الدعاة.. والتربية على حب الورع
خالد روشه


الورع اجتناب الشبهات؛ خوفًا من الوقوع في المحرمات, وهو ملازمة الأدب وصيانة النفس، وملازمة الأعمال الحميدة، بموافقة الشرع والعرف والمروءة, وكذا اجتناب الشبهات خوفاً من الوقوع في المحرمات, فهو ملازمة الأعمال الجميلة، وكف الأذى وكف اللسان.

قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((خير دينكم الورع)) رواه البيهقي وصححه الألباني في صحيح الجامع, قال ابن القيم: "والفرق بينه وبين الورع: أنَّ الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة. والورع ترك ما يخشى ضرره في الآخرة".
قال المناوي: "لأنَّ الوَرِع دائم المراقبة للحقِّ، مستديم الحذر أن يمزج باطلًا بحقٍّ، كما قال الحبر: كان عمر كالطير الحذر، والمراقبة توزن بالمشاهدة، ودوام الحذر يعقب النجاة والظفر".
وعن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- قال: حفظت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإنَّ الصدق طمأنينة، وإنَّ الكذب ريبة)) أخرجه الترمذي.
قال ابن حجر: المعنى إذا شككت في شيء فدعه، وترك ما يُشَكُّ فيه أصل عظيم في الورع... قال الخطابي: كلُّ ما شككت فيه، فالورع اجتنابه.
إن التربية على العبودية يلزمها بقدر كبير أن يتدرب القلب على الأنس بالله سبحانه, وخلوه من إرادة العلو في الدنيا ولا الفرح بها.
فالقلب الذي تعود كسر القيد عن رغبات النفس والهوى من الغنى لأجل المال والعلو لأجل الذكر وغيره هو القلب الذي يسهل تربيته وتقويمه, أما القلوب التي قد ربيت على حب المتاع والشهوات فإنما هي قلوب مستعصية على التقويم.
إن المربين بحاجة أن يتقنوا فن التخلص من التعلق القلبي من الرغبات والهوى الشخصي والمصلحة الذاتية وهي أمر دفين في داخل النفس.
وللأسف يظهر ذلك ويبدو من خلال تعامل المربي مع تلاميذه ومتعلميه مهما حاول المربي إخفاءه إلا أن يحاول علاجه.
من هنا صار تعليم الورع شيئاً مستحباً لأولئك الذين قد يصيرون قادة وقدوات, فحيث علمناهم ههنا معنى أن تظل نفوسهم عفيفة كريمة عن الزخارف والزينات سيخرجون متعالين عن دنو المقامات, ولن تأسرهم الأموال ولا المراكز والوظائف.
يقول الامام بن القيم: قال لي يوماً شيخ الاسلام ابن تيمية في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العلية، وإن لم يكن تركه شرطاً في النجاة، ثم يقول ابن القيم: "فالعارف يترك كثيراً من المباح إبقاء على صيانته، ولا سيما إذا كان ذلك المباح برزخاً بين الحلال والحرام" مدارك السالكين.
وقد أحسن النابلسي؛ إذ يقول تعليقاً على قوله سبحانه: (وثيابك فطهر): فالمقصود من الورع أن يُطهَّر القلب من الدنس كما يُطهر الماء دنس الثوب، والشيء الغريب: أن بين الثياب والقلوب مناسبةً ظاهرة، فالثياب تدل على قلب الإنسان وحاله، لأن الإنسان يرتدي ثوباً من عمله, فإخلاصه هو ثوبه، وغشُّه ثوب، تواضعه ثوب، كبره ثوب، فهناك مناسبةٌ بين القلب وبين الثياب، فالمقصود بالورع تطهير القلب من الدنس.
ورؤية أخرى للورع وجانب آخر له يبينه النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ)) أخرجه الترمذي, فالمؤمن ناظر لهدفه الأسمى, مهمل لتافهات الأمور, متابع لشأن نفسه, منشغل عن شأن غيره إلا في مرضات الله.
قال أبو الدرداء: (تمام التقوى أن يتقي اللهَ العبدُ، حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال، خشية أن يكون حرامًا، حجابًا بينه وبين الحرام).
وقال الحسن: (ما زالت التقوى بالمتقين؛ حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام).
وقال الثوري: (إنما سموا المتقين؛ لأنهم اتقوا ما لا يُتَّقى. ورُوي عن ابن عمر قال: إني لأحبُّ أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها).
وقال ميمون بن مهران: (لا يسلم للرجل الحلال؛ حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزًا من الحلال).
فهي إذن الصيانة التي نريدها لشبابنا يوم يصيرون في مقدمة الركب, فلنحذر ونحن في صعود الجادة أن تستهوينا بعض مناظر الأرض الجذابة، فنقف لنلتفت للوراء لإشباع رغبة داخلية فنتأخر عن الصعود، ذلك إن لم نهو إلي الأرض بعد أن صعدنا منها.
يذكر المؤرخون أن يحيى بن يحيى الذي لقبه مالك بعاقل الأندلس كان يوما عند مالك في جملة أصحابه؛ إذ قال قائل: قد حضر الفيل، فخرج أصحاب مالك لينظروا إليه وبقى يحيى في مكانه ولم يتحرك, فقال له مالك: لم تخرج فترى الفيل، لأنه لا يكون بالأندلس، فقال له يحى: إنما جئت من بلدي لأنظر إليك وأتعلم من هديك وعلمك ولم أجئ لأنظر إلى الفيل فأعجب به مالك وسماه (عاقل أهل الأندلس) طبقات الفقهاء, لا شك إنه من المباح مشاهدة ذلك.. ولكن وقت المربي أضيق من أن يشغل شيئاً منه في مباح لا يجني من ورائه شيئاً لقضيته التي تشغله ليل نهار.
وإنه من المباح شراء السيارات الفارهة والسكنى في القصور، ولكن.. لا يدري ذلك المربي القدوة أن وراءه أتباعاً يتساءلون عن مدى إقباله على المتاع الذي لطالما نصحهم بالتقلل منه؟!
أشياء كثيرة نقترفها أمام من نربيهم، ثم نشتكي من تغير أحوالهم, وننسى أننا من المتسببين في هذا التغير السلبي بسبب سهو عن محاسبة دائمة للنفس.
يقول ابن الحاج: "الغالب علي النفوس الاقتداء في شهواتها وملذاتها وعاداتها أكثر مما تقتدي به في التعبد الذى ليس لها فيه حظ، فإذا رأت ذلك من عالم - وإن أيقنت أنه محرم أو مكروه أو بدعة-، تقول: لعل لهذا العالم علم بجواز ذلك لم نطلع عليه أو رخص فيه العلماء, فإذا رأت من هو أفضل منها في العلم والخير يرتكب شيئاً من ذلك، فأقل ما فيه من القبح (الاستصغار والتهاون) بمعاصي الله تعالى "المدخل لابن الحاج".
ويقول ابن دقيق العيد "وهذا متأكد في حق العلماء، ومن يقتدى به فلا يجوز أن يفعلوا فعلاً يوجب سوء الظن بهم، وإن كان لهم فيه مخلص؛ لأن ذلك سبب إلى ابطال الانتفاع بعلمهم، ومن ثم قال بعض العلماء: ينبغي للحاكم أن يبين للمحكوم عليه وجه الحكم إذا كان خافياً نفياً للتهمة" فتح الباري.