معذرة ..ليس من صنعتك دكتور أمجد رشيد !
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم , فهذا تعليق على مقال الدكتور أمجد رشيد : ليس هذا من صنعتك . دلل فيه بما نقله عن الإمام الشافعي أنه لا يصح الاستدلال مباشرة من الحديث , وإنما الواجب الرجوع إلى أقوال العلماء في ذلك , وختم بما قصده من المقال وهو الرد على دعاة فقه الدليل , وقد بنى مقاله على أثر ساقط ! ؛ في إسناده راو متهم بالوضع , وهو الذي أخذ منه العنوان , ولو أنه راجع إسناد الرواية عن الشافعي لكفانا مؤنة البحث ولكن أبى إلا أن يظهر أن هذا العلم ليس من صنعته !, ويكشف عن عوار نفسه , فالأثر الذي استدل به باطل وما بني على باطل فهو باطل ! , وما أصدق هذه الكلمة التي عنون بها على نفسه ومقاله : ليس هذا من صنعتك !! .
ناهيك أن الأثر متنه ممجوج لا يليق بمقام الشافعي ولا بمقام شيخ المحدثين الإمام سفيان بن عيينة , كما سيأتي .
ومن المعلوم لدى طالب العلم : أنك لن تعرف خطأ شيخك حتى تسمع من غيره , ولن تستطيع معرفة الحق والصواب حتى تعرض أقوال العلماء بعضها مع بعض وتقارن بينها , وهذا منها ! .
وهذه المسألة تتداخلها بعض الفروع التي ينبغي لطالب العلم أن يتصورها حين الحديث عن موضوع الاستدلال بالحديث , لتعلقها بالموضوع , وسوف نشير إليها .
فما أراد به الدكتور أمجد رشيد من الاستدلال بقول الشافعي- افتراضا على صحته - ليس في مكانه , أقول : وبالذات الإمام الشافعي !! , فهو المعروف بين العلماء بناصر السنة وله المقولة التي تكتب بماء الذهب , والتي يتبرم منها أمثال الدكتور أمجد رشيد وهي قوله : يعمل بالحديث ولو لم يعمل به أحد من الناس ! , وله على منوالها وفي تقريرها القول الكثير الذي سنشير إليه , وهذا تمهيد يسير ثم تعليق على مقاله :
المسألة الأولى : قول الشافعي في مسألة الأخذ بالحديث وإن لم يمض عمل أحد من الناس به .
- قال "الشافعي" رحمه الله : لما كان معروفاً - والله أعلم - عند عمر أن النبي قضى في اليد بخمسين وكانت اليد خمسة أطراف مختلفةِ الجمال والمنافع: نزَّلها منازِلَها، فحكم لكل واحد من الأطراف بقَدْره من دية الكفِّ، فهذا قياس على الخبر.
فلما وجدنا كتاب آل عمرو بن حزم فيه: أن رسول الله قال: وفي كل إصبع مما هنالك عشرٌ من الإبل صاروا إليه.
ولم يقبلوا كتاب آل عمرو بن حزم - والله أعلم حتى يثبت لهم أنه كتاب رسول الله.
وفي الحديث دلالتان: أحدهما: قبول الخبر، والآخر: أن يُقبل الخبر في الوقت الذي يثبت فيه، وإن لم يمضي عمل من الأئمة بمثل الخبر الذي قبلوا.
- ودلالةٌ على أنه مضى أيضاً عملٌ من أحد من الأئمة، ثم وَجَدَ خبراً عن النبي يخالف عملَه لترك عمله لخبر رسول الله صلى اله عليه وسلم .
ودلالةٌ على أن حديث رسول الله يثبت بنفسه لا بعمل غيره بعده.
الرسالة (420)
فتأمل قول الشافعي : وفي الحديث دلالتان: ..! .
تأمل و وقارن بما يريد أن يقرره أمجد رشيد وزمرته من عدم قبول الحديث حتى ننظر من أخذ به ومن عمل به .
- وقال الشافعي رحمه الله : وَحَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَغْنٍ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ يُرْوَى عَمَّنْ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ حَدِيثٌ يُخَالِفُهُ لَمْ أَلْتَفِتْ إلَى مَا خَالَفَهُ وَحَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ أَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ .
الأم (7/201)
وقال أيضا : وَكَانَتْ حُجَّتُنَا عَلَيْهِمْ أَنَّ الْحَدِيثَ إذَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ فِي أَحَدٍ بَعْدَهُ حُجَّةٌ لَوْ جَاءَ عَنْهُ شَيْءٌ يُخَالِفُهُ.
الأم (7/202)
وقال أيضا : وَنَكْتَفِي بِالْخَبَرِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ بَعْدَهُ قَالَ بِهِ، وَلَا يَكُونُ فِي أَحَدٍ قَالَ بِخِلَافِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجَّةٌ، وَلَا فِي أَنْ لَمْ يُرْوَ إلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ إذَا كَانَ الْوَجْهُ مَعْرُوفًا.
الأم (7/202)
والأقوال كثيرة وفيما ذكرنا كفاية , فتأمل هذا التقرير من هذا الإمام المعظم للسنة , وقارن بمن ينسب إليه خلاف ذلك زورا وبهتانا .
- المسألة الثانية : هل القواعد والأصول التي طلب أمجد رشيد , التحاكم إليها في قبول الحديث ورده , محل اتفاق ؟ أم أن هناك تأصيلات وقواعد لم يقبل بها العلماء
أقول : أما مسألة وجوب تعلم الأصول والقواعد الفقهية وطرق الاستنباط والجمع بين الأحاديث وما يتعلق بهذا الفن , فهذا أمر من المسلمات , وأهل الحديث لا ينازعون في ذلك .
ثانيا : وإنما الذي ينكر هو دخول كثير من القواعد التي تخالف أصول أهل السنة في التعامل مع الأحاديث قبولا وردا ! .
فخذ مثلا : مذهب الأحناف وهو من المذاهب الفقهية المعتمدة ؛ له التأصيلات والقواعد التي ردها العلماء في الترجيح والاستدلال ومن ذلك : قبول الحديث المنقطع والمرسل , واعتبار الزيادة على نص القرآن نسخا , و رد الحديث لمخالفته بالقياس ورد الحديث بعمل الناس , وبما تعم به البلوى وبما يخالف القطعي .. وبمثل هذه القواعد التي لا تبقي ولا تذر على حديث يصلح للاستدلال , وقد أشرت إلى ذلك في مقالي : " الدكتور صلاح أبو الحاج / قراءة في تأصيلاته الأصولية " "نموذج لرد السنة" ! .
ولا ننسى أن الشافعي والشافعية من أشد الناس ردا على مذهب الأحناف في تقديمهم القياس على حديث الآحاد .
ولذلك قال الرازي في كتابه مناقب الشافعي :ومن العجيب أن أبا حنيفة قبل روايات المجاهيل وقبل المراسيل ثم قال : ولا أقبل الحديث الصحيح إذا كان مخالفا للقياس , ولا أقبل الحديث الصحيح في الواقعة التي تعم بها البلوى, ولا أقبل الحديث الصحيح الذي يكون راوي الفرع قاطعا بصحته وراوي الأصل يكون غير حافظ للرواية ..
مناقب الإمام الشافعي (401)
فتأمل تلك القواعد فهي ليست محل اتفاق , ولعل كثيرا منها هي من تأصيلات المتأخرين ! , فكيف تجعل حكما على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولذلك قال ابن رجب : ومن ذلك أعني محدثات العلوم ما أحدثه فقهاء أهل الرأي : من ضوابط وقواعد عقلية ورد فروع الفقه إليها. وسواء أخالفت السنن أم وافقتها طرداً لتلك القواعد المقررة , وإن كان أصلها مما تأولوه على نصوص الكتاب والسنة لكن بتأويلات يخالفهم غيرهم فيها, وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام على من أنكروه من فقهاء أهل الرأي بالحجاز والعراق: وبالغوا في ذمه وإنكاره.
بيان فضل علم السلف (4)
ثالثا : علم أصول الفقه وعلم القواعد , لا ينتفع به مقلد !
قال الذهبي في زغل العلم (41) : الأصوليون: أصول الفقه , لا حاجة لك به يا مقلد !، ويا من يزعم أن الاجتهاد قد انقطع، وما بقي مجتهد، ولا فائدة في أصول الفقه إلا أن يصير محصله مجتهدا به، فإذا عرفه ولم يفك تقليد إمامه لم يصنع شيئا، بل أتعب نفسه وركب على نفسه الحجة في مسائل.. .انتهى فتأمل .
- المسألة الثالثة : تمثيل عن الإمام الشافعي في تعظيمه للأثر والحديث في رده على الإمام مالك في مسألة رفع اليدين
- قال الربيع: سألت الشافعي عن رفع الأيدي في الصلاة فقال: يرفع المصلي يديه إذا افتتح الصلاة حذو منكبيه , وإذا أراد أن يركع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك , ولا يفعل ذلك في السجود قلت له: فما الحجة في ذلك؟ قال: أنبأنا ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل قولنا قال الربيع: فقلت : فإنا نقول يرفع في الابتداء ثم لا يعود قال الشافعي: أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر، كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما قال الشافعي -وهو يعني مالكًا- يروي عن النبي أنه كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك ثم خالفتم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابن عمر فقلتم: لا يرفع يديه إلا في ابتداء الصلاة، وقد رويتم أنهما رفعا في الابتداء، وعند الرفع من الركوع أفيجوز لعالم أن يترك فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وابن عمر لرأي نفسه أو فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- لرأي ابن عمر .. فقلت له: إن صاحبنا قال: فما معنى الرفع قال: معناه تعظيم الله، واتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ,ومعنى الرفع في الأدلة معنى الرفع الذي خالفتم فيه النبي عند الركوع، وعد رفع الرأس ثم خالفتم فيه روايتكم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وابن عمر معًا ويروي ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر رجلًا، ويروى عن أصحاب النبي من غير وجه، ومن تركه فقد ترك السنة.
الأم للشافعي ( 7/265-266) وقواعد التحديث (277-278)نقلا عنه
قلت : تأمل كيف تعقب الشافعي , الإمام مالك في مسألة رفع اليدين , وتأمل منهج تعظيم السنة والأخذ بها , وقوله : ومن تركه فقد ترك السنة , وقارن بما يريد أن يقرره الدكتور.
المسألة الرابعة : إن من محققي الشافعية من قال باتباع الحديث الذي خالف به الإمام أو لم يؤخذ به .
قال تقي الدين السبكي في كتابه "معنى قول الإمام المطلبي إذا صح الحديث فهو مذهبي (ص 92-93): "قال ابن الصلاح: وعند هذا أقول : "من وجد من الشافعيين حديثا يخالف مذهبه نظر، فإن كملت آلات الاجتهاد فيه إما مطلقا وإما من ذلك الباب، أوفى تلك المسألة ، كان له الاستقلال بالعمل بذلك الحديث، وإن لم تكمل إليه , ووجد حزازة في قلبه من مخالفة الحديث بعد أن بحث فلم يجد لمخالفته عنه جوابا شافيا، فلينظر: هل عمل بذلك الحديث إمام مستقل؟ فإن وجد فله أن يتمذهب بمذهبه في العمل بذلك الحديث ويكون ذلك عذرا في ترك مذهب إمامه في ذلك ! .
وسكت ابن الصلاح عن القسم الآخر وهو: أن لا يجد من يتمذهب بمذهبه في العمل بذلك الحديث، وكأنه لأن ذلك إنما يكون حيث يكون إجماع، ولكن قد يعرض مع الاختلاف، وقد يعرض في مسألة لا نقل فيها عن غير الشافعي، فماذا يصنع؟ والأولى عندي اتباع الحديث , وليفرض الإنسان نفسه بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سمع ذلك منه، أيسعه التأخر عن العمل به؟ لا والله. وكل أحد مكلف بحسب فهمه".انتهى فتأمل قول السبكي : وليفرض الإنسان نفسه بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سمع ذلك منه، أيسعه التأخر عن العمل به؟
و قال الحافظ في " توالي التأسيس ": وقرأت بخط الشيخ تقي الدين السبكي في مصنف له في هذه المسألة ما ملخصه: إذا وجد شافعي حديثا صحيحا يخالف مذهبه إن كملت فيه آلة
الاجتهاد في تلك المسألة، فليعمل بالحديث، بشرط أن لا يكون الإمام اطلع عليه، وأجاب عنه، وإن لم يكمل ووجد إماما من أصحاب المذاهب عمل به، فله أن يقلده فيه، وإن لم يجد، وكانت المسألة حيث لا إجماع، قال السبكي: فالعمل بالحديث أولى، وإن فرض الإجماع فلا.
قلت (القائل ابن حجر) : ويتأكد ذلك إذا وجد الإمام بنى المسألة على حديث ظنه صحيحا، وتبين أنه غير صحيح، ووجد خبرا صحيحا يخالفه، وكذا إذا اطلع الإمام عليه، ولكن لم يثبت عنده مخالفة، ووجد له طريق ثابتة، وقد أكثر الشافعي من تعليق القول بالحكم على ثبوت الحديث عند أهله ؛ كما قال في البويطي: إن صح الحديث في الغسل من غسل الميت قلت به ، وفي " الام ": إن صح حديث ضباعة في الاشتراط قلت به، إلى غير ذلك.انتهى
أقول : تأمل قول السبكي وتأكيد ابن حجر له , لتعلم من يهرف بما لا يعرف .
المسألة الخامسة : محاولة إظهار أهل الحديث أو أهل فقه الدليل كما يسميهم أنهم في منهجهم على خلاف طريقة الفقهاء في الاستنباط ودراسة علم أصول الفقه وأنهم يحاربون التمذهب أو الدراسة على أحد المذاهب الفقهية .
وهذا ما يدور حوله الدكتور أمجد رشيد ومن معه , وهي محاولة إظهار أهل الحديث بمظهر المستقل عن طريقة الفقهاء في الاستنباط والترجيح , مع أن كلا العلمين - كما قرر هو - لا غنى لأحدهما عن الآخر .
أقول : وإنما الذي ينكره أهل الحديث: التعصب المذهبي في مقابل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم , أو الاحتكام إلى مثل تلك القواعد الباطلة التي أشرنا إليها في التعامل مع الأحاديث قبولا وردا
- وإليك مثال لحث شيخنا الألباني رحمه الله طلبة العلم على التفقه والتعلم من خلال الأئمة الأربعة:
قال شيخنا الألباني -رحمه الله- في سؤال وجهه إليه بعض الطلاب، وكان الحوار يدور حول حكم قضاء صلاة الوتر بعد خروج وقتها، فقال الشيخ رحمه للطالب:أنت حنبلي ؟
فقال الطالب: لكني مع الدليل .
فقال الشيخ -رحمه الله-: «أنا ما اتهمتك ثم قال -رحمه الله-: أنت تجمع الآن بين شيئين، وهذا واجب كل طالب؛ أن يكون حنبليا مع طلب الدليل،وأن يكون حنفيا مع طلب الدليل، وأن يكون مالكيا مع طلب الدليل، وأن يكون شافعيا مع طلب الدليل، وليس كما يتوهم كثير من إخواننا السلفيين... إذا أنا أفهم أنك أنت وغيرك حنبلي المذهب، ولا مشاحة في ذلك، ولما قلت لك أنت حنبلي: ليش عيّرت نفسك بهذه النسبة، هذا واجبك، لكن إذا كنت حنبليا مقلدا تقليدا أعمى على خلاف الدليل هنا يأتي الانتقاد»
راجع الشريط رقم (296) من سلسلة الهدى والنور .
وقال العلاَّمة الألباني -رحمه الله- فيما نقله عنه الشيخ محمد العباسي في بدعة التعصب المذهبي : «ومن الجدير بالذكر أن هذا هو رأي أستاذنا حفظه الله نفسه، فقد ذكر أكثر من مرة أن الواجب على الناس في زماننا هذه أن يبدؤوا بتعلم الفقه على طريق احد المذاهب الأربعة، ويدرسوا الدين من كتبها، ثم يتدرجوا في طريق العلم الصحيح، بأن يختاروا كتابًا من كتب مذهبهم، ككتاب المجموع للنووي عند الشافعية، وكتاب فتح القدير لابن الهمام عند الحنفية، وغيرها من الكتب التي تبين الأدلة، وتشرح طريق الاستنباط، ثم يتركوا كل قول ظهر لهم ضعف دليله وخطأ استنباطه، ثم يتدرجوا خطوة ثالثة بأن ينظروا في كتب المذاهب الأخرى، التي تُناقش الأدلة أيضًا وتبين طريق الاحتجاج بها، ويأخذوا من هذه الكتب ما ظهر لهم صحته وصوابه، وهكذا. انتهى.
فيرى شيخنا أن هذا هو السبيل الصحيح المُمكن سلوكه في هذا الزمان، لأن سلوك السبيل الواجبة التي كان عليها السلف الصالح طفرة غير مُمكن اليوم؛ لأنه لا يوجد في الناس علماء مجتهدون، يعلمونهم فقه الكتاب والسنة، ولذلك فليس أمام الناس إلا أحد سبيلين: فأما أن يُتركوا دون تعليم ولا تفقيه ويخبطوا في دينهم خبط عشواء، وإما أن يتعلموا دينهم ويتفقهوا في أحكامه عن طريق أحد المذاهب الأربعة. ولا شك أن هذا الطريق هو أخف ضررًا وأقل شرًّا من الطريق الأول، ولذلك ننصح به ونؤيده». بدعة التعصب المذهبي» .
ويقول محمد العباسي في بدعة التعصب المذهبي : والخلاصة؛ أننا لا نُمانع في الوقت الحاضر من دراسة الفقه على الطريقة المذهبية، ولكن بشرط واحد وهو عدم التعصب، فالتعصب المذهبي هو الذي نُحاربه ونكرهه .
بدعة التعصب المذهبي» (62).
و قال الشيخ محمد عيد العباسي : «أما رأينا في الأئمة المجتهدين وخاصة منهم الأربعة أي أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد -رضي الله عنهم-؛ فهو أننا نجلهم شهد الله عظيم الإجلال , ونحبهم شديد الحب , ونعدهم أئمة لنا وقدوة حسنة وسلفا صالحا لنا أدوا الأمانة ونصحوا الأمة وقاموا بما أوجب الله عليهم كاملا غير منقوص , وكانوا مثالا يحتذى به في الورع والتقوى والعلم والعمل والإيمان والإخلاص . وأجمع المسلمون على الثناء عليهم وحبهم وإجلالهم وتواترت الأخبار في بيان فضلهم وذكر صفاتهم الكريمة , ونقل مناقهم الحميدة ولعلنا أعرف الناس بفضلهم وأكثرهم تقديرا لجهودهم لأننا نسير على طريقتهم , ونقتفي آثارهم في اتباع الكتاب والسنة والاحتكام إليها حين التنازع وتقديمهما على كل قول وعدم التعصب للرجال».
ثم قال بعد ذلك : «نحن نحب الأئمة ونواليهم , ولكننا في الوقت نفسه نفعل ما أمرنا الله عز وجل به من إجلال كتابه وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-, وأن ندور مع الحق حيث دار» .
«بدعة التعصب المذهبي» (47- 48).
المسألة السادسة :وهي أصل لب الخلاف, أنه كبر في أنفس متعصبة المذاهب مخالفة أهل الحديث ؛ المذاهب التي ينتسبون إليها وعظم عليهم تعصبا مخالفة تلك المذاهب .
أقول : وقد تعجب العز بن عبدالسلام- وهو شافعي المذهب - من هؤلاء المتعصبة فقال : وَمِنْ الْعَجَبِ الْعَجِيبِ أَنَّ الْفُقَهَاءَ الْمُقَلِّدِينَ يَقِفُ أَحَدُهُمْ عَلَى ضَعْفِ مَأْخَذِ إمَامِهِ بِحَيْثُ لَا يَجِدُ لِضَعْفِهِ مَدْفَعًا وَمَعَ هَذَا يُقَلِّدُهُ فِيهِ، وَيَتْرُكُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَقْيِسَةِ الصَّحِيحَةِ لِمَذْهَبِهِ جُمُودًا عَلَى تَقْلِيدِ إمَامِهِ، بَلْ يَتَحَلَّلُ لِدَفْعِ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَتَأَوَّلُهُ مَا بِالتَّأْوِيلَا تِ الْبَعِيدَةِ الْبَاطِلَةِ نِضَالًا عَنْ مُقَلِّدِهِ، وَقَدْ رَأَيْنَاهُمْ يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَجَالِسِ فَإِذَا ذُكِرَ لِأَحَدِهِمْ فِي خِلَافٍ مَا وَظَنَّ نَفْسَهُ عَلَيْهِ تَعَجَّبَ غَايَةَ التَّعَجُّبِ مِنْ اسْتِرْوَاحٍ إلَى دَلِيلٍ بَلْ لِمَا أَلِفَه مِنْ تَقْلِيدِ إمَامِهِ حَتَّى ظَنَّ أَنَّ الْحَقَّ مُنْحَصِرٌ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ أَوْلَى مِنْ تَعَجُّبِهِ مِنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ، فَالْبَحْثُ مَعَ هَؤُلَاءِ ضَائِعٌ مُفْضٍ إلَى التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ يُجْدِيهَا، وَمَا رَأَيْت أَحَدًا رَجَعَ عَنْ مَذْهَبِ إمَامِهِ إذَا ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ فِي غَيْرِهِ بَلْ يَصِيرُ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِضَعْفِهِ وَبُعْدِهِ، فَالْأَوْلَى تَرْكُ الْبَحْثِ مَعَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ إذَا عَجَزَ أَحَدُهُمْ عَنْ تَمْشِيَةِ مَذْهَبِ إمَامِهِ قَالَ لَعَلَّ إمَامِي وَقَفَ عَلَى دَلِيلٍ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ وَلَمْ أَهْتَدِ إلَيْهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ الْمِسْكِينُ أَنَّ هَذَا مُقَابَلٌ بِمِثْلِهِ وَيَفْضُلُ لِخَصْمِهِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الدَّلِيلِ الْوَاضِحِ وَالْبُرْهَانِ اللَّائِحِ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَكْثَرَ مَنْ أَعْمَى التَّقْلِيدُ بَصَرَهُ حَتَّى حَمَلَهُ عَلَى مِثْلِ مَا ذُكِرَ، وَفَّقَنَا اللَّهُ لِاتِّبَاعِ الْحَقِّ أَيْنَ مَا كَانَ وَعَلَى لِسَانِ مَنْ ظَهَرَ .
قواعد الأحكام (2/235)
أقول : وعندي من الأمثلة الكثيرة في تعامل هؤلاء في رد الحديث الصحيح الصريح في مقابل قول أئمة أصحاب المذاهب , وما دورات الأوقاف منك ببعيد ! .
التعقيب على المقال :
قال الدكتور أمجد رشيد : تداول البعض قول إمامنا الشافعي رضي الله عنه ورحمه فيما أخرجه ....: «إذا وجدتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة فاتبعوها، ولا تلتفتوا إلى غيرها» .. هذا كلام حق، وهو من مقتضيات إيماننا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، لكنه يستعمل اليوم بطریق خطأ. فليس معناه أن كل أحد وقف على حديث، له العمل به! فإن اتباع الدليل من الكتاب والسنة وغيرهما والعمل به ابتداء من وظائف المجتهدين، ثم غير المجتهدين يتبعون المجتهدين فيما يبينونه من ذلك، فيكونون قد اتبعوا الدليل، وإلا لضرب الكتاب بالكتاب، والسنة بالسنة، والسنة بالكتاب، وځولف الإجماع، كل ذلك يكون بدعوى التمسك بالكتاب والسنة.
أقول مستهديا بالله ومستعينا به :
- قول الشافعي الذي علق عليه المعترض , هو الذي جاء عن الأئمة الأربعة وقد أشار إلى أقوالهم ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله و ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين , وذكر بعضها شيخنا الألباني رحمه الله في مقدمة صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم , ومنها المقولة المشهورة : إذا صح الحديث فهو مذهبي .
- ثانيا : إن الله تعبدنا بالكتاب والسنة في اتباعهما والاستدلال بهما , فالكتاب والسنة أصل وأقوال العلماء فرع عليها , وهم يقلبون المسألة يجعلون أقوال العلماء أصلا وقول النبي صلى الله عليه وسلم فرعا على أقوالهم .
قالَ الشَّافِعِيُّ: الأَصْلُ قُرْآنٌ أَوْ سُنَّةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَقِيَاسٌ عَلَيْهِمَا، وَإِذَا صَحَّ الحَدِيْثُ فَهُوَ سُنَّةٌ . مناقب الشافعي لابن أبي حاتم
و قال الشافعي في تقرير ذلك : لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا نَسَبَهُ النَّاسُ أَوْ نَسَبَ نَفْسَهُ إلَى عِلْمٍ يُخَالِفُ فِي أَنْ فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اتِّبَاعَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّسْلِيمَ لِحُكْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ إلَّا اتِّبَاعَهُ وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَوْلٌ بِكُلِّ حَالٍ إلَّا بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ مَا سِوَاهُمَا تَبَعٌ لَهُمَا وَأَنَّ فَرْضَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَى مَنْ بَعْدَنَا وَقَبْلَنَا فِي قَبُولِ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ فِي أَنَّ الْفَرْضَ وَالْوَاجِبَ قَبُولُ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا فِرْقَةٌ سَأَصِفُ قَوْلَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الأم (7/287)
وللشافعي كلام في ذلك فيه تعظيم الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه يلزم العالمين .
قال : فأما ما كان من سنة من خبر الخاصة الذي يختلف الخبر فيه، فيكون الخبر محتملاً للتأويل، وجاء الخبر فيه من طريق الانفراد: فالحجة فيه عندي أن يلزم العالمين حتى لا يكون لهم ردُّ ما كان منصوصاً منه، كما يلزمهم أن يقبلوا شهادة العدول، لا أن ذلك إحاطةٌ كما يكون نص الكتاب وخبرُ العامة عن رسول الله.
الرسالة (461)
وقال الشافعي : يَا سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ كَيْفَ تَرْوُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا تُخَالِفُونَهُ، وَلَا تُخَالِفُونَ إلَى قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ مَا رَأَيْنَا أَحَدًا قَطُّ فِي شَرْقٍ وَلَا غَرْبٍ قَبْلَكُمْ وَلَا بَلَغَنَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ مِثْلَ هَذَا، وَمَا لِأَحَدٍ خِلَافُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الأم (7 /238)
- قول الدكتور : اتباع الدليل والعمل بهما من وظائف المجتهدين . انتهى
قول عري عن الصحة بل جاء عن الشافعي ما يرد هذا الكلام
فقد نص الشافعي أن العلم علمان منه ما هو عام يعرفه العامة , ومنه الخاص الذي اختص بمعرفته العلماء .
فقال رحمه الله : الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبران : - فخبر عامة عن عامة عن النبي صلى الله عليه وسلم بجمل ما فرض على العباد وهذا ما لا يسع جهله وما كان على أهل العلم والعوام أن يستووا فيه لأن كلا كلفه كعدد الصلاة وصوم رمضان وتحريم الفواحش وأن لله حقا في أموالهم .
وخبر خاصة في خاص الأحكام لم يكلفه العامة ولم يأت أكثره كما جاء الأول وكلف علم ذلك من فيه الكفاية للخاصة بد دون العامة .
اختلاف الحديث (7:7)
- قول الدكتور : ثم غير المجتهدين يتبعون المجتهدين فيما يبينونه من ذلك . انتهى
أقول : أشار إلى طائفة المجتهدين وطائفة المقلدين , ولم يذكر أهل الاتباع وهم الذين يؤخذون الحق بدليله .
وقد تكلم ابن القيم رحمه الله عن مرتبة الاتباع في إعلام الموقعين .
- ثانيا : الإشارة أن قول الشافعي : إذا وجدتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة فاتبعوها، ولا تلتفتوا إلى غيرها» وقوله : إذا صح الحديث فهو مذهبي . ليس موجها لأهل الاجتهاد كما أوهم كلام الدكتور وإنما هو للمقلدة
ذكر العلامة ابن الوزير في "الروض الباسم" (1/208) قول الإمام الشافعي: "إن صح الحديث فاعملوا به ودعوا مذهبي"، فقال: "قول الشافعي هذا لا يجوز أن يوجه إلى المجتهدين لأنهم غير محتاجين إلى مثل هذا التعليم، وإنما وصى بهذا ملتزمي مذهبه إشفاقا منه - رضي الله عنه - على أصحابه ومتبعيه من الوقوع في العصبية له وتقديم قوله على ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -".
وقال العلامة صالح الفلاني في كتابه "إبقاظ همم أولي الأبصار" (ص 65): "قول أبي حنيفة ومحمد والشافعي، بأنه: "إذا خالف قولنا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخذوا بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" ونحوه، ليس في حق المجتهد لعدم احتياجه في ذلك إلى قولهم، فذاك في حق المقلد".


- قال الدكتور أمجد رشيد : ومن مثل هذا نشأت أقوال كثير من أهل البدع قديما وحديثا. فكل دعوة لاتباع الكتاب والسنة لا تقوم على أساس ما قاله الأئمة المجتهدون المتقدمون في تفسير النصوص والجمع بينها وبين ما استخلصوه من قواعد الشريعة وعللها ومقاصدها، ولا يرجع أصحابها ممن تقوم عليهم الحجة عن أقوال مشايخهم المتأخرين والمعاصرين التي ظهر مخالفتها للمتقدمين؛ فلا تعدو ممن تقوم عليهم الحجة عن أقوال مشايخهم المتأخرين والمعاصرين التي ظهر مخالفتها للمتقدمين؛ فلا تعدو أن تكون: قول حق أريد به باطل، من حيث شعر أصحابها أو لم يشعروا.
أقول : وهذا كلام عام , وحرف بالمسألة عن أصلها فمن يقول باتباع الدليل لا يقول بنبذ أقوال العلماء أو أفهامهم !! هذا ما يحاول أن يصوره أمثال الدكتور أمجد رشيد , وإلا فمقولة الإمام أحمد أصل من أصول أهل السنة , وهو قوله لأبي الحسن الميموني : إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام .
وليس من مسألة خالف فيها أهل الحديث مذهبا من المذاهب إلا وقد قال بها إمام من الأئمة .
- وهذه مسألة مهمة وكان شيخنا الألباني يذكرها دائما للطلبة, وأنه ينبغي لطالب العلم أن يكون متبعا في ترجيحه لقول عالم من العلماء الذين سبقوه , وكان دائما يكرر مقولة الإمام أحمد لتلميذه أبي الحسن الميموني : إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيه إمام .
- قال الألباني -رحمه الله- : «عند شرحه لحديث جابر بن عبد الله : كنا في سفر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما قدمنا المدينة قال لي: ائت المسجد فصلِّ فيه ركعتين :«وظاهر الأمر يفيد وجوب صلاة القدوم من السفر في المسجد، لكني لا أعلم أحدا من العلماء ذهب إليه، فإن وجد من قال به صرنا إليه، والله أعلم»!». الثمر المستطاب» (2/628).
- وقال مستدركا على ابن القيم في مسألة فناء النار:
- «ولقد كان من الواجب عليه أن يلتزم بقول إمامه الذي قال ناصحاً لكل سلفي: «إياك أن تتلكم في مسألة ليس لك فيها إمام». وكان في المحنة يقول: «كيف أقول ما لم يقل؟» . رفع الأستار» (41).


قال الدكتور أمجد رشيد : وبتقدير الله تعالی کنت وقت ما وصلني منشور عبارۃ الشافعي المذكورة صباح هذا اليوم أطالع في «مناقب الشافعي» للإمام الحافظ أبي بكر البيهقي، مراجعا لحكاية فيه وقعت بين الإمامين سفيان بن عيينة وتلميذه الشافعي، مناسبة للمقام فأحكيها: أخرج البيهقي في «مناقب الشافعي» .. عن عمرو بن سفيان بن محمد الثغري قال: «سمعت أبي يقول: رأيت محمد بن إدريس الشافعي جالسا عند ابن عيينة - وكان إذا جلس عنده جلس متربعا کجلسة القضاة - فقال رجل لابن عيينة: إن هاهنا قوما يرون كذا يعرض بالشافعي ومالك . فقال ابن عيينة: ما أحب أن يأتيني من يقول بهذا القول. فقال الشافعي لابن عيينة: يا أبا محمد، ليس هذا من صنعتك؛ إنما صنعتك الحديث، وإنما هذا لأهل النظر، فكف سفیان، وطأطأ رأسه، فما رأيت ابن عيينة بعد ذلك إلا معظما له ومكرما ». انتهى ثم ساق بعض الآثار في تميز الشافعي في الفقه


- أقول وبه أستعين : أولا وقبل الخوض في دلالة الأثر , أن الأثر في نفسه ساقط الإسناد : فسفيان بن محمد الثغري متهم بالوضع !!! .
ففي الجرح والتعديل لابن أبي حاتم في ترجمة سفيان بن محمد : قال أبو محمد روى عنه إبراهيم بن هانئ سمع منه أبي وأبو زرعة وتركا حديثه.
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبي يقول: هو ضعيف الحديث كتبت عنه ولا احدث عنه.انتهى
وقال ابن حبان في المجروحين : يقلب الْأَخْبَار وَيَأْتِي عَن الثِّقَات بِمَا لَيْسَ من حَدِيث الْأَثْبَات لَا يَجُوز الِاحْتِجَاج بِهِ .انتهى
وقال ابن عدي في الكامل : يسرق الحديث ويسوي الأسانيد.انتهى
وولده عمرو بن سفيان مجهول .
أقول : ولو رجع الدكتور للإسناد لكفانا مؤنة البحث , ولكن من تحدث في غير فنه أتى بالعجائب !! .
- الأثر في متنه نكارة , وهي جلوس الشافعي بين يدي شيخه كجلسة القضاة ! , وكذا قوله : إن هاهنا قوما يرون كذا يعرض بالشافعي ومالك ! , وكذا قول الشافعي الذي لا يدل على توقير شيخه وهو إمام أهل الدنيا في زمانه : بأن هذا ليس من صنعتك , وهذا لا يتصور أن يتفوه به من دون الشافعي فكيف بمثل الشافعي , وهو الذي قرن بين ابن عيينة والإمام مالك في العلم , فتأمل ! .
- ليس في الأثر موضع الاستشهاد , فهل قال له الشافعي وعاتبه على الاستنباط والاستدلال المباشر بالحديث كما أراد أن يصور الدكتور أمجد رشيد ! .
- كذلك : المسألة التي تكلم فيها سفيان بن عيينة لم تذكر , فهل هي استباط من حديث أو تفسير لمجمل فيه أو ترجيح لأقوال العلماء في ذلك , فلا يصح الاستدلال بها على المقصود – وهذا نقوله تنزلا – وإلا فالأثر لا يصح .
- نعم بعض الأئمة تميز في علم دون آخر , وهذا ما لا ينكر أحد ولا يعترض عليه معترض , ولذلك كان الشافعي يقول لأحمد بن حنبل : : أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِالأَخْبَارِ الصِّحَاحِ مِنَّا، فَإِذَا كَانَ خَبَرٌ صَحِيْحٌ، فَأَعلِمْنِي حَتَّى أَذْهَبَ إِلَيْهِ، كُوفِيّاً كَانَ، أَوْ بَصْرِيّاً، أَوْ شَامِيّاً . سير أعلام النبلاء
- هل يفهم من نص الشافعي : أنه الإمام سفيان بن عيينة ليس له أن يتكلم في الفقه والاستنباط ! هذا لا يتصور
فقد قرنه بالإمام مالك فقال: لَوْلاَ مَالِكٌ وَسُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ، لَذَهَبَ عِلْمُ الحِجَازِ.
وقال الشافعي : مَا رَأَيْتُ أَحَداً فِيْهِ مِنْ آلَةِ العِلْمِ مَا فِي سُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ، وَمَا رَأَيْتُ أَكَفَّ عَنِ الفُتْيَا مِنْهُ، قَالَ: وَمَا رَأَيْتُ أَحَداً أَحْسَنَ تَفْسِيْراً لِلْحَدِيْثِ مِنْهُ.
فهل يتصور في مثله أنه لا يحل له الكلام في الفقه كما يصوره الدكتور أمجد رشيد !.
وهل يتصور في هذا الإمام أن يكون مجرد راوية بغير فقه أو معرفة بتفسير الحديث . أي إزراء بأئمة الدين تجرؤوا عليه , وهو إمام زمانه ! .
قال الدكتور أمجد رشيد : وهذا مقام شيخه ابن عيينة الإمام، كيف حجزه ورعه وتقواه عن الفتيا، وهو من بحور العلم، وإنصافه عن التمادي في الإنكار على أهل الفقه والنظر فيها ظنه مخالفا للسنن! وكيف أنصف ابن عيينة كالإمام أحمد في تقرير الفرق بين صنعة كل من المحدث والفقيه. وتعظيم أحمد لحال أستاذه الشافعي الجامع بين الصنعتين يوجب علينا اعتقاد: أنه لا فقه صحیح مع الإعراض عن الحديث أو التقصير في تتبعه، كما أنه لا يكفي الحديث من غير إمامة في معرفة لغته وأساليب الخطاب وقواعد الاستنباط والقبول والرد.
أقول : قدمنا أن إسناد هذا الأثر الذي بنى عليه الدكتور أمجد باطل وما بني على باطل فهو باطل ,
- ثانيا : لا يصح الاستدلال في مسألة لم يفصح ويبين وجه إنكار الإمام ابن عيينة مأخذه فيها – وهذا تنزلا - , وحتى على فرض ما افترضه الدكتور أمجد أنها في مسألة رد فيها ابن عيينة على استنباط الشافعي أو مالك فيها , وعاتبه الشافعي فهل يعمم ذلك على كل المسائل , وهل يصح الاستدلال بحادثة يعمم فيها في كل المسائل ! .
- لماذا يصور أمجد رشيد في كلامه , وكأن من يقول بفقه الدليل والاستدلال به أنه يلغي الفقه وعلم الاستدلال والاستنباط والرجوع إلى أصول الفقه , وهل أهل الحديث أو ما جرى عليه تسميتهم أهل فقه الدليل يخالفون في ذلك ! .


- قال الدكتور أمجد رشيد : وفي ترتيب المدارك» للإمام القاضي عياض .. عن الإمام شيخ الإسلام الحافظ عبد الله بن وهب المصري .. قال: «لولا أن الله أنقذني بمالك والليث لضللت. فقيل له: كيف ذلك؟ قال : أكثرت من الحديث فحيرني، فكنت أعرض ذلك على مالك والليث، فيقولان لي: خل هذا و دع هذا». انتهى. فما كانت حيرة ابن وهب رحمه الله من قلة بضاعة في الحديث، بل من كثرة ما يرويه من الحديث مع عدم ضم آلة التفقه والاستنباط إليه - وقتها ، لكنه ولما خضع لأئمة الفقه، وألقى إليهم قياد العلم، فأذاقوه لذيذ القواعد التي بها يستنبط منه، وأوقفوه على أسس التفهم والتعليل، والقبول والرد، والتقديم والتأخير والترجيح، وتضلع من معينها الزلال ، استوجب ما صار يكتب إليه شيخه إمام دار الهجرة مالك بن أنس :إلى عبد الله بن وهب مفتي أهل مصر»، ولم يفعل هذا مالك مع غيره، كما في «سيرأعلام النبلاء» .
أقول وبالله التوفيق :
- وهل يخالف في ذلك طالب علم , وأن معرفة الحديث بفقهه هي الأصل , وهذا يتصور من الإمام ابن وهب في بداية الطلب , وإلا فهو إمام من الأئمة .
- ثانيا : معرفة الحديث ودرايته قوة في الحجة , ولذلك قال الشَّافِعِيَّ : " مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ عَظُمَتْ قِيمَتُهُ ، وَمَنْ طَلَبَ الْفِقْهَ نَبُلَ قَدْرُهُ ، وَمَنْ كَتَبَ الْحَدِيثَ قَوِيَتْ حُجَّتُهُ .. .
- قال الدكتور : والحاصل: أن ما يحث عليه إمامنا الشافعي كغيره من الأئمة من اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث وجدت؛ ما هو إلا من مقتضيات الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهي قضية لا يتنازع فيها مؤمنان، لكن التطبيق العملي لقواعد الاجتهاد والواجب العلمي له يفرضان للقول بمقتضى حديث ما أنه السنة ويجب اتباعها أمورا :
- أولها: كون الآخذ لتلك السنة من ذلك الحديث مجتهدا في الفقه، أما غيره ولو محدثا بارعا في فنه، لكنه عري عن آلة الاجتهاد، فلا عبرة به في مقام النظر الاستدلالي والفتيا.
- أقول : وهذا ليس على إطلاقه , فمدار الفتيا في الأصل تدور على الحديث ولذلك قال أبو عَرُوبَةَ الْحَرَّانِيَّ، : «الْفَقِيهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ حَدِيثٍ، يَكُونُ أَعْرَجَ.»
شرف أصحاب الحديث (70)
وقال اللكنوي في كتابه: إمام الكلام فيما يتعلق بالقراءة خلف الإمام ( 228 ) : ومن نظر بنظر الإنصاف وغاص في بحار الفقه والأصول ، متجنبا عن الاعتساف ، يعلم علما يقينا أكثر المسائل الفرعية والأصلية التي اختلف العلماء فيها ، فمذهب المحدثين فيها أقوى من مذاهب غيرهم ، وإني كلما أسير في شعب الاختلاف أجد قول المحدثين فيه قريبا من الإنصاف فلله درهم كيف لا وهم ورثة النبي صلى الله عليه وسلم حقا ونواب شرعه صدقا . انتهى
وقال شيخ الإسلام : فِي الرَّدِّ عَلَى بَعْضِ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْكَلَامِ لَمَّا تَكَلَّمُوا فِي الْمُتَأَخِّرِي نَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَذَمُّوهُمْ بِقِلَّةِ الْفَهْمِ وَأَنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مَعَانِيَ الْحَدِيثِ وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ صَحِيحِهِ مِنْ ضَعِيفِهِ وَيَفْتَخِرُونَ عَلَيْهِمْ بِحِذْقِهِمْ وَدِقَّةِ عُلُومِهِمْ فِيهَا فَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
لَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مَوْجُودٌ فِي بَعْضِهِمْ يَحْتَجُّونَ بِأَحَادِيثَ مَوْضُوعَةٍ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ وَآثَارٍ مُفْتَعَلَةٍ وَحِكَايَاتٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ وَيَذْكُرُونَ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مَا لَا يَفْهَمُونَ مَعْنَاهُ وَقَدْ رَأَيْت مِنْ هَذَا عَجَائِبَ؛ لَكِنَّهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ كَالْمُسْلِمِين َ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَقِيَّةِ الْمِلَلِ فَكُلُّ شَرٍّ فِي بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ فِي غَيْرِهِمْ أَكْثَرُ وَكُلُّ خَيْرٍ يَكُونُ فِي غَيْرِهِمْ فَهُوَ فِيهِمْ أَعْظَمُ وَهَكَذَا أَهْلُ الْحَدِيثِ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِمْ وَبِإِزَاءِ تَكَلُّمِ أُولَئِكَ بِأَحَادِيثَ لَا يَفْهَمُونَ مَعْنَاهَا تَكَلَّفَ هَؤُلَاءِ مِنْ الْقَوْلِ بِغَيْرِ عِلْمٍ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْإِمَامِ أَحْمَد: ضَعِيفُ الْحَدِيثِ خَيْرٌ مِنْ الرَّأْيِ .
مجموع الفتاوى (18/52)
- قال الدكتور أمجد رشيد : ثانيها: قبول ذلك الحديث في اعتقاد ذلك المجتهد بحسب قواعده ، فإن لم يقل مجتهد ما بمقتضى حديث ما لعدم قبوله على قواعده؛ لم يصح أن يقال فيه: خالف السنة والتفت إلى غيرها! ولا يخفى على طالب علم أن للأئمة مناهج متفاوتة في قبول الحديث ورده .
أقول : وهذا ليس على إطلاقه , فقد دخلت في أصول المتأخرين وأهل الرأي منهم بالذات , قواعد ضعيفة وباطلة .
قال ابن رجب : ومن ذلك أعني محدثات العلوم ما أحدثه فقهاء أهل الرأي من ضوابط وقواعد عقلية ورد فروع الفقه إليها. وسواء أخالفت السنن أم وافقتها طرداً لتلك القواعد المقررة وإن كان أصلها مما تأولوه على نصوص الكتاب والسنة لكن بتأويلات يخالفهم غيرهم فيها وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام على من أنكروه من فقهاء أهل الرأي بالحجاز والعراق: وبالغوا في ذمه وإنكاره.
بيان فضل علم السلف (4)
وأما قوله إن مناهج الأئمة متفاوتة في قبول الحديث ورده . انتهى فهو من عجائبه !
قال السمعاني يرد على أبي زيد الدبوسي الحنفي وقد تكلم على شروط الرواية : والعجب من هذا الرجل أنه جعل هذا الباب باب نقد الأحاديث ومتى سلم له ولأمثاله بنقد الأحاديث , وإنما نقد الحديث لا يعرف الرجال وأحوال الرواة ووقفت على كل واحد منهم حتى لا يشذ عنه شىء من أحواله التى يحتاج إليها ويعرف زمانه وتاريخ حياته ووفاته ومن روى هو عنه ومن صحب من الشيوخ وأدركهم ثم يعرف تقواه وتورعه فى نفسه وضبطه لما يرويه ويقظة رواياته , وهذه صنعة كبيرة وفن عظيم من العلم وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: "لا تنازعوا الأمر أهله" . وهذا الرجل أعنى الدبوسى وإن كان قد أعطى حظا من الغوص في معاني الفقه على طريقة اختارها لنفسه , ولكن لم يكن من رجال صنعة الحديث ونقد الرجال وإنما كان غاية أمره الجدال والظفر بطرق من معاني الفقه لو صحت أصوله التي يبنى عليها مذهبه , ولكن لم يحتمل الأساس الضعيف من البناء عليه لا جرم لم ينفعه ما أعطى من الذكاء والفهم إلا فى مواضع يسيرة أصاب فيها الحق , وأما فى أكثر كلامه وغايته تراه يبنى على قواعد ضعيفة , ويستخرج بفضل فطنته معاني لا توافق الأصول ولم يوافقه عليها أحد من سلف أهل العلم ثم يحمل عجبه برأيه على خوضه فى كل شىء ؛ فتراه دخالا فى كل من هجوما على كل علم , وإن كان لا يحسنه فيهجم ويعتز ولا يشعر أنه يعثر.
وقال : وقد اتفق أهل الحديث أن نقد الأحاديث مقصور على قوم مخصوصين ؛ فما قبلوه فهو المقبول وما ردوه فهو المردود , وهم أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيبانى وأبو زكريا يحيى بن معين البغدادى وأبو الحسن على بن عبد الله المدينى ... ومثل هذه الطبقة يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدى والثورى وابن المبارك .. وجماعة يكثر عددهم وذكرهم علماء الأمة؛ فهؤلاء وأشباههم أهل نقد الأحاديث وصيارفة الرجال , وهم المرجوع إليهم في هذا الفن , وإليهم انتهت رئاسة العلم فى هذا النوع ؛ فرحم الله امرأ عرف قدر نفسه وقدر بضاعته من العلم فيطلب الربح على قدره .
قواطع الأدلة (1/369-370)


- قال الدكتور : ثالثها:تحقيق لغة الحديث، وتنقيح دلالته، فما كان منه محتملا لمعاني وإشارات، فذهب مجتهد إلى شيء منها لم يذهب إليها غيره، لا يقال في أحدهما: خالف السنة والتفت إلى غيرها!.
أقول : وهذا ليس على إطلاقه , قال العلامة طاهر الجزائري : وَقد وَقع فِي كتب أصُول الْفِقْه مسَائِل كَثِيرَة مَبْنِيَّة على مُجَرّد الْفَرْض وَهِي لَيست دَاخِلَة فِيهِ وَكَثِيرًا مَا أوجب ذَلِك حيرة الْمطَالع النبيه حَيْثُ يطْلب لَهَا أَمْثِلَة فَيرجع بعد الْجد وَالِاجْتِهَاد وَلم يحظ بمثال وَاحِد فَيَنْبَغِي الانتباه لهَذَا الْأَمر وَلما ذكره بعض الْعلمَاء وَهُوَ أَن كل مَسْأَلَة تذكر فِي أصُول الْفِقْه وَلَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا فروع فقهية أَو آدَاب شَرْعِيَّة أَو لَا تكون عونا فِي ذَلِك فَهِيَ غير دَاخِلَة فِي أصُول الْفِقْه وَذَلِكَ أَن هَذَا الْعلم لم يخْتَص بإضافته إِلَى الْفِقْه إِلَّا لكَونه مُفِيدا لَهُ ومحققا للِاجْتِهَاد فِيهِ فَإِذا لم يفد ذَلِك لم يكن أصلا لَهُ
وَيخرج على هَذَا كثير من الْمسَائِل الَّتِي تكلم عَلَيْهَا الْمُتَأَخّرُون َ وأدخلوها فِيهِ .. .
توجيه النظر (1/544)
وقال ابن القيم : أَمَّا أَنْ نُقَعِّدَ قَاعِدًا وَنَقُولُ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ ثُمَّ نَرُدُّ السُّنَّةَ لِأَجْلِ مُخَالَفَةِ تِلْكَ الْقَاعِدِ فَلَعَمْرُ اللَّهِ لَهَدْمُ أَلْفِ قَاعِدَةٍ لَمْ يُؤَصِّلْهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَفْرَضُ عَلَيْنَا مِنْ رَدِّ حَدِيثٍ وَاحِدٍ .
إعلام الموقعين (2/252)


- قال الدكتور : رابعها: سلامة الحديث من معارض قوي في ظن المجتهد، وإلا فهما ظن معارضة غيره له أوجب ذلك عنده النظر في حال هذا التعارض، وقد يؤول به الحال إلى ترجيح غيره عليه.
أقول : الاعتبار بالأدلة وسوق الدلائل لا بما في ظن المجتهد , فما في ظن المجتهد غيب إلا إذا أفصح عن ظنه ودليله , فينظر فيه على ما قرره أهل الترجيح في الترجيح , فالأمر ليس تخريصا في الغيب ولكن بحث ومقارنة .


قال الدكتور أمجد : يقول الحافظ الذهبي في ترجمة أَبُي القَاسِمِ عَبْدُ العَزِيْزِ بنُ عَبْدُ اللهِ الدَّارَكِيُّ الشَّافِعِيُّ, وقد وصفه الذهبي : بالإمام الكبير شيخ الشافعية بالعراق .. المحدث . ما نصه :
وَكَانَ رُبَّما يَخْتَارُ فِي الفَتْوَى, فيُقَال لَهُ فِي ذَلِكَ, فَيَقُوْلُ: وَيْحَكُم! حدَّث فُلاَنٌ, عَنْ فُلاَنٍ, عَنْ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِكَذَا، وَكَذَا, وَالأَخْذُ بِالحَدِيْثِ أَوْلَى مِنَ الأَخْذِ بِقَولِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيْفَةَ.
- قُلْتُ -الكلام للذهبي- : هَذَا جَيِّدٌ, لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ بِذَلِكَ الحَدِيْثِ إِمَامٌ مِنْ نُظَرَاءِ الإِمَامَيْنِ مِثْلُ مَالِكٍ، أَوْ سُفْيَانَ, أَوِ الأَوْزَاعِيِّ, وَبأَنْ يَكُونَ الحَدِيْثُ ثَابِتاً سَالِماً مِنْ عِلَّةٍ، وَبأَنْ لاَ يَكُونَ حُجَّةُ أَبِي حَنِيْفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ حَدِيْثاً صحيحاً معَارضاً للآخَرِ, أمَّا مَنْ أَخَذَ بِحَدِيْثٍ صَحِيْحٍ وَقَدْ تَنَكَّبه سَائِرُ أَئِمَّةِ الاِجتهَادِ فَلاَ, كَخَبَرِ: "فَإِنْ شَرِبَ فِي الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ", وَكَحَدِيْثِ "لَعَنَ الله السارق؛ يسرق البيضة فَتُقْطَعُ يَدُهُ".
سير أعلام النبلاء (12/385)
قال الدكتور أمجد : فتأمل هذا الكلام المحقق للذهبي، وقارنه بالدعاوى الفقهية الساذجة التي تحاول النهوض اليوم تحت اسم فقه الدليل»!
أقول وبالله أستعين :
- في كلامه نوع من البتر , فوقوفه عند قوله : شيخ الشافعية بالعراق .. المحدث !! .
أوهم أن الرجل معروف بمعرفة الحديث دون الفقه , ليتسنى له الاستدلال في نقده لأهل الحديث .
وإلا فالذهبي قال بعد ذلك : وتفقَّه بَأَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيْمَ بنِ أَحْمَدَ المَرْوَزِيِّ, وتصدر للمذْهَب فتفقَّه بِهِ الأُسْتَاذُ أَبُو حَامِدٍ الإِسْفَرَايِيْ نِيُّ، وَجَمَاعَةٌ. وَانْتَهَى إِلَيْهِ مَعْرِفَةُ المَذْهَبِ . انتهى كلام الذهبي ! .
لتعلم ما يصنع الهوى بأهله , فهو قول فقيه من أئمة الشافعية , وأخذ عنه بعض كبار الشافعية في الفقه ! , فلا وجه للتنصيص على أنه محدث دون ذكر معرفته بالفقه إلا ليتم له الاستدلال بلمز أهل الحديث .
ثانيا : قول الذهبي وهو المحسوب على أهل الحديث لا يخالف ما سبق , فالعبرة بالأدلة , وأقوال أهل العلم يحتج لها لا يحتج بها كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية , ولا يلزم من ذلك نقيصتهم أو الحط من قدرهم .
ثالثا : إليك هذا النص من نصوص الذهبي في ترك التعصب واتباع الدليل
قال في السير : وَقَالَ شَيْخٌ: إِنَّ الإِمَامَ لِمَنِ التَزَمَ بِتَقلِيْدِهِ، كَالنَّبِيِّ مَعَ أُمَّتِهِ، لاَ تَحِلُّ مُخَالَفَتُهُ.
قُلْتُ – الذهبي - : قَوْلُهُ: لاَ تَحِلُّ مُخَالَفَتُه: مُجَرَّدُ دَعْوَى وَاجْتِهَادٍ بِلاَ مَعْرِفَةٍ، بَلْ لَهُ مُخَالَفَةُ إِمَامِهِ إِلَى إِمَامٍ آخَرَ، حُجَّتُهُ فِي تِلْكَ المَسْأَلَةِ أَقوَى، لاَ بَلْ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الدَّلِيْلِ فِيْمَا تَبَرهَنَ لَهُ .
سير أعلام النبلاء (8/90)
قول أمجد رشيد : وقارنه بالدعاوى الفقهية الساذجة التي تحاول النهوض اليوم تحت اسم فقه الدليل» انتهى
أقول : لعل هذا المراد من المقال , لمز أهل الحديث , وإلا ولله الحمد فمنهج فقه الدليل هو الذي له القبول والعمل به عند المشايخ وطلبة العلم وحتى عند غالب أتباع المذاهب إلا من أعماه التعصب .


وكتبه / الدكتور أبو عبدالرحمن عبدالباسط الغريب .