الألفاظ المستعملة في البركة (المشروع منها والممنوع)


د . أمين بن عبدالله الشقاوي
سُئل شيخ الإسلام ابن تمية - رحمه الله - "عمن يقول: قُضيت حاجتي ببركة الله وبركة الشيخ"، فأجابه - رحمه الله - "بأن هذا منكر من القول، فإنه لا يقرن بالله في مثل هذا غيره، كما نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - من قال: "ما شاء الله وشئت". وقول القائل ببركة الشيخ قد يعني بها دعاءه وأسرع الدعاء إجابة: دعاء غائب لغائب، وقد يعني بها بركة ما أمره به وعلمه من الخير، وقد يعني بها بركة معاونته له على الحق وموالاته في الدين، ونحو ذلك فهذه كلها معانٍ صحيحة، وقد يعني بها دعاءه للميت والغائب، إذ استقلال الشيخ بذلك التأثير أو فعله لما هو عاجز عنه، أو غير قادر عليه، أو غير قاصد له، متابعته أو مطاوعته على ذلك من البدع والمنكرات.. ونحو هذه المعاني الباطلة[1].
إذاً فيكون هذا اللفظ من الألفاظ المجملة المحتملة للحق والباطل فيحسن التوقي منها - والله أعلم - [2].
ومن ذلك قول بعضهم "تباركت علينا يا فلان" قال الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد: "ولا يظهر لي فيها محذور، وفي تقرير للشيخ محمد بن إبراهيم لما سُئل عن قول بعض العامة "تباركت علينا يا فلان، أو يا فلان تباركت علينا؟"، قال: "هذا لا يجوز، فهو تعالى المُبَارِك، والعبد هو المُبَارَك، وقول ابن عباس "تبارك الله تعاظم" يريد أنه مثله في الدلالة على المبالغة، والبركة: هي دوام الخير وكثرته، ولا خير أكثر وأدوم من خيره سبحانه، والخلق يكون في بعضهم شيء ولا يبلغ النهاية فيقال: مبارك، أو فيه بركة.. وشبه ذلك"[3]. أ. هـ.
والأولى ترك هذا اللفظ "تباركت ونحوها" لاختصاصه بالله، وإن كان القصد حسناً.
وسُئل الشيخ ابن عثيمين عن قول بعضهم "كلك بركة" قال"لا بأس، مثل قول الصحابي: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر"[4].
ومن ذلك قول بعضهم "على بركة الله"، وهذا اللفظ لا بأس باستعماله، فقد روى الحاكم في المستدرك من حديث محمد بن أبي عيسى عن أبيه عن جده في قصة قتل كعب بن الأشرف، وجاء في القصة "أن محمداً بن مسلمة قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أتحب أن أقتله، فصمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: ائت سعد بن معاذ فاستشره، قال: فجئت سعد بن معاذ، فذكرت ذلك له، فقال: "اِمْضِ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ"[5].
ومن الألفاظ المستعملة قول بعضهم "هذا رجل مبارك، أو هذا يوم مبارك، أو ليلة مباركة"، فإذا كان القصد أن هذا اليوم مبارك لما حصل فيه من الخير والنفع فهذا صحيح من هذا الوجه، كما قال تعالى ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ﴾ [الدخان: 3]، فهي ليلة مباركة لما حصل فيها من الخير العظيم، وهو نزول هذا القرآن فيها.

أما قول: "هذا رجل مبارك" فإن كل مسلم مبارك، وعلى حسب تقواه ونفعه للناس تكون بركته، روى البخاري ومسلم من حديث عبدالله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ الْمُسْلِمِ"[6].
والأولى أن يضيف إليها عند اللزوم "نحسبه والله حسيبه، ولا نزكي على الله أحداً".
ومن ذلك قول بعضهم إذا دخل منزلاً "منزل مبارك"، والذي يظهر جواز هذا اللفظ لأنه خرج مخرج الدعاء لصاحب المنزل بالبركة في منزله، قال تعالى ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ﴾ [المؤمنون: 29]،
ومن ذلك قول بعضهم إذا زاره أخاه "زارتنا البركة" وهذه الكلمة فيها تفصيل إن كان المعنى أن الله يبارك في زيارتك لنا ويحل فيها البركة فلا بأس بذلك، وتكون بمعنى الدعاء، وإن كان المعنى زارتنا البركة: أي أنك مبارك في زيارتك لنا، فهذا فيه تزكية للشخص الزائر فالأولى العدول عن هذه الكلمة.


وأما قول القائل "نحن في بركة فلان" أو من وقت حلوله عندنا حلت البركة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "فهذا كلام صحيح باعتبار، باطل باعتبار".
فأما الصحيح: فأن يراد به أنه هدانا وعلمنا وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر، فببركة اتباعه وطاعته حصل لنا من الخير ما حصل، فهذا كلام صحيح.
كما كان أهل المدينة لما قدم عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في بركته لما آمنوا به، وأطاعوه، فببركة ذلك حصل لهم سعادة الدنيا والآخرة، بل كل مؤمن آمن بالرسول وأطاعه؛ حصل له من بركة الرسول بسبب إيمانه وطاعته من خير الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله.
وأيضاً إذا أُريد بذلك أنه ببركة دعائه وصلاحه دفع الله الشر وحصل لنا رزق ونصر، فهذا حق، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُمِ : أي بدعائهم، وصلاتهم، وإخلاصهم؟"، وقد يدفع العذاب عن الكفار والفجار؛ لئلا يصيب من بينهم المؤمنين ممن لا يستحق العذاب، ومنه قوله تعالى ﴿ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ ﴾ إلى قوله ﴿ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [الفتح: 25] فلولا الضعفاء المؤمنون الذين كانوا بمكة بين ظهراني الكفار لعذَّب الله الكفار، وكذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم- "وَلَولا مَاَ في البِيوتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالذَرَارِي لأمَُرَت بِالصَّلاةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ، إِلَى قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ مَعَنَا، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ".وكذلك ترك رجم الحامل حتى تضع جنينها، وقد قال المسيح - عليه السلام- ﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ﴾ [مريم: 31]، فبركات أولياء الله الصالحين باعتبار نفعهم للخلق بدعائهم إلى طاعة الله، وبدعائهم للخلق وبما ينزل الله من الرحمة، ويدفع من العذاب بسببهم: حقٌ موجود، فمن أراد بالبركة هذا، وكان صادقاً فقوله حق.
وأما "المعنى الباطل" فمثل أن يريد الإشراك بالخلق: مثل أن يكون رجل مقبوراً بمكان فيظن أن الله يتولاهم لأجله، وإن لم يقوموا بطاعة الله ورسوله، فهذا جهل. فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم- سيد ولد آدم مدفوناً بالمدينة عام الحرة، وقد أصاب أهل المدينة من القتل والنهب والخوف ما لا يعلمه إلاَّ الله؛ وكان ذلك لأنهم بعد الخلفاء الراشدين أحدثوا أعمالاً أوجبت ذلك، وكان على عهد الخلفاء يدفع الله عنهم بإيمانهم وتقواهم؛ لأن الخلفاء الراشدين كانوا يدعونهم إلى ذلك، وكان ببركة طاعتهم للخلفاء الراشدين، وبركة عمل الخلفاء معهم، ينصرهم الله ويؤيدهم.
وكذلك الخليل - عليه السلام - مدفون بالشام وقد استولى النصارى على تلك البلاد قريباً من مئة سنة، وكان أهلها في شر، فمن ظن أن الميت يدفع عن الحي مع كون الحي عاملاً بمعصية الله؛ فهو غالط.
وكذلك إذا ظن أن بركة الشخص تعود على من أشرك به وخرج عن طاعة الله ورسوله، مثل أن يظن أن بركة السجود لغيره، وتقبيل الأرض عنده، ونحو ذلك يحصل له به السعادة، وإن لم يعمل بطاعة الله ورسوله، وكذلك إذا اعتقد أن ذلك الشخص يشفع له، ويدخله الجنة بمجرد محبته وانتسابه إليه، فهذه الأمور ونحوها مما فيه مخالفة الكتاب والسنة، فهو من أحوال المشركين وأهل البدع، باطل لا يجوز اعتقاده ولا اعتماده، والله سبحانه وتعالى أعلم[7].هل يجوز التسمية بالبركة:
قال ابن القيم في بيان الأسماء المكروهة: روى أبو داود في سننه من حديث جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إِنْ عِشْتُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْهَى أُمَّتِي أَنْ يُسَمُّوا نَافِعًا وَأَفْلَحَ وَبَرَكَةَ"، قال الأعمش: ولا أدري ذكر نافعاً أم لا، فإن الرجل يقول إذا جاء أثم بركة فيقولون لا [8].

وروى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبدالله يقول: "أَرَادَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَنْهَى عَنْ أَنْ يُسَمَّى بِيَعْلَى، وَبِبَرَكَةَ، وَبِأَفْلَحَ، وَبِيَسَارٍ، وَبِنَافِعٍ، وَبِنَحْوِ ذَلِكَ. ثُمَّ رَأَيْتُهُ سَكَتَ بَعْدُ عَنْهَا، فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ تَرَكَهُ"[9].
وفي معنى هذا مبارك، ومفلح، وخير، وسرور، وما أشبه ذلك فإن المعنى الذي كره له النبي - صلى الله عليه وسلم - التسمية بتلك الأربع موجود فيها، فإنه يقال: أعندك خير؟ أعندك سرور؟ أعندك نعمة؟ فيقول: لا، فتشمئز القلوب من ذلك، وتدخل في باب النطق بالمكروه.
وفي الحديث: أنه كره أن يُقال خرج من عند برة، مع أن فيه معنى آخر يقتضي النهي وهو تزكية النفس بأنه مبارك، ومفلح، وقد لا يكون ذلك[10].وروى مسلم في صحيحه من حديث محمد بن عمرو بن عطاء، قال: سَمَّيْت ابنتي "برة" فقالت لي زينت بنت أبي سلمة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هذا الاسم، وسَمَّيت "برة"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ الْبِرِّ مِنْكُمْ، فَقَالُوا: بِمَ نُسَمِّيهَا؟ قَالَ: سَمُّوهَا زَيْنَبَ"[11].قال النووي: "قال أصحابنا يكره التسمية بهذه الأسماء المذكورة في الحديث وما في معناها، ولا تختص الكراهة بها وحدها، وهي كراهة تنزيه لا تحريم، والعلة في الكراهة ما بينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: فإنك تقول أثم هو فيقول: لا، فكره لبشاعة الجواب، وربما أوقع بعض الناس في شيء من الطيرة، وأما قوله: أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينهي عن هذه الأسماء، فمعناه: أراد أن ينهي عنها نهي تحريم، فلم ينه، وأما النهي الذي هو لكراهة التنزيه، فقد نهى عنه في الأحاديث الباقية"[12].


[1] الفتاوى (27-95-96).
[2] معجم المناهي اللفظية ص173.
[3] معجم المناهي اللفظية ص628، فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (1/207).
[4] ثمرات التدوين.
[5] (4/541-542) برقم 5897، وأصل القصة في الصحيحين.

[6] ص1075 برقم 5444، وصحيح مسلم ص1130 رقم 2811.

[7] الفتاوى (11/115).

[8] ص537 برقم 4960، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/937) برقم 4149.

[9] ص884 برقم 2138.

[10] معجم المناهي اللفظية ص112.

[11] ص885 برقم 2142.

[12] صحيح مسلم بشرح النووي (5/119).