التعليم في عهد السلف


محمد عيد العباسي


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فقد أكرم الله خير عباده محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالنبوة، وبعثه إلى الناس كافة معلماً ومربياً، وبشيراً ونذيراً، وأنزل على قلبه كتابه الحكيم، وأوحى إليه سنته الغراء، وأنعم عليه وعلى أمته بهذا الإسلام العظيم الذي هداها به إلى الصراط المستقيم، وأخرجها من الظلمات إلى النور، فأبصرت بعد العمى، واجتمعت بعد الفرقة، وعزت بعد الذلة، ففتحت الدنيا، وسادت الأمم، ونشرت الحق والخير والهدى والعدل في العالمين.
وقد هيأ الله - تعالى - لنبيه أصحاباً كراماً مخلصين أتقياء أنقياء، آمنوا به واستجابوا لدعوته، وتلقوا عنه، وتتلمذوا عليه، فعلموا وعملوا وعلموا وتربوا، فكانوا وتابعوهم وأتباعهم بحق خير أمة أخرجت الناس، كما شهد لهم بذلك القرآن.

ثم خلف من بعدهم خلوف، غيروا وبدلوا، وآثروا الدنيا على الآخرة، وتعلقوا بزينة الدنيا وشهواتها، وتركوا ما أمروا به، ووقعوا فيما نهو عنه، فضعفوا وتأخروا وهانوا وذلوا، وتخلى الله عنهم، فسلط عليهم أعداءهم، وغير حالهم من القوة إلى الضعف، ومن الوَحدة إلى الفرقة ومن العزة إلى الذلة، ومن السيادة على الأمم إلى أن صاروا نهباً لأحقر الأمم وعبيداً لها، {جَزَاء وِفَاقاً }؛ [النبأ: 26]. {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}؛ [آل عمران: 117].

وإذا أردنا أن يعود إلينا عزنا السالف ومجدنا التليد، فلا سبيل لنا إلا العودة لما كان عليه سلفنا الصالح وذلك بالرجوع إلى ديننا الحنيف، فنتفقه فيه، ونعمل به، ونتمسك بأهدابه، ونعلمه أبناءنا، ونجعله نبراس حياتنا، ومنهاج سلوكنا، وصدق الله القائل: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].

وهذا لا يتحقق إلا بأن نعتمد المنهج القرآن والنبوي في العلم والتعلم والتعليم، الذي عمل به سلفنا الصالح، فنتبناه ونطبقه، وبيان هذا المنهج لا يتسع له المقام، فأكتفي عملاً بالحكمة القائلة، ما لا يدرك كله لا يترك جله، والإشارة إلى أهم معالمه وهي:

أولاً:
جعل مصدر علمنا ومرجعه وأساسه كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله:

لأنهما المصدران الموثوقان المعصومان من كل خطأ ونقص وعيب، لأنهما من الله العليم الخبير الحكيم – سبحانه - فنترك كل ما خالفهما، ونعرف لهما فضلهما وحقهما، ونعتني بها وندرسها، ونستخرج منهما أغلى الكنوز، وأثمن الفوائد.
ثانياً:
فهم الكتاب والسنة على ضوء فهم السلف الصالح: من أهل القرون الثلاثة الفاضلة الأولى من الصحابة والتابعين وتابعيهم الذين أثنى عليهم القرآن، وأعطر الثناء، وزكاهم النبي - عليه الصلاة والسلام - أطيب التزكية فيقدم فهمهم على كل فهم، ويرد ما خالفه وعارضه، وفي ذلك عصمة من النزاع والشقاق بسبب التأويل المنحرف، والفهم الخاطئ؛ لأنهم أقرب الناس عهداً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأقومهم سبيلا، وأرشدهم طريقاً، وأفصحهم لغة.

ثالثاً:
إخلاص العلم لله تبارك وتعالى: وجعله غاية سعينا ونهاية قصدنا:

فنبتغي بعلمنا وتعليمنا وجه الله - تعالى - ونؤثر بها الدار الآخرة، وحينذاك يبارك الله في علمنا ويزكيه، وينفع المتعلمين ويؤثر فيهم، ويدخل قلوبهم بغير استئذان، والقلوب بيد الله، يفتحها لكلام المخلصين الصالحين الصادقين.
رابعاً:
البدء بترسيخ الإيمان في النفوس قبل تعلم الأحكام:


وذلك بتعريف المتعلمين بربهم تبارك وتعالى، بأسمائه وصفاته وأفعاله ووجوب إجلاله وتعظيمه، والخوف منه، ورجائه، ومحبته ببيان كمالاته ورحمته ومحبته وعلمه وحكمته وبيان الغاية التي خلقنا الله - تعالى - من أجلها، والحكمة من تقليبنا في الأحوال المختلفة، والمصير الذي سنصير إليه والتذكير بالموت والآخرة وأهوال القيامة وصفة الجنة والنار
على أمره، وقد رأينا ذلك في حياة الصحابة الكرام - رضي الله تعالى عنهم - الذين كانوا إذا نزل عليهم أي حكم يتلقونه بالقبول والاستسلام, ويسارعون إلى تطبيقه وتنفيذه قائلين سمعنا و أطعنا, ولذلك لم يكونوا يستكثرون من تعلم الآيات والأحاديث، لأنهم كانوا يبدؤون بفهمها ثم العمل بها، فتعلموا العلم والعمل جميعاً.
وهذه هي الطريقة الحكيمة التي اتبعها القرآن الكريم في تربية وتعليم الجيل الأول المثالي، وتوضح ذلك أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - فتقول: "إنما نزل أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر. لقالوا: لا ندع الخمر أبداً. ولو نزل: لا تزنوا. لقالوا: لا ندع الزنا أبداً. لقد نزل بمكة على محمد - صلى الله عليه وسلم - وإني لجارية ألعب {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}؛ [القمر: 46]. وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده"؛ رواه البخاري (6/101).
خامساً:
إجلاله العلم واحترامه وعدُّه عبادة يُتقَرب بها إلى الله:

والنتيجة الطبيعية لهذا تعظيم العلماء والمعلمين واحترامهم، والتأدب معهم لأنهم ورثة الأنبياء كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وخفض الصوت لديهم، وعدم التقدم عليهم، وإلانة القول لهم، وحسن مخاطبتهم فبذلك ينشرحون لبذل العلم لطلابهم وإفادتهم.
سادساً:
اعتماد المنهج العلمي القائم على الدليل والحجة والبينة والقناعة، ونبذ التقليد والظن والوهم في التعليم, ولعل هذا أهم ما جاء به الإسلام، فقد دعا الناس إلى التفكير والعلم وطلب الدليل فبكَّت المشركين وذم الكتاب الذين اتبعوا الظن والوهم والخرافة, وبنوا عليها عقائدهم وأفكارهم، فقال: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }؛ [النجم: 28]. وطالبهم بالدليل على ما يقولون فقال: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }؛ [البقرة: 111].

وقد أخذ السلف بهذا التوجيه الرباني الكريم، فاقرأ معي ما رواه الإمام مسلم في "صحيحه" عن حصين بن عبد الرحمن قال: "كنت عند سعيد بن جبير، فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ قلت: أنا, أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت[1]، قال: فماذا صنعت؟ قلت: استرقيت. قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي، فقال: وما حدثكم الشعبي؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب الأسلمي أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا رقية إلا من عين أو حُمَة)) [2]. فقال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع. فأنت ترى أن سعيد بن جبير العالم التابعي الجليل يسأل صاحبه وتلميذه عن الدليل على ما فعله، ولما أورده له أثنى عليه, وبذلك يبين أنه لا يؤخذ قول أو حكم من غير دليل وبينة، ولا شك أن رأس البينة في الدين كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم.




سابعاً:
جعل الهدف الأكبر من التربية والتعليم تكوين الشخصية المسلمة المستسلمة لأمر الله - تعالى -:


هذه الشخصية التي تقر لله – تعالى - بالألوهية، وتسلك مسلك العبودية لله، فتوحده حق التوحيد وتلتزم بأمره وتتجنب نهيه، وتقوم بواجب الخلافة في الأرض، وتعتني بالدين والدنيا، وتعمل للدنيا والآخرة مسترشدة بقوله – تعالى -: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }؛ [القصص: 77]. {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُ مْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوه ُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ}؛ [هود: 61]. ولذلك وجدنا الحضارة الإسلامية تؤاخي بين العلم والدين فتتقدم في العلوم الكونية والدنيوية.

كما تتقدم فيه العلوم الشرعية والدينية، وتبلغ بهما الذروة، وتنتج خير حضارة بشرية، سخَّرت نواميس الطبيعة وخيراتها، لما ينفع الناس ويسعدهم، لا كما صنعت حضارة الغرب قديماً وتصنع حديثاً، فتسبب للبشرية الشقاء والخوف والتعاسة والدمار.



ثامناً:
ربط الحقائق العلمية بالحقائق الإيمانية، وغرس العقيدة الصحيحة وترسيخها في نفوس المتعلمين من خلال التعليم:


وهذه طريقة القرآن في بناء العقيدة، حيث يعرض آيات الله في الكون والأنفس والآفاق, ويدعو الناس إلى التأمل والتفكير، والوصول بذلك إلى الإيمان بالله – سبحانه - وبقدرته وصفاته، خلافاً للمنهج العلماني الذي يعرض الحقائق العلمية مجردة من التوجيه, ويفصل بين العلم والدين فيكون التعليم سطحياً ظاهرياً لا يؤثر في السلوك, ولا ينشِّئ الإنسان الصالح، كما قال – تعالى - في وصف علم الكافرين:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُون}؛ [الروم: 7].



تاسعاً:
أن يكون المعلم قدوة حسنة للمتعلم:


و هذا أصل أصيل في التربية، أن تكون التربية والتعليم بطريق القدوة، وقد أمر بذلك الإسلام، وحذر تحذيراً شديداً من أن يخالف فعل المرء - خاصة العالِم - قوله،ونفَّر منه تنفيراً شديداً، فضرب للواقع في ذلك أقبح الأمثال، وشبهه بالحمار والكلب، قال الله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}؛ [الجمعة: 5]. وقال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ}؛ [الأعراف: 175].


عاشراً:
الرفق بالمتعلم والترحيب به وتشجيعه:


وقد وردت النصوص الكثيرة في الأمر بذلك, وعدِّه سبباً للنجاح والفلاح، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه))؛ رواه أحمد ومسلم وأبو داود.

وقال: ((إن الله يحب الرفق في الأمر كله))؛ رواه أحمد والشيخان وغيرهم, وقبل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن}؛ [النحل: 125].كما أوصى النبي - صلوات الله عليه وسلامه – المعلمين بطلاب العلم فقال: ((إذا جاءكم طالب العلم فقولوا: مرحبا بوصية رسول الله)). ولذلك كان المعلمون والعلماء يخاطبون المتعلمين بأطيب الكلام, ويتواضعون لهم, ويحبونهم ويحسنون معاملتهم.

وكان المتعلمون يحبون المعلمين, ويأنسون بهم, ويحترموهم ويجلونهم, ويحسنون الاستفادة منهم، فكان من ذلك أعظم الفوائد, وأعظم النجاح.


ومن الرفق بالمتعلم سلك المعلمون سبيل تسهيل المعلومات للمتعلم, والتدرج فيها من السهل إلى الصعب ومن اليسير إلى المركب, وهكذا.



حادي عشر
: تنويع الأساليب لتشويق المتعلم وجذب انتباهه وتركيز فكره لمتابعة الدرس:


فمن ذلك استعمال أسلوب الاستفهام والحوار, وأسلوب القصص والأحداث, وأسلوب ضرب الأمثال، واستعمال الوسائل التعليمية المتيسرة، والأمثلة على ذلك في كلام الله - تعالى - وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - وكلام السلف كثيرة وطيبة.

هذه لمحة مختصرة جداً عن أهم ملامح هذا المنهج الإسلامي الفريد في التربية والتعليم, الذي خرج أفضل جيل ظهر على وجه الأرض. فهلَّا جعلناه نصب أعيننا ووعيناه وحرصنا على تطبيقه خلال قيامنا بهذه الوظيفة الخطيرة؛ وظيفة صنع الأجيال، لنعيد صياغة مستقبل أمتنا على نور وهدى من الله.



أرجو ذلك، وبالله التوفيق.




ـــــــــــــــ ـــــــــ

[1] هذا مثال على ورع سلفنا الصالح, فقد خشي حصين أن يظن أستاذه أنه كان مستيقظاَ؛ لأنه كان يصلي مع أنه لم يصل حذرا من الوقوع تحت الوعيد الوارد في قوله – تعالى -: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }؛ [آل عمران: 188].

[2] حمة العقرب: لدغته.أ