تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: الاستدلال بسد الذرائع الضوابط وإشكالات التطبيق

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,461

    افتراضي الاستدلال بسد الذرائع الضوابط وإشكالات التطبيق

    الاستدلال بسد الذرائع الضوابط وإشكالات التطبيق
    أ.د. عياض السلمي*

    تمهيد :
    القرآن والسنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هما الأصلان الرئيسان اللذان يثبت بهما أحكام الشرع كافه , وكل حكم لا يستند إلى كتاب أو سنه بأي وجه من أوجه الاستناد القريب والبعيد , الظاهر والخفي فليس حكماً شرعياً وقد قرر القرآن هذه الحقيقة ، قال تعالى{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}وأمر الرسول ونهيه يعرف بما تكلم به أو فعله أو أقره .
    وما تكلم به وظهر على لسانه قسمان :
    الأول : ما هو قرآن متعبد بلفظه ومعناه , وهذا له مزيّة خاصة ومنزلة رفيعة لكونه كلام الله جل وعلا لفظاً ومعنى .
    الثاني :ما جاء على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - من السنة القولية وهو في المرتبة الثانية إذا صح أنه قاله .
    وفي العهد الأول عهد الخلفاء الراشدين لم يرد ذكر لغير الكتاب والسنة في معرض الاستدلال إلا ما جاء من التزام عثمان رضي الله عنه بأن يحكم بما في كتاب الله وسنة رسوله وما قضى به أبو بكر وعمر . ولا يخفى أن التزامه نسيرة أبي بكر وعمر إنما كان في السياسة وإدارة الحكم وتصريف شؤونهم . يدل على ذلك أن علياً عندما شاوره الستة الذين عينهم عمر لم يلتزم بذلك ، ليقينه بأن اختلاف الناس بعد مرور الزمن سيحتم عليه أن يسوسهم بما يراه مناسباً مما لا يتعارض مع الكتاب والسنة وإن كان قد يتعارض مع سياسة أبي بكر وعمر.
    وحين نقول لم يرد ذكر لما سوى الكتاب والسنة لا يعني عدم دليلية الإجماع والقياس , وعدم مشروعية العمل بقول الصحابي الذي لا مخالف له، والعمل بقواعد الشريعة التي أصبحت فيما بعد تذكر على أنها أدلة مستقلة كالاستصحاب والمصالح المرسلة وسد الذرائع ونحوها .
    بل المراد أنهم لم يكونوا يصرحون بالالتزام باتباع ما سوى الكتاب والسنة . وما ذكر من الإجماع والقياس وما ذكر معهما مستندة في حجيتها إلى الكتاب والسنة . وبهذا يتضح لنا عدم التناقض في منهج الإمام الشافعي الذي لم يعد من ضمن الأدلة الاستصحاب ،مع كونه يأخذ به حتماًُ في بعض المواطن , ولكن لم ير أنه يصلح أن يسمى دليلاً يقرن بالكتاب والسنة والإجماع وكذلك رده للاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع هو بهذا المعنى أي بمعنى أنها ليست أدلة مستقلة .
    وقد تفنن العلماء بالنص على أدلة كثيرة غير أن بينها تداخلا وعموما وخصوصا وهي كلها راجعة للكتاب والسنة فالاستصلاح والاستحسان وسد الذرائع والنظر إلى مآلات الأفعال ومراعاة الخلاف وإن أفرد كل منها بالبحث والاستدلال والتمثيل لكنها تتداخل فمن لا يقول ببعضها ربما قال بما يغني عنه أو يشمله .
    وحديثي الليلة إليكم سأقصره على قاعدة سد الذرائع كما هي في اصطلاح الأصوليين بعد استقرار الاصطلاحات .
    وعلى وجه الخصوص سأركز على الجانبين المذكورين في عنوان اللقاء وهما : ضوابط القاعدة – وإشكالية التطبيق .
    فليس الوقت المتاح كافياً لتناول كل ما قيل في سد الذرائع , ولا الحضور بحاجة لسماع كل لك ولذلك سأقتصر على ما جاء في عنوان المحاضرة وأكتفي بخلاصة قراءتي لقاعدة سد الذرائع في ضوابطها وحدودها وأهم ما يستدل به عليها وما يرد على تطبيقها من إشكال.
    أما عن ضوابط القاعدة فسأتناول فيه :
    · تعريفها – والفرق بينها وبين ما يشبهها .
    · دليل العمل بها والشروط التي لابد منها لصحة العمل بها .
    · منزلتها من الأدلة .
    وأما إشكالية التطبيق فسأتناول فيه :
    1. صورا من تطبيقات الأئمة السابقين والفقهاء المعاصرين.
    2. صورا من الإشكالات الواردة على التطبيق :
    *أ. من جهة التوسع في تطبيق القاعدة والخروج بها عن حدودها وأسباب ذلك .
    *ب. من جهة استبعاد العمل بها أو اختزالها وقصرها على الوسائل المفضية إلى الحرام قطعاً .
    وسأحاول الوقوف عند بعض الجوانب الغامضة من القاعدة , مما لا نجد له ذكراً في شيئ من كتب أصول الفقه .
    تعريف سد الذرائع :
    تحديد المصطلح من الأمور المهمة التي تجب العناية بها لأن الحكم على الشيئ فرع عن تصوره، ومصطلح سد الذرائع مكون من مضاف ومضاف إليه فأما السد فهو في اللغة : يعني الإغلاق والمنع ويطلق اسماً على المانع كما في قوله تعالى {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}"الكهف".والمقص د به هنا في مصطلح سد الذرائع المصدر وفعله سد , يسدُّ . والمعنى المراد هوالمعنى المجازي للسد ،لأنه المنع الشرعي وهو التحريم ، والتحريم لا يلزم منه منع وجود الفعل المحرم حتماً ، بل قد يقع مع تحريمه ، وهذه الدقيقة لم أجد من نبه عليها وهي ذات دلالة مهمة ستتم الإشارة إليها لاحقا بإذن الله تعالى .
    والذرائع : جمع ذريعة وهي الوسيلة والسترة التي ينقى بها وأصلها الناقة التي يستتر بها الصياد ليقترب من الصيد فيرميه بسهمه فهو يتذرع بها أي يستتر بها ( ابن بيّه ) .
    وفي اصطلاح : علماء الشرع تطلق الذرائع على الوسائل ويقسمونها إلى ذرائع يجب سدها وذرائع يجب فتحها وذرائع مختلف في سدها وغالبهم يقصرها على الوسائل المفضية إلى الحرام دون المفضية للمكروه لأن المكروه عند الجمهور فيه نوع تخيير لن المكلف لا يعاقب بفعله .
    ولذا فهم يقسمون الذرائع من حيث إفضائها إلى الحرام قطعاً أو ظناً إلى :
    1. ذريعة توصل إلى الحرام قطعاً .
    2. ذريعة توصل إلى الحرام غالباً .
    3. ذريعة توصل إلى الحرام كثيراً أوتستوي حالات إفضائها إلى الحرام وعدمه أو تتقارب .
    4. وسيلة توصل إلى الحرام نادراً .
    وأما مصطلح سد الذرائع فإنه لا يتناول ما كان وسيلة إلى مصلحة راجحة أو خالصة وإنما يقتصر على ما يكون وسيلة إلى مفسدة خالصة أو راجحة .
    فهذه الذريعة هي التي تكلم العلماء في وجوب سدها .
    وأما من قسم الذرائع بشكل عام فهو يعني المعنى اللغوي لها ، ولم يقسنها بشرط إضافة السد إليها ، ولذا فقد جعل منها ما يجب سدها ، ومنها ما يجب فتحها ، ومنها ما يختلف في وجوب سدها . كما فعل ابن القيم في إعلام الموقعين ، وكما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية ، لكن استدرك في مواضع من كلامه وقال " الذريعة ما كان وسيلة وطريقاً إلى شيئ لكنها صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى محرم " ) الفتاوى الكبرى ).
    وهذا عندما تقرن بلفظ " السد " ويقال : سد الذرائع . وإذا قيل " فتح الذرائع " انصرفت إلى ما يوصل إلى مصلحة راجحة .
    وإذا اطلقت عن الإضافة شملت القسمين .
    ألفاظ بعض العلماء في تحديد معنى الذرائع :
    قال الباجي : الذريعة " المسألة التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل المحظور " إحكام الفصول 765 .
    وقال ابن رشد الجد : هي الأشياء التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل المحظور " المقدمات والممهدات 2 / 39 .
    وقال ابن العربي : هي كل عمل ظاهره الجواز يتوصل به إلى محظور " أحكام القرآن 2/798
    وقال ابن تيمية : الذريعة: الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل المحرم "الفتاوى الكبرى 3/256
    وقال الشاطبي : هي التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة "الموافقات 4/199
    ومما سبق يمكن أن نخلص إلى تعريف قاعدة سد الذرائع بأن المراد بها :
    المنع مما ليس في ذاته محرما لكنه يفضي إلى المحرم .
    فقولنا : ليس بمحرم في ذاته أي ليس منصوصاً على تحريمه، ولم يثبت تحريمه بإجماع ولا قياس صحيح ،بل هو من المباحات أو المستحبات أو الواجبات المأمور بها في حال عدم الإفضاء إلى المحرم أو من المكروهات .
    وقد قصر بعضهم سد الذرائع على المنع من المباح خاصة في تعريفه ولكن في التطبيق عمم .
    وذلك أن الشارع يمكن أن يمنع الواجب في بعض الأحيان لكونه يفضي إلى مفسدة أعظم بسبب المكان والزمان والحال كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من الواجبات ولكن إذا كان سيفضي إلى منكر أعظم مفسدة فالواجب على المكلف الإمساك عنه في تلك الحال .
    ومثاله في المستحبات : بناء المساجد مستحب ولكن بناء مسجد بجوار مسجد آخر ممنوع لكونه يفضي إلى مفسدة تفريق جماعة المسلمين .
    ومثاله في المباحات: أن بيع السلاح جائز وكذلك صنعه . ولكن إذا قامت الفتنة بين المسلمين وتقاتلوا يحرم بيع السلاح على من يغلب على الظن أنه سيقتل به المسلمين .
    فهذه ثلاثة أمثلة حرمها العلماء أو جمهورهم مع أنها لم يرد نهي عنها بذاتها وإنما استفيد تحريمها من كونها مفضية إلى الحرام .
    أما ما نص الشرع على تحريمه سداً للذريعة فله أمثلة ويجمعها أنها : أفعال ورد عن الشرع النهي عنها لا لكونها مفسدة في ذاتها بل لكونها تفضي إلى مفسدة .
