تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: الإسلام وذم التعصب

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي الإسلام وذم التعصب

    الإسلام وذم التعصب (1)


    علاء بكر

    إن التعَصُّب من المشكلات الاجتماعية التي عانتها وتعانيها المجتمعات قديمًا وحديثًا؛ لذا نال الكثير من الدراسات حول أسبابه ومظاهره وأساليب علاجه، ولاسيما وأنه يترتب عليه سلوكات -من المتعَصِّب- هي سيئات وأخطاء يتشابه فيها مع المجترئين على الظلم والمعاصي وهو لا يدري؛ إذ يتجرأ على مخالفيه ممن يخالفونه في الرأي أو الفكر أو الجماعة فيصفهم بما لا يستحقونه، رغم أنه في ظاهره من الصالحين، بل قد يظن أنه -بظُلْمِه وتَهَجُّمِه على الآخرين- ممن يُحسنون صنعًا ويُصلحون!؛ فيفسد في الأرض من حيث لا يدري، وهذا بحثٌ موجز في خمسة مطالب حول بيان معنى التعَصُّب عموما والتعَصُّب في الدين خصوصا، وموقف الشرع منه، وذكر بعض مظاهر التعصب في الدين، وإشارة إلى بعض وسائل علاج هذا التعَصُّب في الدين.

    المراد بالتعَصُّب

    جاء في المعجم الوجيز لمجمع اللغة العربية ص(420): «عَصَبَ الشيءَ عـصبًا: طَوَاه ولَوَاه وشَدَّه. يقال عصَبَ رأسَه بالعصابة. وعصَبَ الشجرةَ: ضَمَّ ما تفَرّق من أغصانها بحبل ثم خبَطَها ليسقط ورقها. عصَبَه: شَدًّه بالعصابة. اعتَصَبَ: شَدَّ العصابة. تعصب: شد العصابة. وتعصَّبَ القومُ عليهم: تجَمَّعُوا. تعصَّبَ فلانٌ: كان ذا عصبية. ويقال: تَعصَّبَ له، وتَعصَّبَ معه: نصره». «وعصبة الرجل: بنوه وقرابته لأبيه، أو قومه الذين يتعصبون له وينصرونه».

    والعصابة: ما يُشَدُّ به الرأس من منديل ونحوه، والعصابة: العمامة. العصابة: الجماعة من الناس. وتَعصَّبَ القومُ: تجَمَّعوا وصاروا عصبة. والعصبة: جماعة مُتعصِّبة مُتعاضِدة. قال -تعالى-: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} (القصص: 76)، قال -تعالى-: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} (يوسف: 14)، أي: مجتمعة الكلام متعاضدة، فالتعَصُّب لشيءٍ: اعتقاد الصواب في هذا الشيء، ونفي الصواب عن كل ما هو مغاير له، والتعَصُّب لمبدأ يعني الغلو في التعلق به والغيرة عليه. فالتعَصُّب ثَبَاتٌ وتَحَجُّرٌ على الشيء.

    التعَصُّب لرأي

    والتعَصُّب لرأي هو أخذ هذا الرأي بحُكْمٍ مسبق. والحكم المسبق: حكم يصدر على رأي أو موضوع مُعَيَّن بقبولٍ أو رفضٍ، بغير سندٍ، أو بسند مردود عليه، ويكون قبل القيام باختبار وفحص الحقائق المتاحة عن هذا الرأي أو الموضوع، أو بعدم التفات إلى -أو تجاهل، أو لإنكار- سند الآخرين؛ إذ ليس من السهل على المُتعَصِّب تغيير رأيه بالمعلومات المُناقِضة له؛ فرأيه بمثابة حُكْمٍ مُتعَجّل ومبتسر.

    حالة انفعالية

    والتعَصُّب يصاحبه حالة انفعالية -بقبول أو عدم قبول- لأمر أو لغيره بحسب الحكم المسبق الذي تَبَنَّاهُ المُتَعَصِّب؛ فيعامل المُخالِف له بطريقة فيها تمييز، فالتعَصُّب يقود غالبًا إلى سلوكٍ ضد المُخالِفين لا يوجد عند التحقيقِ ما يسوغه؛ فالتعَصُّب يجعل الإنسان مسبقًا ودون تقييم موضوعي يُكوِّن أحكاما موجبة أو سالبة بصدد جماعاتٍ أو أشياء أو مفاهيم؛ فالحكم الذي اتَّخَذَه المتعَصِّب يُصاغ مقدمًا دون تَوافُر أدلةٍ كافية، ويُهَيِّئُ المتعَصِّب سلفًا للسلوك أو التفكير بطريقة معينة تجاه المُخالِفين، ويجعله يقاوم المعلومات الصحيحة الجديدة عليه؛ فالتعصب صورة من التصَلُّب والتَّزَمُّت.

