" الدكتور وليد الشاويش إذ يؤصل للبدعة"
مناقشة مقاله :
مدى حجية مقولة (لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم )وتساؤلات في أصول السنة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم :
فهذه مناقشة لمقالة الدكتور وليد الشاويش : مدى حجية مقولة (لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم )وتساؤلات في أصول السنة , والتي أنكر فيها على من يستدل بهذه القاعدة : ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفعله , والتي زعم أن هذه القاعدة لا أصل لها , وهي قاعدة في نظره تهدم الكتاب والسنة , مع أن العكس هو الصحيح ؛ فالقول بجواز الإحداث في الدين – العبادات - ما دام أنها تندرج تحت أصل عام أو نص مطلق هو تشريع وتأصيل للبدعة في دين الله , وفتح لباب البدعة والعمل بما لم يشرعه الله ولا رسوله , بل هو هدم لدين الله وشريعة الإسلام التي أكمل الله لها الدين وأتم بها النعمة والتي تركها نبينا عليها الصلاة والسلام : بيضاء نقية لا يزيغ عنها إلا هالك , ومن العجب أن الدكتور الفاضل ينكر هذه القاعدة وهو ينتسب لمذهب المالكية ؛ وللإمام مالك عشرات الأقوال في إنكار ما أحدث بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من بدع العبادات , ومقولته المشهورة معلومة لطلبة العلم ( ليس عليه عمل الناس ) , وقد أحصيت للإمام مالك عشرات المسائل التي يقول فيها تلك المقولة , وقوله : بأن الترك لا يعتبر سنة , مخالف لقول الأصوليين الذين عدوا الترك فعلا, مع أنه هو الصحيح والمرجح عند المالكية بل والأعجب أن صاحب المراقي أشار إليه في منظومته التي كان الدكتور الفاضل يترنم بها في محاضراته ! وسيأتي الحديث عليها في مكانها , إلى غير ذلك من المسائل المهمة المتعلقة في هذا الباب.
وقد قمت بالتعليق على مقاله ومناقشته , وقد قدمت قبل ذلك بمقدمة نقلت فيها ما يتعلق في هذه المسألة من أدلة وأقوال من آثار الصحابة والتابعين وأقوال الأئمة المحققين , وهذه القاعدة مع كثرة من قال بها وتتابع العلماء على نقلها , لم ينقل الدكتور عن إمام معتبر واحد ينقض هذه القاعدة أو بردها , وإنما هي الدعاوي والمجازفات .
مقدمة بين يدي الرد
سنة الترك مبنية على مقدمات ثابتة راسخة ينبغي لطالب العلم أن يتصورها قبل الحديث عن هذه المسألة .
المقدمة الأولى: كمال هذه الشريعة واستغناؤها التام عن زيادات المبتدعين واستدراكات المستدركين، قال تعالى : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - «وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها ونهارها سواء» .
المقدمة الثانية: بيانه - صلى الله عليه وسلم - لهذا الدين وقيامه بواجب التبليغ خير قيام، فلم يترك أمرًا من أمور هذا الدين صغيرًا كان أو كبيرًا إلا وبلغه لأمته.
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] ، وقد شهدت له أمته بإبلاغ الرسالة وأداء الأمانة واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل، في خطبته يوم حجة الوداع .
المقدمة الثالثة: حفظ الله لهذا الدين وصيانته من الضياع، فهيأ الله له من الأٍسباب والعوامل التي يسرت نقله وبقاءه حتى يومنا هذا , قال تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ().
المسألة الأولى : التحذير من البدعة في الدين ؛ تدعيم لقاعدة (ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفعله ) .
مما يتعلق بمسألة ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفعله . مسألة تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من البدع , وإخباره : أن كل بدعة ضلالة .
عنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: «صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ»، وَيَقُولُ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ»، وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ، وَالْوُسْطَى، وَيَقُولُ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ». أخرجه مسلم
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : مسألة أن كل بدعة في الدين ضلالة محرمة، هذا مما أجمع عليه الصحابة والسلف الصالح، ولم تنتشر البدع إلا بعد القرون الثلاثة الفاضلة حين صارت للروافض والقرامطة دولة، وكثرت الطرق الصوفية النكدة.
اقتضاء الصراط المستقيم (1/64)
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ» . أخرجه البخاري , وفي رواية لمسلم : «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» .
قال النووي : فَهُوَ رَدٌّ قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ : الرَّدُّ هُنَا بِمَعْنَى الْمَرْدُودِ وَمَعْنَاهُ فَهُوَ بَاطِلٌ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ , وَهَذَا الْحَدِيثُ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي رَدِّ كُلِّ الْبِدَعِ وَالْمُخْتَرَعَ اتِ .
شرح النووي (12/16)
تعريف البدعة
تكاد تتوافق تعاريف العلماء للبدعة , ويمكن صوغ ذلك بأنه : ما أحدث على غير مثال سابق , فلم تظهر البدع أصلا إلا بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم , فكان التأصيل لقاعدة ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله ؛ متناسبا مع منع البدع في الدين .
قال الإمام الشاطبي المالكي : أصل مادة بَدَعَ لِلِاخْتِرَاعِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وَمِنْهُ قول الله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، أي مخترعهما مِنْ غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ مُتَقَدِّمٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} ، أَيْ مَا كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ جَاءَ بِالرِّسَالَةِ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْعِبَادِ، بَلْ تَقَدَّمَنِي كَثِيرٌ مِنَ الرُّسُلِ. وَيُقَالُ: ابْتَدَعَ فَلَانٌ (بِدْعَةً يَعْنِي ابْتَدَأَ) طَرِيقَةً لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهَا سَابِقٌ.
الاعتصام (1/45)
وقال أبو بكر الطرطوشي المالكي (): فإن قيل لنا: فما أصل البدعة؟ قلنا: أصل هذه الكلمة من الاختراع، وهو الشيء يحدث من غير أصل سبق، ولا مثال احْتُذِيَ، ولا ألف مثله , ومنه قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، وقوله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} ؛ أي: لم أكن أول رسول إلى أهل الأرض. وهذا الاسم يدخل فيما تخترعه القلوب، وفيما تنطق به الألسنة، وفيما تفعله الجوارح.
الحوادث والبدع (30-40)
وعرفها العلامة الشمني : بأنها ما أحدث على خلاف الحق المتلقى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من علم أو عمل أو حال بنوع شبهة أو استحسان .. .
الإبداع في مضار الابتداع(32)
ولما كانت هذه الأحاديث يفهم منها العموم , وهو عموم النهي عن كل محدث , وكانت المحدثات منها الشرعية وغير الشرعية وضع العلماء ضابطا للبدعة, وهو أن البدعة – المذمومة والمنهي عنها - ما تعلقت بأمر الدين في العبادات , وعلى ذلك قسم العلماء البدعة إلى قسمين :
البدعة بدعتان لغوية وشرعية :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ولهذا كان الأصل الذي بنى الإمام أحمد وغيره من الأئمة عليه مذاهبهم أن أعمال الخلق تنقسم إلى:
عبادات يتخذونها دينا، ينتفعون بها في الآخرة، أو في الدنيا والآخرة .
وإلى عادات ينتفعون بها في معايشهم .
فالأصل في العبادات: أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله.
والأصل في العادات: أن لا يحظر منها إلا ما حظره الله.
اقتضاء الصراط (2/86)
وهذه قاعدة تكاد أن تكون اتفاقا بين العلماء , وهي أصل أصيل للتفريق بين ما أحدث من أمور الدنيا التي احتاج إليها البشر والتي لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ,و مبناها على الإباحة والجواز وبين ما كان من أمر التعبدات والتي مبناها على التوقيف والحظر .
بيان أن البدعة اللغوية أعم من الشرعية
قال شيخ الاسلام : ثم ذلك العمل الذي يدل عليه الكتاب والسنة: ليس بدعة في الشريعة، وإن سمي بدعة في اللغة، فلفظ البدعة في اللغة أعم من لفظ البدعة في الشريعة. وقد علم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة» لم يرد به كل عمل مبتدأ، فإن دين الإسلام، بل كل دين جاءت به الرسل فهو عمل مبتدأ، وإنما أراد: ما ابتدئ من الأعمال التي لم يشرعها هو صلى الله عليه وسلم.
اقتضاء الصراط (2/96)
قلت : وقد كان مقال الدكتور موهما للقارئ أن من يقول بقاعدة ( لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ) يجري ذلك على العادات والعبادات , مع أن هذا خلاف الصحيح كما في هذا النقل عنهم .
قال ابن دقيق العيد – ممثلا للبدعة اللغوية - : فأما تفريع الأصول التي لا تخرج عن السنة فلا يتناولها هذا الرد ؛ ككتابة القرآن العزيز في المصاحف , وكالمذاهب التي عن حسن نظر الفقهاء المجتهدين الذين يردون الفروع إلى الأصول التي هي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وكالكتب الموضوعة في النحو والحساب والفرائض , وغير ذلك من العلوم مما مرجعه ومبناه على أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوامره ؛ فإن ذلك لا يدخل في هذا الحديث.- يعني حديث: من أحدث في أمرنا هذا ... .
شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد (42)
ضابط البدعة :
الأصل في ذلك أن كل عبادة اتفق على تَرْكِها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسلف الأمة من بعده فهي بلا شك بدعة ضلالة، ليست من الدين , فإذا تواطأ النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلف الأمة من بعده على تَرْكِ عبادة فهذا دليل قاطع على أنها بدعة.
قال شيخ الإسلام : «فأما ما تركه [أي النبي - صلى الله عليه وسلم -] من جنس العبادات، مع أنه لو كان مشروعًا لفعله أو أذن فيه، ولفعله الخلفاء بعده والصحابة؛ فيجب القطع بأن فعله بدعة وضلالة، ويمتنع القياس في مثله» .
مجموع الفتاوى (26/172)
وسئل تقي الدين السبكي عن بعض المحدثات فقال: الحمد لله، هذه بدعة لا يشك فيها أحد، ولا يرتاب في ذلك، ويكفي أنها لم تُعرف في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا في زمن أصحابه، ولا عن أحد من علماء السلف .
فتاوى السبكي (2/ 549)
ضابط آخر : وهو اتخاذ عبادات معينة تتكرر كالعبادات المشروعة ؛ بحيث تصير سننا ورواتب مثلها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : فأما اتخاذ اجتماع راتب يتكرر بتكرر الأسابيع أو الشهور أو الأعوام، غير الاجتماعات المشروعة، فإن ذلك يضاهي الاجتماع للصلوات الخمس، وللجمعة، وللعيدين وللحج. وذلك هو المبتدع المحدث.
ففرق بين ما يتخذ سنة وعادة، فإن ذلك يضاهي المشروع. وهذا الفرق هو المنصوص عن الإمام أحمد، وغيره من الأئمة. فروى أبو بكر الخلال، في كتاب الأدب، عن إسحاق بن منصور الكوسج، أنه قال لأبي عبد الله: تكره أن يجتمع القوم يدعون الله ويرفعون أيديهم؟ قال: "ما أكرهه للإخوان إذا لم يجتمعوا على عمد إلا أن يكثروا" .
قال إسحاق بن راهويه كما قال , وإنما معنى أن لا يكثروا: أن لا يتخذوها عادة حتى يكثروا .
اقتضاء الصراط المستقيم (2/140-141)
وقال شيخ الإسلام : وأصل هذا: أن العبادات المشروعة التي تتكرر بتكرر الأوقات، حتى تصير سننا ومواسم، قد شرع الله منها ما فيه كفاية العباد، فإذا أحدث اجتماع زائد على هذه الاجتماعات معتاد، كان ذلك مضاهاة لما شرعه الله وسنه. ....
فكما أن تطوع الصلاة فرادى وجماعة مشروع، من غير أن يتخذ جماعة عامة متكررة، تشبه المشروع من الجمعة، والعيدين والصلوات الخمس، فكذلك تطوع القراءة والذكر والدعاء، جماعة وفرادى، وتطوع قصد بعض المشاهد، ونحو ذلك، كله من نوع واحد، يفرق بين الكثير الظاهر منه، والقليل الخفي، والمعتاد وغير المعتاد .
اقتضاء الصراط (2/144)
غالب البدع تندرج تحت أصل عام أو مطلق , وتمثيل العلماء على ذلك :
قال شيخنا الالباني رحمه الله :غالب البدع تندرج تحت أصل عام , ومع ذلك هي غير مشروعة وهي التي يسميها الإمام الشاطبي بالبدع الإضافية صحيح الترغيب (1/54-55).
قال الشاطبي :وَمِنَ الْبِدَعِ الإِضافية الَّتِي تَقْرُبُ مِنَ الْحَقِيقِيَّةِ : أَن يَكُونَ أَصل الْعِبَادَةِ مَشْرُوعًا، إِلا أَنها تُخْرَج عَنْ أَصل شَرْعِيَّتِهَا بِغَيْرِ دَلِيلٍ، توهُّماً أَنها بَاقِيَةٌ عَلَى أَصلها تَحْتَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، وَذَلِكَ بأَن يُقَيَّد إِطلاقها بالرأْي، أَو يُطْلَق تقييدُها، وَبِالْجُمْلَةِ فَتَخْرُجُ عَنْ حَدِّها الَّذِي حُدَّ لَهَا.
الاعتصام (2/309) وذكر أمثلة على ذلك .
قال العلامة الشيخ علي محفوظ : وعلمت أن التمسك بالعمومات مع الغفلة عن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم وتركه ؛ هو اتباع المتشابه الذي نهى الله عنه , ولو عولنا على العمومات وصرفنا النظر عن البيان, لانفتح باب كبير من أبواب البدعة لا يمكن سده ,ولا يقف الاختراع في الدين عند حد .
الإبداع في مضار الابتداع (47)
ثم قال :وإليك أمثلة في ذلك على ما تقدم:
الأول : جاء في حديث الطبراني : الصلاة خير موضوع .
قال رحمه الله : لو تمسكنا بعموم هذا ؛ كيف تكون صلاة الرغائب بدعة مذمومة؟.. وكيف تكون صلاة شعبان بدعة مذمومة ...مع دخولهما في عموم الحديث؟ وقد نص العلماء على أنهما بدعتان قبيحتان مذمومتان كما يأتي . قال النووي في صلاة الرغائب : ليس لأحد أن يستدل على شرعيتها بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الصلاة خير موضوع . فإن ذلك يختص بصلاة لا تخالف الشرع بوجه من الوجوه , وقد صح النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة .
الثاني: قال تعالى: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا} وقال عز وجل: {اذكروا الله ذكرا كثيرا} إذا استحب لنا إنسان الأذان للعيدين والكسوفين والتراويح وقلنا كيف ؟ والنبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلها ولم يأمر بها وتركها طول حياته فقال لنا: إن المؤذن داع إلى الله وإن المؤذن ذاكر لله كيف تقوم عليه الحجة وكيف تبطل بدعته؟
الثالث: قال تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} الآية
لو صح الأخذ بالعمومات لصح أن يتقرب إلى الله تعالى بالصلاة والسلام [عليه صلى الله عليه وسلم] في قيام الليل وركوعها واعتدالها وسجودها إلى غير ذلك من الأمكنة التي لم يضعا الرسول صلى الله عليه وسلم فيها ومن الذي يجيز التقرب إلى الله تعالى بمثل ذلك وتكون الصلاة بهذه الصفة عبادة معتبرة؟ وكيف هذا مع حديث " صلوا كما رأيتموني أصلي " رواه البخاري؟
الرابع: ورد في صحيح الحديث " فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر " رواه النسائي وأبو داود وابن ماجة , لو أخذ بعموم هذا لوجبت الزكاة في الخضر والبقول مع إجماع العلماء إلا الإمام الأعظم على عدم وجوب الزكاة فيها , ولا مستند لهم في عدم وجوب الزكاة سوى هذا الأصل وهو أن ما تركه مع قيام المقتضي على فعله فتركه هو السنة وفعله هو البدعة .
الإبداع (47-49) وتأمل أن المؤصل لهذه المسائل الشيخ علي محفوظ أحد كبار علماء الأزهر , وقدم لكتابه الإبداع علماء أيضا من علماء الأزهر .
المسألة الثالثة : هل هناك بدعة حسنة وبدعة سيئة في الدين , وما مدى صحة هذا التقسيم .
ذهب بعض العلماء إلى تقسيم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة وممن ذهب إلى ذلك العز بن عبد السلام وتلميذه القرافي .
قال الشيخ علي محفوظ : وعلى هذا الاصطلاح بنى شيخ الإسلام عز الدين بن عبدالسلام وتلميذه الإمام شهاب الدين القرافي مذهبهما في تقسيم البدعة إلى الأقسام الخمسة , وهما مسبوقات في هذا التقسيم بالإمام الشافعي
الابداع (36)
وكلام الشافعي كما نقله عنه الحافظ ابن حجر : قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْبِدْعَةُ بِدْعَتَانِ مَحْمُودَةٌ وَمَذْمُومَةٌ فَمَا وَافَقَ السُّنَّةَ فَهُوَ مَحْمُودٌ , وَمَا خَالَفَهَا فَهُوَ مَذْمُومٌ . أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ بِمَعْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْجُنَيْدِ عَنِ الشَّافِعِيِّ . وَجَاءَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِهِ قَالَ: الْمُحْدَثَاتُ ضَرْبَانِ مَا أُحْدِثُ يُخَالِفُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ أَثَرًا أَوْ إِجْمَاعًا فَهَذِهِ بِدْعَةُ الضَّلَالِ , وَمَا أُحْدِثُ مِنَ الْخَيْرِ لَا يُخَالِفُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ؛ فَهَذِهِ مُحْدَثَةٌ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ انْتَهَى
فتح الباري (13/253)
والجواب على هذا التقسيم :
أولا : أنكر وعاب بعض العلماء هذا التقسيم – بدعة حسنة وبدعة سيئة – قال المحقق الشاطبي : وَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ أَمْرٌ مُخْتَرَعٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، بَلْ هو في نَفْسُهُ مُتَدَافِعٌ، لِأَنَّ مِنْ حَقِيقَةِ الْبِدْعَةِ أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لَا مِنْ نُصُوصِ الشَّرْعِ، وَلَا مِنْ قَوَاعِدِهِ ..ثم قال : فما ذكره الْقَرَافِيُّ عَنِ الْأَصْحَابِ مِنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى إِنْكَارِ الْبِدَعِ صَحِيحٌ، وَمَا قَسَّمَهُ فِيهَا غَيْرُ صَحِيحٍ. ومن العجب حكايته الِاتِّفَاقِ مَعَ الْمُصَادَمَةِ بِالْخِلَافِ، وَمَعَ مَعْرِفَتِهِ بِمَا يَلْزَمُهُ فِي خَرْقِ الْإِجْمَاعِ، وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا اتَّبَعَ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ شَيْخَهُ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ .
الاعتصام (1/327-328)
وأقره الشيخ علي محفوظ في كتابه الإبداع (79)
وهذا الإنكار كان في مقابل من استند إلى هذا التقسيم في جواز الإحداث في الدين بما لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم .
ثانيا : أن تحمل البدعة الحسنة على البدعة اللغوية , وعليها يحمل كلام الشافعي بالمراد من البدعة المحمودة ؛ البدعة اللغوية لا الشرعية التي تكون في العبادات .
وإليك كلام أهل العلم في ذلك :
قال ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية (200) : ومن قسمها من العلماء إلى حسن وغير حسن فإنما قسم البدعة اللغوية ومن قال كل بدعة ضلالة فمعناه البدعة الشرعية .
وقال ابن حجر العسقلاني : وَأَمَّا الْبِدَعُ فَهُوَ جَمْعُ بِدْعَةٍ وَهِيَ كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ لَهُ مِثَالٌ تَقَدَّمَ ؛ فَيَشْمَلُ لُغَةً مَا يُحْمَدُ , وَيُذَمُّ وَيَخْتَصُّ فِي عُرْفِ أَهْلِ الشَّرْعِ بِمَا يُذَمُّ , وَإِنْ وَرَدَتْ فِي الْمَحْمُودِ فَعَلَى مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ .
فتح الباري (13/278)
والدليل على أن قول الإمام الشافعي يحمل على ذلك ما يلي :
ثالثا : للشافعي نص ورد عنه في منع الاستحسان في الدين بما لم يشرعه الرسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الشيخ علي محفوظ : وقد عرفت أن الإمام الشافعي ممن ينكر الاستحسان , ولقد بالغ في إنكاره إذ نقل عنه أنه قال : من استحسن فقد شرع , ومعناه كمال قال الروياني : أنه نصب من جهة نفسه شرعا غير الشرع . وقال في الرسالة : والاستحسان تلذذ ولو جاز لأحد الاستحسان في الدين لجاز ذلك لأهل العقول من غير أهل العلم ولجاز أن يشرع في الدين في كل باب وأن يخرج كل واحد لنفسه شرعا .
الإبداع (137)
وعلى ذلك يوجه كلام الشافعي بما جاء عن ابن حجر الهيتمي وابن حجر العسقلاني أنه أراد بالمحمودة البدعة اللغوية .
الفرق بين البدعة والمصالح المرسلة
وربما يستدل البعض على جواز إحداث البدع في الدين إذا اندرجت تحت أصل عام بالمصالح المرسلة , وهذا استدلال في غير مكانه فالعلماء فرقوا بين البدعة والمصالح المرسلة :
قال الشيخ علي محفوظ - من علماء الأزهر - : وهذا ما يسمى في عرف الفقهاء بالمصالح المرسلة , وقاعدتها أن يناط الأمر باعتبار مناسب لم يدل الشرع على اعتباره ولا إلغائه إلا أنه ملائم لتصرفات الشرع بأن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة . ثم إن من الناس من تشتبه عليه البدع بالمصالح المرسلة , ومنشأ الغلط أن المصالح المرسلة يرجع معناها إلى اعتبار المناسب الذي لا يشهد له أصل معين فليس له شاهد شرعي على الخصوص؛ فلما كان ههنا موضع الاشتباه لأن البدع والمصالح المرسلة يجريان من واد واحد , وهو أن كلا منهما لم يقم على خصوصه دليل شرعي وجب الفرق بينهما
الإبداع (87-88)
ثم قال الشيخ علي محفوظ : فحاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري أو رفع حرج لازم في الدين ؛ فجمع المصحف حفظ للشريعة بحفظ أصلها وكتابته هو سد لباب الاختلاف فيه ... ومن ذلك تعرف أن البدع كالمضادة للمصالح المرسلة لأن البدع تكون في التعبدات ومن شأنها أن تكون غير معقولة المعنى على التفصيل بخلاف المصالح المرسلة فإنها تكون في معقول المعنى على التفصيل وهي المعاملات .
وهناك فرق آخر وهو أن البدع تكون في المقاصد بخلاف المصالح المرسلة فإنها تكون في الوسائل .
ثم قال : والسر في اعتبار المصلحة المرسلة في المعاملات دون العبادات أن العبادات حق الشارع خاص به , ولا يمكن معرفة حقه كما وكيفا وزمانا ومكانا إلا من جهته .
الإبداع (95)
المسألة الرابعة : سنة الترك أو ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يسمى سنة ؟
وهذه من المسائل التي كرر الدكتور الفاضل الحديث عنها , وشدد النكير فيها مع أن للعلماء من شتى المذاهب تقريرا لذلك , وهذا من العجب أن يصدر من الدكتور وليد .
والقول بسنية الترك مبني على قول العلماء بان الترك فعل ؛ وهذه أقوال العلماء التي تبين سنية الترك :
قال الشيخ محمد الجيزاني في كتابه سنة الترك :
التَّرْكُ معدود من الأفعال المُكلَّف بها؛ خلافًا لمن زعم أن التَّرك أمر عدمي لا وجود له، والعدم عبارة عن لا شيء.
