عاصم بن محمد بهجة البيطار علم من أعلام الشام



أ. أيمن بن أحمد ذوالغنى




الحمد لله المتفرِّد بالبقاء، القاضي على خَلقه بالهُلْك والفناء، والصَّلاة والسَّلام على خَير الأنبياء، وسيِّد الأصفياء، نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه الخُلَصاء.



لعَمرُكَ ما الرَّزِيَّةُ فَقْدُ مالٍ ولا شاةٌ تَموتُ ولا بَعيرُ
ولكنَّ الرَّزِيَّةَ فَقْدُ قَرْمٍ يَمُوتُ بِمَوتِهِ بَشَرٌ كَثيرُ





في يوم الجمعة 17 من جُمادى الأولى 1426هـ الموافق لـ 24 من حَزِيران 2005م قضى الله قضاءه الحقَّ بوفاة أستاذنا الكبير العالم اللغَويِّ المربِّي عاصِم بن محمَّد بَهْجَة البَيْطار عن 78 سنةً حافلةً بالبذل والعطاء في ميادين العلم والتَّربية.


ومع رحيل الأستاذ عاصم يكونُ قد هوى للعلم نجمٌ، وانطفأ للمعرفة سِراج، مصداقَ قول النبِّي الأمين صلى الله عليه وسلم : ((إن الله لا يَقبِضُ العِلمَ انتِزاعًا يَنتَزِعُهُ من صُدور الناس، ولكنْ يَقبِضُ العِلمَ بِقَبْضِ العُلَماء، حتَّى إذا لم يَتْرُك عالماً اتَّخذَ الناسُ رؤوسًا جُهَّالاً..))[1]، ومن هنا كان موتُ العلماء مصيبةً لا تَعْدِلُها مصيبة، وفاجِعَةً لا تُدانيها فاجِعَة، فبموتهم يضيعُ علمٌ غزير، وتَخْبو أنوار نُصْح وهداية، وينزلُ الناس درجة.



ولقد كان الأستاذُ في مَسيرته العلميَّة والعمليَّة منارةَ رشادٍ وقدوةَ صلاحٍ، في علوِّ الهمَّة ونَزاهَة السِّيرة، وأخذ النفس بالجِدِّ، مع خَفْض الجَناح لطلاَّبه، وبذل الوُكْد في رعايتهم وحسن تعهُّدهم.




مضى الأستاذُ إلى بارئه سبحانه مُخَلِّفًا بصمةً واضحةً متميِّزة في سِجِلِّ العاملين المحسنين، الذين يُعطونَ أكثرَ مما يأخذون، ويَعيشونَ للآخرين أكثرَ مما يعيشون لأنفُسهم، يَجدونَ سعادتهم في البذل والعطاء، وهم لايَرَونَ لأنفسهم فضلاً ولامَزِيَّة، ولايَرجونَ من الناس جزاءً ولا شُكورًا.



أجل.. مات الأستاذُ ورحل عن دُنيانا الفانية، ولكنَّ أثرَهُ باقٍ خالد، فكلُّ كلمة مُضيئة حبَّرَتها يراعَتُه، أو نطَقَ بها مِقْوَلُه، ستبقى حيَّةً ثابتةً ما بقيَ على وجه الأرضِ قارئٌ أو سامع، وستبقى تعمَلُ عملَها في نفوس من علَّم وربَّى ورَعى، وسيَحمِلُها خَلَفٌ عن سَلَف علمًا وعمَلاً وكِفاحًا ورسالةَ حياة.





موتُ النقيِّ حياةٌ لا نَفادَ لها قَد ماتَ قَومٌ وهُم في الناسِ أحياءُ







ولعلَّ أهمَّ ما ميَّز أستاذنا - رحمه الله - وبوَّأه المنزلةَ السامية التي ارتَقاها وحازَها : جمعُه بين النبوغ العلميِّ الأصيل، والكِفايَة التعليميَّة والتربويَّة العالية، مع حُسن الخُلُق ولين الجانب، والغَيرة الصادقة على العلم والفضيلة.




أما نبوغُهُ العلميُّ وأخلاقُه العاليةُ فقد اكتسبهما بفطرته الغَضَّة، كما يكتسبُ المولودُ لسانَ أبيه وأمِّه، ولا غَرْوَ فهو الناشئُ في بيت علم ودين وصِيانَة، لأُسرةٍ مغربيَّة الأصل هاجرت من الجزائر قديمًا وألقت عَصا تَرحالها في حيِّ المَيْدان بدمشقَ الشام، وآثرت سُكناها على بِقاع الأرض كافَّةً.



في هذه الأُسرة الشريفَة وُلِدَ الطفلُ عاصم سنة (1927م) ليجدَ الرعايةَ والعناية تَحوطانه من كلِّ جانب، وتفَتَّحت عيناهُ أولَ ما تفتَّحت على بيت أبيه وقد غَدا دارَةَ علم وفقه وفَتوى، يؤُمُّه العلماءُ والكبراء والطلاَّبُ ينهَلون من معارف أبيه العلاَّمَة.. نعم، فقد كان أبوهُ الشيخ محمد بهجة البَيْطار (ت 1396هـ = 1976م) عَلَمًا من أعلام الشام، ودُرَّةً نفيسةً من دُرَرِها، وأحدَ رجالات النهضَة العلميَّة السلفيَّة فيها، وهو التلميذُ الأكبرُ للشيخ السلفيِّ المجدِّد المحدث جمال الدين القاسِمي (ت 1332هـ = 1914م)، وتَلْمَذَ كذلك لجدِّه لأمِّه العالم المؤرِّخ عبد الرزَّاق البَيْطار (ت 1335هـ = 1916م) صاحب كتاب ((حِلْيَة البَشَر في تاريخ القَرْن الثالثَ عشَر))[2]، ودَرَسَ أيضًا على الشيخ بدر الدين الحَسَني الملقَّب بالمحدِّث الأكبر! (ت 1354هـ = 1935م).

وكانت دعوةُ الشيخ بهجة قائمةً على العمل بالكتاب والسنَّة، ونبذ التقليد والعَصَبيَّة والجُمود، وتَحرير العقل من إسار التصوُّف وخُرافات أصحاب الطُّرُق، والتزام العقيدة السلفيَّة الصافية شِرعةً ومنهجَ حياة. وقد لقيَ في تلك السبيل مشقَّةً وعَنَتًا من مشايخ عصره الجامِدين المتعَصِّبين، ولكنه واجَهَ ذلك كلَّه بصبر جميل، وسعة صَدر، وقوَّة حُجَّة.




نَعِمَ الأستاذُ عاصم برعاية والده وإرشاده، وتَشَيَّمَ سيرتَه وطريقَتَه، وطلب العلمَ عليه، وتخرَّج به في علوم شتَّى، واكتسبَ منه قبل العلم والمعرفة الخُلُقَ الرضِيَّ، والتواضعَ الجمَّ، ولطفَ المَعْشَر، وعفَّة اللسان.

وقد وجد في نفسه مَيلاً شديدًا إلى علوم العربيَّة (نحوها وصَرفها وبلاغَتها وعَروضها) ورغبةً فيها، فشَمَّر عن ساعد الجِدِّ، وكَدَّ في تحصيلها، ورَوَّى نفسَه من علومها وفُنونها وآدابها، حتى قطع شوطًا بعيدًا في مِضْمارها فاق به كثيًرا من أصحابه وعَصْريِّيه.




ومما صَقَلَ موهبتَه الأدبيَّة، وأغنى ثقافتَه اللغويَّة، وأثرى معرفتَه العلميَّة : ما كان يسمَعُه بأُذُنَيه ويَعيه بقلبه؛ من أحاديث العلم والفكر والثقافة، تَدورُ في مجالس أبيه العامرة بكلِّ شاذَّة وفاذَّة، من نوادر الفوائد وشَوارد الفرائد، مما تُشَدُّ إليه الرِّحال، ويُدفَع في طلبه الجَمُّ من المال. ولقد كان لأبيه العلاَّمةِ ندوةٌ علميَّة ثقافيَّة تنعَقِدُ كلَّ يوم جمعة في داره، تمتدُّ من بعد صلاة الجمعة إلى وقت صلاة العصر، وكان يَغشاها أساطينُ العلم والثقافَة، ونوابغُ البيان والبلاغَة، وحسبُكَ أن تعلمَ أعضاءها لتُدركَ قيمتَها وأيَّ مجالس كانت، إنهم : أديبُ الفقهاء وفقيهُ الأدباء العالم القاضي الشيخ علي الطنطاوي (ت 1420هـ = 1999م)، وعديلُه أستاذ أساتيذ العربيَّة في الشام الشيخ سعيد الأفغاني (ت 1417هـ = 1997م)، والعالمُ المحقِّق الأديب المُتَبَحِّر عز الدين علم الدين التنوخي (ت 1386هـ = 1966م)، وشاعرُ دمشقَ وغِرِّيدُها المِفَنُّ أنور العطار (ت 1392هـ = 1972)، رحمة الله عليهم جميعًا، كانوا يحضُرون خُطبةَ الجمعة في جامع كريم الدين (المعروف بالدقَّاق) بحيِّ المَيْدان، حيثُ يخطُب الشيخ بهجة، وما إن يَفرُغوا من الصلاة حتى يَلجُوا روضَتَهم الغَنَّاءَ العطرةَ الأثيرَة، يَغْذُون أجسادَهم بطعام الغَداء، وأرواحَهم بأحاديث العلم والفكر والأدب، وقد تركَت تلك المجالسُ في نفس أستاذنا أطيبَ الأثر، وأفادَ منها ما لم يُفِدْه في الجامعة ولا في مَعاهد العلم.




ولقد شَرُفتُ بمجاورة الأستاذ عاصم في حيِّ الورود بمدينة الرياض، في آخر سنةٍ من سِنيْ إقامته فيها، وكنتُ كثيرًا ما ألقاهُ بعد صلاة الجمعة في جامع عليِّ بن أبي طالب بحيِّنا، فيتكرَّم عليَّ بجَلسة قصيرة يُؤنِسُني فيها بإيراد أطرافٍ من ذكرياته المشرقَة، ومن تلك الذِّكريات أخبارٌ وقصصٌ عن ندوة أبيه يقصُّها عليَّ ويُنبِئُني نبأها، وعَيناهُ تَرَقْرَقان حَنينًا إلى تلك الأيام الخَوالي، وإلى أولئكَ النفَر الكريم من الرجال العِظام الأعلام، الذين قلَّ أن يَجودَ بأمثالهم الزمان.



ومن حديث تلك المجالس: أن الشيخَ بهجة وأهلَ ندوته تعاهَدوا ذات يومٍ على ألا يتكلَّموا إلا شِعرًا، ولا يُسمَح لأحدٍ أن يَنْبِسَ بكُلَيمة في غير شِعر، وحقًّا مضَت الجلسةُ كلُّها يناقشون فيها مسائلَ من العلم، ويتجاذبون أطرافَ الحوار بالشِّعر والشِّعر فقط، لم يقصِّر أحدٌ منهم أو يُفَرِّط. ومن تلك الذكريات: بعضُ ما كان يدور في رحلات أبيه وأصحاب أبيه، ومن ذلك أنَّهم مَضَوا مرةً في رحلة إلى تُركيَّا، وركبوا ثَمَّ سفينةً في بحر أوبُحَيرة، وكان الشيخُ عز الدين التنوخي قاعدًا على حافَةِ السفينة في مُقَدَّمَتها، فأقبل عليه الأستاذُ عاصم وبرفقته خِدْنُ شبابه وزميلُ دراسته الجامعيَّة - الذي غَدا اليومَ عالمًا كبيرًا وأديبًا مَرْموقًا - د. عبدالكريم الأشتر، وسأل الأشترُ الشيخَ عن رأيه بصديقه بهجة البيطار، فأجابَ على البديهَة عفوَ الخاطر: (الشيخُ بهجَةُ بهجَةُ الأشْياخِ) وسكت هُنَيهَةً ثم أكمل: (وإذا تُؤاخي فمثلَ بهجةَ آخِ).




وأما كفايَتُه التعليميَّةُ والتربويَّةُ فأثرٌ أيضًا من آثار نُصح أبيه وثمرةٌ من ثَمَرات رعايته، أخبرني أنه لمَّا حصَّل إجازةَ اللغة العربيَّة وآدابها من قسم اللغة العربيَّة بجامعة دمشقَ سنة (1952م) مع دبلوم التربية وأهليَّة التعليم الثانويِّ= عزمَ على أن يخوضَ لُجَجَ التعليم؛ لما كان يجدُه في نفسه من قُدرَة عليه، ومحبَّة لهذه المهنة الشَّريفة؛ التي هي عملُ الأنبياء والدُّعاة والمصلحين، وليُسْلَكَ فيمن قال عنهم شَوقي أميرُ الشعراء :





أرأيتَ أشرفَ أو أجَلَّ منَ الَّذي يَبني ويُنشِئُ أنفُسًا وعُقُولا؟







وهنا يُقبل عليه أبوه المربِّي القُدوة يسأله : ها قد تخرَّجتَ يا ولدي، وأنت مُقْدمٌ على التدريس والتعليم، فهل أعدَدتَّ للأمر عُدَّتَه ؟ ويُجيب الابنُ : بفضل الله تعالى لم آلُ في تحصيل العربيَّة ومُلازمة أهلها، وصَرف الجُهْد والطاقة في التمكُّن منها والإحاطَة بعُلومها، وتثقيف نفسي وإعدادها للاضْطِلاع بهذه المسؤولية الجَسيمة والعِبْء الثقيل. ويُسْفِرُ وجهُ الشيخ الحكيم عن ابتسامة رضًا، ويقول : أحسنتَ يا بنيَّ، أحسنتَ، فكلُّ ما ذكَرتَهُ مهمٌّ ومطلوب، وهو من أدوات التعليم التي لا غِنى لكَ عنها، ولكنَّ قبلَ ذلك كلِّه لا بدَّ من أمر مُهمٍّ يجب أن تضَعَه في حُسبانك، وأن توليَه قَدْرًا كبيرًا من عنايتك واهتمامِك، هو أن تَكسِبَ قلوبَ طلاَّبك، وأن تَحملَهُم على محبَّتك واحترامك، فإذا ما نَجحتَ في هذا الأمر، أدَّيتَ رسالتَكَ على الوجه الأكمَل الأتَمِّ؛ لأن طلاَّبَك إذا ما أحبُّوكَ أحبُّوا مادَّتَك واعتَنَوا بما تُقدِّم لهم من علم ونُصح وفائدة، وانتَفَعوا بها.



ومنذ تلك اللحظة أخذَ الأستاذُ عاصم على نفسه عهدًا أن يبذُل وُسعَه في التزام وصيَّة أبيه الذهبيَّة، وأن يأخذَ نفسه أخذًا غيرَ رفيق في تمثُّلها والحفاظ عليها، وحقًّا لقد نجح في ذلك النجاحَ كلَّه، فكان نعمَ المعلِّمُ المربِّي؛ لا يتعالى على طلاَّبه ولا يترَفَّع، بل يَحنو عليهم ويتَواضَع.




وزادَ من نجاح الأستاذ وتألُّقه في أداء رسالته : ما أُوتِيَه من قُدرَة وبراعة متميِّزة على إفهام الطلاَّب، والأخذ بأيديهم برِفْق ومحبَّة، والمضيِّ بهم رُوَيدًا رُوَيدًا في رحاب العربيَّة، يُدنيهم منها، ويُحبِّبُها إليهم، ويَبذُر في نفوسهم بذورَ تذوُّقها وتفَهُّمها، وكان في ذلك حاذقًا ماهرًا ألمعيًّا، يُعينه عليه أيضًا ما رُزقَه من صفاء ذِهْن، ورُوح دُعابَة، وحُضور بَديهَة، فكان يرطِّبُ جفافَ مادَّة النحو ببعض المُلَح والطَّرائف التي تُنَشِّطُ الطلابَ وتجتذبُهم اجتذاباً، وهذا ما جعلَ الأستاذَ قِبْلَةً لطلاَّب العربيَّة، يأنَسُون بدروسه وتتَشَوَّفُ إليها أبصارُهُم؛ لما يلقَون فيها من علم وفائدَة ومتعة. وقد تخرَّج عليه في الجامعة - ومن قبلُ في المدارس الثانويَّة - أجيالٌ وأجيال، ما زالت تعرفُ له الفضلَ السَّابغَ، وتذكُرُه بالخير، وتشكُرُ له أياديه البِيْض، وإن جلَّ أساتذتنا الأفاضل الذين تلقَّينا على أيديهم العلمَ وتخرَّجنا بهم في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق = كانوا من طلاَّبه وتلامذته ومحبِّيه، فهو أستاذُ أساتيذنا، وشيخُ مشايخنا رحمه الله تعالى رحمة واسعة.




وكان الأستاذُ يحرِصُ كلَّ الحِرْص على أن يتولَّى تدريسَ النحو لطلاَّب السنة الأولى، وكان يصرُّ على ذلك إصرارًا في كلِّ مكان يعملُ فيه؛ لأنه كان ذا رسالة ساميَة، همُّه الأولُ والأخير تأسيسُ الطلاَّب التأسيسَ العلميَّ المتين، وإعدادُهم الإعدادَ الجيِّدَ المكين، لمتابعة طريق الطَّلَب والتحصيل على الوَجْه المرضِيِّ.




وممن شهدَ له بالمَكِنَة العلميَّة وحُسن أُسلوب التعليم : شيخُه وصَفيُّ أبيه الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، بقوله: الأستاذُ عاصمٌ من أعلم مدرِّسي النحو اليومَ، وأحسنهم طَريقة[3]، وعدَّه أحدَ تلامذة الأستاذ سعيد الأفغاني النجَباء الذين حفظَ الله بهم العربيَّةَ في الشام، إلى جَنْب الأساتذة الكبار: أحمد راتب النفَّاخ، ود.مازن المبارَك، والشيخ عبدالرحمن الباني، ود. عبدالرحمن رأفت الباشا[4].




ولا يفوتُني الإشارةُ إلى أثر العلاَّمة الشيخ سعيد الأفغاني في شخصيَّة أستاذنا العلميَّة والتربويَّة، وهو الأثرُ الأبلغُ بعد أثر أبيه فيه، وقد أبانَ عن شيءٍ من ذلك في كلمة الوَفاء التي دبَّجَها لمجلَّة التراث العربيِّ الصادرة عن اتحاد الكتَّاب العرب بسورية[5]، والتي جعلَ عنوانَها : (الأستاذ المعلِّم المربِّي سعيد الأفغاني وحديثُ الذِّكريات)، يقول فيها: ((وإني لأعترفُ بأن أستاذَنا الأفغانيَّ كان له أثرٌ بعيدٌ جدًّا في تكوين فِكرنا النحويِّ، وأن أكثرَ ما نعرفُه من أصول تدريس النحو والصَّرف يعودُ إلى هذه السَّنة الجامعيَّة الأولى التي كان الأستاذُ الأفغانيُّ الرُّبَّانَ الماهرَ لسفينتها، والقائدَ الحكيمَ لمسيرتها... وكان لأستاذنا الكبيرِ فضلٌ كبيرٌ في إعدادنا لنكونَ مدرِّسين، وإنَّ ما أصابَهُ بعضُنا من نجاحٍ مَرموق في أداء رسالته يعودُ في كثيرٍ من جَوانبه إلى العلاَّمة الأفغانيِّ)).




امتدَّ عطاءُ الأستاذ عاصم امتدادًا واسعًا في الزمان والمكان، فقد تولَّى التدريسَ والعملَ داخل بلده وخارجَه، ولم تُقْعِدهُ الشيخوخَةُ أو تفُتَّ في ساعده، بل ظلَّ متصلَ العطاء مُتدَفِّقَهُ حتى وافَته منيَّتُه رحمه الله؛ ليمتدَّ عطاؤه زُهاء 60 سنة.

وكان بَدء عطائه في وقتٍ مبكِّر جدًّا وهو ما يزالُ في طَراءة الصِّبا ورَيْعان الشَّبيبة، حينما اصطَحَبه أبوه معَهُ إلى بلاد الحجاز نحوَ سنة 1944م؛ تلبيةً لدعوَة الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله إلى إنشاء دار التَّوحيد في مدينة الطَّائف؛ لتكونَ مدرسةً داخليَّةً لأبناء نجد، وقد اعتمدَ الشيخُ بهجة في هذا العمل على همَّة ولده النابه الطُّلَعَة، وكلَّفَه التعليمَ فيها، فكان الابنُ يعمل إلى جَنب أبيه، ولولا ثقةُ الشيخ بولده لما كلَّفه بما كلَّفه، وفي نحو سنة 1946م استأذنَ أباه في العودَة إلى دمشقَ لمواصلَة دراسته الثانويَّة وتقديم اختبارات السنة الأخيرَة منها فأَذِنَ له.




بعد تخرُّجه في جامعة دمشق عُهدَ إليه التدريسُ في ثانويَّة المَيدان الكواكِبيِّ بحيِّ المَيدان، ولبثَ فيها سبعَ سنين من (1952 - 1959م)، ثم أُعيرَ إلى دولة قَطَر مُفَتِّشًا للغة العربيَّة فيها، عامًا دراسيًّا واحدًا، وفي سنة 1963م انتقَلَ إلى الرِّياض مدرِّسًا لمادَّتَي النحو والصرف بكليَّة اللغة العربيَّة (الكلِّيَّات والمعاهد)، التي غَدَت فيما بعدُ جامعةَ الإمام محمَّد بن سُعود الإسلاميَّة، واستمَرَّ فيها إلى سنة 1968 م، ثم عاد إلى دمشقَ وتولَّى تدريسَ النحو والصرف في قسم اللغة العربيَّة من كليَّة الآداب بجامعتها من سنة (1970 – 1986م)، وبعد نحو عشرينَ عامًا من مُغادَرته الرِّياض قَفَلَ إليها مدرِّسًا في كليَّة الآداب بجامعة الملك سُعود من سنة (1989 - 1994م)، ثم انتقلَ إلى مركز الملك فَيصل مشرفًا لغويًّا ومستشارًا ثقافيًّا، وبقيَ في عمَله هذا نحو 8 سنوات من (1994 - 2002م)، حين آثرَ عدم تجديد العَقْد، والعودةَ إلى مَدْرَج صِباهُ دمشقَ، ليُخْلِدَ إلى شيءٍ من الراحَة، وليرفَعَ عن كاهله عِبْءَ خمسٍ وسبعينَ سنةً قضاها في عمل دائب، وعَزيمة ماضِيَة.




وقد أحسنت دمشقُ استقباله، وأنزلَهُ أهلُها المنزلةَ اللائقةَ به وبأمثاله من العُلَماء، فكان أن ندَبَهُ الشيخ د.محمَّد حسام الدِّين فُرْفُور رئيسُ قسم التخصُّص بمعهد الفتح الإسلاميِّ إلى توَلِّي تدريس النحو لطلاَّب السنة الأولى وطلاَّب الدراسات العليا في القسم؛ لتتجَدَّد ذكرياتُ شبابه مع رُفَقاء الأمس وزُمَلاء الطَّلَب والتدريس من قبل: الأستاذ محمَّد علي حَمْد الله، ود. عبد الحفيظ السَّطْلي، ود. مازن المبارك.




وتقديرًا لمكانته الرَّفيعة السامية، ولسيرته الزكيَّة العطِرَة، اختارَه أعضاءُ مَجْمَع اللغة العربيَّة بدمشقَ عضوًا عاملاً فيه، بتاريخ 25 من ربيع الآخر 1424هـ = 25 / 6 / 2003م، فانضَمَّ إلى مَجْمَع الخالدين، وكان نعمَ العونُ والنصيرُ لزُمَلائه المجمعيِّين، ليتوِّجَ مسيرةَ عطائه الطويلة بتاج الفَخار الذي تُوِّجَه من قبلُ أبوه العلاَّمة، فقد كان الشيخُ بهجة عضوًا عاملاً في مجمع دمشقَ، وعضوًا مراسلاً في مجمع بغداد[6].

لم يَصْرف الأستاذُ همَّه إلى تصنيف الكتب وتحقيقها؛ إذ كان همُّه مُتَّجهًا إلى التربية والتعليم، وتأليف الرِّجال وإعداد العلماء، فلم يَترُك سوى عدَدٍ يَسيرٍ من الكتُب هي :




- (النحو والصرف): وهو أجلُّ كتبه وأشهَرُها، ألَّفه لطلاَّب السنة الأولى في قسم اللغة العربية بكلية الآداب، وكلية الشريعة، منذ أكثرَ من ربع قرن، وقد انتفعَ به - وما يزال - أجيالٌ وأجيال، وأفادوا منه، وقبل سُنَيَّات حين تولَّى أستاذُنا د.نبيل أبو عمشة رئاسةَ قسم اللغة العربيَّة بجامعة صَنعاء في اليمَن قرَّرَه على الطلاَّب ثَمَّ؛ لإعجابه به وإدراكه قيمتَه ونفاسَةَ مادَّته، وقرَّرَه كذلك أستاذُنا د.محمد أحمد الدَّالي على طلاَّبه بجامعة الكويت.

- (من شواهد النحو والصرف فوائدُ وتعليقاتٌ): وهو كتاب تطبيقيٌّ أوردَ فيه شواهدَ كتابه السابق، مُبيِّنًا في كلِّ نصٍّ من نُصوصها موضعَ الشاهد ووَجْهَ الاستشهاد، مع التفسير والإعراب.

- (أضواء على شرح ابن عَقيل) 3 أجزاء: بمشاركة الأستاذَين: عبد الفتَّاح الغُنْدور، وحسَن عبده الريِّس، وقد استقلَّ كلٌّ منهم بجُزء من الكتاب، وهو مقَرَّر على طلاَّب المرحلة الثانويَّة في المعاهِد الدينيَّة في الرياض منذ عام 1968م.

- (فهارس شرح المفصَّل لابن يعيش النحوي [ت 643هـ]).

- (التسهيل) بمشاركة د. عبد الكريم الأَشْتَر، و(الدليل) بمشاركة الأديب خَليل هِنْداوي، ود.مازن المبارك، و(المنهج الجديد): وهي كتبٌ مدرسيَّةٌ لطلاَّب المرحلة الثانويَّة.



وله في التحقيق :

- (موعظَة المؤمنين من إحياء عُلوم الدِّين): للعلاَّمة الشيخ محمَّد جمال الدين القاسميِّ (ت 1332هـ = 1914م).

- (الفَضلُ المبين على عِقْد الجَوهَر الثمين في شرح الأربعين (العجلونية)): للجمال القاسميِّ أيضًا.

- (أسرارُ العربيَّة): لأبي البركات الأَنْباري (ت 577هـ)، أعاد تحقيقه، بعد أن كان حقَّقه قديمًا أبوه الشيخ بهجة.

ولا يسعُني في الختام إلا أن أدعوَ المولى سبحانه وتعالى وأضرَعَ إليه بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلى أن يرحمَ أستاذنا الكبيرَ وفقيدَنا الغاليَ، وأن يتوَلاَّه برحمته وكرَمه وفضله، وأن يُنزلَه منازلَ الأبرار من النبيِّين والصدِّيقين والشُّهَداء، وحَسُنَ أولئك رفيقًا.

ـــــــــــــــ ــــــ

[1] متفق عليه من حديث ابن عَمرو.

[2] ملاحظة: ذكر الأخُ الأستاذ خليل الصمادي في مقالته عن الأُستاذ عاصم، المنشورة في موقع رابطة أدباء الشام على شبكة المعلومات (الإنترنت): أن الشيخَ عبد الرزَّاق البيطار جدُّ الأستاذ عاصم لأمِّه، وهو خطأٌ، صوابُه: أنه جدُّ أبيه الشيخ بهجة لأمِّه.

[3] رجال من التاريخ ص 418.

[4] ذكريات الطنطاوي 5 / 266.

[5] العدد 92، ذوالقَعدة 1424هـ.

[6] ملاحظة : توهَّم الدكتور شوقي المعَرِّي في كلمة له عن الأستاذ عاصم، نشرَها في شبكة المعلومات (الإنترنت)، أن الشيخَ بهجة كان رئيسًا لمجمع اللغة العربية بدمشق، وهذا خطأٌ؛ إذ توالى على رئاسة المجمع منذ افتتاحه سنة 1919 م حتَّى اليوم خمسةٌ من العلماء الأجلاَّء ليس فيهم المذكور، وهم: محمَّد كُرْد عَلي، وخَليل مَرْدَم بك، والأمير مصطفى الشِّهابي، ود. حُسني سَبَح، ود.شاكر الفَحَّام وهو الرئيس الحالي.