وهل يلجُ (الجَمَلُ) في سَمّ الخياط؟


علاء الدين محمد المليباري




قبل البدء بسبر أغوار ظاهر الآية الكريمة في قوله -تعالى-: {حتى يلج الجمل في سم الخياط}، أريد تسليط الضوء على بعض العناصر المهمة المتعلقة بالإبل، وذكره في التراث العربي، والإسلامي، والكتب السماوية السابقة، والحضارة الأولى، ومن المفهوم لديننا أن الإبل من المخلوقات القليلة التي اعتمد عليها الإنسان اعتماداً كبيراً منذ القدم، وهو مخلوق نافع، حباه الله بقدرات فريدة، فأعطاه القوة على السير وسط الصحراء القاحلة، رغم نعومة الرمال وشدة الرياح، استأنس الإنسان بالجمل منذ عام 2000 قبل الميلاد، واستخدمه لنقل أغراضه، وبات وسيلة للارتحال والتنقل، ومن شدة اهتمام العرب بالإبل، فقد ذكروها في أشعارهم وتغنّوا بكثرتها وقدرتها على التحمل، وهنا أريد أن أدور رحى البحث حيال كلمة (الجمل)، وما تحتويه من معان وتفاسير نستدل بها لدحض الدعاوى الباطلة التي تقدم بها أمثال الدكتور علي منصور الكيالي، وغيره من المفكرين والإبداعيين.

حظ الإبل في الكتب السماوية والحضارات الأولى

عَمرت الإبل الأرض قبل خلق الإنسان بحوالي خمسين مليون سنة، وازدهرت ازدهاراً هائلاً في عصر (الإيوسين) المعروف باسم فجر الحياة الحديثة‏، والجمل العربي الذي يعيش في المناطق الصحراوية الجافة القاحلة الشديدة الحرارة في نهار الصيف‏ والشديدة البرودة في ليل الشتاء، قد استأنسه الإنسان من قبل أربعة آلاف إلى خمسة آلاف سنة في شبه الجزيرة العربية من مجموعة برية، كانت تعيش فوق هضاب حضرموت‏، وقد ثبت للدارسين والمراقبين، أن الجمل العربي هو بحق سفينة الصحراء، وأنه أصلح الوسائل الفطرية للسفر والحمل والتفضل في الأراضي الصحراوية الجافة.

الكتاب المقدس

وقد ورد ذكر الإبل في الكتب السماوية السابقة، ففي الكتاب المقدس نجد أن ملكة سبأ التي أتت إلى سليمان -عليه السلام- في موكب عظيم جدا بجمال محملة بالطيب والذهب والحجارة الكريمة، ويرد أيضاً في الكتاب المقدس أن البدو عموما يحملون على أكتاف الحمير ثروتهم وعلى أسنمة الجمال كنوزهم، وجاء في إنجيل متى: (أن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني ملكوت الله)، وذلك لأن الأغنياء- وهم من أفسد في الأرض وأشاعوا فيها الظلم والعداوة- يستحيل عليهم دخول الجنة- ملكوت الله- كاستحالة مرور الجمل من ثقب الإبرة.

الإبلُ في التراث العربي والإسلامي

تزخر الثقافة العربية بالكثير من الأدبيات المرتبطة بالإبل من مؤلفات وقصص وأشعار، ذلك أن الإبل ارتبطت - كما ارتبطت الخيل- بإنسان الجزيرة العربية ارتباطاً عضوياً، تحتمه طبيعة البيئة التي يعيش بها هذا الإنسان، فكان للإبل كما للخيل مكانة خاصة لديهم، فالإبل ترتبط بمناحي حياتهم ارتباطاً وثيقاً، وورد ذكر الناقة في القرآن الكريم في سبع آيات، ثلاثة منها مضافة إلى الله إضافة خلق إلى خالق تشريفاً وتخصيصاً في سورة الأعراف الآية 73، وسورة هود الآية 64، وسورة الشمس الآية 13، وثلاثة منها معرفة- بآل - في صورة الأعراف الآية 77، وفي سورة الإسراء الآية 59، وفي سورة القمر الآية 27، وواحدة منكرة في سورة الشعراء الآية 155، والمراد بها في جميع هذه الآيات ناقة صالح -عليه السلام-، أما الجمل فقد ورد مفرداً مرةً واحداً في القرآن في سورة الأعراف الآية 40: {وَلَا يَدْخُلُوْنَ الجَنَّةَ حَتّى يَلِجَ الْجَمَلُ في سَمِّ الخِيَاط}، فالمراد به الحيوان المعروف، وهو البعير.

مغالطات علمية وكونية

محاضرات علي الكيالي تحتوي على افتراءات علمية ومغالطات كونية، حيث يقول د. علي منصور الكيالي عن قول الله -تعالى- في الآية ٤٠ من سورة الأعراف: {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط}، أن معنى (الجمل) هنا هو الحبل الغليظ، واستشهد بآية أخرى هي قوله -تعالى- {كأنها جمالة صفر)، وقد جاء الدكتور كيالي بكثير من الخطأ الواضح والجهل الفاضح، وله لفتات مقبولة لكن بالمقابل، كذلك له أخطاء كثيرة ومن بين الأخطاء التي ساقها وأتى بها، ما كان منه في هذا المقطع عند حديثه عن (الجمل) في تفريقه بين الجمل والبعير أخطأ أخطاء عدة، وأشد منها جزمه بنفي بدهيات ظاهرة من كلام العرب، مما كشف به عن جهل كبير باللغة، وجرأة غير لائقة عليها، فمن ذلك زعمه أن جمع بعير هو إبل، ومعلوم أن إبل لا مفرد له من لفظه، وأما بعير فتجمع على جموع عدة منها: أباعر، وأبعرة، وبعران، وغيرها، وأخطر منها نفيه تسمية البعير الحيوان بالجمل، وهذا مثل نفي وجود الشمس أو القمر.

نفي تفسير الجمل

ومن أخطائه نفي تفسير الجمل في آيتي الأعراف والمرسلات بالبعير، مع أن هذا هو تفسير جمهور المفسرين واللغويين، وهو الأنسب لسياق الآيتين والظاهر من كلام العرب، فالقرآن نزل بلسان عربي مبين، وليس بالغرائب والغوامض والألغاز، أما التفسير بحبل السفينة، فقد أورده بعض المفسرين، ولكن عددا منهم أورده ليرده وينفيه ومن ذكره بلا نفي، ذكر أنه بضم الجيم وتشديد الميم، مما يعني أن لفظ الجمل بفتحتين هو البعير بلا تردد في تفسير الآية، وهو في اللغة من باب أولى، فتنبيهاً على مثل هذا الخطأ في فهم القرآن الكريم، فمن الواجب أن نوضح ولو بعبارات وجيزة، ليس من باب التهجم على شخص بعينه، ولكن من باب إيضاح الحقائق ورفع الإشكال وتوضيح ما يأتي به الدكتور علي كيالي من الكلام في التفسير بغير علم، والتلبيس على المشاهدين.

تفاصيل توضح الحقائق

وهناك تفاسير كثيرة تدل على أن المقصود بهذه الآية القرآنية، هذا الحيوان المعروف وهو البعير، وها أنا ذا أنقل إليكم بعض أقوال المفسرين المشاهير حتى يزول الإشكال وتتضح الحقيقة ويرجع الأمر إلى نصابه.

شيخ المفسرين

نبدأ بشيخ المفسرين الإمام الطبري في تفسيره، فبعد أن ذكر الروايات الكثيرة على الوجهين قال: «قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا، ما عليه قرأة الأمصار، وهو: {حَتّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ}، بفتح الجيم والميم من (الجمل) وتخفيفها، لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار.

الآلوسي في روح المعاني

ويقول الآلوسي في روح المعاني: (الْجَمَلُ) «هو البعير إذا بزل، وجمعه جمال وأجمال وجمالة، ويجمع الأخير على جمالات». وقد استجهلَ عبدالله بن مسعود رضي الله عنه مَنْ سأَلَهُ عن معنى الجمل، فقال: الجمل هو زوج الناقة! قال الإمام القرطبي تعليقاً على جواب ابن مسعود: «كأَنَّه استجهلَ مَن سأَلَهُ عمَّا يعرفهُ النَّاسُ جميعاً»، ومثله الحسن البصري عندما أكثروا في سؤاله عن معنى الجمل مع ظهوره أجابهم بقوله: هو الأُشْتُرُ، وهو البعير باللغة الفارسية! وأبو العالية في تفسيره للجمل قال: هو الجمل الذي له أربع قوائم، ومثله قال الضحاك بن مزاحم الهلالي، وابن عباس -رضي الله عنهما- شيخ المفسرين قال بهذا القول أيضاً، وهو القول المعتمد له، وقرأ ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والشعبـي (الْجُمَّلُ) بضم الجيم وفتح الميم المشددة كالقمل».

