ضوابط تلازُمِ الظَّاهر والباطن في الحكم بالكفر

الكفر نقيضُ الإيمان، وقد اختلف الفقهاءُ في حقيقة الكفر تبعًا لاختلافهم في حقيقة الإيمان؛ ولمَّا كان الإيمانُ ـ عند أهل السُّنَّة والجماعة ـ: اعتقادًا بالقلب، وقولًا باللِّسان، وعملًا بالجوارح؛ كان كذلك الكفرُ بالاعتقاد أو القولِ أو العمل، سواءٌ بها مُجتمِعةً أو مُتفرِّقةً.
والمرادُ ﺑ «مُتفرِّقة»: أنَّ الحكم بالكفر ـ عند أهل السُّنَّة ـ يقع بالقول بمُجرَّدِه كما يقع بالعمل بمُفرَده، أي: أنَّ كُلًّا مِنَ القول والعمل المُكفِّر له أثرٌ في التَّكفير بمُجرَّدِه وُجودًا وعدمًا، مِنْ غيرِ أَنْ يتوقَّف تأثيرُه على اشتراطِ اقترانه بالتَّكذيب أو اقترانِه بعدم الانقياد.
وهذا على خلافِ جمهور الأشاعرة الذين يعتقدون بأَنْ لا وقوعَ للكفر بمُجرَّدِ القول أو العملِ إلَّا إذا كان دليلًا على التكذيب أو عدمِ الانقياد، بمعنَى: أنَّه لا تأثيرَ للقول ولا للعمل المُكفِّر إلَّا إذا صاحَبَه اعتقادٌ مُكفِّرٌ.
وهذا القولُ لا شَكَّ في بطلانه؛ لأنَّه فرعٌ مبنيٌّ على القول بأنَّ الإيمانَ مُجرَّدُ التَّصديق، وأنَّ القولَ باللِّسان وعمَلَ الجوارحِ خارجان عن مُسمَّاه؛ وهذا البناءُ مُخالِفٌ لإجماع سَلَفِ الأمَّة وأئمَّتِها الذين يعتقدون أنَّ الإيمانَ اعتقادٌ وقولٌ وعملٌ.
وتأسيسًا على مُعتقَدِ أهل السُّنَّة والجماعة في الإيمان فإنَّه يتفرَّع منه ـ بالمُقابِل ـ شمولُ الحكم بالتَّكفير للظَّاهر والباطن لوجود التَّلازم بينهما.
غير أنَّه ينبغي التَّفصيلُ في الاعتقادات والأقوالِ والأعمال الكُفريَّة بين قسمَيْن:
أحَدُهما: ما لا يحتمل إلَّا الكُفرَ فقط، فإنَّه لا اعتبارَ ـ في هذا القسم ـ للقُصود والنِّيَّات، ولا نظرَ إلى قرائنِ أحواله، وإنَّما الحكمُ بالكفر على ظاهرِ الفعلِ المُكفِّر، بِغَضِّ النَّظر عن قصدِه ونِيَّتِه وقرائنِ حالِه؛ غيرَ أنَّ الحكم بالكفر على الفعل لا يَلْزَمُ منه تكفيرُ الفاعل؛ لأنَّ تكفيره يتوقَّف على تحقُّق الشروطِ وانتفاء الموانع (1) -تعليق آخر الصفحة

ومِنْ تطبيقاتِ هذا القسم: سبُّ اللهِ تعالى أو سبُّ رسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم وهو كفرٌ قوليٌّ، أو إهانةُ المصحف أو نحوُ ذلك وهو كفرٌ عمليٌّ؛ فهاتان الصورتان لا تحتملان إلَّا الكفرَ؛ لذلك لا ننظر فيهما إلى قصد الفاعل ونِيَّتِه وقرائنِ أحواله، لعدمِ وجودِ احتمالٍ آخَرَ مُشارِكٍ له في اللفظ؛ لذلك كان الحكمُ بالكفر فيه يتناول الظَّاهرَ والباطنَ؛ وضِمْنَ هذا المعنى ----
قال شيخ الاسلام ابنُ تيميَّة ـ
رحمه الله ـ: «إنَّ سَبَّ اللهِ أو سَبَّ رسولِه كفرٌ ظاهرًا وباطنًا، وسواءٌ كان السَّابُّ يعتقد أنَّ ذلك مُحرَّمٌ أو كان مُستحِلًّا له أو كان ذاهلًا عن اعتقاده؛ هذا مذهبُ الفقهاء وسائرِ أهلِ السُّنَّة القائلين بأنَّ الإيمانَ قولٌ وعملٌ»، وقال ـ أيضًا ـ: «لو أخَذَ يُلقي المُصحَفَ في الحُشِّ ويقول: «أشهد أنَّ ما فيه كلامُ الله»، أو جَعَل يقتل نبيًّا مِنَ الأنبياء ويقول: «أشهد أنَّه رسولُ الله» ونحو ذلك مِنَ الأفعال التي تُنافي إيمانَ القلب؛ فإذا قال: «أنا مؤمنٌ بقلبي مع هذه الحالِ» كان كاذبًا فيما أَظهرَه مِنَ القول»
ثانيهما: ما يحتمل الكفرَ وعدَمَه، وليس الاعتبارُ في الحكم بالكفر ـ في هذا القسم ـ على ظاهر الفعل، وإنما المُعتبَرُ فيها: القُصودُ والنيَّاتُ وقرائنُ الأحوال.
ومِنْ تطبيقاته: السُّجودُ لغير الله تعالى؛ فإنَّه يدور حُكمُه بحسَبِ قصده ونِيَّتِه وقرائنِ حاله؛ فقَدْ يكون قصدُه للسُّجود لغير الله تعالى: التَّعبُّدَ للمسجودِ له والتَّقرُّبَ إليه، فهو ـ في هذه الحال ـ كفرٌ، كما قد يكون قصدُه للفعل: التَّحيَّةَ والتَّقديرَ أو التَّمثيلَ والحكاية، فهو ـ بهذا الوجه ـ معصيةٌ.
ويدلُّ عليه استفصالُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِنْ مُعاذ بنِ جبلٍ رضي الله عنه عن سجوده له على القول بصحَّةِ الحديث، ولم يحكم النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على فعلِ مُعاذٍ رضي الله عنه بالكفر بمُجرَّدِ سجوده؛ فدلَّ ذلك على أنَّ المُعتبَر في ذلك إنَّما هو المقصودُ مِنْ عملِه؛ لذلك اكتفى بنهيه عن الفعل دون استتابَتِه مِنَ الكفر
ومِنْ تطبيقاتِ هذا القسمِ ـ أيضًا ـ: إفشاءُ سِرِّ المسلمين إلى أعدائهم؛ فهو دائرٌ بين مَقاصِدَ مُختلِفةٍ: إمَّا أَنْ يقصد مُوالاةَ الكُفَّارِ وإعانَتَهم على المسلمين، وهو ـ بهذا المعنى ـ كفرٌ وخيانةٌ عُظْمَى، وإمَّا أَنْ يَقصِدَ ـ بعمله هذا ـ إلى تحقيقِ غرضٍ مادِّيٍّ أو مصلحةٍ دُنْيويَّةٍ.
ومِنْ أجلِ هذا الاحتمالِ استفصل النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في قصَّةِ حاطبِ بنِ أبي بَلْتَعةَ رضي الله عنه ولم يحكم على فعله بالكفر بمُجرَّدِ مُراسَلتِه لقُرَيْشٍ ومُكاتَبَتِه إيَّاهم بأمرِ مَسيرِ الرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم والمسلمين إليهم لفتحِ مكَّةَ(٦)؛ والقصَّةُ مشهورةٌ أَخرجَها البخاريُّ ومسلمٌ --------------------------(1).-[مِنْ موانع الكفر: الجهل: على تفصيلٍ ذَكَره العلماء، ومَحَلُّه المسائلُ الخفيَّة لا الظَّاهرة [انظر ضوابط مسألة العذر بالجهل في خاتمةِ مؤلَّفي: «توجيه الاستدلال بالنصوص الشرعيَّة على العذر بالجهل في المسائل العَقَديَّة»]؛ ومنه الخطأ: فقَدْ يكون ناشئًا عن غيرِ قصدٍ كسبقِ لسانٍ ونحوِه، ومِثلُ هذا لم يختلف العلماءُ على العذر به، وقد يكون الخطأُ ناشئًا عن اجتهادٍ أو قصورٍ في فهم الأدلَّة الشَّرعيَّة، وهو ما يُعرَف بمانع التَّأويل، وله ضوابطُ مُعتبَرةٌ للعذر به؛ ومِنْ ذلك مانعُ الإكراه، وله ـ أيضًا ـ شروطٌ وضوابطُ مُعتبَرةٌ للعذر به.]).للشيخ فركوس