والدليل على أن الترك فعل من القرآن قوله - تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79] فسمَّى الله عدم تناهيهم عن المنكر فعلا وذمهم على هذا الفعل، فقال - سبحانه: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} , ومن السُّنَّة قوله - صلى الله عليه وسلم -: «المُسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» فَسُمِّيَ تَرْكُ الأذى إسلامًا وهو يدل على أن التُّرْك فعل.
سنة الترك (24)
وقال : تَرْك بعض السُّنَّة سُدًا للذريعة؛ لئلا يُظن الوجوب وهذا خاص بمن كان من الناس في مظنة الاقتداء به، وهو منقول عن السلف؛ كَتَرْكِ بعض الصحابة - رضي الله عنهم - الأُضحية؛ خشية أن يظن الناس أنها واجبة؛ نُقِلَ ذلك عن أبي بكر وعمر وابن عباس - رضي الله عنهما - وقال أبو مسعود البدري - رضي الله عنه: «إني لأترك أضحيتي وإني لمن أيسركم؛ مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة» .
والأصل في ذلك: تَرْك النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل المنافقين , وتَرْكه - صلى الله عليه وسلم - هدم الكعبة وبنائها على قواعد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - .
سنة الترك (26)
وإليك بعض أقوال العلماء التي ذكرها الشيخ محمد الجيزاني وغيره :
بوَّب الإمام ابن خزيمة في صحيحه فقال: "باب ترك الصلاة في المصلي قبل العيدين وبعدها اقتداء بالنبي واستنانًا به" .
قال ابن حجر : وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْبَيْتِ مَهْجُورًا بِأَنَّا لَمْ نَدَّعِ اسْتِلَامَهُمَا هَجْرًا للبيت وَكَيْفَ يَهْجُرُهُ وَهُوَ يَطُوفُ بِهِ وَلَكِنَّا نَتَّبِعُ السُّنَّةَ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا .
فتح الباري (3/475)
وقال السمعاني: "إذا ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا من الأشياء وجب علينا متابعته فيه .
قواطع الأدلة (1/311)
وسئل تقي الدين السبكي عن بعض المحدثات فقال: "الحمد لله هذه بدعة لا يَشُكُ فيها أحد، ولا يرتاب في ذلك ويكفي أنها لم تُعرف في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا في زمن أصحابه ولا عن أحد من علماء السلف" .
فتاوى السبكي (2/549)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: والترك الراتب سنة كما أن الفعل الراتب: سنة.
مجموع الفتاوى (26/172)
وقال ابن القيم: "فإن تَرْكَه - صلى الله عليه وسلم - سُنَّة كما أن فعله سُنَّة، فإذا استحببنا فعل ما تَرَكه كان نظير استحبابنا تَرك ما فعله، ولا فرق" .
إعلام الموقعين (2/281)
وقال الشاطبي: "لأن تَرْك العمل به من النبي - صلى الله عليه وسلم - في جميع عمره، وتَرْك السَّلف الصالح له على توالي أزمنتهم قد تقدم أنه نص في التَّرك، وإجماع مِنْ كل مَنْ ترك؛ لأن عمل .
الاعتصام (2/288)
وقال الزركشي: "لأن المتابعة كما تكون في الأفعال تكون في التُّروك .
البحر المحيط (6/41)
وقال ابن النجار: "وإذا نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تَرَك كذا كان - أيضًا - من السُّنَّة الفعلية" .
مختصر التحرير شرح الكوكب المنير (2/ 165)
وقال أيضا: وأمَّا التَّأسي في التَّرْك: فهو أنّه تترك ما تركه لأجل أن تَرَكَه .
مختصر التحرير شرح الكوكب المنير (2/ 196)
وقال الشوكاني: "تَرْكه - صلى الله عليه وسلم - للشيء كفعله له في التأسي به فيه" (4).
إرشاد الفحول (1/119)
وقال الشيخ علي محفوظ – من علماء الأزهر -: إن سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما تكون بالفعل تكون بالترك ؛ فكما كلفنا الله تعالى باتباع النبي في فعله الذي يتقرب به إذا لم يكن من باب الخصوصيات كذلك طالبنا باتباعه في تركه فيكون الترك سنة
الإبداع (40)
وهذه النصوص كافية لطالب العلم في إثباتها لمن يبحث عن الحق .
المسألة الخامسة : ضابط ذلك وما ذكره العلماء من المقتضى في ذلك .
أقول : وقد وضع العلماء ضابطا لما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفعله ,مما أحدث بعده , وهو ما يسمى بقيام المقتضى لفعله
وهذه المسألة هي التي يدور عليها مقال الدكتور وليد , وحاول أن يظهر كأن هذه القاعدة بدعا من القول , وأنها قاعدة غريبة على العلماء مع أنها منقولة عن الفقهاء من الأئمة الأربعة كما ذكر الشيخ علي محفوظ رحمه الله , وتتابع العلماء على نقلها في القديم والحديث بدون نكير , وإليك البيان :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : والترك الراتب سنة كما أن الفعل الراتب: سنة، بخلاف ما كان تركه لعدم مقتض، أو فوات شرط، أو وجود مانع، وحدث بعده من المقتضيات والشروط وزوال المانع ما دلت الشريعة على فعله حينئذ، كجمع القرآن في الصحف، وجمع الناس على إمام واحد في التراويح، وأسماء النقلة للعلم، وغير ذلك مما يحتاج إليه في الدين، وبحيث لا تتم الواجبات أو المستحبات الشرعية إلا به، وإنما تركه النبي صلى الله عليه وسلم لفوات شرط أو وجود مانع، فأما ما تركه من جنس العبادات، مع أنه لو كان مشروعا لفعله، أو أذن فيه وفعله الخلفاء بعده والصحابة، فيجب القطع بأن فعله بدعة وضلالة.
مجموع الفتاوى (26/172)
وقال أيضا :و أما ما لم يحدث سبب يحوج إليه أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد، فهنا لا يجوز الإحداث، فكل أمر يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم موجودا، لو كان مصلحة ولم يفعل، يعلم أنه ليس بمصلحة. وأما ما حدث المقتضي له بعد موته من غير معصية الخالق فقد يكون مصلحة.
ثم هنا للفقهاء طريقان: أحدهما: أن ذلك يفعل ما لم ينه عنه، وهذا قول القائلين بالمصالح المرسلة.
والثاني: أن ذلك لا يفعل إن لم يؤمر به: وهو قول من لا يرى إثبات الأحكام بالمصالح المرسلة، وهؤلاء ضربان:
منهم من لا يثبت الحكم، إن لم يدخل في لفظ كلام الشارع، أو فعله، أو إقراره، وهم نفاة القياس. ومنهم من يثبته بلفظ الشارع أو بمعناه وهم القياسيون .
فأما ما كان المقتضي لفعله موجودا لو كان مصلحة، وهو مع هذا لم يشرعه، فوضعه تغيير لدين الله، وإنما دخل فيه من نسب إلى تغيير الدين، من الملوك والعلماء والعباد، أو من زل منهم باجتهاد.. .
فمثال هذا القسم: الأذان في العيدين، فإن هذا لما أحدثه بعض الأمراء، أنكره المسلمون لأنه بدعة، فلو لم يكن كونه بدعة دليلا على كراهته، وإلا لقيل: هذا ذكر لله ودعاء للخلق إلى عبادة الله، فيدخل في العمومات. كقوله تعالى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41] (5) وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت: 33] (6) أو يقاس على الأذان في الجمعة، فإن الاستدلال على حسن الأذان في العيدين، أقوى من الاستدلال على حسن أكثر البدع. بل يقال: ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وجود ما يعتقد مقتضيا، وزوال المانع، سنة، كما أن فعله سنة. فلما أمر بالأذان في الجمعة، وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة، كان ترك الأذان فيهما سنة، فليس لأحد أن يزيد في ذلك، بل الزيادة في ذلك كالزيادة في أعداد الصلوات أو أعداد الركعات، أو صيام الشهر، أو الحج .
اقتضاء الصراط المستقيم (2/101-103)
وقال الشاطبي – مؤكدا نفس القاعدة- وهو مالكي المذهب :
وَالْجِهَةُ الرَّابِعَةُ: مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ مَقْصِدُ الشَّارِعِ: السُّكُوتُ عَنْ شَرْعِ التَّسَبُّبِ، أَوْ عَنْ شَرْعِيَّةِ الْعَمَلِ مَعَ قِيَامِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لَهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ سكوت الشارع عن الحكم على ضربين:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا دَاعِيَةَ لَهُ تَقْتَضِيهِ، وَلَا مُوجِبَ يُقَدَّرُ لِأَجْلِهِ؛ كَالنَّوَازِلِ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً ثُمَّ سُكِتَ عَنْهَا مَعَ وُجُودِهَا، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ؛ فَاحْتَاجَ أَهْلُ الشَّرِيعَةِ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا وَإِجْرَائِهَا عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كُلِّيَّاتِهَا، وَمَا أَحْدَثَهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ رَاجِعٌ إِلَى هَذَا الْقِسْمِ؛ كَجَمْعِ الْمُصْحَفِ، وَتَدْوِينِ الْعِلْمِ، وَتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ تَكُنْ مِنْ نَوَازِلِ زَمَانِهِ، وَلَا عَرَضَ لِلْعَمَلِ بِهَا مُوجِبٌ يَقْتَضِيهَا؛ فَهَذَا الْقِسْمُ جَارِيَةٌ فُرُوعُهُ عَلَى أُصُولِهِ الْمُقَرَّرَةِ شَرْعًا بِلَا إِشْكَالٍ؛ فَالْقَصْدُ الشَّرْعِيُّ فِيهَا مَعْرُوفٌ مِنَ الْجِهَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ.
وَالثَّانِي:أَن يَسْكُتَ عَنْهُ وَمُوجِبُهُ الْمُقْتَضِي لَهُ قَائِمٌ، فَلَمْ يُقَرَّرْ فِيهِ حُكْمٌ عِنْدَ نُزُولِ النَّازِلَةِ زَائِدٌ عَلَى مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ؛ فَهَذَا الضَّرْبُ السُّكُوتُ فِيهِ كَالنَّصِّ عَلَى أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ أَنْ لَا يُزَادَ فِيهِ وَلَا يُنْقَصَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِشَرْعِ الْحُكْمِ الْعَمَلِيِّ مَوْجُودًا ثُمَّ لَمْ يُشْرَعِ الْحُكْمُ دَلَالَةً4 عَلَيْهِ؛ كَانَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى مَا كَانَ هُنَالِكَ بِدْعَةٌ زَائِدَةٌ، وَمُخَالَفَةٌ لِمَا قَصَدَهُ الشارع؛ إذا فُهِمَ مِنْ قَصْدِهِ الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا حَدٍّ هُنَالِكَ، لَا الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُ.
وَمِثَالُ هَذَا : سُجُودُ الشُّكْرِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ،() وَهُوَ الَّذِي قَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي "الْعُتْبِيَّ ِ" مِنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ وَابْنِ نَافِعٍ، قَالَ فِيهَا: "وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ يُحِبُّهُ فَيَسْجُدُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شُكْرًا. فَقَالَ: لَا يَفْعَلُ، لَيْسَ هَذَا مِمَّا مَضَى مِنْ أَمْرِ النَّاسِ. قِيلَ لَهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ فِيمَا يَذْكُرُونَ سَجَدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شُكْرًا لِلَّهِ؛ أَفَسَمِعْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: مَا سَمِعْتُ ذَلِكَ، وَأَنَا أَرَى أَنْ قَدْ كَذَبُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَهَذَا مِنَ الضَّلَالِ أَنْ يَسْمَعَ الْمَرْءُ الشَّيْءَ فَيَقُولَ: هَذَا شَيْءٌ لَمْ أَسْمَعْ لَهُ خِلَافًا. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا نَسْأَلُكَ لِنَعْلَمَ رَأْيَكَ فَنَرُدَّ ذَلِكَ بِهِ. فَقَالَ: نَأْتِيكَ بِشَيْءٍ آخَرَ أَيْضًا لَمْ تَسْمَعْهُ مِنِّي: قَدْ فُتِحَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ؛ أَفَسَمِعْتَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا؟ إِذَا جَاءَكَ مِثْلُ هَذَا مِمَّا قَدْ كَانَ فِي النَّاسِ وَجَرَى عَلَى أَيْدِيهِمْ لَا يُسْمَعُ عَنْهُمْ فِيهِ شَيْءٌ؛ فَعَلَيْكَ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الَّذِي قَدْ كَانَ فِيهِمْ؛ فَهَلْ سَمِعْتَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ سَجَدَ؟ فَهَذَا إِجْمَاعٌ، إِذَا جَاءَكَ أَمْرٌ لَا تَعْرِفُهُ فَدَعْهُ"، هَذَا تَمَامُ الرِّوَايَةِ، وقد احتوت على فَرْضِ سُؤَالٍ وَالْجَوَابِ عَنْهُ بِمَا تَقَدَّمَ.
الموافقات (3/156-158)
ثم نقل عن ابن رشد قوله , : قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: "الْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ مِمَّا شُرِعَ فِي الدِّينِ -يَعْنِي سُجُودَ الشُّكْرِ- لَا فَرْضًا وَلَا نَفْلًا؛ إِذْ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا فعله، ولا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اخْتِيَارِ فِعْلِهِ، وَالشَّرَائِعُ لَا تَثْبُتُ إِلَّا مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ".
قَالَ: "وَاسْتِدْلَالُ ُ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَا الْمُسْلِمُونَ بعده بأن ذلك لو كان لَنُقِلَ صَحِيحٌ؛ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَتَوَفَّرَ دَوَاعِي الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَرْكِ نَقْلِ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الدِّينِ، وَقَدْ أُمِرُوا بِالتَّبْلِيغِ".
قَالَ: "وَهَذَا أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ، وَعَلَيْهِ يَأْتِي إِسْقَاطُ الزَّكَاةِ مِنَ الْخُضَرِ وَالْبُقُولِ، مَعَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا بِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ وَالْبَعْلُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ" لِأَنَّا نَزَّلْنَا تَرْكَ نَقْلِ أَخْذِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ مِنْهَا كَالسُّنَّةِ الْقَائِمَةِ فِي أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهَا؛ فَكَذَلِكَ نُنَزِّلُ تَرْكَ نَقْلِ السُّجُودِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشُّكْرِ كَالسُّنَّةِ الْقَائِمَةِ فِي أَنْ لَا سُجُودَ فيها"، ثُمَّ حَكَى خِلَافَ الشَّافِعِيِّ وَالْكَلَامَ عَلَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ تَوْجِيهُ مَالِكٍ لَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا بِدْعَةٌ، لَا تَوْجِيهُ أَنَّهَا بِدْعَةٌ عَلَى الإطلاق.
الموافقات (3/161-162)
قلت : جاء في الحاشية : وليس غرض المؤلف العناية ببيان أن سجود الشكر بدعة، بل الذي يعنيه هو طريقة مالك في بيان بدعيتها .
أقول : كيف استدل على عدم جواز فعلها بما عرفه ( من عمل الناس ) , وقارن بين هذا الدليل وبين قول الدكتور المالكي !
وقال الشاطبي : وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ جَرَى بَعْضُهُمْ فِي تَحْرِيمِ نكاح المحلل أنها بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ، مِنْ حَيْثُ وُجِدَ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلتَّخْفِيفِ وَالتَّرْخِيصِ لِلزَّوْجَيْنِ، بِإِجَازَةِ التَّحْلِيلِ لِيُرَاجِعَا كَمَا كَانَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَشْرَعْ ذَلِكَ مَعَ حِرْصِ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ عَلَى رُجُوعِهَا إِلَيْهِ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ التَّحْلِيلَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لَهَا وَلَا لِغَيْرِهَا، وَهُوَ أَصْلٌ صَحِيحٌ، إِذَا اعْتُبِرَ وَضَحَ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا هُوَ مِنَ الْبِدَعِ وَمَا لَيْسَ مِنْهَا، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ وُجُودَ المعنى المتقضي مَعَ عَدَمِ التَّشْرِيعِ دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَى عَدَمِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا كَانَ مَوْجُودًا قَبْلُ، فَإِذَا زَادَ الزَّائِدُ ظَهَرَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لقصد الشارع؛ فبطل.
الموافقات (3/163)
وقد نقل الشيخ علي محفوظ هذه القاعدة أيضا عن فقهاء الأحناف والشافعية كذلك
نقل عن : الشيخ ملا أحمد رومي الحنفي صاحب (مجالس الأبرار) ما ملخصه: لا تكون البدعة في العبادات البدنية كالصلاة والصوم والذكر والقراءة إلا سيئة ؛ لأن عدم وقوع الفعل في الصدر الأول إما لعدم الحاجة إليه أو لوجود مانع أو لعدم تنبه أو لتكاسل أو لكراهة أو لعدم مشروعيته , والأولان منفيان في العبادات البدنية المحضة لأن الحاجة في التقرب إلى الله تعالى لا تنقطع وبعد ظهور الإسلام لم يكن منها مانع ولا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم عدم التنبه والتكاسل فذاك أسوأ الظن المؤدي إلى الكفر ؛ فلم يبق إلا كونها سيئة غير مشروعة , وكذلك يقال لمن أتى في العبادات البدنية المحضة بصفة لم تكن في زمن الصحابة إذ لو كان وصف العبادة في الفعل المبتدع يقتضي كونها بدعة حسنة لما وجد في العبادات بدعة مكروهة , ولما جعل الفقهاء مثل صلاة الرغائب والجماعة فيها , ومثل أنواع النغمات الواقعة في الخطب وفي الأذان وقراءة القرآن وفي الركوع مثلا والجهر بالذكر أمام الجنازة ونحو ذلك من البدع المنكرة. فمن قال بحسنها قيل له : ما ثبت حسنه بالأدلة الشرعية فهو إما غير بدعة فلا يتناوله ذم الشارع ويبقى عموم حديث كل بدعة ضلالة وحديث كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد على حاله لا تخصيص فيه , وأما بدعة ويكون مخصوصا من هذا العام وخارجا منه ؛ فمن ادعى الخصوص فيما أحدث وأنه خارج من عموم الذم احتاج إلى دليل يصلح للتخصيص من كتاب أو سنة أو إجماع مختص بأهل الاجتهاد .
الإبداع (45-46)
وقال العلامة القسطلاني الشافعي في المواهب ما نصه : ولقد صلى- صلى الله عليه وسلم- أكثر من ثلاثين ألف صلاة فلم ينقل عنه أنه قال: نويت أصلى صلاة كذا وكذا، وتركه سنة، كما أن فعله سنة، فليس لنا أن نسوى بين ما فعله وتركه، فنأتي من القول في الموضع الذي تركه بنظير ما أتى به في الموضع الذي فعله .
المواهب اللدنية (3/196) والإبداع (44)
ونقل كذلك عن ابن حجر الهيتمي في الفتاوي الحديثية ما حاصله: وَفسّر بَعضهم الْبِدْعَة بِمَا يعم جَمِيع مَا قدمنَا وَغَيره فَقَالَ هِيَ مَا لم يقم دَلِيل شَرْعِي على أَنه وَاجِب أَو مُسْتَحبّ سَوَاء أفعل فِي عَهده - صلى الله عليه وسلم - أَو لم يفعل كإخراج الْيَهُود وَالنَّصَارَى من جَزِيرَة الْعَرَب وقتال التّرْك لما كَانَ مَفْعُولا بأَمْره لم يكن بِدعَة , وَإِن لم يفعل فِي عَهده وَكَذَا جمع الْقُرْآن فِي الْمَصَاحِف والاجتماع على قيام شهر رَمَضَان وأمثال ذَلِك مِمَّا ثَبت وُجُوبه أَو اسْتِحْبَابه بِدَلِيل شَرْعِي , وَقَول عمر رَضِي الله عَنهُ فِي التَّرَاوِيح نعمت الْبِدْعَة هِيَ أَرَادَ الْبِدْعَة اللُّغَوِيَّة , وَهُوَ مَا فعل على غير مِثَال كَمَا قَالَ تَعَالَى {قل مَا كنت بدعا من الرُّسُل} وَلَيْسَت بِدعَة شرعا ؛ فَإِن الْبِدْعَة الشَّرْعِيَّة ضَلَالَة كَمَا قَالَ - صلى الله عليه وسلم - وَمن قسمهَا من الْعلمَاء إِلَى حسن وَغير حسن فَإِنَّمَا قسم الْبِدْعَة اللُّغَوِيَّة , وَمن قَالَ كل بِدعَة ضَلَالَة فَمَعْنَاه الْبِدْعَة الشَّرْعِيَّة؛ أَلا ترى أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان أَنْكَرُوا غير الصَّلَوَات الْخمس كالعيدين وَإِن لم يكن فِيهِ نهي , وكرهوا استلام الرُّكْنَيْنِ الشاميين وَالصَّلَاة عقيب السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة قِيَاسا على الطّواف , وَكَذَا مَا تَركه - صلى الله عليه وسلم - مَعَ قيام الْمُقْتَضى فَيكون تَركه سنة وَفعله بِدعَة مذمومة وَخرج بقولنَا مَعَ قيام الْمُقْتَضى فِي حَيَاته تَركه إِخْرَاج الْيَهُود من جَزِيرَة الْعَرَب وَجمع الْمُصحف وَمَا تَركه لوُجُود الْمَانِع كالاجتماع للتراويح فَإِن الْمُقْتَضى التَّام يدْخل فِيهِ الْمَانِع
الفتاوى الحديثية (200) و الإبداع (44)
أقول : لاحظ التعبير بالقاعدة التي أنكرها الدكتور !
ضابط المقتضى في منع الإحداث في العبادات
حاول الدكتور الفاضل أن يجعل هذه النقطة دليلا لهدم هذه القاعدة ؛ فكرر السؤال عن ضابط هذا المقتضى , ونقول إليك الجواب المحقق من أحد علماء المالكية الذين تنتسب إليهم :
قال الشاطبي في الاعتصام : لأَن السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا أَحقَّ بالسَّبْق إِلى فَضْلِهِ؛ لِجَمِيعِ مَا ذُكر فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ، وَلِذَلِكَ قَالَ مالك بن أنس فِيهَا: أَترى النَّاسَ الْيَوْمَ كَانُوا أَرغبَ فِي الْخَيْرِ مِمَّنْ مَضَى؟ وَهُوَ إِشارة إِلى الأَصل الْمَذْكُورِ، وَهُوَ أَن الْمَعْنَى المُقْتَضي للإِحداث ـ وَهُوَ الرَّغْبَةُ فِي الْخَيْرِ ـ كَانَ أَتمَّ فِي السَّلَفِ الصالح، وهم لم يفعلوه، فدل أَنَّهُ لَا يُفْعَل.
الاعتصام (2/291)
المسألة السادسة: هل كان الصحابة يتعبدون الله بما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهنا نذكر الأدلة التي تدل على أن الصحابة كان يتعبدون بما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم و هذه بعض الأحاديث والآثار التي وقفت عليها :
عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الحَجَرِ الأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ، فَقَالَ: «إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ».
البخاري ومسلم
أقول : تأمل قول عمر الصريح :لولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك . أليس هذا نصا واضحا صريحا في التعبد بما تركه النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يفعله .
وعنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى شَيْبَةَ فِي هَذَا المَسْجِدِ، قَالَ: جَلَسَ إِلَيَّ عُمَرُ فِي مَجْلِسِكَ هَذَا، فَقَالَ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لاَ أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلاَ بَيْضَاءَ إِلَّا قَسَمْتُهَا بَيْنَ المُسْلِمِينَ»، قُلْتُ: مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ، قَالَ: «لِمَ؟»، قُلْتُ: لَمْ يَفْعَلْهُ صَاحِبَاكَ، قَالَ: «هُمَا المَرْءَانِ يُقْتَدَى بِهِمَا» .
البخاري
قال ابن حجر : وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِ يِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَكَذَا الْمُحَارِبِيُّ قَالَ : وَلِمَ ذَاكَ قُلْتُ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَأَى مَكَانَهُ وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا أَحْوَجُ مِنْكَ إِلَى الْمَالِ فَلَمْ يحركاه .
وقال : وَدَارَ نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ بَيْنَ عُمَرَ أَيْضًا وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعُمَرُ بْنُ شَبَّةَ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ: أَنَّ عُمَرَ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فَيُنْفِقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ : قَدْ سَبَقَكَ صَاحِبَاكَ فَلَوْ كَانَ فَضْلًا لَفَعَلَاهُ .
فتح الباري (3/456)
أقول : وهذه أدلة قاطعة لما كان عليه الصحابة من التعبد بالترك وهم القوم الذين يقتدى بهم .
عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ، أَنَّهُ قَالَ: لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا، قَالَ: وَمَا هِيَ يَا ابْنَ جُرَيْجٍ قَالَ: رَأَيْتُكَ لاَ تَمَسُّ مِنَ الأَرْكَانِ إِلَّا اليَمَانِيَّيْن ِ، وَرَأَيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ، وَرَأَيْتُكَ تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ، وَرَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْهِلاَلَ وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَمَّا الأَرْكَانُ: فَإِنِّي لَمْ «أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَسُّ إِلَّا اليَمَانِيَّيْن ِ» .. .
البخاري ومسلم
أقول : وهذه نصوص من المنطوق وليس المفهوم ؛ لله در السلف ما أعظم اتباعهم .
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ طَافَ مَعَ مُعَاوِيَةَ بِالْبَيْتِ، فَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لِمَ تَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ؟ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُهُمَا » ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْبَيْتِ مَهْجُورًا [ص:370]، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: صَدَقْتَ .
البخاري
قال ابن حجر : وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْبَيْتِ مَهْجُورًا بِأَنَّا لَمْ نَدَّعِ اسْتِلَامَهُمَا هَجْرًا للبيت وَكَيْفَ يَهْجُرُهُ وَهُوَ يَطُوفُ بِهِ وَلَكِنَّا نَتَّبِعُ السُّنَّةَ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا .
فتح الباري (3/475)
أقول : وهذا نص صريح من الإمام الشافعي ذكره ابن حجر مقرا له .
وعن عِيسَى بْنُ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَصَلَّيْنَا الْفَرِيضَةَ، فَرَأَى بَعْضَ وَلَدِهِ يَتَطَوَّعُ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: " صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فِي السَّفَرِ فَلَمْ يُصَلُّوا قَبْلَهَا، وَلَا بَعْدَهَا " قَالَ ابْنُ عُمَرَ: " وَلَوْ تَطَوَّعْتُ لَأَتْمَمْتُ "
أحمد في مسنده (8/379)
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمَ عِيدٍ فَلَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، فَذَكَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ»
الترمذي(538) وقال : حسن صحيح .
فعله : أي لم يصل قبلها ولا بعدها .
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَمَ الْعَبَّاسُ عَلِيًّا فِي أَشْيَاءَ تَرَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَصَمَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَأَلَهُ أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَهُمَا فَأَبَى وَقَالَ: شَيْئًا تَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كُنْتُ لِأُحْدِثَ فِيهِ ."
رواه أحمد (1/239) وإسناده صحيح .
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأَبِي وَأَبُو طَلْحَةَ جُلُوسًا فَأَكَلْنَا لَحْمًا وَخُبْزًا ثُمَّ دَعَوْتُ بِوَضُوءٍ فَقَالَا لِمَ تَتَوَضَّأُ فَقُلْتُ لِهَذَا الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْنَا فَقَالَا أَتَتَوَضَّأُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْك.
رَوَاهُ أَحْمد(35/112)
هذا بعض ما وقفت عليه , ولو تتبعت كتب الحديث زيادة لخرجت بالمئات من الأحاديث والآثار .
المسألة السابعة : الرد على ما استدلوا به من عمل بعض الصحابة بما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم .
صلاة التراويح
قال شيخ الإسلام : وإذا كان كذلك: فالنبي صلى الله عليه وسلم قد كانوا يصلون قيام رمضان على عهده جماعة وفرادى؛ وقد قال لهم في الليلة الثالثة، أو الرابعة لما اجتمعوا: "إنه لم يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهة أن تفرض عليكم، فصلوا في بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة" . فعلّل صلى الله عليه وسلم عدم الخروج بخشية الافتراض، فعلم بذلك أن المقتضي للخروج قائم، وأنه لولا خوف الافتراض لخرج إليهم.
فلما كان في عهد عمر رضي الله عنه جمعهم على قارئ واحد، وأسرج المسجد، فصارت هذه الهيئة وهي اجتماعهم في المسجد على إمام واحد مع الإسراج عملا لم يكونوا يعملونه من قبل؛ فسمي بدعة؛ لأنه في اللغة يسمى بذلك، ولم يكن بدعة شرعية؛ لأن السنة اقتضت أنه عمل صالح لولا خوف الافتراض، وخوف الافتراض قد زال بموته صلى الله عليه وسلم فانتفى المعارض.
اقتضاء الصراط المستقيم 02/96-97)
وقال الشيخ علي محفوظ : قال في شرح المختار : روى أسد بن عمر عن أبي يوسف رحمه الله قال : سألت أبا حنيفة عن التراويح وما فعله عمر فقال : التراويح سنة مؤكدة , ولم يتخرصه عمر من تلقاء نفسه ولم يكن فيه مبتدعا ولم يأمر به إلا عن أصل لديه وعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولقد سن عمر هذا وجمع الناس على لأبي بن كعب فصلاها جماعة والصحابة متوافرون منهم عثمان وعلي وابن مسعود .. وما رد عليه واحد منهم بل ساعدوه ووافقوه وأمروا بذلك ..
الإبداع (83-84)
جمع القرآن
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وهكذا جمع القرآن، فإن المانع من جمعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أن الوحي كان لا يزال ينزل، فيغير الله ما يشاء ويحكم ما يريد، فلو جمع في مصحف واحد لتعسر أو تعذر تغييره كل وقت، فلما استقر القرآن بموته صلى الله عليه وسلم واستقرت الشريعة بموته صلى الله عليه وسلم أمن الناس من زيادة القرآن ونقصه، وأمنوا من زيادة الإيجاب والتحريم، والمقتضي للعمل قائم بسنته صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فعمل المسلمون بمقتضى سنته، وذلك العمل من سنته، وإن كان يسمى في اللغة بدعة.
اقتضاء الصراط المستقيم (2/97-98)
وقال الشاطبي : وَالْجَوَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الثَّانِي : أَنَّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، لَا مِنْ قَبِيلِ الْبِدْعَةِ الْمُحْدَثَةِ. وَالْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ قَدْ عَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَهِيَ مِنَ الْأُصُولِ الْفِقْهِيَّةِ الثَّابِتَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَإِنْ كَانَ فيها خلاف بينهم ، ولكن لا يعود ذلك بقدح على ما نحن فيه. أَمَّا جَمْعُ الْمُصْحَفِ، وَقَصْرُ النَّاسِ عَلَيْهِ، فَهُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، إِذْ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ كُلُّهُا شَافٍ كَافٍ، تَسْهِيلًا عَلَى الْعَرَبِ الْمُخْتَلِفَات ِ اللُّغَاتِ ، فَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرَةً ... إلى آخر كلامه .
الاعتصام (1/316)
المسألة السابعة : أمثلة مما أنكره الصحابة والتابعون والعلماء مما أحدث من العبادات مع أنه يندرج تحت أصل عام أو مطلق .
أقول : وهنا سنذكر الأمثلة الكثيرة من أقوال الصحابة التابعين في ذلك وما ورد عن الإمام مالك في ذلك ؛ فهو كان رحمه الله من أكثر الناس اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ورفضه للبدع والمحدثات, ولذلك كان كثيرا ما يرد كثيرا مما أحدثه الناس بقوله : ليس عليه عمل الناس .
ما جاء عن الصحابة والتابعين
أقول : من تعظيم الصحابة لمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أنهم كانوا ينكرون ما يتم إحداثه من العبادات بعد النبي صلى الله عليه وسلم, وإليك بعض الآثار في ذلك :
عَنِ الزُّهْرِيَّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِدِمَشْقَ وَهُوَ يَبْكِي فَقُلْتُ مَا يُبْكِيكَ فَقَالَ لاَ أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ إِلاَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ، وَهَذِهِ الصَّلاَةُ قَدْ ضُيِّعَتْ.
أخرجه البخاري.
وعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا أَبُو الدَّرْدَاءِ، مُغْضَبًا، فَقَالَتْ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: " وَاللهِ مَا أَعْرِفُ فِيهِمْ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا .
أخرجه البخاري .
وروى مالك في " الموطإ " عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال: " ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة ".
قال أبو بكر الطرطوشي : - الناس - يعني: الصحابة , وذلك أنه أنكر أكثر أفعال أهل عصره، ورآها مخالفة لما أدرك من أفعال الصحابة.
وكذلك أبو الدرداء أنكر ما أدرك بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعرفه من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحوادث والبدع (41)
تأمل معي أيها القارئ الكريم قول أبي بكر الطرطوشي ؛ تأكيدا لإنكار الصحابة والتابعين لما أحدث بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم .
أما الأحاديث والآثار فإليك بعضها ! :
عن عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا نَجْلِسُ عَلَى بَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ، فَإِذَا خَرَجَ، مَشَيْنَا مَعَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَجَاءَنَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: أَخَرَجَ إِلَيْكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ قُلْنَا: لَا، بَعْدُ. فَجَلَسَ مَعَنَا حَتَّى خَرَجَ، فَلَمَّا خَرَجَ، قُمْنَا إِلَيْهِ جَمِيعًا، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ آنِفًا أَمْرًا أَنْكَرْتُهُ وَلَمْ أَرَ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ - إِلَّا خَيْرًا. قَالَ: فَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: إِنْ عِشْتَ فَسَتَرَاهُ. قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ قَوْمًا حِلَقًا جُلُوسًا يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ فِي كُلِّ حَلْقَةٍ رَجُلٌ، وَفِي أَيْدِيهِمْ حصًا، فَيَقُولُ: كَبِّرُوا مِائَةً، فَيُكَبِّرُونَ مِائَةً، فَيَقُولُ: هَلِّلُوا مِائَةً، فَيُهَلِّلُونَ مِائَةً، وَيَقُولُ: سَبِّحُوا مِائَةً، فَيُسَبِّحُونَ مِائَةً، قَالَ: فَمَاذَا قُلْتَ لَهُمْ؟ قَالَ: مَا قُلْتُ لَهُمْ شَيْئًا انْتِظَارَ رَأْيِكَ أَوِ انْتظارَ أَمْرِكَ. قَالَ: «أَفَلَا أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعُدُّوا سَيِّئَاتِهِمْ، وَضَمِنْتَ لَهُمْ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ»، ثُمَّ مَضَى وَمَضَيْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَى حَلْقَةً مِنْ تِلْكَ الْحِلَقِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: «مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ؟» قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حصًا نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّسْبِيحَ. قَالَ: «فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ، فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ شَيْءٌ وَيْحَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، مَا أَسْرَعَ هَلَكَتَكُمْ هَؤُلَاءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ، وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْلَ، وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَرْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِيَ أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوْ مُفْتَتِحُو بَابِ ضَلَالَةٍ». قَالُوا: وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا أَرَدْنَا إِلَّا الْخَيْرَ. قَالَ: «وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا أَنَّ» قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ "، وَايْمُ اللَّهِ مَا أَدْرِي لَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ مِنْكُمْ، ثُمَّ تَوَلَّى عَنْهُمْ. فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ: رَأَيْنَا عَامَّةَ أُولَئِكَ الْحِلَقِ يُطَاعِنُونَا يَوْمَ النَّهْرَوَانِ مَعَ الْخَوَارِجِ .
سنن الدارمي (1/286) وهو صحيح .
أقول : تأمل أيها القارئ الكريم إنكار ابن مسعود رضي الله عنه على هؤلاء مع أن فعلهم يندرج تحت أصل عام, ولذلك قال أبو موسى : لم أر إلا خيرا ! في ابتداء الأمر .
عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ رَجُلًا عَطَسَ إِلَى جَنْبِ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ، وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَأَنَا أَقُولُ: الحَمْدُ لِلَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَلَيْسَ هَكَذَا عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَّمَنَا أَنْ نَقُولَ: «الحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ»
الترمذي (2738) وحسنه شيخنا الألباني رحمه الله .
أقول : لو كان كل ما اندرج تحت أصل عام أن نص مطلق جاز فعله لما أنكر ابن عمر رضي الله عنه على الرجل فعله .
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ , فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ , فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، ثُمَّ زَادَ شَيْئًا مَعَ ذَلِكَ أَيْضًا، فقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ قَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، مَنْ هَذَا؟ فقَالُوا: هَذَا الْيَمَانِي الَّذِي يَغْشَاكَ , فَعَرَّفُوهُ إِيَّاهُ، قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ السَّلاَمَ انْتَهَى إِلَى الْبَرَكَةِ.
الموطأ (2/959)
أقول : تأمل قول ابن عباس : إِنَّ السَّلاَمَ انْتَهَى إِلَى الْبَرَكَةِ . لتعلم حرص الصحابة على الاتباع .
عَنْ أَبِي حَفْصٍ الْمَدَنِيِّ , قَالَ: " اجْتَمَعَ النَّاسُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُونَ بَعْدَ الْعَصْرِ , فَخَرَجَ نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ مِنْ دَارِ آلِ عُمَرَ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ , إِنَّ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِدْعَةٌ وَلَيْسَتْ بِسُنَّةٍ , إِنَّا أَدْرَكْنَا النَّاسَ وَلَا يَصْنَعُونَ مِثْلَ هَذَا , ثُمَّ رَجَعَ فَلَمْ يَجْلِسْ , ثُمَّ خَرَجَ الثَّانِيَةَ فَفَعَلَ مِثْلَهَا , ثُمَّ رَجَعَ»
البدع لابن وضاح (93)
أقول : مع أن الدعاء يندرج تحت أصل عام !
روى مالك فِي الْمُوَطَّأ عَن يحيى بن سعيد عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث التَّيْمِيّ عَن ربيعَة بن عبد الله بن الْهُذيْل أَنه رأى رجلا مُجَردا بالعراق فَسَأَلَ عَنهُ النَّاس فَقيل أَنه أَمر بهديه أَن يُقَلّد فَلذَلِك تجرد قَالَ ربيعَة فَلَقِيت : عبد الله بن الزبير فَذكرت ذَلِك لَهُ فَقَالَ بِدعَة وَرب الْكَعْبَة .
قال أبو شامة : فوصف ذَلِك عبد الله بِأَنَّهُ بِدعَة لما كَانَ موهما أَنه من الدّين لِأَنَّهُ قد ثَبت أَن التجرد مَشْرُوع فِي الْإِحْرَام بنسك الْحَج وَالْعمْرَة ؛ فَإِذا فعل فِي غير ذَلِك أوهم من لَا يعلم من الْعَوام أَنه مَشْرُوع فِي هَذِه الْحَالة الْأُخْرَى لِأَنَّهُ قد ثَبت شرعته فِي صُورَة ؛ فَرُبمَا يقْتَدى بِهِ فيتفاقم الْأَمر فِي انتشار ذَلِك ويعسر الْفِطَام عَنهُ كَمَا قد وَقع فِي غَيره من الْبدع.
الباعث على إنكار البدع والحوادث (21)
عن سعيد بن المسيب: أنه راى رجلاً يصلى بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين , يكثر فيها الركوع والسجود , فنهاه , فقال: يا أبا محمد! يعذبنى الله على الصلاة؟ ! قال: لا , ولكن يعذبك على خلاف السنة.
السنن الكبرى للبيهقي (2/654)
أقول : الله أكبر ؛ تأمل في قول هذا التابعي , يعذبك على مخالفة السنة , مع أن فعله صلاة , أعظم العبادات !! .
عَنْ أُسَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: رَأَيْتُ مَكْحُولًا سَلَّمَ عَلَى رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ بِدَابِقٍ وَهُوَ رَاجِلٌ رَاكِبٌ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَجَاءٌ السَّلَامَ كَأَنَّهُ كَرِهَ خِلَافَ السُّنَّةِ أَنْ يُسَلِّمَ الْمَاشِي عَلَى الرَّاكِبِ .
مسند الشاميين (3/205)
أقول : لماذا لم يرد عليه لأنه فعل فعلا يخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم .
عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ , قَالَ: " كَانُوا يَجْتَمِعُونَ فَأَتَاهُمُ الْحَسَنُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: " يَا أَبَا سَعِيدٍ , مَا تَرَى فِي مَجْلِسِنَا هَذَا؟ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لَا يَطْعنَونَ عَلَى أَحَدٍ , نَجْتَمِعُ فِي بَيْتِ هَذَا يَوْمًا , وَفِي بَيْتِ هَذَا يَوْمًا , فَنَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ , وَنَدْعُو رَبَّنَا , وَنُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَنَدْعُو لِأَنْفُسِنَا وَلِعَامَةِ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ الْحَسَنُ أَشَدَّ النَّهْيِ " .
البدع لابن وضاح (42)
أقول : تأمل فعل الحسن البصري الذي خشي من الإحداث في الدين , والبدعة فيه .
قَالَ سَعِيدُ بْنُ حَسَّانَ: " كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَى ابْنِ نَافِعٍ كُتُبَهُ , فَلَمَّا مَرَرْتُ بِحَدِيثِ التَّوْسِعَةِ لَيْلَةَ عَاشُورَاءَ قَالَ لِي: حَوِّقْ عَلَيْهِ , قُلْتُ: وَلِمَ ذَلِكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: خَوْفًا مِنْ أَنْ يُتَّخَذَ سُنَّةً قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: «لَقَدْ كُنْتُ بِالْمَدِينَةِ أَيَّامَ مَالِكٍ وَدريه , وَبِمِصْرَ أَيَّامَ اللَّيْثِ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ , وَأَدْرَكَتْنِي تِلْكَ اللَّيْلَةُ مَعَهُمْ , فَمَا سَمِعْتُ لَهَا عِنْدَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذِكْرًا , وَلَوْ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ لَأَجْرَوْا مِنْ ذِكْرِهَا مَا أَجْرَوْا مِنْ سَائِرِ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ» .
البدع لابن وضاح (91)
أقول : هؤلاء أئمتنا وهؤلاء سلفنا ؛ أين هم أصحاب الدواعي العريضة , والأقلام الجريئة التي تؤصل للبدعة , من هذه النقول .
عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: «لَيْسَتْ عَرَفَةُ إِلَّا بِمَكَّةَ , لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَمْصَارِ عَرَفَةُ»
البدع لابن وضاح (94)
أقول : وسفيان من أئمة السلف .
ما جاء من الأقوال عن الإمام مالك
وأما ما جاء عن الإمام مالك فهو كثير جدا وهو إمام في اتباع السنة وترك البدعة , وهو من المؤصلين والمقعدين لأهل السنة في ذلك , ويعتبر مرجعا أساسيا في هذه المسألة , والعجب أن الدكتور وليد ينتسب إلى مذهبه , وهو في الحقيقة مخالف له حتى في أصوله , بل ويغلو أحيانا ويتعصب في غير المكان الصحيح ؛ فلمقولة الإمام مالك ( أخذ عن ألف عن ألف ) والتي المراد بها ( ما عليه عمل الناس ) هي أصل من الأصول عنده لرد الأحاديث ولو بلغت حد التواتر كما في حديث رفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام , والإخوة الذين حضروا المحاضرات يشهدوا على ذلك , والأمثلة كثيرة !. مع أن من باب أولى رد ما أحدث في الدين .
روى محمد بن أحمد في " المستخرجة " عن ابن القاسم؛ قال: " سئل مالك عن الذي يقرأ القرآن فيختمه ثم يدعو؟ فقال: ما سمعت أنه يدعى عند ختم القرآن، وما هو من عمل الناس "
الحوادث والبدع للطرطوشي (65)
وروى ابن القاسم أيضا؛ قال: " سئل مالك عما يعمل الناس من الدعاء حين يدخلون المسجد وحين يخرجون ووقوفهم عند ذلك؟ فقال: هذا من البدع، وأنكر ذلك إنكارا شديدا ".
الحولدث والبدع للطرطوشي (66)
أقول : مع أن الدعاء يندرج تحت أصل عام , ورحم الله الإمام مالك : كيف لو أدرك الصوفية الذين يؤصل لهم دكتورنا الفاضل ما يفعلونه في المساجد من الذكر البدعي والرقص المخزي ! .
قال ابن وهب: " وسمعت مالكا يسأل عن جلوس الناس في المسجد عشية عرفة بعد العصر، واجتماعهم للدعاء؟ فقال: ليس هذا من أمر الناس، وإنما مفاتيح هذه الأشياء من البدع ".
وقال مالك في " العتبية ": " وأكره أن يجلس أهل الآفاق يوم عرفة في المساجد للدعاء، ومن اجتمع إليه الناس للدعاء؛ فلينصرف، ومقامه في منزله أحب إلي، فإذا حضرت الصلاة؛ رجع فصلى في المسجد ".
الحوادث والبدع للطرطوشي (126)
وَقَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَفُوتُهُ حِزْبُهُ أَوْ يَتْرُكُهُ حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ فَيُصَلِّيَهُ فِيمَا بَيْنَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ، قَالَ مَالِكٌ: مَا هُوَ عِنْدِي مِنْ عَمَلِ النَّاسِ .
المدونة (1/211)
قال أشهب: وسئل مالك عن قراءة القرآن عند رأس الميت بـ {يس} [يس: 1] . فقال: ما سمعت بهذا، وما هو من عمل الناس؛ قيل له: أفرأيت الإجمار عند رأسه - وهو في الموت يجود بنفسه؟ فقال أيضا: ما سمعت شيئا من هذا، وما هذا من عمل الناس.
البيان والتحصيل (2/234)
وقال مالك في " المدونة ": " الأمر في رمضان الصلاة، وليس بالقصص بالدعاء ".
قال أبو بكر الطرطوشي : فتأملوا - رحمكم الله -، فقد نهى مالك أن يقص أحد في رمضان بالدعاء، وحَكَى أن الأمر المعمول به في المدينة إنما هو الصلاة من غير قصص ولا دعاء.
الحوادث والبدع (65)
قال ابن وهب: " وسمعت مالكا يسأل عن جلوس الناس في المسجد عشية عرفة بعد العصر، واجتماعهم للدعاء؟ فقال: ليس هذا من أمر الناس، وإنما مفاتيح هذه الأشياء من البدع ".
أقول : كم دخلت على هذه الأمة من بدع ومحدثات , لما تركت ما كان عليه والصحابة والتابعون من تمسك واتباع .
وسئل مالك: هل يقول عند أضحيته: اللهم منك وإليك؟ فقال: " لا، وهذه بدعة ".
المدونة (1/544) والحوادث والبدع (144)
قال مالك : " ويكره السجع في الدعاء وغيره، وليس من كلام الماضين ".
الحوادث والبدع (155)
حَدثنَا مُوسَى بن مُحَمَّد الزبيرِي ثَنَا الزبير ثَنَا مُحَمَّد بن الضَّحَّاك وَغَيره أَن رجلا جَاءَ الى مَالك بن أنس فَقَالَ: من أَيْن احرم؟ فَقَالَ : من الْمِيقَات الَّذِي وَقت رَسُول الله (صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَأحرم مِنْهُ فَقَالَ الرجل: فَإِن أَحرمت من أبعد مِنْهُ فَقَالَ مَالك : لَا أرى ذَلِك فَقَالَ: مَا تكره من ذَلِك قَالَ: أكره عَلَيْك الْفِتْنَة قَالَ وَأي فتْنَة فِي ازدياد الْخَيْر؟ فَقَالَ مَالك: فَإِن الله تَعَالَى يَقُول {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره أَن تصيبهم فتْنَة أَو يصيبهم عَذَاب أَلِيم} سُورَة النُّور أَيَّة 63 وَأي فتْنَة أكبر من من أَنَّك خصصت بِفضل لم يخْتَص بِهِ رَسُول الله (صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَفِي رِوَايَة ..ا قَالَ مَالك : وَأي فتْنَة أعظم من أَن ترى أَن اختيارك لنَفسك خير من اخْتِيَار الله وَرَسُوله .
الباعث على إنكار البدع والحوادث (22)
والأمثلة والشواهد كثيرة ومن طالع كتب الحديث والآثار وما ألف في السنة والتحذير من البدع أضعاف أضعاف ما ذكرنا , وفيما ذكرناه كفاية للمنصف , وحجة على المخالف , والله نحمده على التوفيق والسداد , ونسأله الهداية لكل العباد .
تعقيب سريع لمقالة الدكتور وليد الشاويش
قال الدكتور وليد : كثيرا ما تتردد هذه المقولة اليوم في مساجد المسلمين، وأحيانا يدور نقاش في حلقة مفرغة تؤدي إلى الجدل وعدم الظفر بطائل من ورائها .
أقول : ما أكثر الدعاوي التي يلقيها الدكتور جزافا بغير دليل , لماذا دائما الضرب على وتر فرض الخلافات في المساجد , ولماذا في كل مقال تقحم ذكر المساجد ؟ أهي دائما المدخل لتهيئة نفسية القارئ ليقبل الدعاوي , وإذا كانت عندك هذا الغيرة على المساجد , أين أنت من المساجد التي يقام فيها الطنطنات والرقصات والهمهمة والتمايل باسم الدين أم هذه سنة حسنة على رأيك ومذهبك ؟
قال : كما أصبحت هذه المقولة تستخدم دليلا على رد أصول الشريعة الثابتة بالكتاب والسنة بحجة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يفعل ذلك، بالرغم من أن الفعل قد يكون ثابتا بنص عام أو مطلق، أو الأصول الأخرى مثل: المصالح المرسلة، سد الذرائع، البراءة الأصلية..
أقول : هذا والله من العجب في كلام الدكتور ؛ مع أن العكس هو الصحيح فمن يؤصل لجواز إحداث عبادة في الدين ما دام أنها تندرج تحت أصل عام أو مقيد هو من يهدم الشريعة ويريد أن يفتح بابا للبدعة وتغيير السنة .
قال : يـُحتج أحيانا بهذه المقولة (لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم) بشرط قيام المقتضي للفعل في حياته عليه الصلاة والسلام، مع إمكانه، وانتفاء الموانع التي تحول دون القيام بالفعل .
أقول : وهذه قاعدة أصيلة وأصل منضبط قرره وأكده علماء من المذاهب الأربعة في القديم والحديث , كما تقدم ,ونقله محققون شهد لهم العلماء بالتحقيق والتدقيق كشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام الشاطبي , وأقر ذلك الشيخ على محفوظ – أحد كبار علماء الأزهر – والذي قدم لكتابه جملة من علماء الأزهر في زمانه , وهذا يكفينا كدليل .
قال : مناقشة ركن المقولة (لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم):
قال :لماذا عرَّف أهل الحديث السنة بأنها ما ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير أو صفه، ولم يجعلوا الترك في التعريف على أنه سنة من سننه -صلى الله عليه وسلم..
أقول : وهذا من إلقاء الدعاوي جزافا , وقد تقدم الأدلة الكثرة من أقوال العلماء في القديم والحديث , وأعرضنا عن عشرات أقوال المعاصرين حتى لا يقال أنها وليدة العصر .
قال : ورد في الكتاب العزيز الأمر بالاقتداء بما آتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير، أمرا أو نهيا، ولم يَرِد الترك في قوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)، فمن أين جاء الترك حجة من حجج الشرع، خصوصا وأن الترك عدم، ولا حجة في العدم.
أقول : للرد على ذلك؛ إليك كلام المحققين في ذلك :قال الشنقيطي المالكي صاحب كتاب أضواء البيان : وأما دلالة الكتاب على أن الترك فعل ففي آيات من القرآن العظيم كقوله تعالى: { لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون } ، فسمى الله جل وعلا عدم نهى الربانيين والأحبار لهم صنعاً والصنع أرخص مطلقاً من الفعل ؛ فدل على أن ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فعل بدليل تسمية الله له صنعاً.
وكقوله تعالى:{ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون } فسمى عدم تناهيهم عن المنكر فعلا وهو واضح .
وقال السبكى فى طبقاته: إن قوله تعالى :{ وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً }. يدل على أن الترك فعل، قال لأن الأخذ التناول والمهجور المتروك .
مذكرة أصول الفقه (45-46)
قال الدكتور : قالها أبو بكر رضي الله عنه في جمع المصحف ثم جمع المصحف، ولكنه فعل ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمع المصحف، ولم يستمر الصديق في الاحتجاج بالعدم.
أقول : وهذا مع أنه دليل لنا , لا يصلح أن يكون شاهدا لما استدل به , وتقدم كلام العلماء في رد ذلك , وثانيا : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين عضوا عليها بالنواجذ .
قال ابن رجب : وَفِي أَمَرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَ أَمْرِهِ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ عُمُومًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُنَّةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مُتَّبَعَةٌ، كَاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ.
جامع العلوم والحكم (2/121)
قال الدكتور : إذا كان الذي تركه النبي -صلى الله عليه وسلم- عَدَما، فكيف نثبت العدم، وما المصادر التي سنعتمد عليها في إثبات العدم، والتي نقلت لنا العدم، مما يعني أن أحد الأركان للمقولة غير موجود، وإحالتنا على العدم هو إحالة على العدم،وهو عَبَث.
قلت : القول بأنه عدم ؛ بني على أساس أن الترك ليس بسنة ولم يتعبدنا الله به , قال الشنقيطي: اعلم أن لله جل وعلا إنما يكلف بالأفعال الاختيارية وهى باستقراء الشرع أربعة أقسام:.. الثالث: الترك والتحقيق أنه فعل وهو كف النفس وصرفها عن المنهي عنه، خلافاً لمن زعم أن الترك أمر عدمي لا وجود له، والعدم عبارة عن لا شيء والدليل على أن الترك فعل الكتاب والسنة واللغة. ثم ساق الأدلة
مذكرة أصول الفقه (45-46)
قلت : وتقدم التدليل على أن الترك سنة من أقوال العلماء المحققين وفعل الصحابة , وما أسهل الدعاوي بدون تحقيق! .
قال : إذا كان العدم حجة فهذا يعني أن فجوة في التشريع يكملها العدم غير الموجود أصلا، والله تعالى يقول (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) فليس في تشريعنا الإسلامي عدم يملأه العقل الذي هو “المقتضي للفعل وتركه النبي صلى الله عليه وسلم” ..
قلت : عجبا من دكتورنا الفاضل , يقعد ويؤصل على لسان الخصم ثم يجيب نفسه بنفسه !.
أقول : الترك سنة , وأدلتها أكثر من أن تحصر , وتقدم ذكر بعضها وهي كافية للمنصف .
قال : لماذا لم يضع الأصوليون الترك النبوي أنه من مصادر الشرع، و لم يجعلوه جزءا من السنة، بل اتفقوا مع المحدثين على أن الترك ليس من السنة، لأنه عدم لا يدخل في السنة المنقولة ولا المعقولة، ولم يضعوا الترك أصلا من أصول الشريعة أصلا..
قلت : دكتورنا الفاضل المالكي دائما يترنم في محاضراته بألفية مراقي السعود , ومن العجب أن صاحب المراقي أشار إلى أن الترك فعل , وسنية الترك مبني عليها بل وذكر أن هذا هو الصحيح في المذهب .
قال الناظم المالكي في مراقي السعود :
ولا يكلف بغير الفعل باعث ... الأنبيا ورب الفضل
فكفنا بالنهى مطلوب النبي ... والكف فعل فى صحيح المذهب
قال الشارح في نشر البنود : قال أبو عبد الله المقري: قاعدة اختلف المالكية في الترك هل هو فعل أو ليس بفعل والصحيح أن الكف فعل وبه كلفنا في النهي عند المحققين .
نشر البنود (1/70)
قلت : أي مذهب ينتسب إليه الدكتور وأي أصول يعتمد عليها , وهذه أصول مذهبه التي جهلها , أقاموا الدنيا ولم يقعدوها في دورات الأوقاف على من يخالف أصول المذاهب الأربعة ! ثم هم أبعد الناس عنها .
قال : كيف يمكن تطبيق (لم يفعله رسول الله) على ميراث الجد والإخوة، حيث لم ينص شرع على ميراثهم، مع أنه قام المقتضي لإعطائهم وهو حقهم الشرعي، وانتفى المانع وكان الإعطاء ممكنا ، فمقتضى المقولة أن لا يعطى الجد ولا الإخوة من الميراث، وقد وقع الإجماع من الصحابة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على توريثهم...
قلت : أما قوله أن فيها إجماع فغير مسلم له فقد اختلف الصحابة في ذلك , قال ابن القيم رحمه الله : عن زيد بن ثابت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما : لما استشار في ميراث الجد والإخوة، قال زيد: وكان رأَيي [يومئذٍ أن الإخوة أحق بميراث أخيهم من الجد، وعمر بن الخطاب يرى يومئذٍ أن الجد أولى بميراث ابن ابنه من إخوته، فتحاورتُ أنا وعمر محاروةً شديدةً .. ورَأْيُ الصديق أولى من هذا الرأي وأصح في القياس، لعشرة أوجه .
إعلام الموقعين (2/376-377)
وقال ابن حزم لما نقل خلاف الصحابة في ذلك : وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ تُكَذِّبُ قَوْلَ مَنْ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ فِي تَوْرِيثِ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ بِالْإِجْمَاعِ.
المحلى بالآثار (8/308)
ثانيا : أن هذه ليست متعلقة ببحثنا لأن حديثنا متعلق بشأن الإحداث في العبادات .
ثالثا : : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين عضوا عليها بالنواجذ .
فما أخذ به الخلفاء الراشدون لا يعد مخالفا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن رجب : وَفِي أَمَرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَ أَمْرِهِ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ عُمُومًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُنَّةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مُتَّبَعَةٌ، كَاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ.
جامع العلوم والحكم (2/121)
رابعا : دعواك أن فيها إجماعا نسف لقولك من الأساس؛ لأن إجماع الصحابة حجة عند الجميع حتى عند من يقول بقصره على إجماع الصحابة .
خامسا : أن هذه المسألة تندرج تحت باب المصالح المرسلة , والمصالح المرسلة تختلف عن البدعة من وجوه كما تقدم بيانه .
قال : ما تاريخ هذه المقولة ومتى نشأت، إذا كان أول الخلفاء والصحابة والتابعون لهم بإحسان من أئمة السلف لم يعملوا بها، فأرجو من العالم بتطبيقات هذه المقولة أن يحيلنا إلى سلفنا الصالح ..
قلت : وقد فعلت ما طلبت , وأحلتك على ملئ , وهم سلفنا الصالح, و نقلت لك شيئا من تطبيقات السلف – الصحابة والتابعين – وعن الإمام مالك بالذات في تدعيم مقالة ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفعله وكيف أنهم لم يدعوا محدثة أو بدعة في عصرهم إلا وأنكروها وردوها .
قال : إن صح تخصيص الشريعة بالترك، فهذا يعني أنها أصبحت قاصرة على وقت النبوة فقط، ومن هنا تتفق هذه الدعوى مع دعوى تاريخية الشريعة التي ينادي بها اللادينيون لتعطيل الشريعة واصطدموا مع عموم النص في الزمان إلى قيام الساعة وحاولوا تخصيصه بالسبب الذي ورد عليه النص..
قلت : وهذه حيدة من الدكتور الفاضل ومصادرة منه , فمبحثنا واضح وهو ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمور المتعلقة بالعبادات , وأما ما يندرج تحت البدع الإضافية كما سماها الإمام الشاطبي أو اللغوية كما أطلق عليها شيخ الإسلام ابن تيمية فالأمر فيها واسع كما قرروا ذلك وتدخل تحتها العاديات والمصالح المرسلة , فلا يصح إيهام القارئ أن هذه القاعدة تجري على النوعين عند الخصم .
قال الدكتور : شرط قيام المقتضي :
1-أن يعرِّف المقتضي تعريفا جامعا مانعا.
2-أن يحدد نوع المقتضي هل هو عقلي أو شرعي أو عادي، فإن كان المقتضي عقليا، فهو من الأحكام العقلية وليس الشرعية..
3-ما ضوابط المقتضي وشروطه، وذلك حتى لا يتحكم الناس على الشريعة، فعلى فرض صحتها لا بد أن تكون هناك ضوابط يضعها المتبني لهذه المقولة..
أقول : المسألة ليست بهذا التعقيد والمبالغ فيه , والأمر باختصار :
القاعدة : أي عبادة نقول : فعلها النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يفعلها , فإن فعلها , فهي السنة المتبعة , وإن لم يفعلها ؛ فإن كان لسبب أو مانع زال بعد حياته واحتاج الناس إلى فعلها , فنعم , وإن لم يفعلها مع توفر الداعي ( المقتضى ) لفعلها , فهي غير سنة .
ثانيا: نستطيع أن نقابلك بنفس الأسلوب :
فتح باب الإحداث والتعبد بما لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم هل هو على إطلاقه ؟
ما هي الشروط والضوابط لذلك ؟
وهل هذا الجواز عقلي أم شرعي أم عادي ؟
وإذا كان عقليا , هل هو بإطلاق أم له حد لذلك ؟
وهذا العام أو المطلق يكون في كل العبادات حتى ولو كانت على وجه مخصوص وقيد معين كالأذان للصلوات الخمس .
وهكذا نستطيع أن نسوق ونضع القيود ونفتعل الإشكالات , ونلزم الخصم بنفس الطريقة .
قال : كيف يثبت المقتضي للعدم، وهو يعني إثبات سبب لغير مسبَّب، والمعروف أن السبب لا يؤدي إلى عدم بل يؤدي إلى وجود..
أقول : هذا من تكرار الكلام , وقد قدمنا أن العدم بني على قول أن الترك ليس بسنة وكلام المحققين بخلافه كما تقدم .
قال : إذا ثبت الحكم الشرعي بنص عام أو مطلق وعلى فرض قام المقتضي لفعله -صلى الله عليه وسلم- وإمكانه، فهذا يعني أن فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- شرط لجواز العمل بالنص ..
أقول : أقول إذا قام المقتضي لفعله ولم يفعله لا هو ولا أصحابه بتتابع السنين وهم أحرص الناس على كل خير , فلا وجه لفعله .
قال الشاطبي في الاعتصام : لأَن السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا أَحقَّ بالسَّبْق إِلى فَضْلِهِ؛ لِجَمِيعِ مَا ذُكر ..، وَلِذَلِكَ قَالَ مالك بن أنس فِيهَا: أَترى النَّاسَ الْيَوْمَ كَانُوا أَرغبَ فِي الْخَيْرِ مِمَّنْ مَضَى؟ وَهُوَ إِشارة إِلى الأَصل الْمَذْكُورِ، وَهُوَ أَن الْمَعْنَى المُقْتَضي للإِحداث ـ وَهُوَ الرَّغْبَةُ فِي الْخَيْرِ ـ كَانَ أَتمَّ فِي السَّلَفِ الصالح، وهم لم يفعلوه، فدل أَنَّهُ لَا يُفْعَل.
الاعتصام (2/291)
قال : وقد اتفق الأصوليون أن العام والمطلق يعمل بهما ولا يُـنْـتَـظر المخصص ولا المقيد، واشتراط عمل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع القيود السابقة، يعني رد الكتاب والسنة باشتراط عمل النبي صلى الله عليه وسلم بهما.
أقول : وهذه دعوى من الدكتور الفاضل , فقد اختلف الأصوليون في هذه المسألة .
قال الزركشي : قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِ يّ فِي كِتَابِهِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: يَجِبُ اعْتِقَادُ عُمُومِهِ فِي الْحَالِ عِنْدَ سَمَاعِهِ وَالْعَمَلِ بِمُوجَبِهِ , وَقَالَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيّ ُ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ وَأَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ: يَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ، حَتَّى يَنْظُرَ فِي الْأُصُولِ الَّتِي يَتَعَرَّفُ فِيهَا الْأَدِلَّةَ، فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَخْصِيصِهِ خَصَّ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ دَلِيلًا يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ اعْتَقَدَ عُمُومَهُ، وَعَمِلَ بِمُوجَبِهِ.
البحر المحيط (4/47-48)
بل نقل بعضهم عكس دعوى الدكتور !
قال الشوكاني : هل يجوز العمل بالعام قَبْلَ الْبَحْثِ عَنِ الْمُخَصِّصِ؟
نَقَلَ الْغَزَالِيُّ، وَالْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ الْإِجْمَاعَ عَلَى مَنْعِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ قبل البحث على الْمُخَصِّصِ.
إرشاد الفحول (1/345)
قال : من هو الذي يتقي ربه ويستطيع أن يقدر ما هو المقتضي لفعل الرسول -صلى الله عليه وسلم، ويجعل عقل الإنسان الذي يجب أن يسترشد بالنبوة، يجعل ذلك العقل مبينا للمقتضي للنبوة، وهذا نصب للإنسان فوق منصب النبوة ما دام الإنسان قادرا على تحديد المقتضي لعمل النبي -صلى الله عليه وسلم.
أقول : من جعل العقل هو المقتضي والميزان الذي توزن به النبوة , هم الأشاعرة – أصحابك - , الذين جعلوا حكم العقل من القواطع الذي يقدم على النص النبوي الذي جعلوه من الظني , وقدموه عليه عند التعارض .
قول الرازي : نصوص الكتاب والسنة ظنية الدلالة، ولا تفيد اليقين إلا إذا سلمت من عشرة عوارض قال : منها: الإضمار والتخصيص والنقل والاشتراك والمجاز ... إلخ، وسلمت بعد هذا من المعارض العقلي، بل قالوا: من احتمال المعارض العقلي! .
قال : لقد بين أهل السنة والجماعة عَوَار مقولة المعتزلة أنه يجب الأصلح على الله تعالى، وسقطت هذه الدعوى تحت مطارق السنة، ولكن مع الأسف يبدو أن هذه المقولة السابقة بالشروط السابق ذكرها، هي تسلل للعقل المعتزلي ..
أقول : نعم بين أهل السنة عوار قول المعتزلة , والتي تفرخ من مذهبهم مذهب الأشاعرة , والذين قالوا : لا يجب على الله شئ , ولا يفعل لغاية وحكمة بل يتصور عندهم إثابة العاصي وعقاب المطيع !
والقول الحق الوسط في المسألة : هو لأهل الحديث الذين قرروا أنه لا يجب على الله إلا ما أوجبه على نفسه , وأن أفعاله كلها صادرة عن حكمة وغاية , وليس هذا موطن بحث المسألة .
قال : ماذا يعني أنه قام المقتضي لفعل النبي -صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يفعل مع إمكان الفعل، وليس ثَمَّة مانع من الفعل غير معنى كتِمان الرسالة، وهنا يكون العقل الضعيف قد وقع في الشَّرَك الثاني بعد أن تجرأ على الرسالة والنبوة، وحدد المقتضي لفعل النبي -صلى الله عليه وسلم، ثم ارتكب خطيئة أخرى وهي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعل مع إمكان أن يفعل، ولم يكن ثَمَّة مانع يمنع من الفعل.
أقول : لا مجال للعقل عند أهل السنة في أمر العبادات , فالعقل ليس مشرعا عند أهل السنة وإنما هو مقود بالشرع , وإنما يصدق كلامك في حق من يقدم العقل على النقل كما هو مذهب الأشاعرة .
وثانيا : وما وجه الكتمان , وهو الذي بين سبب المانع من فعلها إما رحمة بأمته كما في شأن الاجتماع لصلاة التراويح أو لسبب آخر اقتضاه عدم فعله , كما في نقض الكعبة وقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة : لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لنقضت الكعبة وجعلت لها بابين ... .
أو لعدم الحاجة لها في عهده , واحتاج الصحابة لفعلها بعده كما في جمع المصحف وغيرها .
قال : ولو بحثتَ أخي القاريء عن معنى كتمان الشريعة المستحيل على الرسل –عليهم السلام- لم تجد أفضل من هذه المقولة، وهي:( ما قام المقتضي للفعل...
أقول : ما وجه الكتمان في هذه القاعدة التي تعتبر من أصول الإسلام وقواعده العظمى في غلق باب الهوى والبدعة والتغيير والجرأة على سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي أضحت غريبة تزداد غربتها كلما تقارب الزمان .
عَنِ الزُّهْرِيَّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِدِمَشْقَ وَهُوَ يَبْكِي فَقُلْتُ مَا يُبْكِيكَ فَقَالَ لاَ أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ إِلاَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ، وَهَذِهِ الصَّلاَةُ قَدْ ضُيِّعَتْ.
أخرجه البخاري.
وعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا أَبُو الدَّرْدَاءِ، مُغْضَبًا، فَقَالَتْ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: " وَاللهِ مَا أَعْرِفُ فِيهِمْ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا .
أخرجه البخاري .
وهذا في عصرهم فما بالك بالعصور المتأخرة .
قال : بالرغم من أن هذا المعنى مرفوض من كل مسلم، حتى من أولئك المرددين لهذه المقولة التي ظاهرها الرحمة وباطنها من قِـبَـله تعطيل الكتاب، وأن هذا المعنى غير مراد لهم، بل ظاهر الحال السلامة من استلزامات هذه المقولة، إلا أنني أكون سعيدا لمن يزعم أن هذه المقولة لها أصل في الشرع ..
أقول : وهنا الدكتور نقض مقاله ؛ واعترف أن هذه الإلزامات لا يقول بها من يقول بهذه القاعدة ولا تلزمه , وإنما هي فرضيات لا طائل وراءها إلا التكثر على الخصم بكثرة الكلام .
وما دمت أنك تسعد بمن يعطيك وجه وأدلة هذه القاعدة , فقد فعلنا ؛ إبراء للذمة ودفاعا عن السنة ونصرة لكلام السلف .
قال : وربما تكون هذه المقالة فيها مشقة على من سار بهذه المقولة ردحا من الزمن، ولكن أرجو أن يقف ملِيّا أمام هذه الأسئلة، وأن يتحمل مسؤوليته تجاه الشريعة وفقه السلف، بعد أن أصبحت هذه المقولة ذريعة لرد عموم الكتاب والسنة والأصول الشرعية الإجمالية الأخرى ووقف العمل بها ..
أقول : هذه محاولة يائسة من الدكتور الفاضل ليظهر أن هذه القاعدة وليدة هذه الأيام , يكررها شباب متحمس لا أصل لها عند العلماء , مع أن هذه القاعدة وتفريعاتها جرى ذكرها على ألسنة العلماء والمحققين من لدن القرون المفضلة إلى زماننا هذا , فتخيل كم من هضم وتقليل وإصغار لم ذهب إليه أجلة كبار ومحققون عظام . والله المستعان
وكتبه / أبو عبدالرحمن عبدالباسط الغريب