانب آخر أنه كان يروي عن أهل الكتاب أخباراً عن الأنبياء والأمم السابقة لا أصل لها، ورغم ذلك كان يجله كعالم.
(19) السابق: جـ1 صـ 227
(20)السابق: جـ1 صـ230 يبدو أن ابن إسحاق أخذ عن محمد بن السائب الكلبي بعض الروايات في الأنساب، ولا عيب في ذلك؛ لأن الكلبي كان حجة في ذلك ومقدماً على غيره.
(21) الذهبي: سير أعلام النبلاء جـ7 صـ48 وقد دافع الذهبي عن ابن إسحاق في هذا الاتهام وبين أن هشاماً لم يقل ذلك؛ لأن ابن إسحاق كان يكذب في حديثه، وإنما قصد بذلك أنه كذب في قوله أنه حدث عن امرأته. وقد قال ابن المديني: " الذي قال هشام ليس بحجة لعله دخل على امرأته وهو غلام فسمع منها " ابن سيد الناس: عيون الأثر جـ1 صـ17 وقد كانت زوجة هشام تكبر ابن إسحاق بقرابة أربعين عاماً
(22) الذهبي: ميزان الاعتدال جـ3 صـ476.
(23) ابن حجر: تهذيب التهذيب جـ9 صـ36
(24) ابن سيد الناس: عيون الأثر جـ1 صـ17
(25) الذهبي: سير أعلام النبلاء جـ7 صـ48
(26) ابن سعد: الطبقات جـ7 صـ321، 322، دار صادر بيروت
(27) الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد جـ1 صـ227
(28) الذهبي: سير أعلام النبلاء جـ7 صـ48
(29) الذهبي: ميزان الاعتدال جـ3 صـ477
(30) السخاوي: التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة جـ2 صـ477، 478 نشر أسعد طرابزوني الحسيني سنة 1980 م
* ردد كثير من الباحثين المعاصرين هذه التهم دون أن يكلفوا أنفسهم دراستها أو الاستدلال عليها اللهم إلا ما ذكر عن بعضهم من إشارات قليلة ومن هؤلاء ا / عبد العزيز الدوري: نشأة علم التاريخ عند العرب صـ29 وا/ شاكر مصطفى: التاريخ العربي والمؤرخون جـ1 صـ161 ود / عبد العزيز سالم: التاريخ والمؤرخون العرب صـ62 نشر مؤسسة شباب الإسكندرية سنة 1997 م.
([1]) ياقوت الحموي: معجم الأدباء جـ18 صـ6 وما بعدها.
(31) الطبري: جـ2 صـ321
(32) السابق: جـ3 صـ571، 572 وهذا الكلام بعيد عن الحقيقة؛ لأن الطبري ذكر عن سيف بن عمر أن أبا سفيان كان يسير يوم ليرموك، فيقف على الكراديس، فيقول: الله الله أنتم ذادة العرب، أنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم، أنصار الشرك، اللهم أنزل نصرك على عبادك! (الطبري: جـ4 صـ397
(34) سورة محمد الآية رقم 9
(35) الطبري: جـ4 صـ223، 224
* أعمر يقول هذا؟! وهو القائل قبيل الفتح للعباس كما أورد ابن إسحاق نفسه " والله لإسلامك كان أحب إلى من إسلام الخطاب لو أسلم وما بي إلا لأني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه من إسلام الخطاب … " ابن هشام: السيرة جـ2 صـ403.
** وهذا الفعل للأسف فشا بين جل المؤرخين بعده.
* (36)ابن هشام: السيرة جـ2 صـ649 والحديث في كتاب مجمع الزوائد للحافظ الهاشمي جـ9 رقم 14306 بلفظ الأبواب الشوارع بدلاً من اللافظة.
(37)السابق: جـ2 صـ650 والحديث في البخاري جـ2 رقم 3456
(38)السابق: جـ2 صـ652
(39)السابق: جـ2 صـ652 والحديث في سنن أبي داود رقم 4651.
(40) السابق: جـ2 صـ654
(41) السابق: جـ1 صـ618
(42)السابق: جـ1 صـ654
(43) السابق: جـ1 صـ655
(44) الطبري: جـ5 صـ296، 297 إنها لآلئ غاصت في قيعان البحار قلما يوصل إليها.
(45) ابن هشام: السيرة جـ2 صـ518
(46) الأعلمي: دائرة المعارف جـ26 صـ170 إصدار مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت جـ1 سنة 1391هـ
(47) انظر: يوسف هورفتش: المغازي الأولى ومؤلفوها صـ81
(48) ابن كثير: السيرة جـ1 صـ175
(49) الذهبي: سير أعلام النبلاء جـ7 صـ43
(50) ابن سيد الناس: عيون الأثر جـ1 صـ22
(51) السابق: جـ1 صـ22
(52) الذهبي: سير أعلام النبلاء جـ7 صـ41
(53) مجمع الزوائد: جـ1 رقم 919
(56) الذهبي: ميزان الاعتدال جـ3 صـ471 ولم أر أحداً من علماء الجرح والتعديل أيد مقولة أبي عمرو الشيباني هذه.
* أقول ذلك لأن هذه القصائد تحوي مفاهيم وقيم إسلامية لم تكن عرفت قبل البعثة.