نقل ذلك الإجماع الإمام أحمد بن يحيى الونشريسي (المتوفى 914ه)، في رسالة له بعنوان - أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر - "المتضمنة في مؤلفه القيم: - "المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء إفريقيا والأندلس والمغرب - ،
في إجابة عن سؤال في جماعة من أهل الأندلس هاجروا إلى المغرب بعد استيلاء الكفار عليها، ولكن بعضهم ندم على الهجرة وعزم على الرجوع إلى ديار الكفر،
فقال: (الجواب عما سألتم عنه، والله - سبحانه - ولي التوفيق بفضله
أن الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام فريضة إلى يوم القيامة، وكذلك الهجرة من أرض الحرام والباطل بظلم أوفتنة، قال رسول الله صلى: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن"، أخرجه البخاري، والموطأ، وأبو داود، والنسائي، وقد روى أشهب عن مالك: لا يقيم أحد في موضع يعمل فيه بغير الحق، قال في العارضة: فإن قيل: فإذا لم يوجد بلد إلا كذلك؟ قلنا: يختار المرء أقلها إثماً، مثل أن يكون بلد فيه كفر، وبلد فيه جور خير منه. إلى أن قال: ولا يسقط هذه الهجرة الواجبة على هؤلاء الذين استولى الطاغية لعنه الله على معاقلهم وبلادهم إلا تصور العجز عنها بكل وجه وحال، لا الوطن والمال، فإن ذلك كله ملغي في نظر الشرع، قال الله - تعالى -:"إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراًً "، فهذا الاستضعاف المعفوّ عمن اتصف به غير الاستضعاف المعتذر به في أول الآية وصدرها وهو قول الظالمي أنفسهم: - "كنا مستضعفين في الأرض".
إلى أن قال:وتكرار الآيات في هذا المعنى وجريها على نسق وتيرة واحدة مؤكد للتحريم ورافع للاحتمال المتطرِّق إليه، فإن المعنى إذا نُصَّ عليه وأكد بالتكرار فقد ارتفع الاحتمال لا شك، فتتعاضد هذه النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والإجماعات القطعية على هذا النهي، فلا نجد في تحريم هذه الإقامة وهذه الموالاة الكفرانية مخالفاً من أهل القبلة المتمسكين بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فهو تحريم مقطوع به من الدين كتحريم الميتة، والدم، والخنزير، وقتل النفس بغير حكم، وأخواته من الكليات الخمس التي أطبق أرباب الملل والأديان على تحريمها، ومن خالف الآن في ذلك أورام الخلاف من المقيمين معهم والراكنين إليهم فجوَّز هذه الإقامة واستخف أمرها، واستسهل حكمها، فهو مارق من الدين ومفارق لجماعة المسلمين، ومحجوج بما لا مدفع فيه لمسلم ومسبوق بالإجماع الذي لا سبيل إلى مخالفته وخرق سبيله.
قال القاضي أبو الوليد بن رشد - رحمه الله - في أول كتاب التجارة إلى أرض الحرب من مقدماته: فرض الهجرة غير ساقط، بل الهجرة باقية لازمة إلى يوم القيمة، واجب بإجماع المسلمين على من أسلم بدار الحرب أن لا يقيم بها حيث تجري أحكام المشركين، وأن يهجرها ويلحق بدار المسلمين، إلا أن هذه الهجرة لا يحرم على المهاجر بها الرجوع إلى وطنه إن عاد دار إيمان وإسلام كما حرم على المهاجرين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجوع إلى مكة، الذي ادخره الله لهم من الفضل في ذلك، قال: فإذا وجب بالكتاب وإجماع الأمة على من أسلم بدار الحرب أن يهجره ويلحق بدار المسلمين ولا يثوي بين المشركين ويقيم بين أظهرهم لئلا تجري عليهم أحكامهم، فكيف يباح لأحد الدخول إلى بلادهم حيث تجرى عليه أحكامهم في تجارة أو غيرها؟ وقد كره مالك - رحمه الله - أن يسكن أحد ببلد يُسبٌّ فيه السلف فكيف ببلد يكفر فيه بالرحمن؟ وتعبد فيه من دونه الأوثان؟ لا تستقر نفس أحد على هذا إلا مسلم مريض الإيمان).