قال الإمام ابن القيم رحمه الله"لله على العبد عبوديتين :عبودية باطنة، وعبودية ظاهرة، فله على قلبه عبودية وعلى لسانه وجوارحه عبودية. فقيامه بصورة العبودية الظاهرة مع تعريه عن حقيقة العبودية الباطنة مما لا يقربه إلى ربه، ولا يوجب له الثواب، وقبول عمله، فإن المقصود امتحان القلوب وابتلاء السرائر. فعمل القلب هو روح العبودية ولبها ،فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح.
والنية هي عمل القلب الذي هو ملك الأعضاء، والمقصود بالأمر والنهي، فكيف يسقط واجبه ويعتبر واجب رعيته وجنده واتباعه اللاتي إنما شرعت واجباتها لأجله ولأجل صلاحه؟، وهل هذا إلا عكس القضية وقلب الحقيقة؟ والمقصود بالأعمال كلها ظاهرها وباطنها إنما هو: صلاح القلب وكماله وقيامه بالعبودية بين يدي ربه وقيومه وإلهه ومن تمام ذلك قيامه هو وجنوده في حضرة معبوده وربه .فإذا بعث جنوده ورعيته وتغيب هو عن الخدمة والعبودية فما أجدر تلك الخدمة بالرد والمقت. وهذا مثل في غاية المطابقة. وهل الأعمال الخالية عن عمل القلب إلا بمنزلة حركات العابثين وغايتها أن لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب."
ولما رأى بعض أرباب القلوب طريقة هؤلاء انحرف عنها إلى أن صرف همه إلى عبودية القلب وعطل عبودية الجوارح وقال: المقصود قيام القلب بحقيقة الخدمة والجوارح تبع.
والطائفتان متقابلتان أعظم تقابل :هؤلاء لا التفات لهم إلى عبودية جوارحهم ففسدت عبودية قلوبهم وأولئك لا التفات لهم إلى عبودية قلوبهم ففسدت عبودية جوارحهم.
والمؤمنون العارفون بالله وبأمره قاموا له بحقيقة العبودية ظاهرا وباطنا ،وقدموا قلوبهم في الخدمة وجعلوا الأعضاء تبعا لها، فأقاموا الملك وجنوده في خدمة المعبود وهذا هو حقيقة العبودية.
ومن المعلوم أن هذا هو مقصود الرب تعالى بإرساله رسله وإنزاله كتبه، وشرعه شرائعه فدعوى المدعي أن المقصود من هذه العبودية حاصل وإن لم يصحبها عبودية القلب من أبطل الدعاوي وأفسدها والله الموفق.
ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب وأنها لا تنفع بدونها وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما وهل يمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم فهي واجبة في كل وقت ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان فمركب الإيمان القلب ومركب الإسلام الجوارح فهذه كلمات مختصرة في هذه المسألة لو بسطت لقام منها سفر ضخم وإنما أشير إليها إشارة.
وحرف المسألة أن أعمال الجوارح إنما تكون عبادة بالنية والوضوء عبادة في نفسه مقصود مرتب عليه الثواب وعلى تركه العقاب وكما يجب في العبادات إفراد المعبود تعالى عن غيره بالنية والقصد فيكون وحده المقصود المراد فكما أنه يجب في العبادات إفراد المعبود تعالى بها لا سواه فكذلك يجب فيها تمييز العبادة عن العادة ولا يقع التمييز بين النوعين عند اتحاد صورة العملين إلا بالنية ،فعمل لا يصحبه إرادة المعبود غير مقبول ولا يعتد به وكذلك عمل لا تصحبه إرادة التعبد له والتقرب إليه غير مقبول ولا معتقد به .بل نية التقرب والتعبد جزء من نية الإخلاص ولا قوم لنية الإخلاص للمعبود إلا بنية التعبد فإذا كانت نية الإخلاص شرطا في صحة كل أداء العبادة فاشتراط نية التعبد أولى وأحرى ،ولا جواب عن هذا البتة إلا بإنكار أن يكون الوضوء عبادة، وكذلك يلتحق بإنكار المعلوم من الشرع بالضرورة وهو بمنزلة إنكار كون الصوم والزكاة والحج والجهاد وغيرها عبادات، والله الموفق للصواب.
بدائع الفوائد 3 / 162 ـ 163