الإمام سفيان الثوري

هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، أحد الائمةالخمسة المجتهدين.
نسبه ونسبه على ما ذكر ابن سعد (1) والطبري (2) وابن حزم (3) والقلقشندي (4)، سفيان بن سعيد بن مسروق
بن رافع بن عبد الله بن موهبة بن أبي بن عبدالهل بن منقذ بن نصر بن الحارث بن ثعلبة بن عامر بن ملكان بن ثور بن عبد مناة بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر بن نزار.
وهو الصحيح المجمع عليه، ورواه الخطيب أيضا عن الهيثم بن عدي بتغير يسير لا يعبا به (5)، وروي عن أبي عبد الله محمد بن خلف التميمي انه: سفيان ابن سعيد بن مسروق بن حمزة بن حبيب بن نافع بن موهبة بن أبي بن عبد الله بن
نصر بن ثعلبة بن ملكان، واختاره السمعاني (6).
وأسقط منه ابن القيسراني (7) والخزرجي (8) " أبي بن عبد الله، وثعلبة " وزادا " الحكم " بعد " نصر "، وأبدلا " عامرا " بمالك، وكتب ابن خلكان (9): " نصر بن الحكم بن الحارث، وثعلبة بن ملكان "، وتبعه العيني في ثعلبة بن ملكان (10).
وقال الحاكم (11): " هو سفيان بن سعيد بن مسروق بن نافع بن عبد الله بن موهبة بن عبد الله بن منقذ بن النضر بن مازن بن ثعلبة بن أد بن طابخة بن الياس ابن مضر بن نزار.
ومع هذا الخلاف الذي رأيناه في نسبه بحذف الاسماء في رواية وبزيادتها في اخرى، قد تحقق ان نسبة يصل الى ثور بن عبد مناة - بطن من طابخة، من العدنانية –
بيت الثوري كان والده سعيد بن مسروق أبو سفيان من محدثي الكوفة الثقات، وثقه ابن معين وأبو حاتم والعجلي والنسائي وابن المديني، وذكره ابن حبان في الثقات، روي هو عن أبي وائل، وابراهيم التيمي، وخيثمة بن عبد الرحمن، وسلمة بن كهيل، والشعبي، وعكرمة، وعون بن أبي جحيفة، وروي عنه الاعمش، وشعبة بن الحجاج، وأبو عوانة، وابناه سفيان ومبارك، وخلق.
واختلفت في عام وفاته، فقال ابن أبي عاصم أنه توفي سنة 126 ه (743 م)، وقال ابن قانع: " مات سنة 127 ه " (744 م) وأرخ وفاته أحمد وابن حبان في سنة 128 ه (745 م) (12).
وأم سفيان كانت ذات زهد وورع، ذكرها ابن الجوزي والمناوي في الصالحات المتورعات من النساء، ونقلا عنها كلمة جديرة بأن تحفظها امهات المسلمين جيلا بعد جيل، ويلقينها على أولادهن مرة بعد اخرى.
وهي أنها قالت لسفيان: " اذهب، فاطلب العلم حتى أعولك انا بمغزلي، فإذا كتبت عدد أحاديث، فانظر، هل تجد في نفسك زيادة، فاتبعه، والا فلا تتبعني " (13).
وأخوه، عمر بن سعيد ومبارك بن سعيد، كانا من أولي العلم والفضل
ومن الحملة لاحاديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، ذكرهما ابن قتيبة والمقدسي وابن حزم والحاكم والعسقلاني وغيرهم في كتبهم (14).
وأخته كانت كام عمار بن محمد المتوفي سنة 182 ه (801 م) (15)).
وعلمنا بها قليل.
وكان لسفيان أقارب أخر توطنوا بخارى وماتوا بها، منهم عمه الذي ذهب سفيان الى بخرى يطلب ميراثه، وكان عنره إذ ذاك ثماني عشرة سنة .
ولادة الثوري ولد الثوري باثير في الكوفة التي كانت راس بلاد العراق، في خلافة سليمان بن عبد الملك الاموي.
واختلف في السنة التي ولد فيها، فروى الواقدي، وتبعه ابن سعد والبخاري، انه ولد في سنة ه (715) وروى الخطيب عن علي بن صالح، قال: (ولدنا سنة مائة، وكان سفيان أسن منا بخمس سنين).
وروي ايضا عن ابي نعيم انه قال: (خرج سفيان الثوري من الكوفة خمس وخمسين ومائة، ولم يرجع - ومات سنة احدى وستين ومائة، وهو ابن ست وستين فيما أظن) .
فيظهر من هاتين الروايتين انه ولد في سنة 95 ه (713 م).
ونقل ابن خلكان واليافعي رواية أخرى تدل على انه ولد في سنة 96 ه (714 م) وذكر التبريزي ، وتبعه الفتني والدهلوي ، انه ولد سنة 99
ه (8 - 717 م).
والاول هو الصحيح المعتمد عليه كما نص به الجزري في الغاية
مشائخ الثوري كانت الكوفة مسقط رأس الثوري - وكانت هي في تلك الايام من اهم مراكز
العلوم الشرعية: الحديث والفقه.
وكان بيته ايضا بيت وجاهة ووثوق في الحديث، فسلك الثوري مسلك أبيه في طلب الحديث وفقهه من أجلة المحدثين.
منهم أبو اسحق السبيعي، ومنصور بن المعتمر، وسلمة بن كهيل، وحبيب بن ابي ثابت، وايوب السختياني، وعاصم الاحول، وعمر بن دينار، وخلق غيرهم من مشائخ الكوفة والبصرة والحجاز وغيرها
تلامذة الثوري ولما انتشر صيته في بلاد الاسلام، رحل إليه طلبة الحديث والفقه، وكثر اجتماعهم عنده حتى انه لم ينقطع حين كان مختفيا في مكة المكرمة، والبصرة - ذكر ابن ابي حاتم والخطيب وغيرهما من اشتهر من تلامذته وذكروا فيهم شعبة، والامام مالك بن انس، ويحيى بن سعيد القطان، والاوزاعي، وابن المبارك، وسفيان بن عيينة - فهل رايت أجل مرتبة وأعظم منزلة منهم في الحديث والرواية ؟ مرتبته في الحديث قد ذكر ابن سعد، وابن أبي حاتم (2)، والخطيب، والذهبي، والعسقلاني في كتبهم أكثر ما قال أرباب الجرح والتعديل في سفيان وشأنه في الحديث - ومن جملتها: قال شعبة، وابن عيينة، وأبو عاصم، وابن معين، وغيرهم: (سفيان أمير المؤمنين في الحديث) -
وقال ابن المبارك: (كتبت عن ألف ومائة شيخ - ما كتبت عن أفضل من سفيان) - فقال رجل: (ابا عبد الرحمن، رأيت سعيد بن جبير وغيره، وتقول هذا ؟) قال ابن المبارك: (هو ما اقول - ما رأيت أفضل من سفيان) - وقال ابن عيينة: (لم يدرك مثل ابن عباس في زمانه، ولا مثل الشعبي في زمانه، ولا مثل الثوري في زمانه) -
وقال ورقاء بن عمر، ووكيع بن الجراح، وعيسى بن يونس، ويحيى بن يمان، وغيرهم: (لم ير سفيان مثل نفسه) - وقال يحيى بن سعيد القطان: (سفيان الثورري أحب الي من مالك في شئ) - قال ابن معين: (في الحديث والفقه والزهد) - وقال الامام أبو حنيفة: (لو كان سفيان الثوري في التابعين، لكان فيهم له شان) - وسئل اسمعيل بن ابراهيم عن علم شعبة وسفيان - فقال: (ما علم شعبة عند سفيان الا كتفلة في بحر) - وقال الامام مالك: (انما كانت العراق تجيش علينا بالدراهم والثياب ثم صارت تجيش علينا بالعلم منذ جاء سفيان) (يعني الثوري) - وقال الاوزاعي: (لم يبق من تجتمع عليه الامة بالرضى الا سفيان) - وقال النسائي: (هو أجل من ان يقال فيه ثقة.
وهو احد الائمة الذين اوجو ان يكون ممن جعله الله للمتقين اماما).
وقال الطبري: (كان فقيها عالما عابدا ورعا ناسكا رواية للحديث ثقة امينا على ما روى وحدث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وغيره ممن أثر في الدين).
وكان رحمه الله آية في الحفظ.
قال العجلي: (لا يسمع شيئا الا حفظه حتى كان يخاف عليه) .
وقال الثوري نفسه: (ما استودعت قلبي شيئا فخانني ولاجل ذلك بلغ عدد مروياته الى ثلاثين الفا وكان يروي جملة مروياته من كتاب) ؟ فقال: (لا.
من حفظة.
كان أصحاب الحديث يكتبون الابواب، وهو يسردها) .
ولاجل هذه الاقوال المنقولة عن الاساطين الحديث والرجال اجمع السلف والخلف على انه كان (اماما من أئمة المسلمين، وعلما من اعلام الدين، مجمعا على
امامته، بحيث يستغنى عن تزكيته، مع الاتقان والحفظ والمعرفة والضبط والورع والزهد) .
ونعلم ان اصحاب هذه الاقوال لم يكونوا من الشعراؤ الذين يغلب عليهم المدح أو الهجاء، بل هم ارباب الصدق في القول والديانة في الرأي، فيقولون ما يجدون في رجل، أي رجل كان، ولا يخافون فيه لومة لائم.
فلا سبيل لنا الا الى قبول ما قالوا.
رتبته في الفقه ومع هذا كان الثوري قد فاق أكثر أقرانه في الفقه والقياس، واشتهر بالرأي والاجتهاد
وكان فقهه معمولا به الى القرن الخامس.
وكان مقلدوه يقال لهم الثوري.
وكان من بينهم شيخ الطائفة جنيد البغدادي وابو صالح حمدون بن احمد القصار النيسابوري وجماعة من أهل دينور
ولمعرفة رتبته في الفقه يكفينا ان نذكر نبذ ة مما حكي لنا عن الفقهاء: قال الخطيب: (عرض الفريابي مرة على الامام ابن عيينة مسالة فقهية - فاجابه الامام بما كان رأيه فيها.
فقال الفريابي: (ان الثوري يرى خلاف
هذا).
فقال ابن عيينة: (لم تر عيناك يثل سفيان أبدا) .
وقال ايضا: (ما رايت رجلا اعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري) .
وقال الحسن بن الربيع، سمعت ابن المبارك قبل ان يموت بيومين أو ثلاثة.
وكان حسن هو الذي غسله وكفنه وقبره.
قال، سمعته قال: (ما أحد عندي من الفقهاء أفضل من سفيان بن سعيد.
ما أدري ما عبد الله بن عون..؟)
وقال الوزاعي: (لو قيل لي، اختر لهذه الامة، ما اخترت الا سفيان الثوري)
وقال الوليد بن مسلم: (رايت الثوري بمكة يستفتى، ولما يخط وجهه بعد) .
وكان الزبير بن عدي، قاضي الري، يستفتي الثوري في قضايا ترد عليه.
ويفتيه الثوري، ويقضي به الزربير .
وكان الشعيب بن حرب يقول: (اني لاحسب يجاء بسفيان يوم القيامة حجة من الله على هذا الخلق.
يقال لهم: (تدركوا نبيكم، فقد رأيتم سفيان.
الا اقتديتم به..؟) .
وقال ابن المديني: (انتهى علم اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الاحكام الى ثلاثة ممن أخذ عنهم العلم: عبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس.
فاخذ عن ابن مسعود ستة: علقمة، والاسود وعبيدة والحارث بن قيس، ومسروق، وعمرو بن شرحبيل.
وانتهى علم هؤلاء أي ابراهيم النخعي، والشعبي.
ثم انتهى علم هؤلاء الى ابي اسحق، والاعمش.
ثم انتهى علم هؤلاء الى سفيان الثوري) .
واما الكتب التي صنفها الثوري ومقلدوه في فقهه.
فقد تلفت ولعبت بها ايدي الحدثان.
لكن اقواله الفقهية قد نقلت كثيرا في الكتب التي صنفها الفقهاء الحنفية والشافعية وغيرهم بحيث يمكن الان جمع كتاب مستقل في فقهه من هذه الكتب.
مرتبته في التفسير: وكان رحمه الله من اكابر مفسري عصره.
وكان علمه بالقران واسعا جدا.
حتى كان ياخذ المصحف، فلا يكاد يمر باية الا فسرها .
وكان يقول: (سلوني عن المناسك والقران، فاني بهما عالم) .
وكان رحمه الله لا يقول في القران برايه.
بل كان يتبع ما قال به الصحابة والتابعون، لانه روى عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (من قال في القران برانه، فليتبوأ مقعده من النار).
وروى عن الشعبي، قال: (لان أكذب على محمد، صلى الله عليه وسلم، أحب الى من ان أكذب في القآن كذبة.
انما يقضى الكاذب في القران الى الله .
وكان لا يفسر من القران الا ما أشكل، لانه روى عن ابن عباس انه قال: (تفسير القران على أربعة وجوه: تفسير يعلمه العلماء وتفسير تعرفه العرب وتفسير لا يعذر احد بجهالته، يقول: من الحلال والحرام وتفسير لا يعلم تأويله الا الله.
من ادعى علمه فهو كاذب) .
ولاجل هذا كان يعجبه من التفسير ماكان حرفا حرفا.
وكان لا يعجته هؤلاء الذين يفسرون السورة من اولها الى اخرها مثل الكلبي .
وكان يقول: (خذوا التفسير عن اربعة: عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك) .
وكان اعتماده على مجاهد أكثر.
وكان يقول: (إذ جاءك التفسير عن مجاهد، فحسبك به) .



__________
(1) الطبقان 6 / 257.
(2) الذيل 105.
(3) جمهرة النسب 63 ب.
(4) نهاية الارب 1 - 2.
(5) تاريخ بغداد: 9 / 54 - وفيه " أبي عبد الله " و (ثعلبة بن ملاكن ".
(6) الانساب 117 الف.
(7) الجمع بين رجال الصحيحين 1 / 194.
(8) الخلاصة 145.
(9) الوفيات 1 / 296.
(10) عمدة القارئ (1 / 360.
(11) المعرفة 174 (12) ليراجع البخاري في الكبير 2 / 2 / 94، وابن أبي حاتم في الجرح 2 / 222 والتقدمة 55، وابن النديم في الفهرست 314، والمقدسي في الانساب 27، والازدي في المشتبه 11، وابن ماكولا في الاكمال 1 / 586 والذهبي في التذكرة 1 / 19، والعسقلاني في التهذيب 4 / 11، وسبط ابن العجمي في النهاية 121 ب.
(12) ابن القيسراني 1 / 69، والنهاية 119 الف، والتهذيب 4 - 82، والخلاصة 142.
(13) أدب الاملاء 109، وصفة الصفوة 3 / 116، والكواكب 1 / 82 الف.
(14) المعارف 218، والانساب للمقدسي 27، وجمهرة النسب 63 ب، والمعرفة 245، والتهذيب 4 / 452 و 10 / 28، والانساب 117 الف.
(15) الطبقات 6 / 258.
منقول