بعد أن امتلأت الأرض بالشرك وكان قوم إبراهيم عليه السلام قد طمَّ وعمَّ فيهم الشرك بعبادة الكواكب، وصنعوا لهم الأصنام بحسب ما رأوها من طبائعها، فيصنعون لكل كوكب طعامًا، وخاتمًا، وبخورًا، وأمورًا تناسبه بزعمهم، ويتخذون لها أموالاً ، ولذلك ناظرهم ابراهيم عليه السلام في أن تلك الكواكب لا تستحق أن تعبد لأنها مربوبة مخلوقة مدبرة، قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ، - وكذلك انتشرت عبادة الاصنام المنحوتة ولهذا قال ابراهيم عليه السلام : أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ --وقال ايضا - مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ - وقد عمَّ هذا على عهد إبراهيم إمام الحنفاء، و ما كان على وجه الأرض مسلم موحد غيره فكان وحده على الاسلام وبقية الناس على الشرك والكفران
فكان من الشرك ما أصله عبادة الكواكب والشمس والقمر وغيرها، وصورت الأصنام على تلك الكواكب، ومن الشرك ما كان أصله عبادة الملائكة والجن، ومن الشرك ما كان أصله عبادة الصالحين، إذًا كان هنا شرك أصله عبادة الكواكب، وشرك أصله عبادة الملائكة والجن، وشرك أصله عبادة الصالحين، كما وقع في قوم نوح، أما الجمادات الأصنام الجمادية فإنها لم تعبد لذاتها، يعني غالبًا الذين عندهم عبادة أصنام يقصدون بالصنم شيء معين، وهذا الصنم شكل ورمز لهذا الشيء المعين.
فمثلاً: تمثال للشمس، تمثال للقمر، تمثال لإله الحب، تمثال لإله النور، تمثال لإله الزرع، وهكذا فالأصنام عبارة عن رموز للآلهة بزعمهم، في أصنام على الملائكة، على الجن، وأصنام قوم نوح كانت لخمسة من الصالحين من قوم نوح: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، وهكذا وضعت الأصنام لأجلها، وكانوا يعبدون الكواكب السبعة، وهم قوم إبراهيم بأنواع من الفعال والمقال، ويعملون لها أعيادًا وقرابين، وهكذا كان أهل حران يعبدون الكواكب والأصنام، وكل من كان على وجه الأرض كانوا كفارًا في وقت إبراهيم الخليل، ما كان في على الأرض موحد إلا إبراهيم وزوجته سارة فقط لا غير، كل العالم كفار بدليل أنه قال لسارة مرة: ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك [رواه البخاري: 3358، ومسلم: 2371]، يعني: يعبد الله، لكن إبراهيم كان أمه لوحده إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، ولذلك أزال الله به الشرور، وأبطل به ذلك الضلال.
فإن الله آتاه رشده من قبل في صغره، وابتعثه رسولاً، واتخذه خليلاً عليه السلام، فلما امتلأت الأرض بالشرك بعث الله إبراهيم عليه السلام، وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا [الأنبياء:51-58] -قطعًا صغيرة- إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ [الأنبياء: 58-70].
فأخبر تعالى عن إبراهيم الخليل أنه أتاه رشده من مرحلة مبكرة في عمره، وهو في صغره، وكان ذلك قبل النبوة كما قال جمهور العلماء، فإن إبراهيم كانت فطرته سليمة متوجهًا إلى الله قبل أن يوحى إليه، وقيل: آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ [الأنبياء:51]، يعني: من قبل إرسال موسى ومحمد عليهما السلام فهما المذكوران قبله في سورة الأنبياء، ولذلك لما جاءت قصة إبراهيم قال: آتيناه من قبل والرشد على هذا القول هو النبوة، وعلى القول الآخر فإن الرشد سلامة الفطرة، التوجه إلى الله سبحانه وتعالى.
وقوله: وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [الأنبياء:51]، يعني: أنه أهل لهذا، أعطاه الله ما كمل به نفسه، أعطاه الله ما لم يؤت أحدًا من العالمين قبل محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وهذا النبي الكريم خليل الله قام بالدعوة بدأ بالأقارب: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء: 52]، هذا الاستفهام استفهام توبيخ، وتحقير لهذه الأصنام، مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ [الأنبياء: 52] ماذا تكون هذه التماثيل؟ هل تنفع؟ هل تضر؟ هل تتكلم؟ هل تأكل؟ هل تشرب؟ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ أخبروني عنها؟ التي أنتم ملازمون بعبادتها، وعاكفون عليها، ومقيمون، فأجابوا جواب العاجز بغير حجة ولا بيان، قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ [الأنبياء: 53]، هذه كل الاعتماد كل الدليل، منهجنا في الحياة قائم على أننا وجدنا آباءنا على أمة، وجدنا آباءنا عليها ونحن على آثارهم مقتدون، هذه هي الحجة الوحيدة التي لهم في العبادة، نقاش بالحجة هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [الشعراء: 72-73].
لكن بالرغم من ذلك ليس عند القوم جواب، قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء: 74]، رجعنا إلى القصة الأولى والقضية الأولى، وهي أن المسألة مسألة تقليد الآباء، وهكذا وجدنا من قبلنا ونحن على الطريق سائرون، ونقفتي بهم فليس عند القوم حجة، وليس عندهم رد، وليس عندهم أي جواب صحيح، أو أي جواب وجيه، فالقضية كلها يدورون على محور واحد وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الأنبياء: 54].
غي بين واضح، أنه ضلال اشتركتم أنتم وإياهم في ذلك، ما هذا التقليد للأسلاف؟ ما هذا التقليد الأعمى؟ لماذا السير على غير هدى؟ لماذا الاحتجاج فقط بأنه وجدنا هؤلاء من قبل؟ كيف وجدنا عليه آباءنا؟ هل هذا بالضرورة أن يكون صحيحًا ما وجدتم عليه آباؤكم؟ ولا حظ أن نقاش الآية لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الأنبياء: 54] هذا أفضل من أن نقول على ضلال مبين؛ لأن في الظرف تقتضي أنهم منغمسون في الضلالة، الضلال محيط بهم من كل جانب تمكن منهم، وهذا أبلغ من أن يقول لهم مثلاً لقد كنتم أنتم وآباؤكم ضالون، أو كنتم أنتم وآباؤكم ضالين، فلذلك سفه أحلامهم وضلل آباءهم، واحتقر آلهتهم، فجن جنونهم، قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ [الأنبياء: 55].
انظر ماذا تقول؟ لم نسمع هذا من أحد قبلك، هل هذا كلام جاد أم كلام لاعب مستهزئ لا يدري ماذا يقول؟ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ [الأنبياء: 56] لا إله غيره، وهو الذي ابتدأهن من غير مثال سابق سبحانه وتعالى الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [الأنبياء: 56]، فجمع لهم في النقاش بين الدليل العقلي والدليل السمعي، أما الدليل العقلي فإنه علم كل أحد حتى هؤلاء أن الله وحده الخالق لجميع المخلوقات من الآدميين، والملائكة، والجن، والبهائم، والسماوات، والأرض، والمدبر لهذا كله سبحانه وتعالى، وجميع ما عبد من دون الله كل واحد عنده عقل يعلم أنه لا ينفع، ولا يضر، ولا يميت، ولا يحي، ولا يملكون حياة ولا نشورًا، وأنه لا يرزق، ولا يدبر، ولذلك فإن إبراهيم عليه السلام قد ساق لهم من دليل السمعي ومن الدليل العقلي ما يقنعهم لو كان لهم عقول، ولذلك لما وصلت المسألة في النقاش إلى طريق مسدود، قال: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء: 57].
لعله قال ذلك في نفسه وأنه سوف يفتك بهذه الأصنام، ولو كانت تدفع عن نفسها فلتدفع فلتنصر نفسها، بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء: 57].
يعني: إلى أعيادكم أو إلى شيء كان لهم من الاجتماع خارج البلد يخرجون إليه في أحد أيام السنة، وهكذا فراغ إبراهيم إلى هذه الأصنام.
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا [الأنبياء: 58]، قطعًا مكسرة محطمة، والجذ: هو القطع والكسر، وهذا ليثبت لهم عجزها، وأنها لا تدفع عن نفسها، ومن باب زيادة الإفحام وإقامة الحجة ترك إبراهيم الخليل عليه السلام الصنم الكبير، إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء: 58].
لعلهم إلى الدين الصحيح، ولعلهم يرجعون إلى الصنم في قول آخر للمفسرين، لعلهم يرجعون إلى الصنم، فيسألونه عما حدث، ويظهر عجزه، فيكون هذا دليل ضعفه، في سورة الصافات قال الله: فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 91-96] .
"راغ" يعني: انطلق مسرعًا بخفية مع إسراع، وضرب الأصنام بقوة ونشاط، وهذا فيه دليل على إزالة المنكر باليد، تغيير المنكر باليد، وإنهاء المنكر وتحطيم المنكر، وأنه لم يجعله قطعتين أو ثلاثة بحيث يسهل تلصيقها وتجميعها مرة أخرى، وإنما كان التحطيم تام، ولذلك موسى في قصة العجل الذي عبده بنو إسرائيل كيف كانت إزالة المنكر من قبل موسى عليه السلام قال: لَنُحَرِّقَنَّه ُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا [طه: 97]، فلذلك قيل: أخذ ما في المبارد الحديد وضرب بها هذا، حتى جعله مثل البودرة مسحوق، وذره في اليم في يوم عاصف، في البحر في الهواء، ما بقي منه شيء، انتهى، وهذا يدل على أن المنكر إذا أريد تغييره فليغير بحيث لا يعود ولا يرجع إلى ما كان عليه إطلاقًا، يكون التحطيم كامل، تام بحيث لا يرجى إعادته مرة أخرى، ولهذا جعلها جذاذًا قطع صغيرة أنهاه، لا يمكن إعادة الصنم هذا مرة أخرى، ولذلك لما رأوا أصنامهم محطة بهذه الطريقة فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ [الصافات: 94] مسرعين يهرعون يريدون أن يوقعوا به بعد أن تساءلوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 59] تحقيق سؤال، فرموا إبراهيم عليه السلام بالظلم مع أنهم هم الظالمون، قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ [الأنبياء: 60].
وهذا يدل على صغر سنه وشبابه لما قاوم هذا المنكر، سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء: 60] هاتوه قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ [الأنبياء: 61] وعلى رؤوس الأشهاد، وبحضرة الجميع لينظروا ماذا نصنع بمن كسر آلهتنا، ولعل قصد إبراهيم عليه السلام من هذا كان قصدًا واضحًا مثل موسى لما قال: وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه: 59]، يريد اجتماعات حتى يشهد الجميع إقامة الحجة، وهنا قال: فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ [الأنبياء: 61] وقصة أصحاب الأخدود نفس القضية، الغلام طلب من الملك أن يجمع الناس في صعيد واحد، الآن كل الهدف من وراء هذا أن يكون هناك حشد كبير لأهل البلد في ساحة كبيرة حتى تقام الحجة عليهم، إنها الفرصة لوصول الدعوة إلى الجماهير، إنها الفرصة للوصول إلى الناس، إن الفرصة في حدث مباشر مع الآخرين إقامة الحجة، وهذا أعظم مكسب أن النبي يصل إلى الناس، المشكلة كانت أن يحال بينه وبين الناس، النبي عليه الصلاة والسلام حاول كثيرًا لكن كانوا يمنعونه، يشوهون سمعته عند الناس حتى يضع الواحد قطع الصوف أو القطن في أذنيه حتى لا يسمع النبي صلى الله عليه وسلم، وينهوا الناس عن سماعه، ثم يحاربونه لا يتركونه يصل إلى الناس، وهكذا موسى، وهكذا إبراهيم قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ [الأنبياء: 61].
فإذًا شيء يأتي منهم بدون نظر، لا يعرفون أن الآن القضية سيكون فيها نصر كبير للدعوة لإعلانها، كذلك موسى لما طلب من فرعون في مقام التحدي فرعون نسي قضية أن الآن هناك سيكون اجتماع عام، وأن الناس كلهم سيشهدون دعوة الحق، الملك في قصة أصحاب الأخدود أيضاً يريد التخلص من الغلام بأي طريقة، ولذلك أجاب طلبات الغلام، الغلام كل طلبه كان طلبًا واحدًا، يعني أن يجمع الناس في صعيد واحد.
لماذا حصل هنا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ [الأنبياء: 61]، وقال موسى: وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه: 59]، وفي قصة أصحاب الأخدود أن تجمع الناس في صعيد واحد [رواه مسلم: 3005].
هذه قضية مهمة جداً في الدعوة الوصول للناس نقل الدعوة للناس، أن يخبر الناس ألا يحال بين الداعية والناس اتركوني، النبي عليه الصلاة والسلام كان يسأل من يجيره ليبلغ الناس رسالة ربه، وهذا المحفل العظيم الذي اجتمع فيه هؤلاء أراد إبراهيم إقامة الحجة، وهؤلاء لما أتوا به على أعين الناس، قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء: 62]، ما الذي جرأك على هذا الفعل؟ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء: 63] وهذا جواب مفاجئ! هذا الكبير غار من الأصنام الصغيرة كيف تعبد وهو موجود؟ فكسرها، ليكون هو وحده المتفرد، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ [الأنبياء: 63]، اسألوا الأصنام المكسرة من كسرها؟
لو قال قائل: ماذا يقصد إبراهيم لما قال: قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ [الأنبياء: 63] وهو يعرف أنها لا تنطق؟
فالجواب: أنه قصد إقامة الحجة، وهو يعرف أنها لا تنطق، ويعرف أن كبيرهم لم يفعل ذلك، ولذلك رجعوا إلى أنفسهم، وأفاق القوم من سكرتهم، وانتبهوا من غفلتهم أمام هذه الحجة، وراجعوا عقولهم وتفكروا وتدبروا، فقال: لأنفسهم إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ [الأنبياء: 64] ليس إبراهيم ظالم، قلتم عنه إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 59].
أما الآن فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ [الأنبياء: 64] .....................