    تعريف التعصب

    في ضوء ما بَيَنَّاه يمكن تعريف التعصب بأنه: «تَبَنِّي حُكْمٍ مسبق لا ينبني على شواهد معرفية، ويصعب تغييره، ويصحبه مشاعر حب أو كراهية إزاء موضوع التعَصُّب، ويترتب عليه سلوك لصالح موضوع التعَصُّب أو ضده». أي أن للتعصب ثلاثة مُكَوِّنات: مُكوِّن معرفي، ومُكوِّن وجداني، ومُكوِّن سلوكي، أي أن للتعصب ثلاثة مُكَوِّنات: مُكوِّن معرفي، ومُكوِّن وجداني، ومُكوِّن سلوكي.

    مفاهيم متداخلة

    هناك بعض المفاهيم التي ترتبط بالتعصب بعلاقة توافقية لكن مع مخالفته في أحد مكوناته، أو بعلاقة تناقضية مع كل مكوناته، وبيانها يزيد من فهم المراد بالتعصب، فمن هذه المفاهيم:

    - الغُلُوّ: وهو مُجاوَزَة الحد والقَدْر. يُقال: غلا غلاءً فهو غالٍ، وغلا في الأمر أي: جَاوَز حَدَّه، وغلا في الدين غُلُوًّا أي: تَشَدَّد وتَصَلَّب حتى جَاوَزَ الحَدَّ. ولكن الاتجاهات العصبية أعم من الغلو؛ لذا فكُلُّ غُلُوٍّ تَعَصُّب، وليس كُلّ تَعَصُّبٍ غُلُوّ.

    - التطَرُّف: وهو مُجاوَزَة حَدّ الاعتدال، والطرف: حَدّ الشيء وحرفه. والمراد هنا: منتهى الشيء وغايته. وتَطرف تفعل من الطرف، تطَرَّف يتطرف فهو مُتَطرِّف، سواء قلنا بأن الطرف هو منتهى الشيء أم مطلق الطرف. يقال للناقة إذا رعت أطراف المرعى (طرفت الناقة).

    جاء في المعجم الوسيط في معنى التطَرُّف «تجاوز حد الاعتدال ولم يتوسط». فهو كالغلو؛ فمَن تجاوَز حد الاعتدال وغلا يصح لغويًا تسميته بالمُتَطَرِّف. وعليه أيضًا فكُلُّ تَطَرُّفٍ تَعَصُّب، وليس كُلُّ تَعَصُّبٍ تَطَرُّف.

    - الوطنية: مذهب فكري يدعو إلى أن يشعر أبناء الوطن الواحد بالولاء لذلك الوطن، والتعصب له، أيًا كانت أصولهم التي ينتمون إليها وأجناسهم التي انحدروا منها؛ أي أن الولاء فيها للأرض بصرف النظر عن القوم أو اللغة أو الجنس أو الدين.

    - القومية: حركة سياسية فكرية تدعو إلى ضرورة أن يكون أبناء الأصل الواحد واللغة الواحدة ولاءهم واحدا، وإن تعددت أرضهم وتفرقت أوطانهم.

    والعلاقة بين القومية والوطنية: أن القومية من معناها أيضًا السعي في النهاية إلى توحيد الوطن بحيث تجتمع القومية الواحدة في وطن شامل؛ فيكون الولاء للقومية مصحوبًا بالولاء للأرض، ولكن الولاء للقومية يظل هو الأصل ولو لم تتحقق وحدة الأرض.

    التعَصُّب العِرْقي

    إحساس الفرد أن عِرْقَه أسمى مما عَدَاه، والعِرْقِيَّة: هي حال توحد الفرد مع الجماعة، إنه الشعور بالانتماء لجماعة مُتماسِكة يتجاوز حدودَ الأُسْرَة، وعادةً ما يكون لهذه الجماعة تاريخٌ واحدٌ ولُغَة واحدة ودينٌ واحد، ويعرف مصطلح العِرْق: بأنه عدد من الأنسال التي أنماطها المثالية في سلسلة من الخصائص المشتركة مثل اللغة والدين والقبيلة والجنس والجنسية، وهي مجموعة تُكَوِّن شعورًا بالانتماء لهوية واحدة مع باقي أعضاء الجماعة.

    التمركز العِرْقِي

    أما التمركز العِرْقِي: فيشير إلى الاعتقاد بأن جماعة الفرد هي الأفضل بين كل الجماعات، وأنها مركز كل شيء، بمعنى النظر إلى السلوكيات والأعراف والتقاليد التي تميز الجماعات الأخرى من خلال منظور التقاليد والقِيَم الثقافية لجماعة الفرد نفسه. بقول آخر: الحكم على الآخرين على أساس أن جماعة الفرد هي مرجع هذا الحكم؛ إيمانًا بالقيمة الفريدة والصواب التام للجماعة التي ينتمي إليها، والترَفُّع عن الجماعات الأخرى إلى حد اعتبارها من نوع غير نوع جماعته، ولا شك أن التمركز العِرْقِي -وفقًا لهذا التصور- عامل هام في نشأة الاتجاهات التعَصُّبية العِرْقِية وما يستتبعها من صراعات عِرْقِية تتخذ أشكالًا عديدة قد تصل إلى حد المذابح والإبادة والتمرد والثورة والإرهاب والحرب الأهلية وحروب التحرر ما بين الدول.

    العُنْصُرِيَّة

    وهي اعتقاد أن الإرث العُنْصُريّ (البيولوجي) أو الثقافي لجماعة الفرد يتفوق فطريًا على الإرث العنصري أو الثقافي لجماعة أو للجماعات الأخرى، وجعل ذلك مسوّغاً لمعاملة غير عادلة يصاحبها النظر بدُونِيَّةٍ إلى هذه الجماعة أو الجماعات الأدنى. فالعُنْصُرِيَّة ترى أن البشر ينتمون لسلالات، وهذه السلالات ليست متساوية في خصائصها، بل يتفوق بعضُها على بعض، ومظاهر الحضارة والرُّقِيّ فيها ترتبط بخصائص السلالات.
    التسَامُح

    نقيض التعَصُّب؛ بتَبَنِّي رأيٍ لا يصاحبه كراهية للمخالف أو سلوك عدواني تجاهه، فهو يقوم على تَبايُن الآراء والأفكار وحرية الاختلاف، ويقبل الحوار ومناقشة الآراء مهما اعتقد صاحبُها بصَوَابها. فالتسَامُح تَعَايُش مع الآخر بوصفه إنساناً وليس منتسباً إلى جماعةٍ مُغَايِرَة، والاتجاهات العصبية عديدة وكثيرة، فمنها: العصبية الدينية، والعصبية القومية، والعصبية الجنسية والعُنْصُرِيَّة ، والعصبية الأيديولوجية، والعصبية الرياضية (في مجال الرياضة كالتعصب الكروي في لعبة كرة القدم)، وسنقتصر هنا على التعَصُّب في الدين الذي يكون بين (داخل) أبناء الدين الواحد، فهذا الذي يعنينا؛ لوجوده وآثاره السيئة داخل جماعات الصحوة الإسلامية، والذي تَفَشَّى بدرجة لا يمكن التغاضي عنها والتهاون فيها.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: الإسلام وذم التعصب

    الإسلام وذم التعصب (2)


    علاء بكر



    ذكرنا في المقال السابق أن التعَصُّب من المشكلات الاجتماعية التي عانت وتعاني منها المجتمعات قديمًا وحديثًا؛ لذا نال الكثير من الدراسات حول أسبابه ومظاهره وأساليب علاجه، ولاسيما وأنه يترتب عليه سلوكات -من المتعَصِّب- هي سيئات وأخطاء يتشابه بها مع المجترئين على الظلم والمعاصي وهو لا يدري، وذكرنا بيان معنى التعَصُّب عموما واليوم نتكلم عن التعَصُّب في الدين، وموقف الشرع منه، وذكر بعض مظاهر التعصب في الدين.

    يمكن تعريف التعصب في الدين تعريفًا مُبسطًا بأنه: «تَبَنِّي -أو الأخذ بـ - رأي -أو فِكْر أو مُعْتقَد أو تَوَجُّه- بحُكْمٍ مُسبقٍ، دون دراسةٍ مُتَأنِّيَةٍ ومُناقَشةٍ لما سواه، مُتَابَعَةً لجماعةٍ -أو شيخٍ أو عالِمٍ أو مَتْبُوعٍ-، مع الموالاة والمعاداة وتقييم الآخرين بمُقْتَضاه؛ فَبِهِ تكون المَحَبَّة والمُنَاصَرَة، وعَلَيه يكون الكُرْه والمُعَادَاة».

    ثلاثة أركان

    فالتعَصُّب الديني مَبْنِيُّ على ثلاثة أركان مجتمعة: اعتناق رأيٍ أو فِكْرٍ أو مُعْتَقَد، وحُكْم مُسبق دون دراسةٍ وافيةٍ لمَوْضُوعه، والموالاة والمعاداة عليه.

    - فإذا كان الرأي أو المُعْتَقَد الذي تَبَنَّاه الشخص وتَعصَّب له، خارجًا عن حد الاعتدال الذي عليه الأدلة الشرعية؛ فهو غُلُوٌّ وتَطَرُّف.

    - وإذا كان الرأي أو المُعْتَقَد الذي تَبَنَّاه الشخص وتَعصَّب له في مسألة خلافية الخلاف فيها معتبر أو مسألة اجتهادية لا نَصّ صريح فيها؛ فهو تعَصُّب.

    - وإذا كان الرأي أو المُعْتَقَد الذي تَبَنَّاه الشخص وتَعصَّب له موافقًا للإجماع والمخالف له فيها خلافه غير مُعتَبَر؛ فليس بغُلُوٍّ ولا تعَصُّب، مع مراعاته لحق الأخُوَّة الإسلامية لمن خالَفَه فيه.

    موقف الشرع من التعَصُّب

    ذم التعصب في القرآن الكريم: أبطَلَ القرآنُ في رَدِّه على المشركين تعَصُّبهم لآبائهم وكُبَرَائهم بدعوى أنهم أعلم عنهم وخيرٌ منهم، فاحتجوا على مُخالَفَة الحق والانصراف عنه بتلك الحجة، وظنوها كافية لتسويغ تَمَسُّكهم بما تَمَسَّكوا به ورَفْض الاستماع لما سواه، بحُكْمٍ مُسبق لا يقبل المناقشة والمراجعة، بل وعادوا المُخَالِف لهم بمقتضاه.

    والآيات القرآنية في إبطال هذه الشبهة كثيرة: قال -تعالى-: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (الزخرف:22-24)، فأخبر -تعالى- عن المشركين أنهم اعتذروا عن اتِّباع الحق بأنهم وجدوا آباءهم على طريقة وهم عليها مهتدون، ثم أخبر أن هذا المانع أجاب به أعداء الرسل في كل زمان ومكان.

    الذم واضح من خلال التعجب من حال المُقَلِّدين؛ حيث يُقَلِّدون من لا يعلمون صِدق قوله، بل لو أمعنوا النظر لجزموا بكَذِبه، قال -تعالى-: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}.

    التقليد بحكم مسبق

    والتقليد بحكم مسبق في الكُفر كُفر، والتقليد فيما دون الكُفر معصية، قال -تعالى-: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة:169-170)، والآية ذُكر أنها نزلت في اليهود، قال ابن عباس: «دعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - اليهودَ إلى الإسلام ورَغَّبَهُم فيه وحَذَّرَهُم عذابَ اللهِ ونِقْمَتَه، فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف: بل نتبع يا محمد ما وجدنا عليه أباءنا فهم كانوا أعلم وخيرًا منا؛ فأنزل الله في ذلك: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}».

    العبرة بعموم اللفظ

    والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولاسيما وأن الآيات بدأت ب*{يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، فالضمير في {لَهُم} الأقرب أنه عائد إلى أقرب مذكور وهو الناس، فيكون الخطاب عامًّا أُرِيد به خاص، فتَعُمُّ الآيةُ كُلَّ من امتنع عن اتّباع الحق من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين، قال -تعالى-: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (المائدة: 104)، وقال -تعالى-: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} (يونس: 78)، وقال -تعالى-: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} (لقمان: 21).

    جَادَّة الصحابة والتابعين

    قال الشاطبي في (الاعتصام: 534): «ولقد زَلَّ -بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال- أقوامٌ خرجوا بسبب ذلك عن جَادَّة الصحابة والتابعين، واتبعوا أهواءهم بغير علم؛ فَضَلُّوا عن سواء السبيل»، وذكر لذلك أمثلة، منها قوله: «وهو أشدها، قول مَن جَعَل اتِّباع الآباء في أصل الدين هو المرجع إليه دون غيره، حتى رَدُّوا بذلك براهين الرسالة وحُجَّة القرآن ودليل العقل، فقالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (الزخرف: 23)، فحين نُبِّهوا على وجه الحُجَّة بقوله -تعالى-: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} (الزخرف: 24)، لم يكن لهم جوابٌ إلا الإنكار اعتمادًا على اتِّباع الآباء واطِّراحًا لما سواه، ولم يزل مثل هذا مذمومًا في الشرائع، كما حكى الله عن قوم نوح عليه السلام بقوله -تعالى-: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} (المؤمنون: 24)، وعن قوم إبراهيم - عليه السلام - بقوله -تعالى-: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (الشعراء: 72-74). إلى آخر ذلك مما في معناه، فكان الجميع مذمومين حين اعتقدوا أن الحق تابعٌ لهم، ولم يَلتَفِتوا إلى أن الحق هو المُقَدَّم».

    شبهة عامة

    وهذه الشبهة عامة في غير التعَصُّب للآباء، وإن كان التعَصُّب للآباء والرؤساء وما عليه المجتمع أَشَدّ، قال -تعالى-: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} (الأحزاب: 67). قال عبدُ اللهِ بن مسعود - رضي الله عنه -: «أَلَا لَا يقلدنَّ أَحَدُكُمْ دِينَهُ رَجُلًا؛ إِنْ آمَنَ آمَنَ، وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ، فَإِنَّهُ لَا أُسْوَةَ فِي الشَّرِّ»، وعن ابن مسعود أيضًا قال: «لَا تُقَلِّدُوا دِينَكُمُ الرِّجَالَ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَبِالأَمْوَاتِ لا بِالأَحْيَاءِ»، قال عَلِيّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: «إِيَّاكُمْ وَالاسْتِنَانَ بِالرِّجَالِ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ يَنْقَلِبُ لَعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَمُوتُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَنْقَلِبُ لَعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَمُوتُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ كُنْتُمْ لا بُدَّ فَاعِلِينَ فَبِالأَمْوَاتِ لا بِالأَحْيَاءِ».

    ذم التعصب في السنة

    قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَن قاتَل تحت راية عمية، يَغضَب لعَصَبَةٍ أو يدعو إلى عَصَبَة أو يَنصُر عصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَتُه جاهلية، وفي صحيح الإمام مسلم: (باب مَن قاتَلَ لتكون كلمةُ الله هي العُليا فهو في سبيل الله) عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قال النووي في شرح مسلم: «قَوْلُهُ «وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً» هِيَ الْأَنَفَةُ وَالْغَيْرَةُ وَالْمُحَامَاةُ عَنْ عَشِيرَتِهِ».

    دعوها فإنها منتنة

    وفي السيرة: أنه في عودة جيش المسلمين من غزوة بني المصطلق اقتتل رجل من حلفاء الأنصار ورجل من المهاجرين، فقال حليف الأنصار: يا معشر الأنصار؛ فنصره رجال من الأنصار، وقال المهاجري: يا معشر المهاجرين؛ فنصره رجال من المهاجرين، حتى كان بين أولئك الرجال من المهاجرين والرجال من الأنصار شيء من القتال، ثم حجز بينهما، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما بال دعوى الجاهلية؟ دعوها فإنها منتنة»، ولما قال رأسُ المنافقين ابن أُبَيّ بن سلول بسبب ذلك ما قال؛ نَزَل قولُه -تعالى-: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (المنافقون: 8).
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: الإسلام وذم التعصب

    الإسلام وذم التعصب (3)


    علاء بكر


    ما زال الحديث موصولاً عن موقف الإسلام من التعصب؛ حيث ذكرنا في المقال السابق التعَصُّب في الدين، وموقف الشرع منه، وبعض مظاهر ذلك التعصب، واليوم نتكلم عن صور من التعصب في الدين.
    شَهِد التاريخُ الإسلامي قديمًا وحديثًا صُوَرًا من التعَصُّب الممقوت للمذاهب الدينية وللجماعات والأئمة والمشايخ، أوقعت الأمة في الاختلاف والتشاحن والمُبَالَغَة في مُعاداة بعضهم بعضًا فعلا وقولا، وقد تضافرت جهود العلماء والمصلحين على التصدي لهذه الأمور بنشر العلم الصحيح، ورَدِّ الكثيرين من المتعصبين إلى جَادَّة الطريق ببيان الصواب للمُخَالِفِين، وبيان حكم الشرع في مسائل النزاع، والتصدي للشُّبَه الواهية التي يستبيح بها المتعصبون أعراض إخوانهم في الإسلام، ولاسيما في المسائل التي ينبغي الرجوع فيها لكبار أهل العلم وجهابذته لا لصغار العلماء والمُتعلمين وطلبة العلم، ولاسيما في مواطن الفتن والمسائل التي تزل فيها أقدام الكثيرين، والقضايا التي يختلف فيها المجتهدون.
    التعَصُّب الممقوت

    ونذكر هنا بعضًا من التعَصُّب الذي عانى منه المسلمون قديمًا وحديثًا؛ للاسترشاد به فيما يكون على شاكلته، فمن ذلك:

    (1) إيجاب التقليد لمذهب من المذاهب الفقهية الأربعة
    تقليد المسلم -الذي لم يبلغ رُتبة الاجتهاد- لمذهب من المذاهب الفقهية الأربعة (المالكي والحنفي والشافعي والحنبلي) من الأمور الجائزة شرعًا، فيُقَلِّد المسلمُ مذهبًا منهم بعينه فيعمل به في كل أمور الدين، أو يتحول من مذهبٍ منهم إلى آخر، دون أن يطلب في عمله بالمذهب دليلًا من الكتاب أو السُنَّة.
    التعَصُّب في هذا الأمر

    أما التعَصُّب في هذا الأمر فهو بإيجاب الأخذ بمذهب من المذاهب الفقهية على كل مسلم، وغلق باب الاجتهاد في الدين، وهو ما شاع في فترات من التاريخ الإسلامي، وما زال عند بعضهم من أتباع المذاهب الأربعة، وصاحبه تمادى في هذه الدعوة حتى راح بعضهم يغالي في إمامه الذي يتبعه ويوجب تقديمه على مَن سواه من الأئمة الآخرين، بل ويطعن في المذاهب المخالفة ويُسَفِّهها وينتقص ممن يأخذ بأحكامها؛ مما سبب الكثير من الفتن في بعض الفترات من تاريخ المسلمين.
    يقول ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان (1/ 273) بعد أن ذكر ما كان لمدينة أصفهان من مجد: «وقد فشا فيها الخراب من نواحيها، لكثرة الفتن والتعَصُّب بين الشافعية والحنفية، والحروب المُتَّصِلة بين الحزبين؛ فكلما ظهرت طائفة نَهَبَت محلة الأخرى وأحرقتها وخربتها، لا يأخذهم في ذلك إِلٌّ ولا ذِمَّة».
    الأقوال الشنيعة

    وظهرت معه الأقوال الشنيعة، ومنها ما نقله الحافظ الذهبي في ترجمته لقاضي دمشق الحنفي محمد بن موسى البلاساغوني قوله: «لو كان لي أمرٌ لأخذت الجزية من الشافعية»، ويقول صاحب مراقي الفلاح الحنفي (ص 21-22) عن ماء البئر النجس: «فإن عُجن بمائِها يُلقى للكلاب، أو يُعلف به المواشي، وقال بعضهم: يباع لشافعي.
    أعمال عجيبة

    وارتكبت به الأعمال العجيبة: فمنع بعضهم زواج الرجل الحنفي من المرأة الشافعية، وأجازه آخرون قياسًا على الذمِّية!!، وجعل في المساجد الجامعة أربعة منابر، لكل مذهب منبر؛ فيصلي أتباع كل مذهب في نفس المسجد جماعة خلف إمام من مذهبهم ارتضوه، ولا يصلون خلف غيره من أئمة المذاهب الأخرى ولو تأخر عنهم إمامهم. فتقام للصلاة الواحدة أربع جماعات متفرقة في المسجد الواحد!؛ فكان إيجاب تقليد إمام مذهب دون غيره في أحكام الدين كلها والتعصب له والموالاة والحب والمعاداة والكره على ذلك -على عِظَم قدر هؤلاء الأئمة- تعَصُّبًا مذمومًا؛ فكيف بمن هم دونهم بكثير؟.
    (2) التعصب للأشخاص

    دَأَبَ أبناءُ بعض الجماعات على إضفاء هالةٍ من التقديس على مؤسس جماعتهم، ولا يوجد داعية -مهما بلغت منزلتُه- معصوما، ولا يعيب داعيةً أن يخطئ، ولكن العيب كل العيب في الإصرار على اتباع الخطأ بعد أن تبين أنه خطأ، أو متابعة هذا المخطئ على خطئه الذي اتضح، ورغم وضوح ذلك فإن في الجماعات العاملة في الساحة مَن يأبى إلا أن يجعل مؤسس جماعتهم فوق المراجعة، ومنهجهم الدعوي فوق المناقشة، ونتائج أعمالهم فوق المحاسبة والمراجعة، ويفرضون على أتباعهم ضرورة التمسك بما وضعه المؤسس لا يحيدون عنه.
    (3) التعصب للجماعة

    يُصِرُّ بعضهم على اعتبار جماعته جماعةَ المسلمين أو الجماعة التي ينبغي أن يعمل تحت لوائها ويسمع لها المسلمون كلهم، مع أن أي جماعة لا يمكنها أن تقوم بمفردها بأعباء الدعوة إلى الله، وأن تغطي فروض الكفايات في الأُمَّة في مشارق الأرض ومغاربها.
    ولا شك أن لذلك آثارا عدة أهمها: رفض التعاون مع الآخرين إذا سبقوهم إلى خير، والتمادي في الخصومة، والتحريض على المخالفين، والتغاضي عن أخطاء الجماعة ومخالفاتها الشرعية إن وجدت، وعدم الاعتراف بما يقع من أخطاء أو تقصير من مسؤوليهم، والتعصب للأسماء، وجعل الموالاة والمعاداة للآخرين عليها.
    من وسائل علاج التعَصُّب في الدين

    (1) تربية الأفراد على الإخلاص لله -تعالى-، وإصلاح القلب، وتزكية النفس. فإن التعَصُّب من دواعيه اتِّباع الهوى والجهل والجرأة على الدماء والأعراض والأموال، مع ما يُصاحِب ذلك من عدم تحري الحق، وعدم الاحتياط في تكفير المسلمين، والتعرض للدماء المعصومة والأعراض والأموال؛ لذا كان من دأب الكثير من الأئمة في أوقات الفتن الإكثار من الطاعات والعبادة، وشدة اللجوء إلى الله في طلب الهداية، والحذر من الاندفاع والتهور وترك التمهل والتروي، بل اعتزال الفتن ما لم يتبين الحق فيها جليًا؛ وقد كانت هذه التربية وراء السلامة في الدين عند أئمة الأُمَّة؛ فنقل عنهم ما يدل على سلامة قلوبهم، فمن ذلك: قال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول: إن المرجئة أخطؤوا وقالوا قولًا عظيمًا. قال: إن أحرق الكعبة، أو صنع أي شيء فهو مسلم. فقيل لمالك: ما ترى فيهم؟ قال: قال الله -تعالى-: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (التوبة: 11)، وعن أبي الحسن الأشعري في (مقالات الإسلاميين: 1/21) بتصرف: «اختلف المسلمون بعد نبيهم في أشياء ضَلَّلَ بعضُهم بعضًا، وتبَرَّأَ بعضُهم من بعضٍ؛ فصاروا فِرَقًا مُتبَايِنين، إلا أن الإسلام يجمعهم فيعُمّهم».
    وعن الإمام الجويني في (غياث الأمم: 186) قال: «فإن قيل: فَصّلوا ما يقتضي التكفير وما يُوجِب التبديعَ والتضليلَ. قلنا: هذا طمَعٌ في غير مَطْمَعٍ؛ فإن هذا بَعِيدُ المَدْرَك، مُتَوَعِّرُ المَسْلَك، يُستمد من تيار بحار علوم التوحيد، ومَن لم يُحِطْ بنهايات الحقائق لم يَتَحَصَّل في التكفير على وثائق».

    وعن الإمام أبي حامد الغزالي في (الاقتصاد في الاعتقاد: 135) قال: «والذي ينبغي أن يميل المُحَصّل إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلًا؛ فإن استباحة الدماء والأموال من المُصَلِّين إلى القبلة المُصَرِّحين بقول «لا إله إلا الله محمد رسول الله» خطأ، والخطأ في ترك ألف كافرٍ في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلمٍ واحد».

    ويقول الغزالي أيضًا في (فصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ص 61): «أما الوصية: فأن تكف لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك، ماداموا قائلين «لا إله إلا الله محمد رسول الله»؛ فإن التكفير خطر، والسكوت لا خطر فيه.
    (2) طلب العلم النافع

    الحرص على طلب العلم النافع ونشره، والجِدِّية في تحصليه؛ فبالعلم يُعرف الحق من الباطل، وإن غَالِب مَن تزل قدمه في الحوادث الشديدة والفتن هم جُهَّال الناس ومَن لا نصيب لهم من العلم الكافي الذي يمكنهم من الوصول للحق أو تجنُّب الزلل.
    (3) فهم الكتاب والسنة

    تحري أن يكون فهم الكتاب والسُنَّة على فهم السلف الصالح ونهجهم والأصول التي وضعها أئمة أهل السُنَّة والجماعة؛ إذ إن الخروج عنها ومُخالَفتها مَدعاةٌ للوقوع في الزلل، وإن غَالِب مَن تزل قدمه في الحوادث الشديدة والفتن ممن لا يتمسكون بفهم أهل السُنَّة والجماعة ونهجهم وأصولهم.
    (4) معرفة مواضع الإجماع

    معرفة مواضع الإجماع ومواضع الخلاف في مسائل الدين وقضاياه المُثارة، ومعرفة مواطن الخلاف المُعتَبَر والخلاف غير المُعْتَبَر في هذه المسائل وأيها من مسائل الاجتهاد التي لا نص فيها صريح وتحتاج إلى دقة فهم من العلماء أصحاب الحق في الاجتهاد فيها.
    (5) الرجوع إلى كبار العلماء

    الرجوع في المسائل المُثارة في الحوادث الكبيرة والفِتَن إلى كبار العلماء المشهود لهم بالإمامة في الدين؛ فلا يكفي في هذه الحالات الاكتفاء بالأخذ عن أنصاف المشايخ وصِغار العلماء وطلبة العلم مهما كان شأنهم، ولاسيما في المسائل المتوقفة على تقدير المصالح والمفاسد التي لا يُحْسِنها إلا الجهابذة في العلم والدين.
    (6) البعد عن الفردية

    ضرورة التربية للأفراد في ساحة العمل الإسلامي عامةً والجماعات الدعوية خاصةً على البعد عن الفردية وتحري العمل الجماعي والعمل المؤسسي؛ فالعمل الفردي أقرب للخطأ من العمل الجماعي، والعمل الجماعي نتاج مُنَاقَشة ومُدَارَسة تَقِلُّ معها نسبة الخطأ واحتمالاته، والمراد بالعمل الجماعي أن يلتحق الفرد بالجماعة التي يراها تتمسك بما كان عليه أهل السُنَّة والجماعة، وتلتزم أصول المنهج السلفي وقواعده، وتراعي مبدأ الشورى في عملها؛ فيصير عملها مؤسسيًا منضبطًا بنهج لا مجال فيه للعصبية أو الأهواء؛ تُتناقش فيها المسائل الشرعية من خلال النظر في أقوال العلماء المعتبرين وترجيح الحق أو الأقرب للصواب.

    يَدرس هذه الجماعة حتى تَطمئِن نفسُه إلى منهجها، وإلى أفرادها وما هم عليه من العلوم المتنوعة والمواهب المتعددة والتجارب؛ حتى إذا انْضَمَّ إليها كان انضمامُه أضمن للوقاية من الخطأ والزلل، وأدعى للوصول إلى الحق؛ إذ الالتحاق بجماعة وسيلة للانطلاق إلى العمل الجاد ومعرفة الحق والعمل به والدعوة إليه. فالجماعة -أي جماعة- ليس الالتحاق بها غايةً وهدفًا نهائيًا ولكن وسيلة.
    الإعجاب بالأفراد

    ومن الخطأ -كل الخطأ- أن يلتحق الفرد بجماعة من أجل أنه رأى فيها فلانًا من الناس أُعجِب بعلمه أو سلوكه أو شجاعته أو غير ذلك من الصفات الحميدة؛ فيرتبط بهذه الجماعة من أجله، ويُعَلِّق بقاءه فيها على استمراره فيها، بل قد يصدر من هذا الفرد أخطاء أو مُخالَفة للشرع باجتهاد أو معصية -وهذا لا يسلم منه أحد- فيخيب ظن مَن تعلق به وتعلق بالجماعة من أجله؛ فيصدر حكمه لا على مَن تَعَلَّق به فقط بل على الجماعة كلها، أما قناعته بالجماعة لا بفرد منها تجعله يتمسك بالجماعة ولا يتأثر تعَلُّقه بها بفرد منها جانَبَه الصواب في جانب من الجوانب أو فترة من الفترات.
    التعاون على البر والتقوى

    أن تتعاون هذه الجماعة مع غيرها من الجماعات الموجودة في ساحة الدعوة والعمل الإسلامي، ممن تلتزم المنهج نفسه أو قريبًا منه؛ إذ إنه لا تستطيع جماعة بمفردها اليوم -مهما بلغ شأنُها- أن تحوز الخير كله، أو أن تقوم بالتكاليف المنوطة بالأمة، ومِن خلال هذا التعاون مع الآخرين تطَّلع على ما عندهم، وتفتح باب التواصل والمُناقَشة معهم، تعرض عليهم ما لديها وتتعرف منهم على ما عندهم؛ بحثًا عن الحق والصواب، ونُصحًا في الدين، وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر؛ ومِن ثَمَّ تتعاون وتساهم معهم فيما يمكنها من صور التعاون والمساهمة في سد الثغرات وأداء فروض الكفايات.
    آفةٌ تصيبُ المجتمعَ

    التعَصُّب آفةٌ تصيبُ المجتمعَ فتنشر فيه الخصومات والعداء؛ فيظلم أهلُ المجتمعِ الواحدِ بعضُهم بعضًا بلا وازعٍ مِن دِينٍ أو أخلاقٍ، بل هم يظنون أنهم بذلك يُحسِنون صُنعًا!. ومدار التعَصُّب على تبني مسألة أو قضية غالبًا بحكم مسبق ودون مناقشةٍ وتَحَرٍّ لصوابٍ؛ اتِّبَاعًا لجماعةٍ أو شيخٍ أو مَتبُوعٍ. ويُعَدُّ التعَصُّب في الدين من الظواهر السلبية التي انتشرت في الفترة الأخيرة في مجتمعنا، وتحتاج إلى سرعةٍ وحسنِ تعاملٍ وعلاجٍ معها.
    التزكية وإصلاح النفس

    ويكمن العلاج في التزكية وإصلاح النفس والقلب، والإخلاص لله -تعالى- وحده، وتعظيم حرمات المسلمين، وتحري الحق في مسائل الخلاف، بتعلم العلم النافع، بفهم الكتاب والسُنَّة بفهم السلف الصالح، ومُرَاجَعَة الأكابر من العلماء أصحاب القدرة على النظر والاجتهاد في الدين، مع مراعاة مسائل الخلاف المُعتَبَر أو الاجتهاد الذي لا نص صريح فيه أو يرتبط بتقدير المصالح والمفاسد فيعذر فيها المخالف، وما هو من مسائل الإجماع أو الخلاف غير المُعتَبَر فينكر على صاحبه في إطار ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومراعاة حقوق المسلم على أخيه المسلم وآداب الخلاف في الإسلام، مع التربية على العمل الجماعي المؤسسي الذي تقل فيه احتمالات الخطأ والزلل.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •