الآيات الكونية وفريضة التفكير


عمر بلقاضي





الإسلام دين يوازن بين جوانب الشخصية الإنسانية من مادة (جسم) وعقل (فكر وعلم) وروح (إيمان وأخلاق)، ويبني حضارة المسلم على أساس تلك الموازنة، وهو بذلك يرد البشرية الى الفطرة، ويصحح ما وقعت فيه الأمم السابقة من انحراف، فمن مميزات الإسلام أنه أسس عقيدته على النظر العقلي السليم الذي ينطلق من العالم المادي المحسوس، إلى العالم الروحي الغيبي بعملية عقلية، هي التفكير بالاعتماد على الحواس قال -تعالى-: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السّمع والإبصار والأفئدة لعلّكم تشكرون}(النحل 78)، فبهذا التفكير والنظر في المادة يستفيد المسلم الإيمان، كهدفاً أساسياً كما يستفيد فهم المادة وقوانينها فيتطور ماديا، وهذه النظرة الإسلامية هي التي سار بها المسلمون الأوائل، فأثمرت حضارة رائدة سادت بها الأمة الإسلامية على الأمم الأخرى.
لكن وقع الانحراف بعد ذلك، إذ تفكك ذلك الثلاثي المنسجم المتكامل: (المادة، والعقل، الروح)، فانقسم المسلمون الى ثلاث فئات: فئة المادة التي لا روح معها ولا عقل ويمثلها عباد الشهوات من ملوك وأمراء وأثرياء مترفين ومن يدور في فلكهم، وفئة الروح التي لا مادة معها ولا عقل، وهي فئة المتصوفة الذين أهملوا العلم والفكر واعتمدوا على الذوق والفتح الذي يكون في كثير من الأحيان نزغا من الشيطان لا فتحا من الرحمن، وأهملوا العلم والعمل الى الجهالة والبطالة والكسل, وفئة العقل التي لا روح معها ولا مادة وهم الذين تأثروا بالفلسفة اليونانية النظرية، فبثت فيهم الشك الذي حرمهم من حلاوة اليقين، وشغلتهم بالجدل الفارغ عن استغلال ما سخر لهم من موجودات الكون وظواهره، بسبب تخليهم عن المنهج القرآني المبني، كما أسلفت على الملاحظة والتأمل للموجودات والظواهر {قل انظروا ماذا في السّماوات والأرض}.
تقهقرت الأمة الإسلامية
وبذلك تقهقرت الأمة الإسلامية وذهب ريحها، وها هي ذي الآن تتخبط وتترنح وهي تريد النهوض والوقوف، ولم تهتد بعد الى سبيل يمكنها من ذلك، رغم وضوحه في كتاب الله، فها هي: تتأرجح بين المنهج المادي الغربي، أو المنهج الصوفي المتأثر بالرهبانية المسيحية، أو الهندوسية، لأنه لا رهبانية في الإسلام، وما لم ترجع الى كتاب الله، فلن تنهض أبدًا.
السبيل الذي رسمه القرآن الكريم
وفي هذا البحث أحاول أن أبرز السبيل الذي رسمه القرآن الكريم للمسلم في الحياة ليسمو ويسعد روحيا وماديا بدعوته الى استخدام العقل واعتماد التفكر والنظر في الكون, منطلقا من كلمة (آية) التي تكررت كثيرا في القرآن، حيث ذكرت فيه بصيغة المفرد والجمع: (آية , آيات) في أكثر من 230 موضعا، مما يدل على مدى أهميتها في الدين.
مفهوم الآية
فما مفهوم الآية في القرآن وما سر عنايته بها؟ الآية في اللغة العلامة والبينة، فآية الشيء العلامة التي تدل عليه جاء في القرآن الكريم: {إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت}(البقرة: 248)، أي علامة ملكه عليكم، وفي سورة مريم حكاية عن زكريا: {قال رب اجعل لي آية}(ال عمران: 41)، وفي الحديث النبوي الشريف: «آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب , وإذا وعد أخلف, وإذا اؤتمن خان». أي علامات نفاقه، وتأتي الآية بمعنى الشيء الباهر المثير للإعجاب لجماله، أو دقة صنعه، أو كبر حجمه، جاء في القرآن الكريم: {أتبنون بكل ريع آية تعبثون}(الشعراء: 128).