تيسير التفسير

وجاء في تيسير التفسير للعلامة محمد بن يوسف أطفيش قوله: (الْجَمَلُ) البعير الذكر إِذا بذل وقيل إِذا بلغ أَربع سنين، والبعير أَكبر ما ترى العرب من الحيوان، وقيل الحبل الغليظ من القنب، وقيل حبل السفينة والأَول هو الصحيح، وقد عنف الحسن السائل بقوله: إِنه ابن الناقة الذي يقوم في المربد على أَربع قوائم.

مفاتيح الغيب للرازي

وجاء في مفاتيح الغيب للرازي قوله: والجَملُ مشهور، وإنما خص الجملَ من بين سائر الحيوانات، لأنه أكبر الحيوانات جسماً عند العرب قال الشاعر: «جسم الجمال وأحلام العصافير»، فجسم الجمل أعظم الأجسام، وثقب الإبرة أضيق المنافذ، فكان ولوج الجمل في تلك الثقبة الضيقة محالاً.

التحرير والتنوير

وجاء في التحرير والتنوير لابن عاشور: (والجَمَل) قوله: البعير المعروف للعرب، ضُرب به المثل، لأنّه أشهر الأجسام في الضّخامة في عرف العرب، والقرآن أحال على ما هو معروف عند النّاس من حقيقة الجَمل وحقيقة الخِياط، ليعلم أنّ دخول الجمل في خَرْت الإبرة محال متعذّر ما داما على حاليهما المتعارفين.

جماهير المفسرين

وجمهور المفسرين فسروا (الجمل) في الآية التي في سورة الأعراف بمعنى البعير، وهو الحيوان المعروف، لأنّه المعنى المتبادر المشهور المستفيض في لغة العرب للجَمَل، وأشعار العرب في الجاهلية، وفي الإسلام تدل على أن الجَمَلَ هو البعير، وأما القول بأن الجمل هو الحبل الغليظ الذي تشد به السفينة، فهو قولٌ قال به بعض المفسرين بناء على قراءة شاذة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره، حيث قرؤوا (الجُمَّلُ) بضم الجيم، وتشديد الميم وفتحها، وقرأ بعضهم بضيم الجيم وفتح الميم، دون تشديد ومعناه على هذه القراءة الشاذة الحبل الغليظ الذي تُشَدُّ به السفينةُ وغيرها.

القراءة الصحيحة

فنحن نلاحظ أنَّ التفسير الصحيح والقراءة الصحيحة منسجمة مع بعضها، فالقراءة التي قرأ بها جميع القراء العشرة التي تواترت قراءتهم هي (الجَمَلُ) بفتح الجيم وفتح الميم بمعنى الحيوان البعير المعروف، وأما التفسير بأنه الحبل الغليظ، فهو على القراءة الشاذة التي لا يجوز القراءة بها، وبهذا يتضح الخطأ الذي وقع فيه الدكتور كيالي في زعمه أن التفسير الصحيح للجمل هو الحبل الغليظ، لأنه هو الذي ينسجم - حسب رأيه - مع سم الخياط وهو ثقب الإبرة، وأُصولُ التفسيرِ تُلزمُنا بأنْ نعتمدَ المعنى الذي قال به جمهور السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم، وهو الذي يتوافق مع اللغة العربية وهي لغتهم، وهم أصحابها وأولى الناس بتفسيرها.

كتب التفاسير

وفي نهاية المطاف، لو تصفحنا كتب التفاسير جميعها لوجدنا القول الذي أشرنا إليه آنفا لم يشذ عن ذلك، إلا القليل ممن يحسبون على أصابع اليد، وفيما نقلناه من هذه التفاسير غنية عن سردها كلها، هذا ما يسر الله لنا تسطيره وبيانه توضيحا للحقيقة وكشفا للإشكال واللبس ورد البيان القرآني إلى نصابه.