فضل الإنفاق على الدعوة إلى الله -تعالى



أحمد حمدي




ذكر ابن القيم -رحمه الله- الجهاد بالمال بوصفه مرتبةِ من مراتب جهاد الكفار والمنافقين؛ استنادًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «جاهِدُوا المُشرِكينَ بِأَموالِكُمْ وأَنْفُسِكُم وأَلسِنَتِكُم» (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)؛ فالمال عصب الحياة، وذكر الله الجهاد بالمال مع النفس في معظم آيات القرآن، بل جعله مقدمًا أحيانًا.
قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الصف:10-11)، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (التوبة:111)، قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: «أنفسًا خلقها، وأموالًا رزقها ثم عندما طلبها منهم بخلوا عليه بها»؛ فثمن الجنة بذل النفس والمال، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ، فَقَدْ غَزَا» (متفق عليه).
اكفل طالب علم أو داعية

أخاطب بعض الأثرياء المنشغلين بالتجارة والكسب، والدنيا والعمل: اكفل طالب علم أو داعية، كأنه عامل عندك أو موظف في عيادتك أو مصنعك، وفرغه للدعوة، تشاركه في الأجر؛ فكثير من إخواننا العاملين في حقل الدعوة مشغولون بسد حاجات الحياة، وتركوا أماكنهم الدعوية شاغرة، وكثير من الأعمال الدعوية وسط الشباب والطلائع وحلقات القرآن تحتاج إلى كثير من الإنفاق وتوفير هدايا وجوائز، ومحفزات، وإفطارات، ورحلات، وأنشطة ترفيهية؛ لجذب الشباب، وهذا ولا شك لا يقارن بما تقدمه منظمات المجتمع المدني من إغراءات ووسائل، وكثير من الملتقيات والأنشطة لا تتم؛ بسبب المعوق المالي أحيانًا؛ بسبب البخل والشح وعدم النفقة.
الإنفاق في غير الزكاة

انظر إلى كم الآيات في سورة البقرة وبراءة وغيرها للإنفاق في غير الزكاة، فكثير من الناس يستعطفهم الفقراء والمرضى والدواء أو بناء المساجد أو النفقة على الأيتام والقرآن، ولكنَّ قليلا مَن يفهم قيمة النفقة على تربية كفاءات وكوادر وطلبة علم ودعاة؛ فهذا خيره متعدٍ، وربما ثواب دروسه وعلمه وكتبه يستمر أكثر من الصدقة الجارية؛ ألا نستحيي من الكفار وإنفاقهم؟! قال -تعالى-: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنفال:36)، رصدت قريش مائة من الإبل بمن يأتي برأس محمد - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، و(إيزابيلا) صاحبة القميص العتيق في قشتالة بجوار الأندلس رهنت مجوهراتها للإنفاق على رواتب الجند حتى سقطت غرناطة آخر بلاد المسلمين في الأندلس.
البذل والتضحية

الدعوة لا تقوم على فتات الأموال والفائض منها، بل لابد من البذل والتضحية، وهذا الذى ينفعك في قبرك وآخرتك، وتأمين المستقبل الحقيقي في الجنة؛ فأهلك ومالك سيرجعان ويتركانك وحدك في قبرك، ولن يؤنسك وينفعك إلا العمل الصالح؛ فيرجع الأولاد والزوجة الذين عشت من أجلهم يتقاسمون المال الذى تعبت وبذلت من وقتك وحياتك وجهدك في تحصيله، وتحاسب أنت عليه؛ فاعمل لآخرتك، واستقطع مبلغًا ثابتًا من دخلك شهريًّا للنفقة على الدعوة، وأبواب الخير على قدر سعتك، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» (متفق عليه)، وقال: «دَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ» (رواه البيهقي، وحسنه الألباني)، «وَإِنَّمَا يَسْتَظِلُّ الْمُؤْمِنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ» (رواه الطبراني في الكبير، وحسنه الألباني)، وقال: «سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ» (رواه النسائي، وحسنه الألباني).
نماذج نفتقدها

نحتاج إلى أمثال عثمان - رضي الله عنه - مجهز جيش العسرة، وأمثال عبدالرحمن بن عوف، وانخلاع أبي بكر من ماله أكثر من مرة، وأمثال أبي الدحداح، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (التغابن:14)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ» (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

النفقة على الدعوة

فكم من الإخوة الآن حصلوا على شرف الدنيا في مستوى المعيشة والسيارات، والبيوت أعلى درجات التشطيب والمظاهر، والحضانات والمدارس الخاصة والأجنبية، والجامعات الخاصة بأموال مهولة شهريًّا وسنويًّا، وتراه يبخل بالنفقة على الدعوة، مع أن الذي سيعود عليك من النفع في الآخرة أعظم بكثير مما سيعود عليك في الدنيا، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ، قَالَ: «فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ» (رواه البخاري)، فالذي تدخره هو مال الورثة وما تنفقه في حياتك هو مالك الحقيقي، فقبل أن ينساك أولادك أنفق وأنت على ظهر الحياة، وأنت تأمل البقاء، وليس عند قرب الموت، فلا بد من المراجعة للنفس في باب الإنفاق؛ فإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء.