قال رحمه الله ورفع درجته: (ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله، أولاهما: قوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}) قال: (فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب، تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر أويعمل به خوفاً من نقص مالٍ أو جاه أو مداراة لأحد أعظم ممن يتكلم بكلمة يمزح بها).
وهذه الآية: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}، هذه الآية فيها أن كفرهم كان بسبب الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله.
وقول الإمام -رحمه الله- هنا: (فإذا تحققت أن بعض الصحابة) هذه راجعة إلى الظاهر من حال أولئك، فإن أولئك الذين تكلموا بتلك الكلمة ظاهرهم محكوم بإسلامهم وحالهم أنهم يعدون مع الصحابة، وإلا فإنهم منافقون ظهر نفاقهم بذلك الاستهزاء.
وهذه مسألة حصل فيها خلاف بين أهل العلم،فمن قائل: إنهم ليسوا منافقين، وقال الجمهور من المفسرين وأهل العلم: إنهم منافقون.
والصواب من القولين في ذلك: أن أولئك الذين كفروا بعد إيمانهم بالاستهزاء أنهم منافقون، وهم في الأصل منافقون، ودل هذا على نفاقهم، والاستهزاء كفر؛ لأنه يدل على عدم تعظيم الله جل وعلا، وعدم توقيره، والاستهانة بالله وبآياته وبرسوله؛ لأن المعظِّم المبجِّل لا يستهزئ بمن عظمه وبجله، بل يكون له في قلبه المقام الأعظم بحيث لا يستهزئ به، ولا يستنقصه، ولا يسبه إلى آخر ذلك.
ودل على أن المراد بهم المنافقون، أوجُه:
الأول: أن الآية يفهم معناها بدلالة السياق والسباق، وهذه الآية أولها: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} والضمير لابد أن يرجع إلى مذكور معلوم، والآية قبل هذه الآية هي قوله جل وعلا: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا} يعني: أيها المنافقون {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}.
فدل إرجاع الضمير على الآية قبلها أن المراد بذلك المنافقون.
- ودل عليه أيضاً:
الآية التي بعدها، وهي التي تسمى السياق أو اللحاق، فقبلها سباقها، وبعدها سياقها أو لحاقها، وهي قوله جل وعلا: {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} إذ قال جل وعلا: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَا تُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
فهذه الآية أيضاً تدل على أن هذا الذي استهزأ أو تلك الطائفة التي استهزأت هم المنافقون؛لأن السياق والسباق يدل على ذلك.
وأيضاً يدل عليه: أن السورة - وهو الوجه الثالث - أن السورة - سورة براءة - تسمى الفاضحة، وهي التي فضحت المنافقين، وبعد ذكر المنافقين في أثناء السورة استمر ذكرهم، واستمر فضحهم، وبيان ما هم عليه إلى آخر السورة.
والوجه الرابع: أن الله -جل وعلا- قال بعد آيات:{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} فقوله -جل وعلا- في هذه الآية: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا}المقصود بهم هؤلاء الذين استهزؤا، فإنهم حلفوا أنهم ما قالوا.
قال جل وعلا: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ}فدل على أن المستهزئ بالكلام قال كلمة الكفر.
قال سبحانه: {وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ}ودلت هذه الآية على أن المراد بالإيمان في قوله تعالى:{لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}هو الإسلام؛ لأنه قال: {وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} والمنافقون محكوم بإسلامهم ظاهراً.
وهذا يجاب به عن قول من قال: إنهم ليسوا بمنافقين؛ لأن هؤلاء احتجوا بأن المنافقين لم يحكم بإيمانهم، وإنما حكم بإسلامهم.
فالمنافق يقال له:مسلم باعتبار الظاهر ولا يقال إنه مؤمن؛ لأن الإيمان باطن، فقوله تعالى هنا: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} قالوا: دل على أنهم ليسوا بمنافقين.
وهذا الاحتجاج منهم والإيراد له وجهه، لكن ليس قوياً بقوة ما ذكرنا من الأوجه.
وجوابه: أن الإيمان -كما هو معلوم- اعتقاد وقول وعمل، والاعتقاد هو الإيمان الباطن، والقول والعمل هو الإيمان الظاهر وهو الإسلام، فإذا قيل في المنافق: إنه كفر بعد إيمانه، يعني: بعد إيمانه الظاهر الذي هو الإسلام؛ لأن الإسلام لا يصح إلا بإيمان يصححه، والإيمان لا يصح إلا بإسلام يصححه. والإيمان منقسم إلى:
-إيمان باطن، وهو: الاعتقاد.
- وإلى إيمان ظاهر، وهو: القول والعمل.
فأولئك معهم قول وعمل، فقيل لهم هنا بعد:
{لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} باعتبار الظاهر، وهذا الظاهر هو الإسلام؛ كما قال -جل وعلا- في الآية الأخرى: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ}
فالإيمان في هذه الآية هو الإسلام في الآية الأخرى،ويقوي هذا: ما تعلمه من قواعد أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى: أن الإيمان إذا أفرد عن الإسلام، والإسلام إذا أفرد عن الإيمان فإنه يدل أحدهما على الآخر، فقوله: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} يعني: ما يناسب المخاطب بذلك وهو الإسلام؛ لأن الإيمان إذا أفرد دل على الإسلام، وهذا بحسب حال المخاطبين.
إذا تقرر لك ذلك: فهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم، كفروا بكلمةٍ قالوها على وجه المِزاح واللعب.
وهذا الكفر منهم هو الاستهزاء - كلمة الكفر:هي الإستهزاء - والاستهزاء مكفرٌ إذا كان استهزاء بالله -جل جلاله-، أو بآيات القران، أو بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم، أو بمجموع ذلك، وهو الدين الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم.
فإذا استهزأ أحد بالله -جل وعلا- كفر، وإذا استهزأ أحد بالقرآن كفر، وإذا استهزأ أحد برسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذاته كفر، وإذا استهزأ بالدين الذي نزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- بيقين المستهزئ أنه نزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- فإنه يكفر.
فإذاً:رجع الاستهزاء المكفر إلى أحد الثلاثة، وهي التي جاءت في الآية: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}.
{قُلْ أَبِاللَّهِ}هذا واحد.
{وَآيَاتِهِ} اثنين.
{وَرَسُولِهِ}ثلاثة.
{كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} قال هنا: (إذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزو الروم مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- كفروا بسببب كلمةٍ قالوها على وجه المزح واللعب: تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به خوفاً من نقص مالٍ أو جاهٍ أو مداراة لأحد أعظم ممن يتكلم بكلمة يمزح بها) وذلك لأن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به قصد ذلك، ولكنه خاف، ولكن القَصْد موجود، قَصْد الكفر، وقصد العمل بالكفر موجود عنده، ولهذا لم يعذر بالخوف من نقص المال أو الجاه أو المداراة؛ لأنه قصد الكفر، وقصد العمل الكفري دون إكراه.
والمستهزئ، قد يقال: إنه ما قصد الكفر، ولو قيل له: أقلت هذا كفراً؟
لقال: لا، إنما استهزاء، إنما قلت هذا على سبيل المزاح، وعلى سبيل اللعب، وعلى سبيل الخوض، {كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}.
ولهذا كلام الإمام -رحمه الله- هنا متين إذ قال: (تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر) يعني: قاصداً الكفر، (أو يعمل به) عالماً أنه شرك، لا شك أنه أعظم كفراً ممن يتكلم بكلمةٍ يمزح بها؛ لأن ذاك فاته التعظيم فدخل في الكفر من جهة الاستهانة.
ثم قال رحمه الله: (والآية الثانية قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ}).
هذه الآية في حال الذي يكفر بدون عذر، والعذر الذي لا يؤاخذ به من صدر منه الكفر قولاً أو عملاً شيٌ واحد، وهو الإكراه.
والإكراه معناه:ما لا يتحمله من العذاب، أكره على هذا القول بما لا يتحمله من العذاب، أو ما هو أعلى من ذلك وهو القتل، فإذا كان لا يتحمل أن يعذب، لا يتحمل أن يضرب ضرباً شديداً، لا يتحمل أن يسجن سجناً طويلاً لا يتحمل في ذلك، ويخشى على دينه، ويخشى أن يوافق، ويخشى أن يحصل له فتنة، أو يخشى أن يتلف بدنه، فإنه معذور، مع أن الكمال أن يصبر، لكنه معذور بشرط اطمئنان القلب بالإيمان، فتكون الموافقة ظاهراً للضرورة، ولكن القلب مطمئن بالإيمان.
وذلك أن الإيمان كما هو معلوم ثلاثة أركان:
اعتقاد وقول وعمل.
والاعتقاد هو الأصل الذي ينشأ عنه القول الإيماني، وينشأ عنه العمل الإيماني، فلم يعذر بالأصل في الموافقة أحد البتة، حتى لو أكره، فإن الإكراه ولو وصل إلى القتل لا يصل إلى تغيير عقيدة القلب، والله -جلا وعلا- قال سبحانه: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}.
فالصدق هو:استقرار العقيدة في القلب، وأن يصبر المرء على ما جاءه من ابتلاء، فإذا عرض له الإكراه بما لا يتحمله ويؤدي ببدنه إلى التلف أو يخشى على دينه فإن له أن يوافق أولئك ظاهراً لا باطناً؛ لأن الظاهر في الشريعة فيه يسر في الأحكام، بخلاف الباطن، الباطن هو أشد شيء.
فإذاً: هذه الآية دلت كما قال الشيخ -رحمه الله- هنا في قوله: (فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان).
فإذاً: له إذا أُكره -بشرطه- أن يقول كلمة يوافقهم بها، أو أن يعمل عملاً يوافقهم به، ولكن يكون ذلك مع اطمئنان القلب بالإيمان.
وقول كلمة الكفر موافقة لأجل الإكراه هذا محل اتفاق بين أهل العلم، أما العمل فاختلفوا فيه:
فمنهم من قال:لا يعذر بالعمل، أن يعمل عملاً كفرياً، لكن الإكراه له فيه القول، مثل ما حصل في قصة عمار في قصة آل ياسر المعروفة، ولها نزلت هذه الآية، قول النبي -عليه الصلاة والسلام- له: ((إن عادوا فعد)) وهذا قول لطائفة من أهل العلم أن هذا مختص بالقول وأن العمل ليس فيه إكراه، بل إذا وصل الإكراه للعمل فإنه لا يجوز أن يوافق أولئك على عمل كفري، ويستدلون أيضاً بحديث الذباب المعروف، حديث طارق بن شهاب الذي تعلمونه في (كتاب التوحيد): ((كان هناك صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب فمره رجلان بأهله فقالوا: قربا فقرب أحدهما فدخل النار والآخر قال: أما أنا فما كنت لأقرب شيئاً لغير الله جل وعلا فقتلوه فدخل الجنة)).
قالوا: هذا يدل على أن الإكراه - يعني: يعلمون من الحال أنهم سيقتلون - أن الإكراه لم يعذر به في الفعل.
والقول الثاني: أن الإكراه يقع في القول والعمل،وهذا هو الصحيح؛ لأن العمل والقول شيء واحد من جهة التكفير، الله -جل وعلا- قال في الأقوال: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} وإذا كان ذلك في القول وعذر به بالاتفاق، فالعذر بالعمل ظاهر.
وبالنسبة لحديث الذباب وغيره؛ هناك أجوبة عليه مذكورة في موضعها من شرح (كتاب التوحيد).
قال رحمه الله ورفع درجته: (وأما غير هذا - يعني غير المكره - فقد كفر بعد إيمانه) يعني: مطلقاً، غير المكره إذا وافق الكفار على الكلام الكفري فقاله ووافق الكفار على العمل الكفري فعمله هذا كافر ولا يعذر في ذلك إلا إذا كان مكرهاً.
قال: (وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه) يعني: غير المكره كفر بقوله وعمله.(سواء فعله خوفا، أو مداراة، أو مَشَحَّةً بوطنه، أو أهله، أو عشيرته، أو ماله، أو فعله على وجه المزح، أو لغير ذلك من الأغراض) يعني: أن ما ذكره الإمام -رحمه الله- فيما تقدم، فيما ذكرناه في الدرس الماضي، من أن أناساً عرفوا التوحيد ولكنهم يعملون بالشرك مداراةً، أو خوفاً على مالهم، أو خوفاً على أهلهم، أو خوفاً على نقصهم، خوفاً متوهماً، ولم يتركوا الشرك بالله جل وعلا، هذا لا يعذرون فيه إلا في حال الإكراه، أو إذا كان مستضعفاً فإن له أن يبقى بين ظهراني المشركين لكن لا يقول كلمة الكفر، ولا يعمل عملاً كفرياً، فيرخص له بعدم الهجرة؛ لأجل أنه من المستضعفين؛ كما قال -جل وعلا- بعد آية الهجرة: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} قال بعدها: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِ ينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}المقصود من هذا: أن كلام الشيخ ظاهر، وهذه مسالة عظيمة جداً، وهي أن التكلم بالكفر خشية نقص المال، خشية شيء هذا لا يعذر به صاحبه، بل لا بد أن يجدد دينه وإسلامه إذا كان فعله عن قصد ثم أناب.
فالواجب على كل موحد أن يتبرأ من الشرك وأهله، أن يبغض الشرك، وأن يعادي الشرك، وأن يبغض أهل الشرك، وأن يعادي أهل الشرك، وهذه حقيقة الإيمان، وهذا معنى كلمة التوحيد؛ كما قال جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
وفي آية سورة الممتحِنة قال -جل وعلا- مخبراً عن قول إبراهيم: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} لهذا قال أئمتنا: البراءة من الشرك وأهله، وهذه سنة إبراهيم{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} يعني: من المرسلين {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}فهذه الكلمة أجمع عليها الأنبياء والمرسلون.
{بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ} نتبرأ من العبادة، من عبادة غير الله، ومن الشرك، ومن أهل الشرك، ببغضهم وبمعاداتهم، يعني: المعاداة القلبية، أما الظاهر فله أحكام معروفة مختلفة.
قال الإمام -رحمه الله- بعد ذلك: (فالآية تدل على هذا -يعني هذا الذي ذكره- من جهتين: الأولى: قوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} فلم يستثن الله تعالى إلا المكره) وهذا ظاهر؛ لأن مقام الاستثناء مقام حصر، وإذلم يذكر في هذا المقام غير المكره دل على أنه لا يعذر إلا المكره.
وأيضاً: الاستثناء معيار العموم، فقوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ}هذا عام واستثني منه، يعني: خرج من العموم المكره الذي حصل منه الكفر ظاهراً؛ لكن لا يُحكم بكفره؛ لأنه مكره.
قال: (الأولى: قوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} فلم يستثن الله تعالى إلا المكره، ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام - يعني: القول - أو الفعل، أما عقيدة القلب فلا يكره عليها أحد) وهذا حق، القلب لا يمكن أن يُكره أحدٌ أحدا على تغيير القلب حتى يختار هو؛ لأن القلب لا أحد يطلع عليه إلا الله جل وعلا.
فعقيدة القلب الموافَقَة فيها كفرٌ بالاتفاق، حتى ولو قال (أكرهت) فهو كاذب؛ لأن العقيدة الباطنة لا يمكن لأحد أن يصل إليها، يكذب في الظاهر، يقول إذا قيل له: أنت في الباطن في قلبك مقتنع بالشرك؟ تقول: - هذه مع اعتقاد الباطن فيكذب ظاهراً - يقول: نعم، هذا نوع من الإجابة في الإكراه، لكن لا يقول ذلك عن صدق بأن يغير قلبه؛ لأنه إن تغير قلبه فوافق، أو تردد أو شك فإنه كافر، كما ذكر الإمام في مسائل (كتاب التوحيد).(والثانية: قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد) يعني: أن العذاب العظيم الذي جاءهم وهو قوله جل وعلا: {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
ما سبب الغضب الذي جاءهم وحل عليهم؟ ما سبب العذاب العظيم؟
لم يكن بسبب الاعتقاد، أو الجهل، أو البغض للدين، أو محبة الكفر؛ لأن هذه الأشياء لم يعلل بها في الآية، إنما قال الله جل وعلا: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} وقوله: {ذَلِكَ}للمفسرين فيه وجهان، في الرجوع -رجوع اسم الإشارة- يعني: (ذلك)إشارة لأي شيء؟
- قالت طائفة:الإشارة هنا للكفر، كفروا بعد إيمانهم ولم يكونوا مكرهين، ما سبب ذلك؟ قال الله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} والباء هنا للسببية، ذلك بسبب كونهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، يعني: أنهم آثروا الدنيا على الآخرة، فوافقوا الكفار من دون إكراه، فقالوا قول الكفر، أو عملوا عمل الشرك والكفر من دون إكراه، فتكون {ذَلِكَ} الرجوع إلى قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ}الوجه الثاني: أنه راجع للعذاب العظيم، قال: {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}ذلك العذاب بسبب أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، وهذان قولان معروفان عند المفسرين.
والأوجَه منهما والأرجح هو الأول؛لأن (ذلك) ضمير إشارة، فهذا اسم إشارة فيه اللام التي هي للبعد، والعذاب العظيم قريب، والأصل أن الإشارة إلى القريب لفظية، أعني بذلك: أن من قال: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أن اسم الإشارة {ذَلِكَ} يقرون بأن اللام للبعد، ولكن يقولون: هو بعد معنوي؛ لأن مجيء اللام مع اسم الإشارة قد يكون للبعد اللفظي وقد يكون للبعد المعنوي، البعد اللفظي معلوم، مثل ما قال ابن مالك في (الألفية):
..... … ... ولدى البعد انطقا
بالكاف حرفاً دون لام أو معه ............
فإذاً: في البعد يشار باللام، (أولائي) هذا قريب، (هذا) قريب، (ذاك) قريب، (ذلك) بعيد.
وقد يكون المراد بمجيء اللام البعد المعنوي، وهذا كثير في القرآن؛ كما في قوله تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ}
وقد يكون بعداً معنوياً للتعظيم؛ كقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} يعني: جعله بعيداً لعلو مرتبته ومنزلته، وقد يكون بعداً معنويا في السفول مثل ما يوصف عذاب الكافرين في مواضع.
قالوا هنا -من قال بأن الضمير يرجع إلى العذاب العظيم- {ذَلِكَ} هذا رجوع معنوي.
المقصود: البحث في الترجيح ليس هذا محله؛ لكن إشارة في معنى قولي (لفظية) لأن الأصل أن تكون الإشارة للبعيد لفظاً لا معنى، هذا هو الأصل.
والإمام محمد بن عبد الوهاب -عليه رحمة- الله كان من أدق أهل زمنه في التفسير، وأعلم أهل زمنه بأقوال المفسرين، قال رحمه الله: (فصرح أن هذا الكفر والعذاب) فجمع القولين (هذا الكفر والعذاب) فكأنه قال: لا يمنع أن يقال: يرجع اسم الإشارة إلى العذاب أو يرجع إلى الكفر؛ لأن العذاب حاصل والكفر حاصل فإرجاع {ذَلِكَ} للجميع هذا متجه.
قال: (فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد، أو الجهل، أو البغض للدين، أو محبة الكفر) هذا ظاهرٌ بين.(وإنما سببه أن له في ذلك حظاً من حظوظ الدنيا فآثره على الدين) وهذا الذي ذكره حاصل وواقع، فإن الذين استحبوا الكفر على الإيمان وكفروا بعد إيمانهم سبب ذلك محبة الدنيا، محبة المال، محبة الجاه، لابد فيه حظ من حظوظ الدنيا، وإلا لو قام الإيمان بالآخرة قوياً في النفس، لما آثر المرء عليه شيئاً من الدنيا.
ولهذا جاء في الحديث الصحيح: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((تكون فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا)).
وهذا حاصل في أن من كفر بل من فتن عن الدين إنما هو بسبب الدنيا، بشهواتها، إما شهوة المال، أو شهوة الجاه، أو شهوة المنصب، أو شهوة النساء، أو شهوة الأمر والنهي، أو إلى آخر ذلك من الشهوات الفانية.
فما ذكره هنا الإمام -رحمه الله- هذا ينبغي أن يتنبه له كل موحد، فيحذر أشد الحذر من الكفر ومن وسائله.
قال: (وإنما سببه أن له في ذلك حظاً من حظوظ الدنيا، فآثره على الدين) وهذا الاستدلال موافق للمراد ومقيم للبرهان على أولئك الذين يقولون: (نحن نعلم التوحيد، وإنما عملنا الشرك لأجل الحفاظ على أموالنا، أو على جاهنا، أو على دنيانا).
أسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وبصفاته العلى أن يرفع درجة الإمام المصلح المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- وسائر أئمة الدعوة الذين تركوا الناس بعدهم على أمرٍ واضح بين لا لبس فيه في أمر الدين، التوحيد، الإخلاص.
ونرجوا أن يكونوا ممن وعد النبي -صلى الله عليه وسلم- بظهورهم في تجديد أمر الدين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يعلي مقامهم، وأن يغفر ذنوبهم، وأن يجعلنا ممن ورث علمهم فعمل وعلّم، وأقام الحق في نفسه، وفيمن حوله.
ونسأله سبحانه أن يثبت في قلوبنا التوحيد، وأن يكشف عنا كل شبهة، وأن يثبت هذا العلم في نفوسنا، وأن يحببه إلينا، وأن يُبَغِّضَ إلينا الكفر والفسوق والعصيان.
اللهم نسألك أن تغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وأن تجعل التوحيد حجة لنا لا حجةً علينا.