الآية في الاصطلاح القرآني
تطلق الآية في القرآن الكريم على معاني عدة لا تخرج عن المعنى اللغوي العام، هذه المعاني هي: الآية بمعنى الجملة القرآنية المعلمة في المصحف الشريف بالأرقام قال -عزوجل-: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} (هود: 1)، «وقال -تعالى-: {طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين}(النمل: 1)، وقال -تعالى-: {ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون}(المؤمنون : 105)، وقال -تعالى-: {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا}(الانفال: 2).

جمل القرآن
وقد سميت جمل القرآن آيات، لأنها بينات تدل على الحق والهدى لما تنطوي عليه من إعجاز بياني وتشريعي وعلمي ونفسي، ويكفي أن القرآن يتحدى الإنس والجن أن يأتوا بمثله والتحدي, قائم والعجز دائم، قال -عزوجل-: {لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا}(الاسراء: 88)، وفي سورة البقرة قال -تعالى-: {يأيها الناس إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فان لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين}(البقرة : 23)، فالقرآن الكريم هو البينة الكبرى لمحمد صلى الله عليه وسلم التي تثبت أنه نبي مرسل، وقد أمر -عز وجل- بتدبره أي التفكر في معانيه ومبانيه، فقال -سبحانه-: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب إقفالها}(محمد: 24).
الآية بمعنى المعجزة
القرآن الكريم يسمي معجزات الأنبياء السابقين آيات، لأنها تدل على صحة نبوتهم -عليهم السلام-، مثل ناقة صالح، عصى موسى، إحياء الموتى بالنسبة لعيسى، ومن الآيات الدالة على ذلك قوله -عزوجل- عن نوح -عليه السلام-: {فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين}(العنكب وت: 15)، وقال -تعالى- عن ناقة صالح: {ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية}(هود: 64)، وعن معجزات موسى -عليه السلام- قال -تعالى-: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات}(الاسراء: 101)، وقال -تعالى- عن عيسى -عليه السلام-: {وجعلنا ابن مريم وأمّه آية وآويناهما الى ربوة ذات قرار ومعين}(المؤمنون: 50). الآية بمعنى العبرة.
كالعبرة بما حدث للأمم السابقة، قال -تعالى- عن قوم سبأ: {فجعلناهم أحاديث ومزّقناهم كل ممزّق إنّ في ذلك لآيات لكل صبّار شكور}(سبا: 19)، وقال عن الأمم السابقة عموما: {أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إنّ في ذلك لآيات أفلا يسمعون}(السجدة: 26)، وقال -تعالى- عن فرعون: {فاليوم ننجِّيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وان كثيرا من النّاس عن آياتنا لغافلون}(يونس:92).
السنن الكونية
وتأتي الآية بمعنى المخلوقات والظواهر والسنن الكونية: كالكواكب والأرض والكائنات الحية حتى الحشرات وما يتعلق بها من وظائف وأحوال , والظواهر الطبيعية، كالرعد، والبرق، والرياح، وإنزال المطر، وإنبات النبات....ـ إلخ.
تفصيل القرآن الكريم
والملفت للانتباه أن القرآن فصل في ذلك تفصيلا، فما من شيء في الأرض أو في السماء إلا عدّة من الآيات ودعا العقلاء الى تأمله وفهم أسراره، والآيات القرآنية في ذلك كثيرة جدا منها، قول الله -تعالى- سورة البقرة: {إنّ في خلق السّماوات والأرض واختلاف اللّيل والنّهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع النّاس وما أنزل الله من السّماء من ماء فأحيى به الأرض بعد موتها وبثَّ فيها من كل دابَّة وتصريف الرياح والسّحاب المسخّر بين السّماء والأرض لآيات لقوم يعقلون}(البقرة: 164)، وقوله -تعالى- في سورة الروم: {ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون، ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون، ومن آياته خلق السّماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنّ في ذلك لآيات للعالِمين، ومن آياته منامكم باللّيل والنّهار وابتغاؤكم من فضله إنّ في ذلك لآيات لقوم يسمعون، ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزِّل من السّماء ماء فيحي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}(الروم: 21-24).
تسمية القرآن الكريم
وقد سمى القرآن الكريم هذه المخلوقات والظواهر الطبيعية (آيات) أي دلائل وبينات، لأنها بدقة صنعها وبديع خلقها تدل على الخالق وقدرته وحكمته ورحمته، فهي معجزات أعظم من الخوارق التي كان الأنبياء السابقون يؤيدون بها في عصور بدائية العقل البشري، فانظر مثلا الى جنين يخرج من بطن أمه كائنا سويا من سواه؟ انظر الى الثمار المختلفة من أخرجها بتلك الصور الجميلة والروائح الزكية والأذواق اللذيذة؟ أليست معجزات كالعصا التي تحولت الى حية, والناقة التي خرجت من حجر؟
الذين ينتفعون بالآيات الكونية
لكن من الذين ينتفعون بالآيات في الكون فتدلهم على الله فيؤمنون به ويخضعون له بظهر الغيب؟ يجيب القرآن الكريم على هذا التساؤل فيما يلي:
الذين يعقلون
أي يستخدمون عقولهم في طلب الحق، فيفكرون فيه ويستدلون عليه بآيات الكون، ويتجاوزون بتفكيرهم حدود المحسوس المألوف إلى ما وراءه من الغيب، كالاستدلال بالمصنوع على وجود الصانع وبعض صفاته، كالخبرة والحكمة، قال -تعالى-: {إنّ في خلق السّماوات والأرض واختلاف اللّيل والنهار....لآيات لقوم يعقلون}(البقرة)، وقال -تعالى-: -{وسخَّر لكم اللّيل والنّهار والشّمس والقمر والنّجوم مسخرات بأمره إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون}(النحل: 12)، وقال -تعالى-: {وفي الأرض قطع متجاورات وجنّات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضِّل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}(الرعد: 4).
الذين يتفكرون
ومن الآيات الدالة على ذلك: قوله -تعالى-: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا، إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}(الروم)، وقال -تعالى-: {وهو الذي مدَّ الأرض وجعل فيها رواسي وانهارا ومن كلِّ الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النّهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}(الرعد: 3).
أولو الألباب والأبصار والنهى
أي أصحاب العقول الذين يستخدمون عقولهم جاء في القران، قال -تعالى-: {إن في خلق السّموات والأرض واختلاف اللّيل والنّهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكّرون في خلق السّماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار}(آل عمران: 191،) وقال -تعالى-: {يقلب اللّيل والنّهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار}(النور: 44)، وقال -تعالى-: {الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السّماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتَّى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النُّهى}(طه 53-54)، وقال -تعالى-: {أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لألي النُّهى}(طه: 128).
الذين يسمعون
أي يأخذون قول الداعي إلى الله (وأكبر داع هو القرآن) مأخذ الجد والاهتمام ولا يتجاهلونه، بل ينصتون إليه ويعملون الفكر فيه، فالسماع هنا ليس مجرد تلقي الصوت، بل هو التمعن في المسموع, قال -عز وجل-: {هو الذي جعل اللّيل لتسكنوا فيه والنّهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون}(يونس: 67).
الذين يعلمون
قال -تعالى-: {هو الذي جعل الشّمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السِّنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحقِّ يفصل الآيات لقوم يعلمون}(يونس: 5)، وقال -تعالى-: {ومن آياته خلق السَّماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنّ في ذلك لآيات للعالِمين}(الروم : 22).
الذين يصبرون ويشكرون
أي يتحملون عناء جهود البحث، لأن طلب الحق يتطلب جهدا فكريا ونفسيا وبدنيا وصبرا على ذلك , ثم هم يفعلون ذلك من أجل الاعتراف بالفضل لصاحبه، أي لله وهو الشكر قال -تعالى-: {الم تر أنَّ الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبَّار شكور}(لقمان: 31)..
الذين يؤمنون ويوقنون
أي يعتقدون الحق فيزدادون تعظيما لله -تعالى- كلما ازدادوا معرفة بأسرار خلقه وفي ذلك قال الله -تعالى-: {وهو الذي أنزل من السّماء ماء فأخرجنا به نبات كلِ شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حباً متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجَّنات من أعناب والَّزيتون والرُّمَّان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون}(الانعام: 99)، وقال -تعالى-: {وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون}(الذاريات : 20).
الذين يتقون

أي يخشون الوقوع في الهلاك إذا هم تركوا البحث عن الحق قال -عز وجل-: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ}(يونس : 6).
المتوسمون
وهم الناظرون باعتبار, والمتفكرون, المتبصرون الذين لهم فراسة في معرفة الحق من دلائله وآياته قال -تعالى- عن قوم لوط: {فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين}(الحجر : 74-75)، فالقران الكريم يلح في دعوته العقلاء إلى النظر والتأمل والتفكير في المخلوقات مستعملا أساليب عدة، نذكرها في الحلقة القادمة إن شاء الله.