جواب مختصر على شبهة لماذا لم تمنع ذنوب الكفار عنهم المطر؟
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فقد أرسل إليّ من لا أستطيع عدم إجابته طلباً في الجواب على شبهة منتشرة وهي قولهم:
"إن كانت الذنوب تمنع المطر كما تقولون فلماذا لم تمنع ذنوب الكفار الأمطار في ديارهم؟!"
فأقول مستعيناً بالله وحده:
هذه الشبهة الساقطة تُشكل على من لم يقرأ القرآن وينظر في أدلة الكتاب والسنة، وإلا فهل يظن مورد هذه الشبهة أنها إن كانت تمثل شبهة حقا وتسبب إحراجاً لأهل الإسلام أنها فاتت المنافقين والكفرة المناوئين المعادين للإسلام منذ الصدر الأول؟!
فمنذ ذلك الزمان وبعض ديار الكفار كبلاد أوروبا كانت مخضرة تأتيها الأمطار بين حين وآخر، ولكن من أراد الله خذلانه خلى بينه وبين أمثال هذه الوساوس التي يلقي بها الشيطان إلى أولياءه ليزيدهم في الضلال ويمدهم من أسباب الانحراف.
لقد بين الله سبحانه وتعالى في كتابه أنه يبتلي عباده بسبب ذنوبهم، وأنه في الوقت نفسه ليملي الظالمين ويمدهم بالأنعام ثم يأخذهم بغتة، وجاءت الأدلة مفرقة بين حال المؤمنين وبين حال الكافرين، وأن الكفار توفى لهم جميع حسناتهم في الحياة الدنيا، ثم مصيرهم إلى النار، وأما المؤمن فإنه قد يبتلى عقوبة على ذنب أو رفعة لدرجة لم يبلغه عمله، ثم مصيره إلى الجنة، فمن خلط بين الحالين فقد غلط، وإليك بعض الأدلة على ما قلت:
(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)
فهؤلاء كفرة ومع ذلك فتح الله عليهم الخيرات فتحاً وصب عليهم الرزق صباً ثم بعد ذلك سيأخذهم أخذ عزيز مقتدر
ويقول سبحانه:
(مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)
قال سعيد بن جبير رحمه الله عن قوله " مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا":
"ثوابَ ما عملوا في الدنيا من خير أعطوه في الدنيا، وليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صَنَعوا فيها" [رواه الطبري في تفسيره 15/263]
والكفار يحصل منهم إحسان في الدنيا فيجزون به في الدنيا؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم(( إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِها في الدُّنْيَا ويُجْزَى بِها في الآخِرَة، وأمَّا الكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِها لِلَّهِ في الدُّنْيَا، حَتَّى إذَا أفْضَى إلى الآخِرَةِ، لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِها ))[رواه مسلم ح(2808)]، وهذا سبب من أسباب رزق الكفار في الدنيا.
وقال تعالى (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)
فالله سبحانه وتعالى يملي للكفار على كفرهم وشر أعمالهم ومع ذلك يمدهم بالأنعام ليزدادوا إثما ثم يأخذهم بها يوم القيامة بالعذاب الشديد والعذاب المهين.
وقال تعالى(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا)
وقال تعالى(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُ مْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ)
وليس ببعيد عنا حال فرعون وكيف كان له الظهور في الأرض والأنهار تجري من تحته ثم أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وكذلك قارون والأمثلة في هذا تطول.
وأما أهل الإيمان فقد ابتلاهم الله بطاعته، فإذا وقع منهم عصيان وإعراض أوقع عليهم بعض العقوبات كإمساك القطر والمطر حتى يعودوا إلى الجادة، قال تعالى(أَوَلَمَّ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
وقال تعالى(وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)
ومثل هذا الابتلاء يظهر التفوات بين المظهرين للإسلام فمنهم من إيمانه قوي فيقبل على الله ومنهم من يعبد الله على حرف فيعرض وينكشف حاله لأهل الإيمان فتتمايز الصفوف وتتطهر من أهل النفاق.
وقد سبق أن المسلم يبتلى لرفع الدرجات كما سبق أو لعقوبة على ذنب أذنبه، ومن رحمة الله بالعبد -إن لم يعف عنه بالكلية -أن يعجل له العقوبة في الدنيا قبل الآخرة، فعقوبة الدنيا مهما بلغت من الشدة فلا تعتبر شيئاً مقارنة بعقوبة الآخرة.
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))[رواه الترمذي ح(2396)]
قال ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى: {فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)} :
"يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْإِنْسَانِ فِي اعْتِقَادِهِ إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ لِيَخْتَبِرَهُ فِي ذَلِكَ، فَيَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ إِكْرَامٌ لَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون}. وَكَذَلِكَ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ إِذَا ابْتَلَاهُ وَامْتَحَنَهُ وضَيَّق عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ، يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ إِهَانَةٌ لَهُ قَالَ اللَّهُ: {كَلا} أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ، لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا، فَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الْمَالَ مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَيُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَإِنَّمَا الْمَدَارُ فِي ذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِي كُلٍّ مِنَ الْحَالَيْنِ، إِذَا كَانَ غَنِيًّا بِأَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ فَقِيرًا بِأَنْ يَصْبِرَ"[تفسيره8/398]
ثم من قال أن الكفار لا يصيبهم أي بلاء في الدنيا فأحيانا ينزل الله بعض العقوبات عليهم،؛ قال تعالى(وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)
وإن كان ذلك لا يؤثر على أن حياة الكفار في الدنيا مهما ساءت فهي خير لهم من الآخرة لأن في الآخرة ليس لهم إلا النار.
وبهذا يتم الجواب والله أعلم
ولا حول ولا قوة إلا به
http://alktheri.blogspot.com/2018/01/blog-post.html