قال الشيخ بن عثيمين فى شرح العقيدة الواسطية
((بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ)) الحمد للهِ الَّذي أَرْسَلَ رَسولَهُ بِالهُدى وَدِينِ الحَقِّ؛ لِيُظْهِرَهُ على الدِّين كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً)).
((وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِله إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ إِقراراً به وَتَوْحِيداً)
((وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَداً عَبْدُهُ وَرَسُولُه)).
((صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِه وَسَلَّم تَسْلِيماً مَزِيداً)).

البُداءةُ بالبَسْملةِ هِيَ شأْنُ جميعِ المؤلِّفينَ؛ اقْتِداءً بكِتابِ اللَّهِ؛ حَيْثُ أَنْزَلَ الْبَسْملةَ فِي ابْتِداءِ كُلِّ سُورةٍ، واسْتِناداً إلى سنَّةِ الرسولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإعرابُ البَسْمَلةِ ومعناها تكلَّمَ فِيهِ النَّاسُ كثيراً، وفِي متعَلَّقِها، وأحْسَنُ ما يُقالُ فِي ذلِكَ: أَنَّهَا متعلِّقةٌ بفِعلٍ محذوفٍ مُتأخِّرٍ مُناسِبٍ للمَقامِ؛ فَإِذَا قَدَّمْتَهَا بَيْنَ يَدَيِ الأكْلِ يَكونُ التَّقديرُ: بسمِ اللَّهِ آكُلُ، وبَيْنَ يَدَيِ القِراءةِ يَكونُ التَّقديرُ: بسمِ اللَّهِ أَقْرَأُ.
نقدِّرُهُ فِعْلاً؛ لأنَّ الأصْلَ فِي العَملِ الأفعالُ لاَ الأسماءُ، وَلِهَذَا كَانَتِ الأفعالُ تَعملُ بِلاَ شرطٍ، والأسماءُ لاَ تَعملُ إلاَّ بشرطٍ؛ لأنَّ العَملَ أَصْلٌ فِي الأفعالِ، فَرْعٌ فِي الأسماءِ.
ونُقدِّرُهُ متأخِّراً لِفائِدتَيْنِ:
الأُولى: الحَصْرُ؛ لأنَّ تقديمَ المعمولِ يُفِيدُ الحَصْرَ، فيَكونُ: باسمِ اللَّهِ أَقْرَأُ؛ بمنْزِلَةِ: لاَ أقرأُ إلاَّ باسمِ اللَّهِ.
الثَّانِيَةُ: تَيَمُّناً بالبُداءةِ باسمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -.
ونُقَدِّرُهُ خاصاًّ؛ لأنَّ الخاصَّ أَدَلُّ عَلَى المقصودِ مِن العامِّ؛ إذْ مِنَ المُمْكِنِ أنْ أَقولَ: التَّقديرُ: باسمِ اللَّهِ أَبْتَدِئُ، لكنْ (باسمِ اللَّهِ أَبْتَدِئُ) لاَ تدلُّ عَلَى تَعْيينِ المقصودِ، لكنْ (باسمِ اللَّهِ أَقْرأُ) خاصٌّ، والخاصُّ أَدَلُّ عَلَى المَعْنَى مِن العامِّ.
((اللَّهُ)) عَلَمٌ عَلَى نَفْسِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، ولاَ يُسَمَّى بِهِ غيرُه، ومَعْنَاهُ: المَأْلُوهُ؛ أيْ: المعبودُ محبَّةً وتعظيماً، وهو مُشْتَقٌّ عَلَى القولِ الرَّاجِحِ لِقَولهِ - تَعَالَى -: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) [الأنعامُ: 3]؛ فإنَّ (فِي السَّمَاوَاتِ) مُتعَلَّقٌ بلفْظِ الجَلاَلةِ؛ يَعْنِي: وَهُوَ المَأْلُوهُ فِي السَّمَاوَاتِ وفِي الأَرْضِ.
((الرَّحمنُ))، فَهُوَ ذُو الرَّحمةِ الواسعةِ؛ لأنَّ (فَعْلان) فِي اللُّغةِ العربيةِ تدلُّ عَلَى السَّعةِ والامتلاءِ؛ كما يُقالُ: رجلٌ غضبانُ إذَا امتلأَ غضباً.
((الرَّحيمُ)): اسمٌ يَدُلُّ عَلَى الفِعلِ؛ لأنَّه فَعِيلٌ بمعنى فاعِلٍ، فَهُوَ دالٌّ عَلَى الفِعلِ.
فيَجتمعُ مِن ((الرَّحمنِ الرَّحيمِ)): أنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ واسِعةٌ، وَأَنَّهَا واصِلةٌ إِلَى الخَلْقِ، وَهَذَا هُوَ مَا أَوْمَأَ إليهِ بعضُهمْ بقولِهِ: الرَّحمنُ رَحمةٌ عامَّةٌ، والرَّحيمُ رحمةٌ خاصَّةٌ بالمؤمنينَ، وَلَمَّا كانَتْ رَحمةُ اللَّهِ للِكافرِ رحمةً خاصَّةً فِي الدُّنْيَا فقطْ؛ فكأَنَّهَا لاَ رحمةَ لَهُمْ؛ لأَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ يَقولُ - تَعَالَى - لهم إِذَا سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِن النَّارِ، وتَوسَّلُوا إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - بِرُبوبِيَّتِهِ واعْتِرَافِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ) [المؤمنونَ: 107]؛ فلاَ تُدْرِكُهُم الرَّحمةُ، بلْ يُدْرِكُهُم العَدْلُ، فيقولُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - لَهُمْ: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ) [المؤمنونَ: 108].
قولُهُ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ)): اللَّهُ - تَعَالَى - يُحْمَدُ عَلَى كَمَالِهِ - عزَّ وجلَّ -، وعَلَى إنعامِهِ؛ فنحنُ نَحْمَدُ اللَّهَ - عزَّ وجلَّ -؛ لأنَّهُ كَامِلُ الصِّفاتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، ونَحمَدُه أيضاً لأَنَّهُ كامِلُ الإنعامِ والإحسانِ: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) [النَّحلُ: 53]، وأَكْبَرُ نِعمةٍ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى الخَلْقِ إرسالُ الرَّسولِ الَّذِي بِهِ هدايةُ الخَلْقِ، وَلِهَذَا يقولُ المؤَلِّفُ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ)).
والمرادُ بالرَّسُولِ هُنَا الجِنْسُ؛ فإنَّ جميعَ الرُّسلِ أُرسِلُوا بالهُدَى ودِينِ الحقِّ، ولكنَّ الَّذِي أكْمَلَ اللَّهُ بِهِ الرِّسالةَ محمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؛ فإنَّهُ قد خَتَمَ اللَّهُ بِهِ الأنبياءَ، وَتَمَّ بِهِ الْبِنَاءُ؛ كَمَا وَصَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفْسَهُ بالنِّسبةِ للرُّسِلِ؛ كرَجُلٍ بَنَى قَصْراً وأَتمَّهُ؛ إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَكَانَ النَّاسُ يَأْتُونَ إِلَى هَذَا القَصْرِ ويَتعجَّبُونَ مِنْهُ؛ إِلاَّ مَوْضِعَ هذِهِ اللَّبِنَةِ؛ يقولُ: ((فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ))، - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -.
وقولُهُ: ((بالهُدَى)): البَاءُ هُنَا للمُصاحَبَةِ، والهُدَى هُوَ العِلْمُ النَّافِعُ، ويُحتمَلُ أنْ تَكونَ الباءُ للتَّعدِيَةِ؛ أيْ: إنَّ المُرْسَلَ بِهِ هُوَ الهُدَى ودِينُ الحقِّ.
و((دِينِ الحقِّ)) هُوَ العَملُ الصَّالِحُ؛ لأنَّ الدِّينَ هُوَ العَمَلُ أو الجَزَاءُ عَلَى العَملِ؛ فمِن إطلاقِهِ عَلَى العَملِ: قولُهُ - تَعَالَى -: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ) [آلُ عِمرانَ: 19]، ومِن إطلاقِهِ عَلَى الجَزَاءِ: قولُهُ - تَعَالَى -: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ) [الانفطارُ: 17]، والحقُّ ضِدُّ البَاطلِ، وَهُوَ –أي الحقُّ- المتضمِّنُ لجَلْبِ المصالِحِ ودَرْءِ المفَاسِدِ، فِي الأحكامِ والأخبارِ.
قوله: ((لِيُظهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ)): اللاَّمُ للتَّعلِيلِ، ومعنى ((ليُظْهِرَهُ))؛ أيْ: يُعْلِيهِ؛ لأنَّ الظُّهُورَ بمعنَى العُلُوِّ، ومِنْهُ: ظَهْرُ الدَّابَّةِ أَعْلاَهَا، وَمِنْهُ: ظَهْرُ الأرْضِ سَطْحُهَا؛ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ) [فاطرُ: 45].
والْهَاءُ فِي ((يُظْهِرُهُ)) هلْ هُوَ عائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ، أوْ عَلَى الدِّينِ؟ إِنْ كَانَ عائِداً عَلَى ((دينِ الحقِّ))؛ فكُلُّ مَنْ قَاتَلَ لدِينِ الحقِّ سَيَكُونُ هُوَ العَالِي؛ لأنَّ اللَّهَ يَقولُ: ((لِيُظْهِرَهُ))؛ يُظْهِرُ هَذَا الدِّينَ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وعَلَى مَا لاَ دِينَ لَهُ، فيُظْهِرَهُ عَليْهِمْ مِن بابٍ أَوْلَى؛ لأنَّ مَن لاَ يَدِينُ أَخْبَثُ ممَّنْ يَدِينُ بباطلٍ؛ فإذاً: كُلُّ الأدْيانِ الَّتِي يَزْعُمُ أَهْلُهُا أنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ سَيَكُونُ دِينُ الإسْلاَمِ عَلَيْها ظاهِراً، ومَنْ سِوَاهُمْ مِنْ بَابٍ أَوْلى.
وَإِنْ كَانَ عائداً إِلَى الرَّسولِ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -؛ فإِنَّمَا يُظْهِرُ اللَّهُ رسولَهُ لأنَّ مَعَهُ دِينَ الحَقِّ.
وعَلَى كِلاَ التَّقدِيرَيْنِ ؛ فإنَّ مَنْ تمسَّكَ بهَذَا الدِّينِ الحقِّ فَهُوَ الظَّاهِرُ العَالِي، ومَن ابْتَغَى العِزَّةَ فِي غيرِهِ فَقَد ابْتَغَى الذُّلَّ؛ لأنَّهُ لاَ ظُهُورَ ولاَ عِزَّةَ ولاَ كَرامةَ إِلاَّ بالدِّينِ الحقِّ، وَلِهَذَا أنا أَدْعُوكُمْ مَعْشَرَ الإخْوةِ إِلَى التَّمَسُّكِ بدِينِ اللَّهِ ظاهِراً وباطِناً، فِي العِبادَةِ، والسُّلوكِ، والأخلاقِ، وفِي الدَّعْوةٍ إِلَيْهِ، حَتَّى تَقُومَ الملَّةُ، وَتَسْتَقِيمُ الأُمَّةُ.
قولُه: ((وكَفَى بِاللَّهِ شَهِيَداً)): يقولُ أهلُ اللُّغةِ: إنَّ الباءَ هُنَا زائدةٌ، لتَحسينِ اللَّفظِ والمبالغةِ فِي الكفايةِ، وأصلُها: ((وكَفَى اللَّهُ)).
و((شهِيداً)): تمييزٌ محوَّلٌ عن الفاعلِ؛ لأنَّ أصْلَها ((وكفَتْ شَهادةُ اللَّهِ)).
المؤلِّفُ جاءَ بالآيةِ؛ ولو قَالَ قائلٌ: مَا مناسَبةُ ((كَفَى باللَّهِ شهِيَداً))؛ لقولِهِ: ((لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ))؟
قِيلَ: المناسَبةُ ظاهِرةٌ؛ لأنَّ هَذَا النَّبيَّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - جَاءَ يَدْعُو النَّاسَ ويقولُ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجنَّةَ، ومَنْ عَصَاني دَخَلَ النَّارَ، ويقولُ بلِسانِ الحالِ: مَن أَطَاعَنِي سَالَمْتُهُ، ومَنْ عَصانِي حاربْتُهُ، ويحارِبُ النَّاسَ بهَذَا الدِّينِ، ويَستبيحُ دماءَهُم، وأموالَهُم، ونِساءَهُمْ، وذريَتهُمْ، وهُوَ فِي ذلِكَ مَنْصورٌ مؤزَّرٌ غالِبٌ غيرٌ مَغلوبٍ، فهَذَا التَّمْكِينُ لَهُ فِي الأرْضِ أيْ: تمكينُ اللَّهِ لِرَسولهِ فِي الأرْضِ، شهادةٌ مِن اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - فِعليَّةٌ بأنَّهُ صادِقٌ، وأنَّ دينَهُ حقٌ؛ لأنَّ كُلَّ مَن افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فمآلُهُ الخِذْلانُ والزَّوالُ والعَدَمُ، وانظر إِلَى الَّذِينَ ادَّعَوُا النُّبوَّةَ مَاذَا كَانَ مآلُهُمْ؟ أنْ نُسُوا وأُهلِكُوا؛ كمسيلِمةَ الكذَّابِ، والأسْوَدِ العَنْسِيِّ… وغيرِهِمَا ممَّنْ ادَّعَوُا النُّبوَّةَ، كلُّهم تَلاَشَوْا، وبانَ بطلانُ قَوْلِهِمْ، وحُرِمُوا الصَّوَابَ والسَّدَادَ، لكنَّ هَذَا النَّبِيَّ محمَّداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى العَكْسِ، دَعْوَتُه إِلَى الآنَ - والحمدُ لِلَّهِ - باقِيةٌ، ونسألُ اللَّهَ أنْ يُثبِّتَنا وإياكُم عَلَيْها، دَعْوَتُه إِلَى الآنَ باقِيةٌ، وإِلَى أنْ تَقومَ السَّاعةُ، ثابتةٌ راسِخةٌ، يُستباحُ بدعوتِهِ إِلَى اليومِ دماءُ مَن نَاوَأَهَا مِن الكفَّارِ وأَمْوالُهُم، وتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وذُرِّيَّتُهُم، هذِهِ الشَّهادةُ فِعليَّةٌ، مَا أخذَهُ اللَّهُ ولاَ فَضَحَهُ ولاَ كذَّبَهُ، وَلِهَذَا جاءتْ بعدَ قولهِ: ((لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)).
((أَشْهَدُ))؛ بمعنى: أُقرُّ بقلَبْي ناطِقاً بلِسانِي؛ لأنَّ الشَّهَادَة نُطْقٌ وإخبارٌ عمَّا فِي القلبِ؛ فأنتَ عِنْدَ القَاضِي تَشْهَدُ بحقِّ فُلانٍ عَلَى فلانٍ؛ تَشْهَدُ باللِّسانِ المُعَبِّرِ عمَّا فِي القلبِ، واختيرتِ الشَّهادةُ دُونَ الإقرارِ؛ لأنَّ الشَّهادةَ أصْلُها مِن شُهودِ الشيءِ؛ أيْ: حُضورُهُ ورُؤْيَتُهُ؛ فكأنَّ هَذَا المُخْبِرَ عمَّا فِي قَلبِهِ النَّاطِقَ بلسانِهِ؛ كأنَّهُ يُشاهِدُ الأمْرَ بعَيْنِهِ.
((لاَ إلهَ إلاَّ اللَّهُ))؛ أيْ: لاَ مَعبودَ حَقٍّ إِلاَّ اللَّهُ، وعَلَى هَذَا يكونُ خَبَرُ "لا" محذوفاً، ولفْظُ الجَلالَةِ بَدَلاً مِنْهُ.
((وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ)): ((وحْدَهُ)): هِيَ مِن حَيْثُ المَعْنَى توكيدٌ للإثباتِ، ((لاَ شريكَ لهُ)): تَوْكيدٌ للنَّفْيِ.
((إقراراً بِهِ وتَوحِيداً)): ((إقراراً)) هَذِهِ مَصْدَرٌ، وإنْ شِئْتَ فقلْ: إِنَّهُ مَفعولٌ مُطلَقٌ؛ لأنَّهُ مَصْدرٌ معنويٌّ، لقولِهِ: ((أَشْهَدُ))، وأهْلُ النَّحوِ يقولونَ: إِذَا كَانَ المَصْدَرُ بمعنى الفِعلِ دُونَ حروفِهِ؛ فَهُوَ مَصْدرٌ معنويٌّ، أوْ مَفعولٌ مُطلَقٌ، وإِذَا كَانَ بمعناهُ وحروفِهِ؛ فهوَ مَصْدَرٌ لَفْظيٌّ، فَقُمْتُ قِياماً، مصدرٌ لفظيٌّ، وقمْتُ وُقوفاً، مصدرٌ معنويٌّ، وجلستُ جُلوساً: لَفظيٌّ، وجلستُ قعوداً: معنويٌّ.
وقوله: ((وتوحيداً)): مَصدرٌ مُؤكِّدٌ لقولِهِ: ((لاَ إلَهُ إِلاَّ اللَّهُ)).
نقولُ فِي ((أَشْهَدُ)) مَا قلْنا فِي ((أَشْهَدُ)) الأُولى.
ومحمَّدٌ: هُوَ ابنُ عبدِ اللَّهِ، بنِ عبدِ المطَّلِبِ، القُرَشيِّ، الهاشِميِّ، الَّذِي هُوَ مِن سُلالةِ إسماعيلَ بنِ إبراهِيَمَ، أَشْرَفُ النَّاسِ نَسَباً، - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -.
هَذَا النَّبِيُّ الكريمُ هُوَ عبدُ اللَّهِ ورسولُهُ، وَهُوَ أَعْبَدُ النَّاسِ لِلَّهِ، وأَشَدُّهُم تحقيقاً لعبادتِهِ، كَانَ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - يقومُ فِي اللَّيلِ حَتَّى تَتورَّمَ قَدَماهُ، ويُقالُ لَهُ: كَيْفَ تَصْنَعُ هَذَا وقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لكَ مَا تَقدَّمَ مِن ذَنْبِكَ ومَا تأخَّرَ؟! فيقولُ: ((أفلاَ أكونُ عبداً شكوراً؟))؛ لأنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أثنى عَلَى العبدِ الشَّكورِ حينَ قَالَ عن نُوحٍ: (إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً) [الإسراءُ: 3]، فأَرادَ النَّبِيُّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - أنْ يَصِلَ إِلَى هذِهِ الغايةِ، وأنْ يَعْبُدَ اللَّهَ - تَعَالَى - حقَّ عبادَتِهِ، وَلِهَذَا كَانَ أَتْقَى النَّاسِ، وأخشى الناس لِلَّهِ، وأشدَّهَم رَغْبةً فيمَا عنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -، فَهُوَ عبدٌ لِلَّهِ، ومُقْتَضَى عُبوديَّتِهِ أنَّهُ لاَ يَمْلِكُ لنفسِهِ ولاَ لِغَيرِهِ نَفْعاً ولاَ ضرًّا، وليسَ لهُ حقٌّ فِي الرُّبوبِيَّةِ إطلاقاً، بلْ هُوَ عبدٌ محتاجٌ إِلَى اللَّهِ، مفتَّقِرٌ لَهُ يسألُهُ ويدعُوه، ويرجُوه، ويخافُهُ، بلْ إنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أنْ يُعلِنَ وأنْ يُبلِّغَ بلاغاً خاصًّا بأنَّهُ لاَ يَمْلِكُ شيئًا مِن هذِهِ الأمورِ، فقال: (قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَو كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) [الأعرافُ: 188]، وأَمَرَهُ أنْ يَقولَ: (قُل لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ) [الأنعامُ: 50]، وأَمَرَه أنْ يقولَ: (قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا، قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً، إِلاَّ بَلاَغًا) [الجن: 21-23] (إلاَّ): استثناءٌ مُنقطِعٌ، أيْ: لكنْ أُبلِغُ بَلاَغًا مِنَ اللَّهِ ورِسالاتِهِ.
فالحاصلُ أنَّ محمَّداً - صَلواتُ اللَّهِ وسلامُهُ عليهِ - عبدٌ لِلَّهِ، ومُقتضَى هذِهِ العُبوديَّةِ أنَّه لاَ حقَّ لَهُ فِي شيءٍ مِنْ شُئونِ الرُّبوبِيَّةِ إطلاقاً…
وإِذَا كَانَ محمَّدٌ رسولُ اللَّهِ - صلواتُ اللَّهِ وسلامُهُ عليهِ - بهذِهِ المَثَابَةِ؛ فمَا بالُكَ بمَنْ دُونَهِ مِنْ عِبادِ اللَّهِ؟! فإنَّهُم لاَ يَملِكونَ لأنْفُسِهم نَفْعاً ولاَ ضرَّا، ولاَ لغيِرِهم أبداً، وبهَذَا يَتبيَّنُ سفَهُ أُولَئِكَ القومِ الَّذِينَ يَدْعُونَ مَنْ يَدْعُونَهُم أولياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -…
وقولُهُ: ((ورسولُه)): هَذَا أيضاً وَصْفٌ لاَ يكونُ لأحدٍ بَعدَ رسولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنَّهُ خاتَمُ النَّبيِّينَ؛ فَهُوَ رَسولُ اللَّهِ الَّذِي بَلَغَ مكاناً لَمْ يَبْلُغْهُ أحدٌ مِنَ البَشرِ، بلْ ولاَ مِن الملائكةِ فيمَا نَعلَمُ، اللَّهمَّ إِلاَّ حَمَلةَ العَرْشِ، وَصَلَ إِلَى مَا فَوْقَ السَّماءِ السَّابعةِ، وَصَل إِلَى مَوْضِعِ سَمِعَ فيهِ صَرِيفَ أقلامِ القَضاءِ الَّذِي يَقْضِي بِهِ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - فِي خلْقِهِ، مَا وَصَلَ أحدٌ فيمَا نَعلَمُ إِلَى هَذَا المستَوَى، وكلَّمَهُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - بِدُونِ واسِطةٍ، وأرسَلَهُ إِلَى الخَلْقِ كافَّةً، وأيَّدهُ بالآياتِ العظيمةِ الَّتِي لَمْ تكنْ لأحدٍ مِنَ البَشَرِ أو الرُّسُلِ قَبْلَهُ، وهُوَ هَذَا القرآنُ العظيمُ؛ فإنَّ هَذَا القرآنَ لاَ نظيرَ لَهُ فِي آياتِ الأنبياءِ السَّابقينَ أبداً، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (وَقَالُوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَاتٌ مِن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) [العنكبوتُ: 50-51]، هَذَا يكفِي عَنْ كُلِّ شيءٍ، ولكنْ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أوْ أَلْقى السَّمعَ وهُوَ شهِيَدٌ، أَمَّا المُعْرِضُ فسيَقولُ كَمَا قَالَ مَن سَبقَهُ: هَذَا أساطيرُ الأوَّلِينَ!
الحاصِلُ أنَّ محمَّداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسولُ اللَّهِ وخاتمُ النَّبيِّينَ، ختَمَ اللَّهُ بهِ النُّبوَّةَ والرِّسالَةَ أيضاً؛ لأنَّهُ إِذَا انْتَفَت النُّبوَّةُ –وهِيَ أَعَمُّ مِن الرِّسالَةِ- انْتَفَت الرِّسالةُ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ؛ لأنَّ انتفاءَ الأعَمِّ يَستلزِمُ انتفاءَ الأخَصِّ؛ فرَسولُ اللَّهِ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - هُوَ خاتَمُ النَّبِيِّينَ.
(5) مَعْنى ((صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ)): أحسنُ مَا قِيلَ: فِيهِ مَا قالَهُ أبو العالِيَةِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- قالَ: ((صَلاةُ اللَّهِ عَلَى رسولِهِ، ثَناؤُهُ عَلَيْهِ فِي الملأِ الأعلَى)).
وأمَّا مَنْ فسَّرَ صلاةَ اللَّهِ عَلَيْهِ بالرَّحمةِ فقولُهُ ضعيفٌ؛ لأنَّ الرَّحمةَ تكونُ لكُلِّ أحدٍ، وَلِهَذَا أَجْمَعَ العُلماءُ عَلَى أنَّكَ يَجُوزُ أنْ تَقولَ: فلانٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، واختلفُوا:هلْ يجوزُ أنْ تقولَ: فلانٌ صَلَّى اللَّهُ عليْهِ؟ وَهَذَا يدلُّ عَلَى أنَّ الصَّلاَةَ غيرُ الرَّحمةِ، وأيضاً؛ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) [البقرةُ: 157]، والعَطفُ يَقتضِي المُغايَرةَ، إذاً فالصَّلاَةُ أَخَصُّ مِنَ الرَّحمةِ؛ فَصَلاةُ اللَّهِ عَلَى رسولِهِ ثناؤهُ عليْهِ فِي الملأِ الأعلى.
وكذلِكَ قولُهُ: ((وعَلَى آلِهِ))، و(آلِهِ) هنا: أتباعُه عَلَى دينِهِ، هَذَا إِذَا ذُكِرَت الآلُ وَحْدَها أوْ مَعَ الصَّحْبِ، فإنَّها تكونُ بمعنى أتباعِهِ عَلَى دينِهِ منذُ بُعِثَ إِلَى يومِ القيامةِ، ويدلُّ عَلَى أنَّ الآلَ بمعنى الأتباعِ عَلَى الدِّينِ قولُه - تَعَالَى - فِي آلِ فِرعونَ: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ) [غافرٌ: 46] أيْ: أتباعُهُ عَلَى دِينِه.
أمَّا إِذَا قُرِنْتَ بالأتباعِ، فقِيلَ: آلُهُ وأتباعُهُ، فالآلُ هُم المؤمنونَ مِنْ آلِ البيتِ، أيْ: بيتِ الرَّسولِ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -.
وشيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- لَمْ يَذْكُر الأتْباعَ هُنا، قالَ: ((آلِهِ وصَحْبِهِ))، فنقولُ: آلُهُ هُمْ أتْباعُهُ عَلَى دينِهِ، وصَحْبُهُ كُلُّ مَن اجْتَمَعَ بالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُؤمِناً بِهِ وماتَ عَلَى ذلِكَ.
وعَطْفَ الصَّحْبَ هُنَا عَلَى الآلِ مِن بابِ عَطْفِ الخاصِّ عَلَى العامِّ، لأنَّ الصُّحبَةَ أخَصُّ مِن مُطلَقِ الأَتْباعِ.
قولُه: ((وَسَلَّم تَسْلِيماً مَزِيداً)): (سَلَّمَ) فيها السَّلامةُ مِن الآفاتِ، وفِي الصَّلاَةِ حُصولُ الخَيْراتِ، فجمَعَ المؤلِّفُ فِي هذِهِ الصِّيغةِ بَيْنَ سُؤالِ اللَّهِ - تَعَالَى - أنْ يُحَقِّقَ لنَبيِّهِ الخيراتِ –وأخصُّها: الثَّناءُ عليْهِ فِي الملأِ الأعلَى- وأنْ يُزِيلَ عنْهُ الآفاتِ، وكذلِكَ مَن اتَّبعَهُ.
والجملةُ فِي قولِهِ: ((صلَّى)) و((سلَّمَ)) خَبَريَّةٌ لفظاً،طَلَبِيَّ ةٌ معنًى؛ لأنَّ المرادَ بِهَا الدُّعاءُ.
وقولُه: ((مَزيداً))، بمعنى: زائداً أوْ زيادةً، والمُرادُ تَسلِيماً زائداً عَلَى الصَّلاةِ، فيكونُ دعاءً آخَرَ بالسَّلامِ بَعْدَ الصَّلاةِ.
والرَّسولُ عِنْدَ أهلِ العِلمِ: مَن أُوحيَ إِلَيْهِ بشَرعٍ وأُمِرَ بتبليغِهِ.
وقد نُبِّئَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ب(اقْرَأْ)، وأُرْسِلَ بالمُدَّثِّرِ، فبقولِهِ - تَعَالَى -: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)… إِلَى قولِه: (عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلقُ: 1-5] كَانَ نبيًّا، وبقولِه: (يَأَيُّهَا المُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنذِرْ)[المدثرُ: 1،2] كَانَ رسولاً - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -.