حذارِ من تزيينِ بيتكَ بالصّور والتّماثيل!
أ.د. حسن عبد الغنيّ أبوغدَّة



شرع الله تعالى للأسرة مجموعة من الأحكام والآداب البيتية التي ينبغي عليها الالتزام بها والتصرف في ضوئها، وتكييف حياتها المنزلية من خلالها. ولا شك أنّ هذه الأحكام تقوم أساساً على قاعدة الخضوع الكامل لأوامر الله، والحرص على رضوانه، والبعد عن مخالفة شريعته.
ومما يتصل بهذه الأحكام والآداب المنزلية، موضوع اتّخاذ الصور والتماثيل وتزيين البيوت بها. فقد اتَّفقت أقوال علماء الإسلام، على تحريم اتخاذ الصور المجسدة، أو ما يُسمّى بالتماثيل التي لمثلها في الخلق أرواح وحياة. وذلك كتماثيل الرجال والنساء والأسود والغزلان ونحوها، من الحيوانات الأخرى. كما ذكر العلماء أنه يحرم صنعها وبيعها وشراؤها، وكذا وضعها في البيوت والمكاتب وغير ذلك من الأماكن الخاصّة أو الساحات العامّة، سواءٌ كان لهذه التماثيل ظلٌّ يدوم ويبقى ببقاء مادة الصّنع كالتماثيل المصنوعة من الحجر والنحاس والبرونز، وغيره من المواد الصلبة والمعادن، أو كان لها ظل لا يدوم ولا يبقى لجفاف مادة الصنع أو ذوبانها كالتَّماثيل المصنوعة من العجين والحلويات والشموع ونحوها.
واستدلّ العلماء على تحريم هذه الأنواع من التماثيل ذات الأرواح بالحديث المتّفق عليه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ الّذين يصنعون هذه الصور، يُعذّبون يوم القيامة، يُقال لهم: أحيوا ما خلقتم". وروى الإمام أحمد عن عليٍّ رضي الله عنه، قال: "كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، في جنازة فقال: أيُّكم ينطلق إلى المدينة، فلا يدعُ بها وثناً إلا كسّره"، ومن المؤكد أنَّ التماثيل تشتمل على معنى الوثنية، لأنها تُتخذ على سبيل التعظيم والتبجيل، بدليل أنها توضع في أماكن مرموقة في البيوت والمكاتب والإدارات والساحات العامة، ولأجل هذا حرّم الإسلامُ اتّخاذها وصنعها ونصبها، ونحو ذلك.
غير أنّ العلماء استثنوا من هذا التحريم لُعَب الأطفال والتماثيل التي ليس لها روح، كتماثيل الأشجار والبيوت والمساجد ونحوها من الأماكن الطبيعية، إذ يجوز صنعها وبيعها وشراؤها واتِّخاذها لكونها عديمة الروح، ولا يظهر فيها أثر التعظيم والتبجيل، فضلاً عن أنّ لعب الأطفال تحقق للأبناء، وبخاصّة الإناث فرص التدريب على أساليب تربية الأولاد، والتعامل معهم، والأنس بهم، والانشغال البريء باللهو معهم، ونحو ذلك من الممارسات التربوية البعيدة عن فكرة التَّعظيم والتَّقديس، لأنَّ هذه اللعب غالباً ما يُلقي بها الأطفال في أماكن مهملة، وتكون في موضع امتهان من الطفل وأسرته. روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت ألعب بالبنات _أي اللعب المصنوعة من قماش وجلد على هيئة البنات- فربما دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندي صواحبي". وروى أبو داود والنسائي عن عائشة أيضاًّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من غزوة خيبر، وفي سهوتها سِتر -أي على كُوّتها ستارةٌ من القماش- فهبّت الريحُ فكشفته عن لُعبٍ لعائشة، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي، ورأى بينهنّ فرساً له جناحان من رِقاع -أي من خرق- فقال: ما هذا الّذي أرى وسطهنّ؟ قالت: فرس. قال: وما هذا الَّذي عليه؟ قالت: جناحان. قال: فرسٌ له جناحان؟ قالت: أما سمعتَ أنّ لسليمان خيلاً لها أجنحة؟ قالت: فضحك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، حتى بدت نواجذه.
أمَّا في صناعة التَّماثيل ذات المناظر الطبيعية، فروى مسلم أنّ رجلاً جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فقال: إنّي أصوّرُ هذه الصور -أي أصنع هذه التماثيل- فأفتنُّ فيها -أُبدع بمهارتي وخبرتي- فقال له ابن عباس: اُدنُ منِّي، فدنا منه، ثم أعادها فدنا منه، فوضع يده على رأسه، فقال: أنبئك بما سمعتُ: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلُّ مصوّرٍ في النَّار، يُجعل له بكلّ صورة صوّرها، نفسٌ فتُعذّبه في جهنم" ثم قال له: إن كنت لا بدّ فاعلاً؛ فاصنع الشجر، وما لا نفس له.
هذا عن حكم التماثيل صناعةً واستخداماً، واتّخاذاً وتزييناً للأماكن، أمَّا الصور غير المجسدة، كالصور التي تطبع على الأقمشة والسجاد والوسائد والأوراق، ونحوها مما ليس لها ظل، فقد تعددت فيها أقوال العلماء، ما بين قائل بحرمتها كالتماثيل، وما بين قائل بكراهتها أو إباحتها. ويرى بعض العلماء: أنّها كانت ممنوعةً في أول الإسلام، ثمّ رُخّص فيها بعد ذلك، إذا لم توضع في مكانٍ على وجه التعظيم، بل في مكانٍ ممتهنٍ مهمل، وذلك كاتّخاذ الصور على الوسائد التي يُتّكأ عليها، والبُسُط التي يُداس أو يُقعد عليها، ونحو ذلك من المواضع التي لا يُلاحَظ فيها معنى الاحترام والتقديس والتبجيل. أما لو اتُّخذت هذه الصُّور التي لا ظلال لها بقصد التعظيم، وعُلقت في الجدران، أو وضعت على المكاتب، ونحوها من المواضع الملفتة للنظر والمسترعية للانتباه والاحترام؛ فتُصبح من الأمور المنهيِّ عنها، والتي ينبغي على المسلم أن يجتنبها، ولا يفعلها ورعاً.
واستدلَّ العلماء لما تقدم، بما رواه النسائي وابن حبان في صحيحه: أن جبريل استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخل. فقال جبريل: كيف أدخل وفي بيتك سترٌ فيه تصاوير، فإن كنت لا بدَّ فاعلاً؛ فاقطع رأسها، أو اقطعها وسائد، أو اجعلها بُسُطاً. وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في غزواته، فأخذتُ نمطاً -أي قماشاً فيه تصاوير- فسترته على الباب، فلما قدم فرأى النمط عرفت الكراهية في وجهه، فجذبه حتى هتكه أو قطعه، وقال: إنَّ الله لم يأمرنا أن نكسوَ الحجارة، أو الطين. قالت: فقطعت منه وسادتين، وحشوتُهما ليفاً، فلم يَعب ذلك عليّ". ويتَّضح من هذا الحديث والذي قبله: أنَّ الممنوع من الصُّور التي ليس لها ظلٌّ، ما كان معلقاً على وجه التَّعظيم، أمَّا إذا فُرشت وامتُهنت فلا بأس فيها.
على أنَّه ينبغي للمسلم، أن يُنزِّهَ بيته ومكتبه ومواضع جلوسه، من عامة مظاهر تعظيم الأشخاص، ولو كانوا آباءه، فلا يتخذ لهم صوراً يُعلِّقها بدعوى الذِّكرى والترحم عليهم، لما تقدم من أحاديث تنهى عن فعل ذلك ، فضلاً عن أنَّ هذا التصرف، يُفقد البيت بركته، ويُقلل من الخير المصاحب لتنزل الملائكة. روى أبو داود والنسائي وأحمد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورةٌ ولا كلبٌ ولا جُنب".
هذا، ومما له صلة بحياة الأسرة المنزلية: ستر الجدران، حيث لا ينبغي للمسلم الاستكثارُ من ستر حيطان داره، وتغطية جدرانها بالستور، من الأقمشة والسجاد وغيره، لما في هذا من السرف الزائد المنهيّ عنه، إلا ما دعت الحاجة إليه، كوضع ستارة لدفع حرٍّ أو برد، أو منع أشعة شمس، أو منع نظر إلى داخل البيت، لحديث مسلم الآنف الذكر عن عائشة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لها:" إنَّ الله لم يأمرنا أن نكسوَ الحجارة أو الطين"، وروى البخاري وأحمد والطبراني، أنّ عبد الله بن عمر دعا أبا أيوب؛ فرأى في البيت ستراً على الجدار، فقال: يا عبد الله، أتسترون الجدر؟ فاستحيا ابن عمر، وقال: غلبنا عليه النساء. قال أبو أيوب: من كنت أخشى عليه، فلم أكن أخشى عليك، والله لا أطعم لك طعاماً، فرجع.
وهكذا ينبغي للمسلم، أن يلاحظ محتويات بيته، ويُنزِّهه عما لا ينسجم مع توجيهات الإسلام ومقاصده، في تربية الإنسان على إخلاص العبودية لله وحده، وإفراده سبحانه بالتقديس والتعظيم، والبعد بنفسه وبأسرته عن المظاهر الجاهلية وأسباب الاستكبار. غير أنّ هذا لا يمنع المسلم من أن يُجمل بيته، ويزيّنه بالمباحات من المزروعات والصور الطبيعية، والمناظر التي تدخل على نفس المسلم الراحة والهدوء، وتساعده على مزيد من النشاط في طاعة الله ونفع الناس.