النوازل و أهمية الاجتهاد الجماعي فيها
د. محمد بن هائل المدحجي

والمقصود بالنوازل الفقهية : المسائل المستجدة، التي لم تعرف في السابق بالشكل الذي حدثت فيه الآن، والتي تحتاج إلى اجتهاد العلماء في بيان حكمها الشرعي ، فهي مسائل لم يتحدث عنها الفقهاء السابقون لكونها لم تحدث في عصرهم ، وإنما ظهرت في زماننا هذا لأسباب متعددة ، ولعل من أهمها : التقدم العلمي : فقد أثر التقدم العلمي في شتى المجالات التقنية والتكنولوجية على حياة الأفراد والمجتمعات ، وأحدث قضايا ومستجدات لم تكن معروفة من قبل .
وشريعة الإسلام جاءت شريعة خاتمة محققة لجميع مصالح الناس، مستوفية لأحكام ما كان موجوداً وما يجد بعد ذلك، وصلاحيتها وملاءمتها مهما تغيرت الظروف والأحوال.
وقد قيض الله سبحانه وتعالى من فقهاء العصر علماء أجلاء انبروا لبيان الأحكام الفقهية المتعلقة بهذه النوازل ، الاجتهاد في المسائل الشرعية العملية ليس مقصوراً على عصر دون عصر، وليس حكراً على علماء قرنٍ دون قرن، بل هو " فرض من فروض الكفايات في كل عصر، وواجب على أهل كل زمان أن يقوم به طائفة في كل قطر".
والمسلمون اليوم هم أشد حاجة على الاجتهاد من المسلمين في العصور السابقة لما تميز به هذا العصر من التطور السريع، والتجدد في نواحي الحياة، وتعقد المعاملات، والتداخل في شتى نواحي الحياة. فإغلاق باب الاجتهاد في وجه العلماء والفقهاء المعاصرين يعنى: إما أن يسير الناس وفق أهوائهم وشهواتهم، أو أن يستبدلوا شريعة الله بقوانين البشر. وكلاهما ارتكاس في الدين، وعودة إلى جاهلية الأولين.
ومن هنا فلا مناص من فتح الباب في وجه العلماء، والفقهاء المعاصرين والإقرار لهم بأحقيتهم في ممارسة الاجتهاد لمن استجمع منهم شروطه، وتأهل بمؤهلاته، ولعلها اليوم أسهل بكثير من العصور السابقة.
ومما تميز به هذا العصر بالإضافة إلى الاجتهاد الفردي : الاجتهاد الجماعي : الذي هو استفراغ عدد الفقهاء الجهد لمعرفة حكم شرعي في مسألة ما ، واتفاقهم جميعاً، أو أغلبهم على الحكم بعد التشاور .
ومن أمثلته :
1. مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر : صدر قرار إنشاء مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر في مصر في عام( 1381هـ/1961م )
2. المجمع الفقهي الإسلامي المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة : أنشئ هذا المجمع سنة( 1396هـ/1976م )
3. مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي : والذي عقدت الدورة الأولى له في مكة المكرمة في شهر صفر( 1405هـ/نوفمبر1984م).
وهناك مجامع أخرى كثيرة في الوقت الحالي منها: مجمع الفقه الإسلامي في الهند، ومجمع الفقه الإسلامي في السودان، والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، وقد عُقِدَ اللقاء التأسيسي لـ (المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث) في العاصمة البريطانية لندن في الفترة:( 21-22 من ذي القعدة 1417هـ، الموافق 29-30 من شهر آذار (مارس) 1997م). ومجمع علماء الشريعة بأمريكا، وقد عُقِدَ الاجتماع التأسيسي له بمدينة واشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية يوم الخميس الخامس والعشرين من رجب سنة( 1423 هـ، الموافق للثالث من أكتوبر سنة 2002م).
بالإضافة إلى لجان الإفتاء المتعددة ، والتي من أبرزها :
1. لجنة الفتوى في الأزهر : وتعد هذه اللجنة من أقدم جهات الفتوى في العالم الإسلامي ، وكان أول مَن فكّر في إنشاء لجنة الفتوى في الأزهر الشيخ مصطفي المراغي وذلك سنة ( 1354هـ/ 1935م )
2. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية ، وقد أنشئت دار الإفتاء في المملكة العربية السعودية عام( 1374هـ/1955م) تحت رئاسة مفتي الديار السعودية ورئيس قضاتها سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ _ رحمه الله _ .
3. هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية : والتي شكلت في (8/7/1391هـ الموافق 29/8/1971م ) وغيرها من لجان الفتوى في مختلف البلاد الإسلامية .
وهذا النوع من الاجتهاد _ أعني الاجتهاد الجماعي _ له فوائد جليلة ،من أهمها :
أن الاجتهاد الجماعي يحقق مبدأ الشورى الذي شرعه الله عز وجل لعباده، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم فقال عز وجل: { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } وجعله سمة من سمات المؤمنين فقال تعالى في وصفهم: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } فذكر الشورى مع الإيمان ، وإقامة الصلاة ؛ فدل ذلك على جلالة موقع الشورى ، وقد صح عن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أنه استشار أصحابه _رضوان الله عليهم _ في قصص كثيرة ، بل قال أَبِو هُرَيْرَةَ _رضي الله عنه_ : " مَا رَأَيْت أَحَدًا قَطُّ كَانَ أَكْثَرَ مَشُورَةً لأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- " .
قال الإمام ابن العربي: " الشورى ألفة لجماعة، ومسبار للعقول، وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم إلا هدوا".وقال بعض الحكماء: " من حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العقلاء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فالرأي الفذّ ربما زل، والعقل الفرد ربما ضل".
ونحن اليوم نعيش في عصر سمته التطور السريع، وسمة نوازله العموم، والتعقيد، وليس لكثيرٍ منها في كتب الفقه المعهودة مثيل؛ مما يجعل التصدي الفردي لها فيه شيء من الجرأة، والمجازفة ولو أن بعضها نزل بعمر رضي الله عنها لجمع لها أهل بدر.
بالإضافة إلى أنه يندر أن يحيط شخص واحد بجميع جوانب النازلة، وملابساتها، وتعقيداتها، فالاجتهاد الجماعي الشوري هو الأقدر، والأسلم على علاج هذه النوازل، والمستجدات، كما أن العالِم يجد فيه إنقاذاً لنفسه من التقول على الله ما لم يقله، والتوقيع عن رب العالمين بما لم يأذن به.
وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم(253 ) (2/17) : بشأن : الإفتاء: شروطه وآدابه : " الفتوى الجماعية: بما أنّ كثيراً من القضايا المعاصرة هي معقدة ومركبة فإنّ الوصول إلى معرفتها وإدراك حكمها يقتضي أن تكون الفتوى جماعية، ولا يتحقق ذلك إلا بالرجوع إلى هيئات الفتوى ومجالسها والمجامع الفقهية" .
والاجتهاد في بيان أحكام النوازل _ سواء الفردي أو الجماعي _ له أهمية بالغة يمكن تلخيصها فيما يلي:
[1] إن إعطاء النوازل المستجدة في كل عصر أحكامها الشرعية المناسبة يدخل دخولا أوليا تحت مهمة التجديد لهذا الدين وإحياء ما اندرس من معالمه. وحين يخل العلماء بهذا الأمر، ويتقاعسون عن هذه المهمة الجليلة فإن الناس سيعملون فيما نزل بهم من حوادث بآرائهم المحضة، أو بقوانين، وأعراف غير دينية فيؤدي ذلك إلى الانحراف عن شريعة الإسلام .
[2] إن في إعطاء النوازل أحكامها الشرعية المناسبة لها مطالبةً جادةً ودعوة صريحة إلى تحكيم الشريعة في جميع جوانب الحياة، وهو تطبيق عملي تبرز به محاسن الإسلام ويظهر منه سمو تشريعاته.
[3] إن في بيان أحكام النوازل إيقاظاً للأمة، وتنبيهاً إلى خطورة قضايا ومسائل ابتلي بها جموع من المسلمين، مع كونها مخالفة أشد ما تكون المخالفة لقواعد هذا الدين ومضادة لمقاصده.
[4] إن من أبرز الجوانب أهمية في بيان أحكام النوازل مراعاته لحاجات الناس المتجددة ومصالحهم المتغيرة و المتطورة، وهذه المراعاة من مقتضيات الرحمة التي في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }الأنبياء107