    فهي محرمة بنص الشرع ولكن العلة في تحريمها ليس كونها مفسدة في ذاتها بل لكونها تفضي إلى مفسدة أكثر من المصلحة الموجودة فيها , فهي لا تخلو من المصلحة ولكن عند مقارنة ما فيها من المصلحة بما يترتب عليها من المفاسد يترجح جانب المفسدة ولذلك نص الشرع على تحريمها .
    والمراد بقولنا " المنع " في التعريف هو المنع الشرعي الذي يفهم من الحكم بالتحريم . وليس المقصود المنع الحسي فإن التحريم مظنة امتناع المسلمين عن الشيئ لكن لا يلزم من تحريمه امتناعهم حساً وحقيقة وهذا يؤكد ما ذكرته سابقا في المعنى اللغوي.
    كما أننا لا نعني المنع السلطاني الذي يفعله الإمام سياسة فإن ذلك بابه أوسع مع أنه قد يكون سببه سد الذرائع لكنه لا يقتصر على ما أفضى إلى الحرام غالبا .
    الفرق بين قاعدة سد الذرائع وما يلتبس بها من القواعد :
    أولا : الفرق بينها وبين قاعدة " ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب " أو ما يعرف " بمقدمة الواجب" وما يستنبط منها من قواعد :
    1. أن قاعدة سد الذرائع تخص ما يوصّل إلى الحرام ،وقاعدة ما لا يتم الواجب إلا به أصلها فيما يتوصل به إلى الواجب ولكن العلماء اشتقوا منها ما يوصل إلى الحرام فقالوا إنه حرام أو قالوا : إن تركه واجب " وهما بمعنى واحد .
    2. أن قاعدة سد الذرائع تخص الوسائل التي يمكن أن يتوصل بها إلى الحرام وإلى غيره ، أما قاعدة "ما لا يتم الواجب إلا به " وما اشتق منها فهي فيما إذا لم توجد إلا وسيلة واحدة للواجب فإنها تجب , أو لم توجد للحرام إلا وسيلة واحدة فتحرم .
    أي أن الوسيلة متمحضة لغرض واحد في هذه القاعدة بخلاف قاعدة سد الذرائع .
    3. أن قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به ليست خاصة بالوسائل بل يدخل فيها جزء الواجب , وجزء الحرام ولذا سميت بمقدمة الواجب , كما يدخل فيها شرط صحة الواجب وهو الشرط العقلي والعادي كالمشي للمسجد لمن لا وسيلة له إلى المسجد إلى بذلك
    ثانيا : الفرق بين قاعدة سد الذرائع وقاعدة : الوسائل لها أحكام المقاصد " :
    لا شك أنه قد يرد في كلام بعض العلماء ما يقتضي التسوية بين القاعدتين باعتبار أن الذرائع تعنى الوسائل ولكن الذي يظهر التفريق بين القاعدتين بما يلي :
    1. أن قاعدة الوسائل لها أحكام المقاصد تقتصر على ما إذا قصد المكلف بفعل الشيئ الوصول إلى شيئ أخر .
    أما قاعدة سد الذرائع فهي فيما لم يظهر فيه مقصد المكلف، ولكنه محتمل الوجود احتمالاً غالباً .
    2. أن قاعدة الوسائل أعم من جهة أنها تشمل تحريم ما قصد به الوصول إلى الحرام وإيجاب ما قصد به الوصول إلى الواجب بمعنى أن فاعله يثاب ثواب الواجب وكذا في وسيلة المكروه ووسيلة المندوب ، وقاعدة سد الذرائع إنما هي خاصة بالمحرم على الصحيح وألحق به بعضهم المكروه ولا يظهر لي صحة ذلك لأن المباح لا يمكن تحريمه لأجل أنه يفضي لمكروه لا يستحق فاعله العقاب وأما المكروه كراهة تحريم باصطلاح الحنفية فهو من المحرمات كما هو معروف .
    ومما يدل على الفرق بين القاعدتين أن بعض علماء الشافعية أنكروا أن يكون الشافعي قال بقاعدة سد الذرائع وتأولوا ما نقل عنه بأنه من باب إعطاء الوسائل أحكام المقاصد .
    كما قال السبكي " لقد تأملت كلام الشافعي رحمه الله فلم أجد متعلقاً قوياً لإثبات قول سد الذرائع , بل الذريعة تعطى حكم الشيئ المتوصل بها إليه وذلك الكلام حرام ووسيلة الحرام حرام , والذريعة تنفي الوسيلة . فهذا القسم وهو ماكان من الوسائل مستلزماً لا نزاع فيه ... " المجموع 10 / 148 .
    ثالثا : الفرق بين قاعدة سد الذرائع وقاعدة الحيل :
    سوّى بعض العلماء بين القاعدتين والظاهر أن بينهما فرقاً يتلخص في أن سد الذرائع أعم من قاعدة تحريم الحيل فإن الحيل ذرائع قصد المكلف من فعلها الوصول إلى المحّرم عليه بالنص , فالقصد في الحيل منظور إليه , وأما سد الذرائع فلا يشترط فيها القصد بل المنع مما لم يرد بتحريمه نص لكونه مفضياً في الغالب إلى المحرم أو كثيرا ما يفضي إلى المحرم في عادة الناس أو بمقتضى طبيعة الفعل.
    وفي هذا المعنى يقول الشيخ محمد أبو زهره إن أصل سد الذرائع لا تعتبر النية فيه ( أي لا تشترط ) على أنها الأمر الجوهري في الإذن أو المنع , وإنما النظر فيه إلى النتائج والثمرات ( مالك حياته وعصره آراؤه وفقهه ص 343 ) .
    تحرير محل الوفاق ومحل النزاع في سد الذرائع :
    1. لا خلاف بين العلماء في أن الوسيلة التي تقضي إلى الحرم قطعاً محرمة وإن لم يرد فيها نص بذاتها . غير أن بعضهم لا يسمى تحريم هذه الوسيلة من باب سد الذرائع مثاله : إغلاق الباب على حيوان يعلم أنه سيؤدي إلى موته , إغلاق الباب على الهارب من الأسد ليأكله .القرافي ( الفروق)
    2. ولا خلاف بين العلماء في أن ما يمكن أن يؤدي إلى الحرام نادراً لا يحرم شرعاً لأن النادر لا حكم له مثل منع بيع العنب أو التمر مطلقاً لئلا يصنع منه الخمر .
    أو يقال بتحريم تلاصق الدور لكونه يؤدي إلى الزنا والسرقة .( القرافي وأبو زهرة وابن بيه)
    وكون هذا النوع من الذرائع لا يحرم ليس معناه أن السلطان لا يمكن أن يفرضه على الناس إذا رأى فيه مصلحة بل يمكن أن يفرضه على الناس فيجب سلطنة فيستحق من فعله العقوبة الجزائية التي قررها السلطان . ويؤثم المخطئ لمخالفته أوامر السلطان الواجب الطاعة .
    3. كذلك يخرج من محل النزاع على الصحيح ما يقصد به فاعله الوصول إلى الحرام فإنه يكون حراماً عليه وإن كان إفضاؤه إلى الحرام قليلاً أو نادراً . وهذا مقتضى قاعدة " الوسائل لها أحكام المقاصد " لأن المراد الوسائل التي يقدم المكلف عليها متوسلاً بها إلى الحرام كما سبق.
    4. يقتصر الخلاف على الفعل الذي لم يرد بتحريمه نص ولكنه يفضي إلى الحرام غالباً أو كثيراً .
    فهذا القسم هو الذي وقع الخلاف فيه فأثبته المالكية والحنابلة وأنكره الشافعية والحنفية في المشهور عنهم وأخرج بعض العلماء ما عدا هذا من مسمى الذرائع التي يجب سدها وأدخله بعضهم في مسمى الذرائع وجعله من المتفق عليه وحصر الخلاف فيما يفضي إلى الحرام غالباً أو كثيراً .
    فمنهم من عد الذرائع وقسمها إلى أربعة أقسام :
    1. ذريعة مفضية إلى الحرام قطعاً .
    2. ذريعة مفضية إلى الحرام ظناً غالباً .
    3. ذريعة مفضية إلى الحرام كثيراً .
    4. ذريعة مفضية إلى الحرام نادراً .
    وجعل محل الخلاف القسمين الثاني والثالث .
    ومنهم من جعل القسمة ثلاثية كالقرافي حيث جعل الذرائع منها :
    1. ما اتفق على منعه كحفر الآبار في طريق المسلمين .
    2. ما اتفق على عدم منعه كزراعة العنب مع احتمال اتخاذه خمر .
    3. ما اختلف فيه كبيوع الآجال التي تكون ذريعة إلى الربا ومنها بيع العينة .
    وهذا التقسيم وإن كان واقعاً وصحيحاً ولكنه لا يفيد الدارس سوى معرفة مواقف العلماء من سد الذرائع إجمالاً , لأنه لم يذكر حداً دقيقاً لما اتفق على منعه . وكذلك لم يذكر حداً لما اتفق على إباحته، ولا لما اختلف فيه وإنما اكتفى بالمثال . والأمثلة مما تختلف أراء الناس حولها , فمثلاً حفر الآبار في الطريق قد يقال إنها من الذرائع المفضية إلى الحرام قطعاً أو غالباً وهكذا ما ذكره بعده .
    ففي جانب التطبيق يصعب تطبيق هذا الضابط .
    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,461

    افتراضي رد: الاستدلال بسد الذرائع الضوابط وإشكالات التطبيق

    الاستدلال بسد الذرائع الضوابط وإشكالات التطبيق
    أ.د. عياض السلمي*


    ولكن المقري أوضحه فقال :الذريعة ثلاثة أقسام :
    القسم الأول : الذرائع القريبة ولا معارض لها تحرم باتفاق .
    القسم الثاني : الذرائع البعيدة لا تحرم باتفاق .
    القسم الثالث : المتوسطة بين البعيدة والقريبة محل خلاف. فجعل مناط الاتفاق والاختلاف القرب والبعد . وهذا أقرب وأوضح من تقسيم القرافي ،مع أنه لا يحسم الخلاف ولا يلغي الاجتهاد في تحديد القرب والبعد . ( قواعد المقري 2 / 472 ) .
    الأدلة على مشروعية التمسك بالقاعدة والاستدلال بها :
    1. الآيات والأحاديث الواردة في النهي عن أمور لا مفسدة فيها بالنظر إلى ذاتها وإنما بالنظر إلى ما ينتج عنها ويتبعها .
    هذا هو الدليل بشكل عام ونجد العلماء يسوقون أمثلة لتلك الآيات والأحاديث فمنهم المقل والمكثر .
    ومن ذلك : قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِين َ عَذَابٌ أَلِيمٌ } البقرة 104 .
    فالآية فيها نهى المؤمنين عن كلمة ليس في ظاهرها أي مفسدة ولا إساءة أدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ( راعنا ) من المراعاة . ولكن الله نهى عنها لأن اليهود كانوا يستعملون تلك الكلمة في السب .قال القرطبي في هذه الآية دليلان :
    الأول :على تجنب الألفاظ المحتملة .
    الثاني :التمسك بسد الذرائع .
    ووجه التمسك بها أن اليهود كانوا يقولون ذلك وهي سب بلغتهم , فلما علم الله ذلك منهم منع من إطلاق ذلك اللفظ لأنه ذريعة للسب , وقال بعض المفسرين أن اليهود كانوا يقولونها ( راعنا ) من الرعونة وهي الطيش والسفه . ( الجامع 2 / 57 - 58 ) .
    2. قوله تعالى {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} الأنعام 108 .
    حيث نهى الله المسلمين عن سب آلهة المشركين مع أنها لا حرمة لها , ولا بأس بسبها . ولكن لما كان ذلك ذريعة لسب الله جل وعلا منع الله منه .
    3. قوله تعالى {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
    حيث وصفهم بالكذب وحذر من طريقهم ومن فعلهم الذي من ضمن بناء مسجد لأجل تفريق المؤمنين .
    4. حديث النعمان " الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه .... متفق عليه .
    5. قول عمر لرسول الله في شأن عبد الله بن أبي بن سلول – دعني أضرب عنق هذا المنافق قال النبي - صلى الله عليه وسلم " دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" .
    فقتل هذا المنافق لم يرد فيه تحريم صريح ولا منع ولكن لما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قتله سيتخذ حجة وذريعة للطعن في رسالته منع منه .
    6. حديث عائشة في صحيح مسلم وغيره " لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين باباً شرقياَ وباباً عربياً وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فان قريشاً أقتصرتها حيث بنت الكعبة ".
    قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ترك عملاً يحبه حتى لا يتهم بهدم الكعبة التي هي معظمة عند الناس قبل الإسلام وحتى لا يرتد من دخل في الدين لأجل ظنه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يعتقد حرمة الكعبة .
    7. جمع عثمان الناس على مصحف واحد مع علمه بأن القرآن أنزل على سبعة أحرف وأنه يجوز قراءته بكل حرف من تلك الأحرف ولكن لما رأى المسلمون يخطئ بعضهم بعضا عندما يسمعه يقرأ بحرف لا يعرفه خشي من الفتنة التي تجعل القرآن الواحد قرآنات كثيرة فجمع المصاحف وأحرقها إلا مصحفاً واحداً نسخه وبعث نسخه للأمصار .
    وكان ذلك بمشورة من حذيفة بن الميمان رضي الله عنه حيث قال لعثمان : يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان وأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذانسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق " أخرجه البخاري .
    وهذه الأدلة لا شك أنها لو أخذ كل منها على انفراد لم يكن كافياً لإثبات هذا الأصل أو تلك القاعدة إلا بطريق قياس الوقائع الجديدة على الوقائع التي ورد فيها النص . ولكن إذا أخذت الأدلة بمجموعها بل لوا استقرأنا الشريعة لوجدنا فيها كثيرا من الوقائع الجزئية التي منع الشرع منها لما تؤول إليه وما ينشأ عنها .
    والعلماء متفقون على أن المحرمات منها ما حرم لذاته ومنها ما حرم لكونه يفضي إلى الحرام أو يفضي إلى مفسدة .
    ومما يستدل به لهذه القاعدة ما اتفق عليه العقلاء في معاشهم وحياتهم من الامتناع عن الشيئ المحبوب لأجل ما يفضي إليه من الضرر فالمريض يشرب الدواء المر وربما وافق على بتر جزء من جسده درءاً لمفسدة أعظم .
    والغني الموسر ربما امتنع من أكل أطايب الطعام إذا عرف أنه يؤثر على صحته .. وهذا كثير لا ينكره إلا مكابر .
    ضوابط العمل بالقاعدة :
    بتأمل الأدلة السابقة وما قيل في تحرير محل الوفاق ومحل النزاع يمكن استخلاص شروط العمل بالقاعدة على النحو التالي :
    1- أن يصدق عليها وصف الذريعة أي الوسيلة من حيث كونها في العادة وسيلة للحرام .
    2- أن تكون غير منصوص على تحريمها .وهذا يشمل الواجب والمندوب والمباح والمكروه .
    3- أن تفضي للحرام عن قرب لا بوسائط أخرى وهذا يفهم من قول المقري " الذرائع القريبة ولا معارض لها ".2قواعد المقري 2/472
    4- أن لا يعارضها دليل صحيح . وهو مدلول عبارة المقري السابقة .ومثال ما عارضها دليل : النظر للمخطوبة فهوقد يؤدي لمفسدة ولكن أباحه الشرع بالنص لمصلحة أعظم . ويلحق بذلك ما عارضته حاجة ماسة .
    5- أن تكون مما يفضي للحرام غالبا . واختلفوا في الكثير غير الغالب والظاهر انه إذا كانت مفسدة الحرام الذي قد تفضي إليه عظيمة تكفي الكثرة وتكون بمنزلة الغلبة وأما إذا كانت المفسدة خاصة بالمكلف أو لا تصل إلى فوات إحدى الضروريات الخمس فلا بد أن يكون إفضاء المفسدة إليها غالبا .
    تطبيق القاعدة
    لقد طبق الفقهاء السابقون والمعاصرون هذه القاعدة في مواضع كثيرة ووجد ذلك في جميع المذاهب مما دفع الإمام القرافي للقول بان القاعدة متفق عليها في الجملة بين المذاهب الأربعة ولكنهم يختلفون في مدى التوسع فيها .القرافي الفروق 2/33
    صور من تطبيق الفقهاء لقاعدة سد الذرائع :
    1. المذهب الحنفي :
    جاء في بدائع الصنائع " أن الوسيلة إلى الشيئ حكمها حكم ذلك الشيئ " 7 / 106
    قال الكاساني " ولا يباح للشواب منهن الخروج إلى الجماعات بدليل روى عن عمر أن نهى الشواب عن الخروج , ولأن خروجهن إلى الجماعة مسبب الفتنة والفتنة حرام وما أدى إلى الحرام فهو حرام " (1 / 157 ) .
    وجاء في الهداية للمرغيناني وشرحها المسمى العناية للبابرتي " من اشترى جارية بألف درهم حالة او نسيئة فقبضها ثم باعهامن البائع بخمسمائة قبل أن ينقد الثمن الأول لا يجوز البيع الثاني وقال الشافعي رحمه الله يجوز ..." الهداية 3/47 والعناية 9/148( المكتبة الشاملة )
    وقال الكاساني " من استأجر حمالا يحمل له الخمر فله الأجر في قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد لا أجر له كذا ذكر في الأصل وذكر في الجامع الصغير أنه يطيب له الأجر في قول أبي حنيفة وعندهما يكره . لهما أن هذه إجارة على المعصية لأن حمل الخمر معصية لكونه إعانة على المعصية وقد قال تعالى ( ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ...ولأبي حنيفة أن نفس الحمل ليس بمعصية بدليل أنحملها للإراقة والتخليل مباح وكذا ليس بسبب للمعصية وهو الشرب لأن ذلك يحصل بفعل فاعل مختار وليس الحمل من ضرورات الشرب " بدائع الصنائع 9/364
    وقال السرخسي " وإن استأجر الذمي دارا سنة بالكوفة بكذا درهما من مسلم فإن اتخذ فيها مصلى لنفسه دون الجماعة لم يكن لرب الدار أن يمنعه من ذلك لأنه استحق سكناها وهذا من توابع السكنى وإن أرد أن يتخذ فيها مصلى للعامة ويضرب فيها بالناقوس فلرب الدار أن يمنعه من ذلك وليس ذلك من قبل أنه يملك الدار ولكن على سبيل النهي عن المنكر فإنهم يمنعون من إحداث الكنائس في أمصار المسلمين " المبسوط 9/139المكتبة الشاملة وموقع الإسلام
    وفي صورة أخرى اختلف الحنفية فقال أبو يوسف يجوز أن يستقرض من شخص خمسة عشر درهماً مثلاً فيقرضه ثم يبيعه ثوباً تساوي قيمته عشرة دراهم بخمسة عشر فيبقي عليه الخمسة عشر قرضاً ,
    ومنع محمد بن الحسن هذه الصورة وقال : إن هذا البيع في قلبي منه كأمثال الجبال ذميم اخترعه أكلة الربا ( ابن عابدين رد المختار 4 / 279 ) .
    2. المالكية :
    الأمثلة في مذهب المالكية كثيرة جداً وفي مقدمتها بيوع الآجال كما يسمونها وقد ذكر القرافي أنها تصل إلى ألف مسألة . ومنها بيع الطعام قبل قبضه . ومنها أن مالكا منع الذي عليه في ذمته طعام وحل الأجل وليس عنده منعه أن يشتري من الدائن طعاما ويدفعه له لكونه ذريعة لبيع الطعام قبل قبضه .
    الشافعية :
    قال الشافعي في باب إحياء الموات "إن ما كان ذريعة منع ما أحل الله لم يحل وكذا ما كان ذريعة إلى احلال ما حرم الله تعالى قال الشافعي : فإن كان هذا هكذا ففي هذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحلال والحرام تشبه معاني الحلال والحرام ويحتمل أن يكون منع الماء إنما يحرم لأنه في معنى تلف ما لا غنى به لذوي الأرواح والآدميين ... والمعنى الأول أشبه " الأم 4/49 الموسوعة الشاملة
    ونص ابن الرفعة على أن الشافعي يقول بسد الذرائع ورده السبكي بأن كلام الشافعي إنما هو في الوسائل المستلزمة للحرام قطعاً . وهذا في حد ذاته اعتراف بالعمل بسد الذرائع في القسم الأول من الذرائع وهو مؤيد ما قاله القرافي من أنه مجمع عليه .
    ومنع الشافعي الولي على مال اليتيم أن يشتري من مال اليتيم لأنه متهم في محاباة نفسه .المجموع شرح المهذب 13/357 الموسوعة الشاملة وقال عن المعذورين تقوتهم الجمعة قال : أحب أن يصلوا جماعة وأن يخفوها لئلا يتهموا في الدين . وقال في المسافر يقدم وهو مفطر والمريض يصح و هو مفطر يستحب لهما الإمساك بقية يومهما لحرمة الوقت .
    3. وأما الحنابلة :
    فقد توسعوا في سد الذرائع فعدوا منه :بيع العينة وبيع العنب لمن يريد أن يجعله خمراً وبيع السلاح لأهل الحرب ولقطاع الطريق وبيع الأمة للغناء أو إجارتها لذلك وإجارة الدار لبيع الخمر ،والقصاب والخباز لا يبيعان اللحم والخبز لمن يعلمان أنه يصنع منه الخمر ، ولا يبيع الجوز للصبيان الذين يستعملونه في القمار .( المغني لابن قدامة 8/414الموسوعة الشاملة نقلا عن موقع الإسلام اليوم والشرح الكبير (4/41) الموسوعة الشاملة وموقع الإسلام . وجميع الحيل عندهم باطله . فمذهب الحنابلة مطرد في هذا .
    وقد خلصنا مما سبق إلى عدة أمور أجملها فيما يلي :
    1. أن الوسيلة المؤدية إلى الحرام قطعاً يجب سدها بمعنى تحريمها ومنعها باتفاق بمقتضى هذه القاعدة أو بغيرها من القواعد .
    2. أن الوسيلة التي تؤدي غالباً إلى الحرام يجب سدها عند جمهور العلماء سواء قصدها المكلف بالفعل أو لا .
    3. أن الوسيلة التي تؤدي إلى الحرام كثيراً إذا كانت في الأصل من جنس المباحات يجب سدها بالتحريم عند كثير من العلماء بمقتضى هذه القاعدة أو بمقتضى قاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد .
    4. أن الوسيلة التي لا تؤدي إلى الحرام إلا نادراً لا يجب سدها بالتحريم باتفاق .
    5. أن إفضاء الوسيلة إلى الحرام والمفسدة لا يشترط في الحكم بتحريمه قصد المكلف للحرام , بل تحرم الوسيلة المؤدية إلى الحرام قطعاً أو غالباً وإن كان المكلف لم يقصد التوسل بها إليه .
    6. أن قول العلماء بجواز بعض العقود المفضية إلى معنى الربا لا يعني أنهم لا يؤثمون الفاعل , فإن القصد إلى الحرام حرام عند الجميع , وإنما صححوا العقد بناء على الظاهر كما فعل الإمام الشافعي في قوله بصحة بيع العينة فإن بيع العينة قد يصحبه نية بيع الدراهم بالدراهم مع الزيادة مقابل الأجل فتكون البيعتان حيلة للمحرم , فيبيع أحدهما للآخر سيارة بمائة ألف مؤجلة ثم يشتريها منه في الحال بسبعين ألفاً يدفعها له .
    ومثل هذه المعاملة قد تحصل بلا نية إلى الربا , وقد تحصل بنية الربا فالشافعي نظر إلى أنهما بيعتان منفصلتان ولم ير التفتيش في النيات وغيره نظروا إلى أن حقيقة الربا حاصلة في هذه المعاملة .
    فالشافعي وإن صحح العقد فإن يؤثم المتعاقدان إذا قصدا هذا القصد الفاسد , ولكن مبني العقود على الظاهر عنده.
    7. أن عدم تحريم الوسيلة المفضية إلى المحرم نادراً لا يعني أن القصد إلى المحرم بتلك الوسيلة جائز , بل هو حرام ولكن لا يمكن تعميم الحكم ولا إبطال العقد إن كان عقدا ؛ لأن الغالب عدم إفضاء تلك الوسيلة إلى الحرام . فمن توسل بتلك الوسيلة إلى الحرام فإن وقع فيه أثم في الفعل والقصد وإن لم يقع في الحرام أثم على قصده السيئ ، وليس هذا القصد من الهم الذي عفا الله عنه , لأن ذلك الهم لم يصاحبه عمل وهذا صاحبه عمل لم ينجح .
    8. أن الذرائع المنصوص على تحريمها لا تدخل في الخلاف وإنما الخلاف فيما عداها . ولذا فإن النظر إلى العورات محرم باتفاق ، وإن كان العلماء قالوا إن تحريمه من باب تحريم الوسائل وسد الذرائع ، وكذلك بيوع الآجال المنهي عنها في الأحاديث ممنوعة بمقتضى النص .
    وإنما فائدة النص على أن تحريمها من باب تحريم الوسائل تظهر في أنه يمكن ترك العمل بتلك النصوص عند الحاجة الملحة عملاً بقاعدة " ما حرم سداً للذريعة . أبيح " .كما تظهر عند الموازنة بين المفاسد عند الاضطرار إليها فما حرم تحريم الوسائل أخف مما حرم تحريم المقاصد.
    فالنظر إلى العورة محرم ولكن يجوز عند الحاجة للتداوي والحاجة تقدر بقدرها فلا يتجاوز قدر الحاجة.
    ولهذا لما كان بيع الرطب بالتمر محرماً سداً لذريعة الربا جاز ذلك البيع في العرايا لحاجة الناس إلى التفكه بالرطب مع غيرهم بشراء الرطب على رؤوس النخل بقدر خرصه كيلاً .
    وذلك بنص الأحاديث النبوية .
    إشكالية التطبيق :
    قاعدة سد الذرائع ذات صلة وثيقة بكثير من القواعد الأخرى حيث عدها بعضهم مساوية لبعض القواعد كقاعدة الوسائل لها أحكام المقاصد وفرق بينهما آخرون . وجعلها بعضهم داخلة في قاعدة المصالح والمفاسد والموازنة بينهما .وجعلها الشاطبي إحدى قواعد مراعاة المآل .
    وهي ذات صلة بالضرورة والحاجة وبقاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . وهذا الاتصال والتداخل ربما لا يشكل مشكلة في التطبيق عند المجتهدين . ولكنه يشكل مشكلة كبيرة لدى أتباع المذاهب المعنيين بتحديد مذاهب أئمتهم في سد الذرائع كما هو مشكل عند من يريدون تطبيق قواعد أئمتهم على الوقائع الحاضرة حيث بالغ بعضهم وألحق بالذرائع المحرمة كل ما يمكن أن يكون وسيلة وإن بعد إفضاؤها .
    وإشكالية التطبيق الكبرى تكمن في وجود حالات لم يحررها الأصوليون ، أو أسئلة تصعب الإجابة عليها ومن أهم الأسئلة والإشكالات التي هي مثارات الغلط في التطبيق ما يلي :
    *أ. من الذي يحدد الذريعة أهي من المفضى إلى الحرام غالباً أو كثيراً , أو مما يفضى إلى الحرام نادراً ؟ هل يكفي في ذلك نظر ناظر القضية أو الباحث ؟ وهل يكفي اعتقاد المكلف ؟
    *ب. ما الوسيلة التي تتبع لتحديد الذريعة المفضية إلى الحرام غالباً أو كثيراً أو نادراً ؟ أ يمكن الاكتفاء باعتقاد الفقيه أو المكلف أم يجب أن يكون المنهج الإحصائي العلمي للمفاسد المترتبة على الوسيلة المباحة فيصلا في ذلك ؟ أم هناك وسيلة أخرى ؟
    *ج. إذا فعل المكلف الوسيلة المفضية إلى الحرام غالباً ووضع ضمانات كفيلة بمنع الوقوع في الحرام هل يأثم ؟
    مثل دخول الأماكن المخصصة لعبادة غير المسلمين مع يقينه بعدم تأثره وقراءة كتب الديانات الأخرى مع تيقنه من عدم تأثره ومثل هذا كثير .
    *د. الحاجة ومدى تأثيرها في تعطيل القاعدة فإن العلماء الذين قرروا هذه القاعدة قرروا قاعدة " الحاجة تنزل منزلة الضرورة " وقاعدة " ما حرم سداً للذريعة أبيح للحاجة " .
    فما حدود هذه الحاجة وهل تعتبر الحاجة الخاصة للفرد أو حاجة الجماعة ؟ .
    هـ إذا كان عمل المكلف جزءاً من ألف جزء من الوسيلة المؤدية للحرام فهل يحرم ؟
    بمعنى أن فعل المكلف الفرد لو نظر إليه وحده لما كان له أثر في حصول المفسدة ولكن لما انضم إليه غيره من الأفعال المشابهة تحقق كونه وسيلة إلى المحرم ؟ وهذا كإيداع المال اليسير في البنوك الربوية وقد يمثل له بالتدافع للخروج عند نشوب الحريق أو في أماكن الزحام الأخرى فإنه يؤدي إلى هلاك الضعفاء ، فهل يمنع الخروج قبل غلبة الظن بالهلاك لأنه بعد ذلك يكون بدافع الفطرة ؟
    و*- إذا قال المكلف : لو علمت بأنني وإن امتنعت فإن غيري لن يمتنع عن هذا العمل وستحصل الذريعة إلى الحرام سواء فعلت هذا الفعل أم لا , هل يجب علي الامتناع عنه مع تضرري من الامتناع ضرراً لا يصل إلى حد الضرورة الملجئة ؟
    وبعبارة أخرى هل الوسيلة المحرمة هي التي إذا تركت لم يحصل المحرم ؟ وحينئذ تتحد مع قاعدة " ما لايتم فعل الحرام إلا به فهو حرام " أو نقول : هي التي إذا فعلت وقع المحرم غالبا ؟ أو بعبارة أخرى هل هي التي يلزم من وجودها وجود المحرم ومن عدمها عدمه أو يكفي أن يلزم من وجودها الوجود غالبا؟
    ز*- ما حدود العمل الذي يعد من المعاونة على الإثم والعدوان ؟
    فكثير من الفقهاء يعول على هذه الآية وهي قوله تعالى{ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} في تحريم بعض الأعمال الثانوية التي ليس لها كبير أثر في وقوع المفسدة فيعمم الآية فيدخل في المحرمات الذرائع البعيدة .
    هذه أهم إشكاليات التطبيق وهي إشكاليات كبيرة ومهمة، وغالبها لا نجد الأصوليين يتعرضون له صراحة وإن كان قد يفهم من كلام بعضهم , ولا نجزم باتفاقهم عليه , وأما الفقهاء فلم يطرد تطبيقهم كما أسلفنا .
    وسأعود على تلك الإشكاليات مرة أخرى عودة المتأمل فيها بما يفهم من نصوص الشرع وتصرفات حملته المجتهدين . وآمل أن يتيسر لي ذلك قريبا . فإن تلك الأسئلة مما ينحل بالجواب عنها كثير من إشكالات التطبيق . ولا أريد أن أكتفي فيها ببادي الرأي . والحمد لله أولا وآخرا .
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
    *مدير مركز التميز البحثي في فقه القضايا المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •