" الدكتور صلاح أبو الحاج / قراءة في تأصيلاته الأصولية "
"نموذج لرد السنة"
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم : إن من أعظم أسباب العصمة من الزلل , التمسك بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم , وكلما زاد تمسك الإنسان بهما , كان أكثر هداية , ولذلك كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والقرون المفضلة الأولى أكثر هداية وأعظم بصيرة , وكلما تأخر الزمان , ضعف التمسك بالكتاب والسنة وكثرت الأهواء ونقص العلم , وكثر المتعالمون مصداقا لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم : إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر . وقد فسر أهل العلم الأصاغر : ليس كبير يؤخذ عن صغير (), ولكن أراد أهل البدع وأهل الرأي , وتحقق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ .
وإن من شرور أهل هذا الزمان , كثرة الطاعنيين بسنة النبي صلى الله عليه وسلم والعاملين على هدمها , والتقليل من شأنها , وللأسف أن هذا الهجوم يأتي من قوم انتسبوا إلى العلم , وتسوروا عليه , وتزينوا بشهادات وألقاب لا تسمن ولا تغني من جوع ؛ جعلوها ذريعة للنيل من السنة والمساهمة في هدمها بأسلوب جديد ؛ باسم الغيرة على الدين بشتى الأساليب ؛ فمرة باسم التجديد والمصلحة , ومرة باسم الأصالة والثبات على الهوية السنية وذلك بجعل المذاهب الفقهية ذريعة لرد السنة , ومرة باسم أنها ظنيات أو آحاد , تخالف قطعيات الشريعة , ومرة بأنها تخالف القواعد الأصولية والضوابط الفقهية التي وضعها الفقهاء , وهكذا تتنوع الأساليب لرد السنة وهدمها من حيث علموا أو لم يعلموا !.
وإن من مآسي الإخوة وطلبة العلم – أئمة المساجد-؛ أن يفرض عليهم تدريس ذلك باسم التجديد والأصالة والمحافظة على هوية أهل السنة .
ومن ذلك أنه تم فرض تدريس كتاب:" زبدة الكلام على منظومة كفاية الغلام" للدكتور صلاح أبو الحاج ؛ والذي قدم للكتاب بمقدمة أصولية ؛ خلط فيها ولبس , وذكر فيها قواعد لقبول الحديث ورده , ومسائل تتعلق بذلك , أتى فيها بالعجب العجاب , وتجرأ فيها على وضع قواعد تهدم السنة وترد الحديث , وتقيد حتى المجتهد في الاستدلال بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم , وأتي بما رمى به مخالفه بما لم يسبق إليه من القواعد والضوابط , وسوف أبين ذلك على عجالة قبل التفصيل :
من ذلك أنه زعم أن للفقهاء ويخص منهم الحنفية , لهم قواعد في قبول الحديث ورده أفضل من قواعد المحدثين وضوابطهم .
لا يصح عنده : محاكمة الفقهاء في قبولهم للأحاديث وردها بقواعد المحدثين وأصولهم , ومن هنا في رأيه ظهر الخلل في الرد على قواعد وأصول الفقهاء من قبل المغرضين .
زعم أن لمدرسة الرأي – الكوفة - عملا وإجماعا كإجماع المدينة , فكما أن من أصول المالكية تقديم عمل المدينة على حديث الآحاد فكذلك الأمر بالنسبة لمدرسة الرأي .
وهذا التقعيد ليس في الطبقة الأولى كما هو الحال في عمل وإجماع أهل المدينة ! بل يسري ذلك لكل الطبقات جيلا بعد جيلا , فانتشار الرأي أو القول وانتقاله جيلا بعد جيل له حكم الإجماع والتواتر الذي لا يجوز مخالفته .
بل يرى أن إجماع وعمل أهل الكوفة أقوى من إجماع وعمل أهل المدينة .
زعم أنه لا يصح مخالفة القواعد الأصولية الواردة عن أئمة المذهب , ولو ترتب على ذلك رد أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم .
أوجب التقليد حتى على المجتهد – الجامع لأدواته – وأنه لا يجوز له مخالفة من سبقه من الأئمة .
لمز أصول الشافعية والحنابلة في قبول الحديث وفي الاستدلال ؛ فمدرستي الأحناف والمالكية أقوى وأسد ؛ لأنهما يستندان إلى الإجماع جيلا بعد جيل وطبقة عن طبقة فهي في حكم المتواتر , بخلاف الشافعية والحنابلة الذين يستندون إلى الحديث مباشرة .
عرف المتواتر بما لم يسبق إليه , فأحد أنواع المتواتر هو التواتر الطبقي عند الفقهاء , ليؤكد نظريته في إجماع أهل الرأي الذي حاول إلصاقه بعمل أهل المدينة .
فرق بين المشهور عند الأحناف والمشهور عند المحدثين ؛ فالمشهور عند الأحناف أصح وأولى وهو ما اشتهر من الأحاديث أو الأقوال من غير نكير وتم تداوله خلال الأجيال والطبقات من غير اعتراض ؛ فهذا له حكم القبول ولو كان بغير سند .
رجح بعض القواعد والأصول المرفوضة عند المحدثين أو المرجوحة عند جمهور الأصوليين وجعلها أصلا في قبول الحديث وردها , كقبول الحديث المنقطع والمرسل , واعتبار الزيادة على نص القرآن نسخا , ورد الحديث بالعمل , وبما تعم به البلوى وبما يخالف القطعي .. وهكذا يستمر بالاستدلال بهذه القواعد التي لا تبقي ولا تذر على حديث يصلح للاستدلال .
حمل حملة شعواء على منهج الفقه المقارن , وزعم أنه دسيسة الاستعمار ! , وأنه وليد هذا العصر , وتم فرضه على الأزهر من قبل الاستعمار الإنجليزي .
إلى غير ذلك من المسائل الغريبة والعجيبة ! , ويعذرني القارئ الكريم في القسوة عليه أحيانا ؛ لأن الجزاء من جنس العمل , فلن نعامله بما كان يعامل به الإخوة من قسوة واحتقار وغلظة , وترفع ,- وقد شكا من ذلك جميع من درس عنده - ولا عجب من ذلك فقدوته الكوثري – صاحب اللسان المعروف – ناهيك عن ضعف في عرض المادة والشرح والذي يصدق عليه المثل العربي : أحشفا وسوء كيلة ! .
والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وإليكم تفصيل المسائل :
المسألة الأولى :أصول الفقه والقواعد الأصولية
لاشك أن أصول الفقه من الأهمية بمكان , وهو من الأدوات التي لا يستغني عنها العلماء , ولا طلبة العلم فهي التي تعينهم على الفهم والاستباط وتحرير المسائل , ولكن هنا وقفات :
هذه القواعد وضعها بشر يعتريهم ما يعتري البشر , من خطأ وعدم كمال , فبعض القواعد تستند إلي أمور قطعية كالقرآن أو السنة أو الإجماع وهذه لا إشكال فيها , وبعض القواعد تستند إلى اجتهادات العلماء , وهذه ربما يقع فيه الإشكال : من عدم صدقها على جميع ما يشملها أو كتبت على تفريع مسألة لا تصلح أن تعمم أو تكون مخالفة لأصل أو قاعدة أصح منها .
وهذا ينبغي أن ينتبه له القارئ , وخصوصا أن هذا العلم دخله ما ليس منه من علم الكلام والفلسفة كما ذكر العلماء , وبالتالي لا يصح أن تجعل كل قاعدة ذكرها الأصوليون على أنها أصل من الأصول ترد بها الأحاديث وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الدكتور صلاح أبو الحاج هو يتحدث عن منهج المحدثين والفقهاء في اعتمادهم على الحديث ص (78): والطريق الأخرى التي راعاها الفقهاء هي تلقي الحديث بالقبول والعمل بين الفقهاء من الطبقات الأولى من الصحابة والتابعين مع شدة تحريهم في قبول السنة عن النبي دال على وقوفهم على ما يرد الحديث بنسخ أو تخصيص أو تأويل وما أشبه ذلك .. فالثقة بهؤلاء الأئمة الأعلام من سلف هذه الأمة في نصرة دين الله والحفاظ على شريعته , وهذا الطريق الذي يسلكه الفقهاء يرون أنه أدق وأحكم من غيره لأن الراوي الثقة يمكن أن يقع منه الخطأ والغفلة لبشريته في حين أن الأصول المحكمة الموجودة في سائر النصوص بعيد عنها هذا .. ثم ذكر أمثلة على ذلك .
أقول : لا شك أن هذا الكلام غير صحيح بإطلاقه لأن القواعد وهذه الأصول ليست على درجة واحدة ؛ فمنها ما يستند إلى اجتهادات الفقهاء وهي عند جمهورهم غير مسلمة فيها ؛ كاعتبار مثلا الزيادة على النص نسخا أو كاعتبار ما عليه العمل ذريعة لرد الأحاديث !.
مع أنه قرر خلاف ذلك في موضع آخر :
فقال : ص 38 : لا تعد القواعد الفقهية دليلا شرعيا يستنبط منه الأحكام لأنها جامعة لفروع متعددة متجانسة .
قال ابن نجيم : لا يجوز الفتوى بما تقتضيه الضوابط لأنها ليست كلية بل أغلبية
وقال أيضا : إن المقرر في المذاهب الأربعة أن قواعد الفقه أكثرية لا كلية .
أقول : الحمد فهذا اعتراف منه على عدم اعتبار القواعد الفقهية أصلا ؛ لأن حكمها أغلبي , , فكيف تجعل أصلا ترد به الأحاديث .
ثانيا : أنه جعل قول إمام المذهب أصلا لتغيير القاعدة إذا خالفت ما ورد عنه !.
قال الدكتور ص 22: ومعنى هذا أنهم استمدوا أصول فقههم من الفروع والمسائل الفقهية المنقولة عن أئمة المذهب الحنفي لذلك كثرت الفروع الفقهية في كتب أصول الحنفية .. فإذا تعارضت القاعدة الأصولية مع الفرع الفقهي عدلت القاعدة بما يتفق مع الفرع الفقهي لأن الفرع الفقهي منقول عن المجتهد المطلق والقاعدة مستفادة من الفرع فيكون الفرع أقوى .
أقول :- تأمل معي- الفرع أقوى! , فمن باب أولى ؛ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فهو أولى وأحرى من حديث كل البشر وأقوى , ثم إن هذا القول منه ليس على إطلاقه, فلا يصح تعديل القاعدة المستندة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
قال إمام الحرمين : فإن قيل فما أصول الفقه؟ قلنا : هي أدلته وأدلة الفقه هي الأدلة السمعية وأقسامها نص الكتاب ونص السنة المتواترة والإجماع ومستند جميعها قول الله تعالى .
البرهان (1/8)
وحتى لا يقال أننا نتجنى عليه ؛ إليكم مثال واحد لجعل القاعدة أصلا ترد به أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم :
قال ص 26: دلالة الخاص على معناه قطعية أم ظنية فعند أبي حنيفة قطعية فلا يحتمل البيان لكونه بينا في نفسه , وعند الشافعي ظنية فيحتمل البيان. مثاله : تعديل الأركان وهو الطمأنينة في الركوع والسجود, فلم يجوز أبو حنيفة إلحاقه بالفرض لأن قوله : { اركعوا واسجدوا } خاص وضع لمعنى معلوم .. فلا يكون إلا نسخا وهو لا يجوز بخبر الواحد ؛ فينبغي أن تراعى منزلة كل من الكتاب والسنة فما ثبت في الكتاب يكون فرضا لأنه قطعي , وما ثبت بالسنة يكون واجبا لأنه ظني .
أقول : تأمل معي هذا المثال في رد الحديث الصحيح الصريح في وجوب الطمأنينة , والأحاديث كثيرة في ذلك ومن أشهرها :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ المَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَصَلَّى، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَدَّ وَقَالَ: «ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ»، فَرَجَعَ يُصَلِّي كَمَا صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» ثَلاَثًا، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، فَقَالَ: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا» .
البخاري ومسلم


هذه القاعدة تسمى عندهم بمسألة : الزيادة على النص نسخ ؛ , والنسخ لا يصح بأحاديث الآحاد !.
أقول : وهذه القاعدة لم يتفق العلماء على قبولها :
فهم - : " يعنون بالنص الكتاب والسنة المتواترة، والزيادة ما ثبت بخبر الآحاد إلا أنهم لم يلتزموا ذلك بل خالفوه في مسائل كثيرة جدا (في أكثر من ثلاثمائة موضع كما قال ابن القيم في إعلام الموقعين)، ومنها على سبيل التمثيل: قولهم بفرضية الوتر، وجواز الوضوء بنبيذ التمر، وكذلك إنهم اشترطوا في الصداق أن يكون أقله عشرة دراهم ".
الشرح الكبير لمختصر المحصول (109)


وقال الشنقيطي : إن الجمهور قالوا هذا النوع من الزيادة لا تعارض بينه وبين النص الأول، والناسخ والمنسوخ يشترط فيهما المنافاة بحيث يكون ثبوت أحدهما يقتضي نفي الآخر ولا يمكن الجمع بينهما فالمزيد في مثل هذا مسكوت عنه، فان قيل هو مدلول عليه بمفهوم المخالفة فالجواب : أن الحنفية المخالفين في هذا لا يقولون بمفهوم المخالفة أصلاً.
مذكرة اصول الفقه (91)
من تعصبه الذي لا يستطيع إخفاءه قوله عن أصول الفقه : ص 21 : فهؤلاء الأئمة لا شك في اعتمادهم في استنباطهم على أصول وقواعد لم تدون في زمنهم ,وقد نسب أول تدوين في أصول الفقه إلى أبي يوسف إذ ألف في أصول أبي حنيفة .
أقول : مع أن المعلوم أن هذه المنقبة للإمام الشافعي رحمه الله .


المسألة الثانية : ترجيحه أصول الفقهاء على أصول المحدثين في قبول الأحاديث وردها
لا شك أن قواعد الحديث التي وضعها علماء الحديث , في ضبط الحديث وقبوله من الأسباب التي حفظ الله بها الدين , فالإسناد وما يتعلق به من علم الرجال وعلم الجرح والتعديل مما اختصت به هذه الأمة , وقد قيض الله لهذه الأمة رجالا وهم علماء الحديث الذين حفظ الله بهم الدين وهم الجهابذة , نقلة الوحي وحفظة الشريعة , وقواعدهم تلقاها العلماء بالقبول وجعلت ميزانا للأحاديث وتناقلها العلماء على مر العصور بالقبول والتسليم , وهذا أمر عليه اتفاق بين العلماء .قال عبدالله بن أحمد : قَالَ أبي قَالَ لنا الشَّافِعِي أَنْتُم أعلم بِالْحَدِيثِ وَالرِّجَال مني فَإِذا كَانَ الحَدِيث صَحِيحا فأعلموني إِن شَاءَ يكون كوفيا أَو بصريا أَو شاميا حَتَّى أذهب إِلَيْهِ إِذا كَانَ صَحِيحا.
العلل ومعرفة الرجال لأحمد رواية ابنه (1/462)
وقال ابن أبي حاتم : فإن قيل كيف السبيل إلى معرفة ما ذكرت من معاني كتاب الله عز وجل ومعالم دينه؟ قيل: بالآثار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه النجباء الألباء الذين شهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، رضي الله تعالى عنهم. فإن قيل: فبماذا تعرف الآثار الصحيحة والسقيمة؟ قيل: بنقد العلماء الجهابذة الذين خصهم الله عزوجل بهذه الفضيلة، ورقهم هذه المعرفة، في كل دهر وزمان حدثنا أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي نا أبي قال أخبرني عبدة بن سليمان المروزي قال: قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: يعيش لها الجهابذة.
فإن قيل فما الدليل على صحة ذلك؟ قيل له اتفاق أهل العلم على الشهادة لهم بذلك.ولم ينزلهم الله عزوجل هذه المنزلة إذ أنطق ألسنة أهل العلم لهم بذلك إلا وقد جعلهم أعلاما لدينه، ومنارا - لاستقامة [طريقه، وألبسهم لباس أعمالهم , فإن قيل: ذكرت اتفاق أهل العلم على الشهادة لهم بذلك وقد علمت بما كان بين علماء أهل الكوفة وأهل الحجاز من التباين .
والاختلاف في المذهب فهل وافق أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن جماعة من ذكرت من أهل العلم في التزكية لهؤلاء الجهابذة النقاد أو وجدنا ذلك عندهم؟ قيل: نعم - قال سفيان الثوري: ما سألت أبا حنيفة عن شئ، ولقد كان يلقاني ويسألني عن أشياء .
فهذا بين واضح إذ كان صورة الثوري عنده هذه الصورة أن يفزع إليه في السؤال عما يشكل عليه ؛ أنه قد رضيه إماما لنفسه ولغيره.
الجرح والتعديل (1/2-4)
قال الدكتور صلاح أبو الحاج :ص24 : للفقهاء مدرسة متكاملة في قبول الأحاديث وردها لا يسيرون فيها على طريقة المحدثين قال الجصاص : لا أعلم أحدا من الفقهاء اعتمد طريقة المحدثين ولا اعتبر أصولهم . ومبنى مدرسة الفقهاء على قاعدتين وهما العمل والمعنى ؛ فالعمل من السلف بالحديث يعتبر تصحيحا له ويسمونه المشهور ... . والمعنى بحيث يوافق الحديث مع الأدلة الأخرى من القرآن والسنة والأثر فلم يقبلوا حديث لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه . لأنه ورد فيما تعم به البلوى وهو آحاد والوضوء يحصل كل يوم فعدم اشتهار الحديث مع كثرة الحاجة إليه يرشد إلى عدم صحة مخرجه .
أقول رحم الله ابن حجر لما قال : من تحدث في غير فنه أتى بالعجائب , ومتى كان الفقهاء مقياسا لقبول الحديث ورده , وهو ليس فنهم , وما قيمة هذا الكلام عند المحققين من العلماء , وهل طريقة الفقهاء في قبول الأحاديث طريقة مرضية ؛ عند العلماء .
وهنا بعض الوقفات مع هذا الكلام :
كثير من المصنفين في علوم الحديث من المتأخرين هم أصوليون وفقهاء أيضا , وكانت طريقتهم في التصنيف على طريقة المحدثين , فهذا الخطيب البغدادي صاحب الكتاب الأصولي كتاب الفقيه والمتفقه والبيهقي صاحب كتاب المدخل إلى السنن , وكذا ابن الصلاح والنووي ().
كيف يتصور أن الأصوليين كان لهم منهجهم الخاص المعتبر في نقد السنة والذي يخالفون فيه المحدثين مع أن كثيرا من أئمة الأصول يذكرون في شروط المجتهد عند ذكرهم لشرط العلم بالسنة أنه يكفي في علمه بالسنة أن يعتمد جهود نقاد السنة بل بعض الأصوليون ينصون على وجوب اعتماد أمثال الإمامين البخاري ومسلم .
ألا يدل ذلك على اعتمادهم التام لمنهج المحدثين النقدي
كيف نتصور أن الأصوليين لهم منهجهم الخاص المعتبر في نقد السنة مع اعتبار أكثر المتكلمين من الأصوليين: أن جمهور ما صححه الشيخان ليس فقط صحيحا بل هو مما يفيد اليقين النظري
تصريح الأصوليين بوجوب رجوع الفقيه المجتهد إلى أحكام نقاد الحديث لتمييز صحيح المرويات من ضعيفها , وهذا ما سار عليه إماما الأصوليين الإمام الشافعي ومناظره الحنفي والذي هو غالبا شيخه الإمام محمد بن الحسن في رجوعهما لحكم المحدثين واحتكامهما إليهم في الأخبار التي يختلفان في الاحتجاج بها كما وقع ذلك في مواطن عديدة يحكيها الإمام الشافعي تدل على اعترافه التام هو ومناظره بالتسليم لمنهج المحدثين النقدي .
كما أن تأليف الإمام الشافعي لكتابه الرسالة للمحدثين حيث كتبه استجابة لناقد المحدثين عبدالرحمن بن مهدي مع ما تضمنته الرسالة من باب كبير في علوم السنة .
تعظيم الأصوليين البالغ لجهود المحدثين في تمييز صحيحها من سقيمها حتى عد كثير منهم ما أخرجه الشيخان البخاري ومسلم خبرا مفيدا لليقين والمعترض من الأصوليين على إفادة تصحيح الشيخين لليقين لا يخالف في صحة أحاديثهما ولو بغلبة الظن ولا يخالف في وجوب العمل بأحاديثهما .
عدم إبراز الأصوليين لجهد تطبيقي في نقد السنة يخالف ما كان عليه المحدثون رغم هذه القرون المتطاولة التي بدأت منذ تأصيل علم الأصول حتى اليوم فليس هناك كتاب في صحيح السنة ألفه الأصوليون على غرار مؤلفات المحدثين في هذا الموضوع المهم غاية الأهمية , دليل على تسليمهم بمنهج المحدثين .
أئمة الأصوليين من الفقهاء والمتكلمين كانوا يذكرون في شروط المفتي أنه يكفي فيه لمعرفة السنة وتمييز صحيحها من ضعيفها أن يقلد أئمة الحديث كالبخاري ومسلم والرضا بتقليد المحدثين يتضمن الرضا الكامل والقناعة التامة بمنهجهم ومن هؤلاء الأئمة : الإمام أبو إسحق الشيرازي وإمام الحرمين أبو المعالي الجويني والإمام أبو المظفر السمعاني والإمام أبو حامد الغزالي والإمام فخر الدين الرازي وأبو شامة المقدسي وصفي الدين الهندي ونجم الدين الطوفي وعلاء الدين البخاري وتاج الدين السبكي .. وغيرهم كثير
وممن نقل الإجماع على ذلك السخاوي حيث قال : وهو يتكلم عن أئمة النقد من المحدثين : هَذَا مَعَ اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى الرُّجُوعِ فِي كُلِّ فَنٍّ إِلَى أَهْلِهِ، وَمَنْ تَعَاطَى تَحْرِيرَ فَنٍّ غَيْرِ فَنِّهِ فَهُوَ مُتَعَنٍّ .
فتح المغيث (1/289)
قال عبدالله بن أحمد : قَالَ أبي قَالَ لنا الشَّافِعِي أَنْتُم أعلم بِالْحَدِيثِ وَالرِّجَال مني فَإِذا كَانَ الحَدِيث صَحِيحا فأعلموني إِن شَاءَ يكون كوفيا أَو بصريا أَو شاميا حَتَّى أذهب إِلَيْهِ إِذا كَانَ صَحِيحا
العلل ومعرفة الرجال لأحمد رواية ابنه (1/462)
قال الخطيب البغدادي معلقا على ذلك : وَإِنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِي إِعْلَام أَحْمد بن حَنْبَل أَن أَصله الَّذِي بنى عَلَيْهِ مذْهبه الْأَثر دون غَيره فِيمَا ثَبت النَّص بِخِلَافِهِ وَأَشَارَ إِلَى أَن أَصْحَاب الحَدِيث أَشد عناية من غَيرهم بتصحيح الْأَحَادِيث وتعليلها وَأكْثر بحثا عَن أَحْوَال الْأمة فِي جرحها وتعديلها .
الاحتجاج بالشافعي (49)
وما أكثر ما أحال الشافعي في كتابه الأم في معرفة الحديث ونقده إلى المحدثين فيقول : هذا لا يثبته أهل الحديث أو يثبته أهل الحديث
وقال السمعاني يرد على أبي زيد الدبوسي الحنفي وقد تكلم على شروط الرواية : والعجب من هذا الرجل أنه جعل هذا الباب باب نقد الأحاديث ومتى سلم له ولأمثاله بنقد الأحاديث , وإنما نقد الحديث لا يعرف الرجال وأحوال الرواة ووقفت على كل واحد منهم حتى لا يشذ عنه شىء من أحواله التى يحتاج إليها ويعرف زمانه وتاريخ حياته ووفاته ومن روى هو عنه ومن صحب من الشيوخ وأدركهم ثم يعرف تقواه وتورعه فى نفسه وضبطه لما يرويه ويقظة رواياته , وهذه صنعة كبيرة وفن عظيم من العلم وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: "لا تنازعوا الأمر أهله" . وهذا الرجل أعنى الدبوسى وإن كان قد أعطى حظا من الغوص في معاني الفقه على طريقة اختارها لنفسه , ولكن لم يكن من رجال صنعة الحديث ونقد الرجال وإنما كان غاية أمره الجدال والظفر بطرق من معاني الفقه لو صحت أصوله التي يبنى عليها مذهبه , ولكن لم يحتمل الأساس الضعيف من البناء عليه لا جرم لم ينفعه ما أعطى من الذكاء والفهم إلا فى مواضع يسيرة أصاب فيها الحق , وأما فى أكثر كلامه وغايته تراه يبنى على قواعد ضعيفة , ويستخرج بفضل فطنته معاني لا توافق الأصول ولم يوافقه عليها أحد من سلف أهل العلم ثم يحمل عجبه برأيه على خوضه فى كل شىء ؛ فتراه دخالا فى كل من هجوما على كل علم , وإن كان لا يحسنه فيهجم ويعتز ولا يشعر أنه يعثر.
وقال : وقد اتفق أهل الحديث أن نقد الأحاديث مقصور على قوم مخصوصين ؛ فما قبلوه فهو المقبول وما ردوه فهو المردود , وهم أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيبانى وأبو زكريا يحيى بن معين البغدادى وأبو الحسن على بن عبد الله المدينى ... ومثل هذه الطبقة يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدى والثورى وابن المبارك .. وجماعة يكثر عددهم وذكرهم علماء الأمة؛ فهؤلاء وأشباههم أهل نقد الأحاديث وصيارفة الرجال , وهم المرجوع إليهم في هذا الفن , وإليهم انتهت رئاسة العلم فى هذا النوع ؛ فرحم الله امرأ عرف قدر نفسه وقدر بضاعته من العلم فيطلب الربح على قدره .
قواطع الأدلة (1/369-370) مستفاد من مقال للدكتور حاتم الشريف : "اختلاف المحدثين والأصوليين في منهج نقد السنة ".
وإنما طولنا في هذه المسألة لأهميتها , وخطورة تقريرها والذي يترتب عليه التشكيك في طريقة المحدثين التي حفظ الله بها السنة , ومحاولة لفصل الحديث عن الفقه , وهما متلازمان .
المسألة الثالثة : قول الشافعي : إذا صح الحديث فهو مذهبي
هذه المقولة عن الإمام الشافعي , تعد نبراسا , للعلماء وطلبة العلم في نبذ التعصب والتحيز لقول أحد دون النبي صلى الله عليه وسلم , وهي تدل على تعظيم هذا الإمام لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولما كانت هذه المقولة غصة في حلوق هؤلاء المتعصبين , وهي دائما تكون في معرض الرد على تعصبهم وتزمتهم لرأي فيه مخالفة لنص صريح من الأحاديث , كان لا بد من وضع العقبات والضوابط , والتشويش على هذه المقولة .
قال صلاح أبو الحاج : ورد عن الشافعي : إذا صح الحديث فهو مذهبي . ويفهمه بعضهم بأنه يجوز لأي أحد جاء بعدهم الاستدراك عليهم ورد قولهم لظاهر حديث وقف عليه حتى صار هذا الكلام مغمزة في كثير من المسائل الواردة عن الأئمة . ثم قال : ويمكن أن يجاب عنها بما يلي
: إن من ذكر هذا القول من الأقدمين ذكره على سبيل الثناء والرفعة لهؤلاء الأئمة لا لانتقاصهم بالطعن.. ثم نقل كلام محمد العربي بن التباني : فهذا صاحب مجلة المنار – يقصد الشيح محمد رشيد رضا رحمه الله - زعم أن المذاهب الأربعة فيها مئات المسائل مخالفة للكتاب والسنة ولم يبرهن على مسألة واحدة .. انتهى
ثم ذكر الدكتور : ضوابط تعقب إمام المذهب :
فقال : هذا الكلام ليس للعوام وإنما لأهل النظر المشتغلين بعلوم الشريعة ممن بلغوا رتبة الاجتهاد ولو في المذهب أو في هذه المسألة .
ثم قال : إن هذه اللفظة بهذه الصيغة وارد عن الشافعي فحسب إذ أن أصل مذهبه هو الحديث الصحيح ..أما غيره فلهم ألفاظ قريبة منه كقول أبي حنيفة : إذا جاء الحديث فعلى الرأس والعين وقول مالك : ما من أحد إلا ومأخوذ من كلامه ومردود عليه إلا صاحب هذه الروضة . وهذا تأكيد منهم على أنهم يلتزمون ويتحرون في استنباط الأحكام الفقهية سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنهما لهما قواعدهما في قبول الحديث الشريف .
أقول مستعينا بالله :
أما قوله: إن هذه اللفظة لم ترد إلا عن الإمام الشافعي فحسب – فهو غير صحيح - بل وردت عن الأئمة الأربعة وتنصيصا منهم الإمام أبو حنيفة .
ولا أدري ما وجه نفيها عن الإمام أبي حنيفة – كما فعل – وكأنه يريد أن يهيئ القارئ لما سيقرره بعد أن الاعتماد ليس على الحديث وإنما على ما استقر عليه المذهب ؛ ولا عبرة بالحديث ما دام الرأي المختار في المذهب تم تداوله جيلا بعد جيل أو في طبقة تلو الطبقة .
ثانيا : الإمام أبو حنيفة كغيره من الأئمة كان حاديه الحديث , وهذا المنقول عنه ونقله غير واحد :
قال العمدة الشهير السيد محمد عابدين الدمشقي في شرح المنظومة المسماة بعقود رسم المفتي: إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى، من شدة احتياطه وورعه وعلمه بأن الاختلاف من آثار الرحمة قال لأصحابه : إن توجه لكم دليل فقولوا به".
وقال بعد أسطر: "فقد صح عن أبي حنيفة أنه قال: "إذا صح الحديث فهو مذهبي". وقد حكى ذلك الإمام ابن عبد البر عن أبي حنيفة وغيره من الأئمة؛ ونقله أيضًا الإمام الشعراني عن الأئمة الأربعة؛ ونقل فيها عن البحر قال إنهم نقلوا عن أصحابنا أنه لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا حتى يعلم من أين قلنا حتى نقل في السراجية أن هذا سبب مخالفة عصام للإمام، وكان يفتي بخلاف قوله كثيرًا لأنه لم يعلم الدليل، وكان يظهر له دليل غيره فيفتي به .
قواعد التحديث (91) للقاسمي
ثالثا : وأما قوله :إن هذا ليس للعوام - , ومن قال إن هذا للعوام , فهذا القيد ليس في مكانه , فلا يتصور للعوام تعقب الأئمة ناهيك عن معرفة الخلاف والأدلة , إلا إذا قصدت أن كل من اشتغل بالعلم من العلماء والمجتهدين وطلبة العلم لا يعدون أن يكونوا كالعوام بالنسبة لإمام المذهب !.
رابعا : المقصود من هذه المقولة الذهبية الواردة عن الشافعي : هو المنهج الذي يسير عليه العلماء وطلبة العلم في الترجيح وهي تعظيم الدليل وتعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم , وأن يجعل الحديث هو الأصل وليس قول الإمام هو الأصل كما يريد أن يقرر الدكتور ولذلك قال آخر الكلام : إلا أنهما لهما قواعدهما في قبول الحديث الشريف .
وهذه كلمة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب , فهو يريد ما قرره من أن منهج مدرستي الأحناف والمالكية ؛ الاعتماد على التواتر الطبقي , أما الشافعي فمنهجه دون ذلك لأن اعتماده على أحاديث الآحاد .
خامسا : إليك- يا طالب العلم المنصف - كلام الشافعي في تطبيقه لهذه القاعدة لتعلم مدى الفرق بين المنهج الذي يعرضه الدكتور وبين منهج العلماء الربانيين :
قال الربيع: قال الشافعي: لم أسمع أحدًا نسبته إلى العلم أو نسبته العامة إلى علم أو نسب نفسه إلى علم يحكي خلافًا في أن فرض الله تعالى اتباع أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتسليم لحكمه فإن الله تعالى لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه، وإنه لا يلزم قول رجل قال إلا بكتاب الله تعالى أو سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن ما سواهما تبع لهما، وإن فرض الله تعالى علينا وعلى من بعدنا وقبلنا قبول الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا فرقة سأصف قولها إن شاء الله تعالى.
وقال الربيع: سألت الشافعي عن رفع الأيدي في الصلاة فقال: يرفع المصلي يديه إذا افتتح الصلاة حذو منكبيه , وإذا أراد أن يركع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك , ولا يفعل ذلك في السجود قلت له: فما الحجة في ذلك؟ قال: أنبأنا ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل قولنا قال الربيع: فقلت : فإنا نقول يرفع في الابتداء ثم لا يعود قال الشافعي: أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر، كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما قال الشافعي -وهو يعني مالكًا- يروي عن النبي أنه كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك ثم خالفتم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابن عمر فقلتم: لا يرفع يديه إلا في ابتداء الصلاة، وقد رويتم أنهما رفعا في الابتداء، وعند الرفع من الركوع أفيجوز لعالم أن يترك فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وابن عمر لرأي نفسه أو فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- لرأي ابن عمر .. فقلت له: إن صاحبنا قال: فما معنى الرفع قال: معناه تعظيم الله، واتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ,ومعنى الرفع في الأدلة معنى الرفع الذي خالفتم فيه النبي عند الركوع، وعد رفع الرأس ثم خالفتم فيه روايتكم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وابن عمر معًا ويروي ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر رجلًا، ويروى عن أصحاب النبي من غير وجه، ومن تركه فقد ترك السنة.
قواعد التحديث (277-278)نقلا عنه
قلت : تأمل كيف تعقب الإمام مالك في مسألة رفع اليدين , وتأمل منهج تعظيم السنة والأخذ بها , وقوله : ومن تركه فقد ترك السنة , وقارن بما يريد أن يقرره الدكتور.


ثم تابع شروط هذه الكلمة للاستدلال بها :
فقال الدكتور : ص 44 : أن يكون هذا الحديث صحيحا عند إمام المذهب بالشروط المفصلة في أصوله ...فلا شك أن إمامه كان له اطلاع واسع على متون السنة إلا أنه لم يعمل ببعضها لعوارض ظهرت له كالنسخ والشذوذ والتأويل وغيره .
أقول : كأنه يقول هذه القاعدة ليست على إطلاقها , فمن لم بقبل الحديث – والكلام عن الأحناف – لم يقبله لأن لهم قواعد وأصول يستندون عليها ؛ فلا يحتج محتج علينا بهذه القاعدة التي ذكرها الإمام الشافعي . فهو يريد بهذا الكلام التمهيد لما سيقرره من القواعد التي سيؤصلها في عدم قبول الحديث كما سيأتي بيانه .


المسألة الرابعة : أسباب ترجيح مدرسة أهل الرأي
مدرسة الرأي تعتبر أول المدارس الفقهية , وكانت في بداية تدوين الأحاديث وجمعها وروايتها , وقبل أن تستقر الأحاديث في الكتب , فبداهة أن تخفى كثير من الأحاديث على الجيل الأول من المذهب .
وهذا الأمر شهد به أعلام وأئمة من الأحناف في الطبقة الأولى :
قال ابن أبي حاتم : وأما محمد بن الحسن ؛ فحدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال سمعت الشافعي يقول: قال لي محمد بن الحسن: أيهما أعلم صاحبنا أم صاحبكم؟ يعني أبا حنيفة ومالك بن أنس - قلت: على الإنصاف؟ قال: نعم. قلت: فأنشدك الله من أعلم بالقرآن - صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: صاحبكم - يعنى مالكا. قلت فمن أعلم بالسُّنة - صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قلت: فأنشدك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمتقدمين - صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: صاحبكم، قال الشافعي: فقلت: لم يبق إلا القياس، والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء ؛ فمن لم يعرف الأصول فعلى أي شئ يقيس؟.
قال عبد الرحمن: فقد قدم محمد بن الحسن ؛ مالك بن أنس على أبي حنيفة , وأقر له بفضل العلم بالكتاب والسُّنة والآثار .
الجرح والتعديل (1/2-4)
ثانيا : إن مما أخذ على مدرسة الأحناف الاعتماد على الرأي والقياس , وكان هذا في مقابل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد عاب عليهم العلماء , وضع قواعد وضوابط غير صحيحة ترتب عليها رد كثير من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي , والقياس الصحيح لا يخالف النص بتاتا .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إبْلِيسُ وَمَا عُبِدَتْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إلَّا بِالْمَقَايِيسِ - يَعْنِي: قِيَاسَ مَنْ يُعَارِضُ النَّصَّ وَمَنْ قَاسَ قِيَاسًا فَاسِدًا - وَكُلُّ قِيَاسٍ عَارَضَ النَّصَّ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا فَاسِدًا , وَأَمَّا الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ فَهُوَ مِنْ الْمِيزَانِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ قَطُّ بَلْ مُوَافِقًا لَهُ .
مجموع الفتاوى (6/300)
تقديمه مدرسة الرأي على بقية المذاهب الفقهية .
قال الدكتور ص 47: قبل الولوج في عرض حقيقة ما كان عليه طور المذاهب الفقهية ينبغي التنبيه على تقسيم خاطئ درج عليه الكاتبون في المدخل إلى الفقه دون تدقيق وتمحيص .. وهو تقسيم دور التابعين ومن بعدهم إلى مدرستين : مدرسة أهل الحديث ومدرسة أهل الرأي؛ فالأولى تعتمد على النصوص الشرعية في معرفة الأحكام والثانية : اعتمادها على الرأي والقياس لقلة الأحاديث بين يديها .
أقول : وهذا الذي قرره العلماء على مدى العصور :مدرسة الرأي ومدرسة الحديث
قال الرازي في مناقب الشافعي : الناس كانوا قبل زمان الشافعي فريقين أصحاب الحديث وأصحاب الرأي , أما أصحاب الحديث فكانوا حافظين لأخبار رسول الله إلا أنهم كانوا عاجزين عن النظر والجدل .. وأما أصحاب الرأي فكانوا أصحاب النظر والجدل إلا أنهم كانوا عاجزين عن معرفة الآثار والسنن ..
مناقب الشافعي للرازي (66)
وقال الخطيب البغدادي : مَنْ جَمَعَ بَيْنَ مَدْحِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَذَمِّ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْكَلَامِ الْخَبِيثِ .
ثم أورد آثارا كثيرة في ذلك :عن حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَبَوَيْهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ يُونُسَ بْنَ سُلَيْمَانَ السَّقَطِيَّ، وَكَانَ، ثِقَةً، قَالَ: «نَظَرْتُ فِي الْأَمْرِ، فَإِذَا هُوَ الْحَدِيثُ وَالرَّأْيُ. فَوَجَدْتُ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرَ الرَّبِّ تَعَالَى وَرُبُوبِيَّتَه ُ وَجَلَالَهُ وَعَظَمَتَهُ، وَذِكْرَ الْعَرْشِ، وَصِفَةَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَذِكْرَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِين َ، وَالْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَالْحَثَّ عَلَى صِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَجِمَاعَ الْخَيْرِ فِيهِ. وَنَظَرْتُ فِي الرَّأْيِ، فَإِذَا فِيهِ الْمَكْرُ وَالْغَدْرُ وَالْحِيَلُ، وَقَطِيعَةُ الْأَرْحَامِ، وَجِمَاعُ الشَّرِّ فِيهِ» .
شرف أصحاب الحديث (75)
وروى الخطيب أيضا : عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ سَمِعْتُ وَكِيعًا يَقُولُ لِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ: لَوْ أَنَّكُمْ تَفَقَّهْتُمُ الْحَدِيثَ وَتَعَلَّمْتُمُ وهُ مَا غَلَبَكُمْ أَصْحَابُ الرَّأْيِ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي شَيْءٍ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِلَّا وَنَحْنُ نَرْوِي فِيهِ بَابًا.
نصيحة أهل الحديث (41)
أقول : ثم قرر بعد ذلك وجعل هذا التقسيم من وطأة الاستعمار فقال : فهذه هي النظرة المعاصرة عند كثيرين حيث أفقدوا الأمة ثقتها بحضارتها وتراثها وفقهها وعلمائها وكتبها , وحدث هذا بعد أن وقعت جل الدول الإسلامية تحت وطأة المستعمرين في مطلع القرن العشرين فكان لا بد من حيلة لهم للسيطرة على المسلمين .. فحملت هذه الحيلة شعارات براقة في ظاهرها كفتح باب الاجتهاد والرجوع إلى الكتاب والسنة والسير على طريق السلف ودراسة الفقه المقارن .. ثم نقل كلام الكوثري في نقده للشيخ محمد رشيد رضا في تقسيمه لهاتين المدرستين : وأن هذا ليس له أصل بالمرة وإنما هو خيال بعض متأخري الشذاذ أخذا من كلمات بعض جهلة النقلة بعد محنة أحمد .
أقول : لا شك أن هذا من التهويل , ومحاولة لتهيئة القارئ لما سيقرره من أصول فاسدة , ومنها اعتبار مدرسة الرأي هي المدرسة الرائدة التي تجمع بين الفقه والحديث ولها أصولها وقواعدها .
وإليك نصوص العلماء في الفرق بين مدرسة الرأي ومدرسة الحديث :
قال أبو العباس القرطبي: «استجاز بعض فقهاء أهل الرأي نسبة الحكم الذي يدل عليه القياس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ولهذا ترى كتبهم مشحونة بأحاديث تشهد متونها بأنها موضوعه لأنها تشبه فتاوى الفقهاء ... ولأنهم لا يقيمون لها سندا صحيحا» . وقد أشار إلى هذا ابن الصلاح بقوله: «وكذا المتفقهة الذين استجازوا نسبة ما دل عليه القياس إلى النبي صلى الله عليه وسلم» .
التنكيل (2/682) نقلا عنه
وقال الرازي في كتابه مناقب الشافعي :ومن العجيب أن أبا حنيفة قبل روايات المجاهيل وقبل المراسيل ثم قال : ولا أقبل الحديث الصحيح إذا كان مخالفا للقياس , ولا أقبل الحديث الصحيح في الواقعة التي تعم بها البلوى, ولا أقبل الحديث الصحيح الذي يكون راوي الفرع قاطعا بصحته وراوي الأصل يكون غير حافظ للرواية ..
مناقب الإمام الشافعي (401)
وأما نقله عن الكوثري , فهذا الرجل معروف بعدائه للسنة وأهلها وتعصبه الشديد لمدرسة الرأي حتى لقب بمجنون أبي حنيفة :
قال الإمام المعلمي في مقدمة كتابه التنكيل : فإني وقفت على كتاب (تأنيب الخطيب) للأستاذ العلامة محمد زاهد الكوثري، الذي تعقب فيه ما ذكره الحافظ المحدث الخطيب البغدادي في ترجمة الإمام أبي حنيفة من (تاريخ بغداد) من الروايات عن الماضين في الغض من أبي حنيفة، فرأيت الأستاذ تعدى ما يوافقه عليه أهل العلم من توقير أبي حنيفة وحسن الذب عنه - إلى ما لا يرضاه عالم متثبت من المغالطات المضادة للأمانة العلمية، ومن التخليط في القواعد، والطعن في أئمة السنة ونقلتها، حتى تناول بعض أفاضل الصحابة والتابعين والأئمة الثلاثة مالكاً والشافعي وأحمد وأضرابهم وكبار أئمة الحديث وثقات نقلته والرد لأحاديث صحيحة ثابتة، والعيب للعقيدة السلفية .
التنكيل (1/9)
ثم قال صلاح أبو الحاج : قال : أهل الحجاز من أهل الرأي ... وهذا المعنيان لكل منهما كانا مستعملين في الحجاز حيث عد من اشتغل بالفقه من أهل الرأي فذكر ابن قتيبة الفقهاء بعنوان أصحاب الرأي وعد فيهم ربيعة بن فروخ عالم المدينة والأوزاعي عالم الشام وسفيان الثوري من فقهاء ومحدثي الكوفة ومالك بن أنس فقيه المدينة ..
أقول : وهذا تلبيس منه , فهؤلاء الذين عدهم هم من أهل الحديث الذين جمعوا بين الفقه والحديث , وأما مدرسة الرأي فهي تختلف عن مدرسة الحجاز , وتقدم ذكر الكلام الذي دار بين الشافعي ومحمد بن الحسن في المقارنة بين أبي حنيفة ومالك بل كان الإمام مالك لا يقبل حديث أهل العراق .
قال الزركشي : وَنقل عَن مَالك أَنه كَانَ لَا يحْتَج بِأَحَادِيث أهل الْعرَاق وَهُوَ القَوْل الْقَدِيم للشَّافِعِيّ فَإِنَّهُ قيل إِذا روى سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله حَدِيثا أيحتج بِهِ ؟ قَالَ :إِن لم يكن لَهُ أصل بالحجاز وَإِلَّا فَلَا
ثمَّ إِن الشَّافِعِي رَجَعَ عَن ذَلِك , وَقَالَ لِأَحْمَد : إِذا صَحَّ الحَدِيث فَأَخْبرنِي بِهِ حَتَّى أذهب إِلَيْهِ شاميا كَانَ أَو بصريا أَو كوفيا وَلم يقل مكيا أَو مدنيا لِأَنَّهُ كَانَ يحْتَج بِهِ قبل هَذَا .
النكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي (1/152)
قال الدكتور صلاح : كثرة الحديث وروايته وعلمائه في العراق ثم نقل ص 50 : عن الكوثري قوله عن الكوفة : : وكانت الرواية والعناية بالحديث في العراق على درجة عالية جدا.
أقول : بل أقوال العلماء على خلاف ذلك :
قال ابن خلدون : وكان الحديث قليلا في أهل العراق فاستكثروا من القياس ومهروا فيه فلذلك قيل أهل الرأي , وكان أهل الحجاز أكثر رواية للحديث من أهل العراق لأن المدينة دار الهجرة ومأوى الصحابة ومن انتقل منهم إلى العراق كان شغلهم بالجهاد أكثر ..
تاريخ ابن خلدون (562)
ثانيا : أهل الكوفة , وإن كان ينسب إليها بعض علماء الحديث , إلا أنها كانت موطئا للشيعة , وهم أصل في الكذب واختلاق الحديث ولذلك كان العلماء يشددون في رواية الحديث عنهم.
قال الخليلي : وَلِأَهْلِ الْكُوفَةِ مِنَ الضُّعَفَاءِ مَا لَا يُمْكِنُ عَدُّهُمْ. قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظُ: تَأَمَّلْتُ مَا وَضَعَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ فِي فَضَائِلِ عَلِيٍّ وَأَهْلِ بَيْتِهِ فَزَادَ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفٍ .. ثم ذكر بسنده عن مُحَمَّدَ بْنَ إِدْرِيسَ , وَرَّاقَ الْحُمَيْدِيِّ يَقُولُ: قَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: وَضَعْنَا سَبْعِينَ حَدِيثًا نُجَرِّبُ بِهَا أَهْلَ الْعِرَاقِ , فَبَعَثْنَا إِلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ , فَأَهَلُّ الْبَصْرَةِ رَدُّوهَا إِلَيْنَا وَلَمْ يَقْبَلُوهَا , وَقَالُوا: هَذِهِ كُلُّهَا مَوْضُوعَةٌ , وَأَهْلُ الْكُوفَةِ رَدُّوهَا إِلَيْنَا , وَقَدْ وَضَعُوا لِكُلِّ حَدِيثٍ أَسَانِيدَ .
الإرشاد للخليلي (1/419)
وكان الإمام مالك يسمي العراق دار الضرب ؛ لكثرة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم :
قَالَ مَنْصُوْرُ بنُ سَلَمَةَ الخُزَاعِيُّ: كُنْتُ عِنْدَ مَالِكٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، أَقَمْتُ عَلَى بَابِكَ سَبْعِيْنَ يَوْماً حَتَّى كَتَبتُ سِتِّيْنَ حَدِيْثاً.
فَقَالَ: سِتُّوْنَ حَدِيْثاً! وَجَعَلَ يَسْتَكْثِرُهَا .فَقَالَ الرَّجُلُ: رُبَّمَا كَتَبْنَا بِالكُوْفَةِ أَوْ بِالعِرَاقِ فِي المَجْلِسِ الوَاحِدِ سِتِّيْنَ حَدِيْثاً.فَقَا َ: وَكَيْفَ بِالعِرَاقِ دَارُ الضَّربِ، يُضْرَبُ بِاللَّيْلِ، وَيُنْفَقُ بِالنَّهَارِ؟
سير أعلام النبلاء (8/114)
ثالثا : إن هذا القول منه دليل على تناقضه ؛ فهو هنا يفخر بأهل الحديث الذين كانوا في الكوفة ليضيف ذلك رصيدا لحساب مدرسة العراق مع أنه جعل مدرسة الرأي لها قواعدها الخاصة في الرواية وقبول الحديث بل , وطلب التفريق بين المدرستين في هذا الشأن , , وعد من الظلم والافتراء ؛ محاكمة مدرسة الرأي بأصول وقواعد أهل الحديث , وكل له قواعده وأصوله ؛ إذن فما وجه الافتخار بأهل الحديث في العراق ما دام الأمر كذلك .
ثم قال الدكتور : ص 50 : اشتهر إطلاق أهل الرأي على الحنفية بعد فتنة خلق القرآن.
أقول : بل التسمية قبل ذلك , وزادت الجفوة بين أهل الرأي وأهل الحديث بعد ذلك لأن من خاض في مسألة خلق القرآن كان مستنده الرأي والعقل في مقابل القرآن والسنة .
ثانيا : لما حمل المأمون الناس على القول بخلق القرآن , كان كثير من المعتزلة ينتسب لمذهب الأحناف كبشر المريسي الذي تفقه على أبي يوسف . وزاد الأمر شناعة لما قام المعتزلة - وكانت متمثلة بكثير من القضاة الأحناف - بإلزام الناس بخلق القرآن وتقديس العقل وتقديمه على النقل , وهو يريد أن أهل الحديث نبزوا الأحناف بذلك ؛ تعصبا وظلما لهم بسبب فتنة خلق القرآن ! .
قال الذهبي : بشر بن غياث المريسى. مبتدع ضال، لا ينبغي أن يروى عنه ولا كرامة. تفقه على أبي يوسف فبرع وأتقن علم الكلام، ثم جرد القول بخلق القرآن، وناظر عليه .
ميزان الاعتدال (1/322)
ثم قال الدكتور : ص 51 : ثم شاع استعمال هذا المصطلح على الحنفية بمعنى البراعة في الفقه ولبناء فقههم على طريق المدرسة في نقل السنة كما شاع اطلاق أهل الحديث على الشافعية لأنهم بنو مذهبهم على طريق المحدثين في نقل السنة .
أقول: أما قوله : وتخصيص الحنفية بهذا الاسم لا يصح إلا بمعنى البراعة البالغة في الاستنباط.. فهو من المضحك المبكي , فكلام السلف واضح في ذم مدرسة الرأي في تقديمها الرأي والقياس على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الشهرستاني : أصحاب الحديث: وهم أهل الحجاز؛ هم: أصحاب مالك بن أنس، وأصحاب محمد بن إدريس الشافعي، ... وإنما سموا: أصحاب الحديث؛ لأن عنايتهم: بتحصيل الأحاديث، ونقل الأخبار، وبناء الأحكام على النصوص؛ ولا يرجعون إلى القياس الجلي والخفي ما وجدوا: خبراً، أو أثراً.
ثم قال الشهرستاني :أصحاب الرأي: وهم أهل العراق هم.. وإنما سموا أصحاب الرأي؛ لأن أكثر عنايتهم: بتحصيل وجه القياس، والمعنى المستنبط من الأحكام، وبناء الحوادث عليها؛ وربما يقدمون القياس الجلي على آحاد الأخبار .
الملل والنحل (2/11-12)
وقال الرازي في مناقب الشافعي : بيان أن تلقيب الإنسان بأنه من أصحاب الرأي ليس من ألقاب الشرف والمدح .
ثم قال : ويدل عليه القرآن والأخبار والآثار والمعقول .
مناقب الشافعي (402) للرازي
وقال محمد بن الحسن بن العربي : خبر الواحد عند أبي حنيفة:.. ثم قال : ويشترط أن لا يخالف القياس, وأن يكون راويه فقيهًا، فإن خالف القياس ولم يكن راويه فقيهًا .. لم يقبل خبر الواحد المعارض للقياس .
الفكر السامي (1/426)
أقول : قوله: - ولبناء فقههم على طريق المدرسة في نقل السنة,- هذه كلمة وراءها ما وراءها من تأصيل خطير في رد السنة وعدم قبولها بالتذرع بما يسمى : النقل المدرسي الذي سيقرره بعد ذلك .


المسألة الخامسة : مدرسة الكوفة ومدرسة المدينة والتفريق بينهما وبين مذهب الشافعية والحنابلة
في هذه المسألة , -وهي أهمها- أراد أن يجعل للكوفة إجماعا معتبرا , كإجماع أهل المدينة أو عمل أهل المدينة المعروف عند المالكية .
فحاول أن يلصق ويقرن بين مدرسة العراق وبين مدرسة المدينة , وأن كليهما اعتمد على النقل الطبقي , واصطلح على تسميته بالنقل المدرسي , بل جعل عمل أهل الكوفة أقوى وأصح من عمل أهل المدينة .
أقول : ووجه الجمع بين مدرستي الكوفة والمدينة ما يلي :
قال الدكتور : ص 62 :والمقصود بعمل أهل المدينة هو طريق النقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من علماء أهل المدينة فهو أثبت وأقوى من طريق النقل بالأسانيد للمحدثين عند مالك فعمل المدينة إذا جرى في المسألة واتفق عليه علماؤها بالنقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول مالك بحجته وتقديمه على القياس بل على الحديث الصحيح بل عمل جمهور المالكية يحتج به ويقدمه على خبر الواحد .
ونقل عن ابن قاسم وابن وهب : رأيت العمل عند مالك أقوى من الحديث ..
أقول : في نظره : ما دام الإمام مالك كان يقدم عمل أهل المدينة على الحديث الصحيح , فكذلك الأمر في مدرسة الرأي , فهم يقدمون القياس أو الرأي على الحديث الصحيح استنادا إلى عمل أهل الكوفة التي كان فيها ابن مسعود وعلي بن أبي طالب وغيرهم من الصحابة , وانتقل علمهم جيلا بعد جيل .
أقول : وقرنه بين مذهب مالك وبين مذهب الأحناف , هذا من تأليفه , فمذهب المالكية يحسب على أهل الحديث وليس على أهل الرأي ,بل كان الإمام مالك شديدا على أهل العراق – أهل الرأي – بل لا يقبل حديثهم كما تقدم .
ما المراد بعمل أهل المدينة وما هو إجماعهم ؟
أقول :قال القاضي عياض : فاعلموا أن إجماع أهل المدينة على ضربين، ضرب من طريق النقل والحكاية الذي تؤثره الكافة عن الكافة وعملت به عملاً لا يخفى ونقله الجمهور عن الجمهور عن زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الضرب منقسم على أربعة أنواع، أولها ما نقل شرعاً من جهة النبي صلى الله عليه وسلم من قول كالصاع والمد، وانه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ منهم بذلك صدقاتهم وفطرتهم، وكالأذان والإقامة وترك الجهر بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة والوقوف (والأحباس) فنقلهم لهذه الأمور من قوله وفعله كنقلهم موضع قبره ومسجده ومنبره ومدينته وغير ذلك مما علم ضرورة من أحواله وسيره وصفة صلاته من عدد ركعاتها وسجداتها وأشباه هذا، أو نقل إقراره عليه السلام لما شاهده منهم ولم ينقل عنه إنكاره كنقل عهده الرقيق وشبه ذلك، أو نقل تركه لأمور وأحكام لم يلزمهم إياها مع شهرتها لديهم وظهورها فيهم كتركه أخذ الزكاة من الخضروات مع علمه عليه السلام بكونها عندهم كثيرة .
ترتيب المدارك (1/48)
وقال الباجي: إنما أراد ذلك بحجية إجماع أهل المدينة فيما كان طريقه النقل المستفيض كالصاع والمد والأذان والإقامة وعدم وجوب الزكاة في الخضروات مما تقتضي العادة بأن يكون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لو تغير عما كان عليه لعلم فأما مسائل الاجتهاد فهم وغيرهم سواء. انتهى.
البحر المحيط (6/441)
أقول : انتبه للقيد الذي ذكره المحققون من علماء المالكية وغيرهم , فالمسألة ليست على إطلاقها كما يريدها الدكتور .
هل أخذ العلماء بهذا الإجماع وهذا العمل ؟
قال الشوكاني في إرشاد الفحول : إجماع أهل المدينة على انفرادهم ليس بحجة عند الجمهور لأنهم بعض الأمة، وقال مالك: إذا أجمعوا لم يعتد بخلاف غيرهم.. وقال الباجي: إنما أراد ذلك بحجية إجماع أهل المدينة فيما كان طريقه النقل المستفيض كالصاع والمد والأذان والإقامة وعدم وجوب الزكاة في الخضروات مما تقتضي العادة بأن يكون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لو تغير عما كان عليه لعلم فأما مسائل الاجتهاد فهم وغيرهم سواء. انتهى.
إرشاد الفحول(2/219)


وهل هذا الإجماع يجري في كل طبقات ؟
وهذه مسألة تفرد بها الدكتور , فزعم أن الإجماع يجري في كل طبقة عند أهل المدينة وأهل الكوفة .
قال شيخ الإسلام : وذلك أن إجماع أهل المدينة على أربع مراتب: - فذكرها ثم قال : وأما المرتبة الرابعة: فهي العمل المتأخر بالمدينة، فهذا هل هو حجة شرعية يجب اتباعه أم لا؟ فالذي عليه أئمة المسلمين أنه ليس بحجة شرعية، هذا مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم، وهو قول المحققين من أصحاب مالك..، ولم أر في كلام مالك ما يوجب جعل هذا حجة وهو في الموطأ إنما يذكر الأصل المجمع عندهم، فهو يحكي مذهبهم، وتارة يقول: الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا يصير إلى الإجماع القديم وتارة لا يذكر، ولو كان مالك يعتقد أن العمل المتأخر حجة يجب على جميع الأمة اتباعها وإن خالفت النصوص لوجب عليه أن يلزم الناس بذلك الإمكان كما يجب عليه أن يلزمهم اتباع الحديث والسنة الثابتة. انتهى.
مجموع الفتاوى (20/309-310)
جمهور الفقهاء ومنهم الأحناف على عدم الأخذ أو الاحتاج بعمل أهل المدينة أو إجماعهم كما سيأتي بيانه , وهذا مع شهرة هذا الإجماع فكيف بما لم يشتهر وهو إجماع أهل الكوفة! .
ثم قال الدكتور: ص 56 : فلو لم يحل بالكوفة إلا مثل الشعبي لكفاها علما وحديثا وفقها فلا يعقل مدينة فيه أعلم أهل الأرض بالحديث ثم يقول المستغربون – عن الكوفة - إن العلم لم يكن منتشرا بها وما هذا الكلام منهم إلا لأن الله طمس على قلوبهم ..
أقول :لعل الدكتور يظن أن الإمام الشعبي كان من درسة الرأي !, فقد كان الشعبي معظما لأهل الحديث شديدا على أهل الرأي .
عَنِ ابْنِ أَبْجَرَ، قَالَ: قَالَ لِي الشَّعْبِيُّ: " مَا حَدَّثُوكَ عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخُذْهُ، وَمَا قَالُوا: بِرَأْيهِمْ فَبُلْ عَلَيْهِ ".
شرف أصحاب الحديث (74) للخطيب البغدادي ذكره في باب : مَنْ جَمَعَ بَيْنَ مَدْحِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَذَمِّ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْكَلَامِ الْخَبِيثِ.
وَكَانَ يَقُولُ إِذَا مَرَّ عَلَيْهِمْ- أهل الرأي والقياس - : مَا يَقُولُ هَؤُلاءِ الصَّعَافِقَةُ؟ أَوْ قَالَ: بَنُو اسْتِهَا. شَكَّ قَبِيصَةُ. مَا قَالُوا لَكَ بِرَأْيِهِمْ فَبُلْ عَلَيْهِ وَمَا حَدَّثُوكَ عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخُذْ بِهِ !.
الطبقات الكبرى (6/236)
ثم قال الدكتور :وهذا الطريق مشهور عند المالكية بإجماع أهل المدينة وهم يقدمونه على حديث الآحاد لأنه عبارة عن نقل طبقة عن طبقة من أئمة الاجتهاد من الصحابة والتابعين لذلك يقول فقيه المدينة وشيخ مالك ربيعة الرأي : ألف عن ألف خير من واحد عن واحد .
أقول : المذهب الحنفي الذي تنتمي إليه لم يقبل بهذا الكلام ولم يعتبر بإجماع أهل المدينة :
أولا : إن الأحناف لم يقبلوا بعمل أهل المدينة أو إجماعهم
قال الجصاص : زَعَمَ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِي نَ: أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يُسَوِّغُ لِأَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ مُخَالَفَتَهُمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَقَالَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ: أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَسَائِرُ النَّاسِ غَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ مَزِيَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي لُزُومِ اتِّبَاعِهِمْ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ جَمِيعَ الْآيِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ لَيْسَ فِيهَا تَخْصِيصُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] خِطَابٌ لِسَائِرِ الْأُمَّةِ لَا يَخْتَصُّ بِهَذَا الِاسْمِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ.
الفصول في الأصول (3/321)
وقال السرخسي : ثمَّ إِن كَانَ مُرَاد الْقَائِل أَهلهَا الَّذين كَانُوا فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهَذَا لَا يُنَازع فِيهِ أحد , وَإِن كَانَ المُرَاد أَهلهَا فِي كل عصر فَهُوَ قَول بَاطِل لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي بقْعَة من الْبِقَاع الْيَوْم فِي دَار الْإِسْلَام قوم هم أقل علما وَأظْهر جهلا وَأبْعد عَن أَسبَاب الْخَيْر من الَّذين هم بِالْمَدِينَةِ فَكيف يستجاز القَوْل بِأَنَّهُ لَا إِجْمَاع فِي أَحْكَام الدّين إِلَّا إِجْمَاعهم .
أصول السرخسي (1/314)
أقول : تأمل قوله : وَإِن كَانَ المُرَاد أَهلهَا فِي كل عصر فَهُوَ قَول بَاطِل , وقارن بما يدعيه الدكتور من النقل الطبقي !.
وقال الجويني – من الشافعية - : نقل أصحاب المقالات عن مالك رضي الله عنه أنه كان يرى اتفاق أهل المدينة يعني علماءها حجة , وهذا مشهور عنه ولا حاجة إلى تكلف رد عليه ؛ فإن صح النقل , فإن البقاع لا تعصم ساكنيها , ولو اطلع مطلع على ما يجري بين لابتي المدينة من المجاري قضى العجب- كأنه يتحدث عن زمنه - , فلا أثر إذا للبلاد ولو فرض احتواء المدينة على جميع علماء الإسلام فلا أثر لها .
البرهان في أصول الفقه (1/278)
ثانيا : عمل أهل المدينة ما كان منه باجتهاد ليس بحجة حتى عند المالكية
قال القاضي عياض : النوع الثاني: إجماعهم على عمل من طريق الاجتهاد والاستدلال، فهذا النوع اختلف فيه أصحابنا ؛ فذهب معظمهم إلى أنه ليس بحجة ولا فيه ترجيح وهذا قول كبراء البغداديين .. قالوا لأنهم بعض الأمة والحجة إنما هي لمجموعها، وهو قول المخالفين أجمع.
ترتيب المدارك (1/50)
ثم قال الدكتور: وعند السادة الحنفية مشهور بالتوارث فهم يحتجون به في كثير من المسائل ويرون أن لديهم نقلا بطريق مدرسة الكوفة أقوى من النقل بطريق مدرسة المدينة وفي ذلك يقول القدوري : وقولهم إن أهل المدينة يفعلون وينقلون لا يصح لأهل الكوفة يفعلون وينقلون ومن انتقل إلى الكوفة من الأئمة أكثر ممن بقي في المدينة .
ثم قال الدكتور: ومن هذا التسلسل التاريخي لمدرسة الكوفة يتبين لك بكل جلاء حفظهم لحديث وفقه النبي صلى الله عليه وسلم بطرق متواترة نقلها جيل بعد جيل ..وأن هذه المدرسة استندت في فقهها إلى العمل المتوارث والحديث المنقول . ويتلخص الكلام في العمل المتوارث بعد التفصيل السابق بأنه ما تتابع العمل به بين فقهاء الكوفة وحفاظها من كل طبقة إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
أقول : وفي هذا الكلام من الخلط والمجازفات ما يلي :
اعتبار مدرسة الكوفة كمدرسة المدينة أو عمل أهل العراق كعمل المدينة ؛ قول شاذ عند العلماء ؟
وهل مذهب الأحناف في الأصل يقبلون عمل أهل المدينة حتى يقاس عليها مدرسة الرأي .
ألا يتصور ذلك في مذهب الشافعية والحنابلة – وقد فرق بينهم الدكتور – وهم يروون الأحاديث بالإسناد إلى الصحابة فالنبي صلى الله عليه وسلم , فروايتهم للحديث من جيل لجيل – وهذا على وجه الإلزام -.
هذه الطبقية المزعومة لم يقبلها المحققون من علماء المالكية -فضلا عن غيرهم من المذاهب- فكيف بالطبقية المزعومة لغيرهم في الكوفة أوغيرها ؟
كم هي المسائل التي قيل فيها أنها متوارثة , أليس هذا بدعا من القول والرأي , أليس هذا تأصيل لرد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم ينزل الله به من سلطان , أليس هذا تقول على العلماء والسادة الأحناف ؟
وعلى فرض ذلك هل يراد بالمتوارث ما عليه أهل الكوفة , أو ما عليه أهل الإسلام قاطبة واعتادوه بلا نكران .
ولو تتبعت المنصف كلمة المتوارث في كتب الأحناف لوجدها لا تختص بأهل الكوفة بل: هي أمور عامة في كل البلدان , كصلاة العيد قبل الزوال , وكالجهر في الأوليين قي صلاة المغرب والعشاء , وكراهة الأذان قاعدا , وإهلال التراب على الميت , وغير ذلك مما لا يختص به بلد أو مكان .


قال الدكتور: ص 64-65 : اعتماد المذهب الحنفي والمالكي على النقل المدرسي والمذهب الشافعي والحنبلي على النقل للحديث .
قال وهو يتحدث عن المذهب الحنفي : يمكننا القول : إنه مذهب مدرسي تكون من لاجتهادات الصحابة والتابعين وتابعيهم وعمل الإمام أبو حنيفة هو النقل عنهم والتقعيد لمسائله والتفريع والتأصيل لها فهو مذهب متوارث جيلا بعد جيل ...
فالمذهب الحنفي والمذهب المالكي مذهبان بنيا على الفقه المتوارث عن الصحابة والتابعين فهما مدرستان أساسهما آثار الصحابة واجتهاداتهم وهذه الحقيقة مشهورة جدا بالنسبة للمذهب المالكي فيما يسمى عندهم إجماع أهل المدينة .. والأمر لا يختلف في المذهب الحنفي من حيث المبدأ إلا أنه يسمى التوارث في كتب السادة الحنفية وليس الإجماع .. ثم قال : ورغم كل هذه الأهمية لهذا الموضوع فإنني لم أقف على دراسة فيه ..
أقول : تأمل معي قوله : ورغم كل هذه الأهمية لهذا الموضوع فإنني لم أقف على دراسة فيه !.
وهم الذين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها على من خالف أئمة المذاهب , وهو هنا يؤصل لقاعدة – لم يسبق إليها - تهدم السنة وتكون حجة لرد حديث رسول الله عليه صلى الله عليه وسلم – النقل الطبقي - , فكما أن الإمام مالك من أصول مذهبه ؛ تقديم عمل المدينة على حديث الآحاد ؛ فهو يجعل ما تداوله الفقهاء الأحناف من مسائل خلال الأجيال المتعاقبة ؛ حكمه كحكم عمل وإجماع أهل المدينة في تقديمه على الحديث !
أقول : وتأمل قرنه لمدرسة المدينة مع مدرسة الكوفة , وكأن هذا الأمر مسلم عند العلماء .
مع أن مدرسة الإمام مالك محسوبة على مدرسة الحديث بل كان الإمام مالك شديدا على أهل الرأي والقياس كما تقدم .


قال الدكتور ص 67 : اعتماد المذهب الشافعي والمذهب الحنبلي على النقل الحديثي أمر ظاهر مشهور قال الشافعي : الأصل قرآن وسنة ..ففي هذا النص لم يجعل الشافعي اعتبارا بعد صحة الحديث لعمل الصحابة أو إجماع المدينة وإنما احتكم لمسلك المحدثين في الوصول إلى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
أقول : وهذا ضرب من التحكم والتلبيس ؛ وهل العلم والدليل إلا النصوص الشرعية .
أين ترتيب الأدلة كتاب وسنة ثم إجماع
وهل هذا الإجماع أو العمل المزعوم له اعتبار عند العلماء , فإذا كان عمل المدينة , لا اعتبار له عند الأحناف بل ولا عند الجمهور من الفقهاء فكيف بالكوفة التي كانت محلة لأهل الرفض , وكثر فيها الكذب والافتراء على الحديث كما تقدم من أقوال العلماء .
أليس هذا باب لرد سنة النبي صلى الله عليه وسلم
وهل الحديث إلا أصل من أصول الاستدلال قبل الإجماع على فرض دعواه .
وهل اتفق أصلا علماء الأمة على قاعدة تقديم عمل أهل المدينة على حديث الآحاد حتى ينظر في إجماع أهل الرأي المزعوم .
هل يتساوى من يستدل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم , وبين من يستند إلى آراء رجال زاعما أن قولهم إجماع ترد به السنة النبوية
أليس هذا تأصيل للتعصب المذهبي
رجوع أرباب المذهب دليل على هدم هذه القاعدة المختلقة
قال القاسمي : ولما اجتمع أبو يوسف بإمام دار الهجرة مالك بن أنس، وسأله عن مسألة الصاع وصدقة الخضراوات، ومسألة الأحباس؛ فأخبره مالك بما دلت عليه السنة في ذلك قال: "رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت".
قواعد التحديث (352)نقلا عنه
وقال الدهلوي : وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام حَيْثُ قَالَ: وَمن الْعجب العجيب أَن الْفُقَهَاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مَأْخَذ إِمَامه بِحَيْثُ لَا يجد لضَعْفه مدفعا، وَهُوَ مَعَ ذَلِك يقلده فِيهِ، وَيتْرك من شهد الْكتاب وَالسّنة والأقيسة الصَّحِيحَة لمذهبهم جمودا على تَقْلِيد إِمَامه، بل يتخيل لدفع ظَاهر الْكتاب وَالسّنة، ويتأولها بالتأويلات الْبَعِيدَة الْبَاطِلَة نضالا عَن مقلده.
ثم قال الدهلوي : لم يزَال النَّاس يسْأَلُون من اتّفق من الْعلمَاء من غير تَقْيِيد لمَذْهَب وَلَا إِنْكَار على أحد من السَّائِلين إِلَى أَن ظَهرت هَذِه الْمذَاهب ومتعصبوها من المقلدين، فَإِن أحدهم يتبع إِمَامه مَعَ بعد مذْهبه عَن الْأَدِلَّة مُقَلدًا لَهُ فِيمَا قَالَ كَأَنَّهُ نَبيا أرسل، وَهَذَا نأي عَن الْحق، وَبعد عَن الصَّوَاب لَا يرضى بِهِ أحد من أولى الْأَلْبَاب.
حجة الله البالغة (1/264)
وقال الشعراني الميزان: "فإن قلت: "فما أصنع بالأحاديث التي صحت بعد موت إمامي، ولم يأخذ بها" فالجواب: "ينبغي لك أن تعمل بها فإن إمامك لو ظفر بها، وصحت عنده لربما كان أمرك بها ؛ فإن الأئمة كلهم أسرى في يد الشربعة، ومن فعل ذلك فقد حاز الخير بكلتا يديه ومن قال: "لا أعمل بالحديث إلا إن أخذ به إمامي" فاته خير كثير؛ كما عليه كثير من المقلدين لأئمة المذاهب , وكان الأولى لهم العمل بكل حديث صح بعد إمامهم تنفيذًا لوصية الأئمة ؛ فإن اعتقادنا فيهم أنهم لو عاشوا، وظفروا بتلك الأحاديث التي صحت بعدهم لأخذوا بها، وعملوا بها وتركوا كل قياس كانوا قاسوه، وكل قول كانوا قالوه .
قواعد التحديث (90)نقلا عنه


ثانيا : نقد العلماء لما ادعوه من الإجماع
قال شيخ الاسلام ابن تيمية : وقد نقل عن طائفة: كعيسى بن أبان وغيره من أهل الكلام والرأي من المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة ومالك: أن الإجماع ينسخ به نصوص الكتاب والسنة، وكنا نتأول كلام هؤلاء على أن مرادهم الإجماع يدل على نص ناسخ، فوجدنا من ذكر عنهم أنهم يجعلون الإجماع نفسه ناسخاً، فإن كانوا أرادوا ذلك فهذا قول يجوِّز تبديل المسلمين دينهم بعد نبيهم كما تقول النصارى من أن المسيح سوغ لعلمائهم. أن يحرموا ما رأوا تحريمه مصلحة، ويحلوا ما رأوا تحليله مصلحة، وليس هذا دين المسلمين، ولو كان الصحابة يسوغون ذلك لأنفسهم ومن اعتقد في الصحابة أنهم كانوا يستحلون ذلك فإنه يستتاب كما يستتاب أمثاله. انتهى.
الفتاوى الكبرى (3/259-260)
وقال أيضا : وذلك لأن الإجماع إذا خالفه نص فلا بد أن يكون مع الإجماع نص معروف به أن ذلك منسوخ، فأما أن يكون النص المحكم قد ضيعته الأمة وحفظت النص المنسوخ فهذا لا يوجد قط وهو نسبة الأمة إلى حفظ ما نهيت عن اتباعه وإضاعة ما أمرت باتباعه وهي معصومة عن ذلك. انتهى.
مجموع الفتاوى (19/201)
وقال الطوفي : وَبِهِ احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ أَظُنُّهُمْ أَصْحَابَ الرَّأْيِ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْكُوفَةِ حُجَّةٌ، وَمَالِكٌ لَا يَقُولُ بِهِ.
شرح مختصر الروضة (3/105)
المسألة السادسة : الاجتهاد والترجيح
تكلم الدكتور : ص :68 عن الاجتهاد وأهميته , وحاجة الأمة إليه ثم قال : ص 69: فالفكرة الشائعة بين الطلبة من توقف الاجتهاد وإغلاق بابه وهل يوجد مجتهد في هذا الزمان ؟ اعتقد أن طرحها وسؤالها خطأ لأن هذه حقيقة كالشمس كيف يكون علم معاش مطبق بدون اجتهاد كيف يفهم ويميز ويعمل بالعلم بدون اجتهاد
أقول : وهل يستقيم هذا الكلام النظري مع من من يوجب التقليد ويرى أن مسائل الفقه المذكورة في كتب الأحناف جيلا بعد جيل والتي تعد بمنزلة المتواتر والإجماع فهل هناك حاجة للاجتهاد بعد ذلك؟ .


قال الدكتور : أولا : استنباط الأحكام من الكتاب والسنة وآثار الصحابة
أقول : كلام نظري جميل , يخالفة التطبيق .
قال : - وهو – نوعان :
الاعتماد على أصول استخرجا المجتهد بنفسه .
الاعتماد على أصول مقررة في المذهب استخرج أسسها أئمته
ثانيا : التخريج على أقوال أئمة المذهب وهما نوعان :
حمل قول المجتهد المطلق على محمل معين
التفريع على مسائل المجتهد وقواعده
ثالثا : الترجيح والتصحيح وذلك نوعان :
الترجيح والتصحيح اعتمادا على الأصول والقواعد
الترجيح بين الأقوال بناء على قواعد رسم المفتي من المصلحة والعرف والتيسير وتغير الزمان والضرورة والحاجة ...
أقول : وهكذا يستمر في ذكر هذه التقسيمات النظرية التي لا واقع لها على تطبيقه والتي في حقيقتها تجعل المجتهد أقرب إلى المقلد بل حديثه عن الاجتهاد لا يتعدى دائرة المذهب بل لا يصح للمجتهد عنده الخروج عنه .
ولذلك قال لما تحدث عن طبقة المجتهدين في المذهب نقل عن
قاضي خان قوله : المفتي في زماننا من أصحابنا إذا استفتي في مسألة وسئل عن واقعة إن كانت المسألة مروية عن أصحابنا في الروايات الظاهرة بلا خلاف بينهم فإنه يميل إليهم ويفتي بقولهم , ولا يخالفهم برأيه وإن كان مجتهدا متقنا لأن الظاهر أن يكون الحق مع أصحابنا ولا يعدوهم واجتهاده لا يبلغ اجتهادهم ولا ينظر إلى قول من خالفهم ولا يقبل حجته ..ثم قال : فهذا النص صريح من أكبر أئمة هذه الحقبة يصف فيه هذه المرحلة التي تم بها الالتزام بالمذهب تماما وعدم قبول الترجيح لغيره من جهة الدليل .
أقول : تأمل قوله الذي نقله : ولا يخالفهم برأيه وإن كان مجتهدا متقنا لأن الظاهر أن يكون الحق مع أصحابنا ولا يعدوهم واجتهاده لا يبلغ اجتهادهم ولا ينظر إلى قول من خالفهم ولا يقبل حجته !
هذا الكلام يعطي تصورا للقارئ أن كل ما سبق لا يعدوا أن يكون تنظيرا , فإذا كان المجتهد مع أدوات الاجتهاد يجب أن يكون مقلدا , فعن أي اجتهاد يتحدث؟ .


ثم تحدث الدكتور في المبحث السابع : مدرسة الفقهاء الحديثية :
قال الدكتور: إن السنة النبوية الشريفة تعد المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي فيجب العمل بالسنة كما يجب العمل بالكتاب والأمة اتفقت على الاحتاج بالسنة بعد كتاب الله ...
واتفقوا على العمل بالسنة والأخذ بها ولم يختلف فيه عند المذاهب الفقهية المعتبرة وإنما النزاع في قضايا متعلقة بفهم السنة ونقلها وتحريرها مثل اعتبار طرق ورود السنة إلينا من متواتر ومشهور وآحاد ..
أقول : لم يتفقوا على الأخذ بالسنة فمذهب الأحناف تقديم القياس على الحديث .
قال الرازي في كتابه مناقب الشافعي :ومن العجيب أن أبا حنيفة قبل روايات المجاهيل وقبل المراسيل ثم قال : ولا أقبل الحديث الصحيح إذا كان مخالفا للقياس , ولا أقبل الحديث الصحيح في الواقعة التي تعم بها البلوى, ولا أقبل الحديث الصحيح الذي يكون راوي الفرع قاطعا بصحته وراوي الأصل يكون غير حافظ للرواية ..
مناقب الإمام الشافعي (401)


قال الدكتور : وفي الحقيقة للفقهاء مدرسة متكاملة لها معالمها وضوابطها الخاصة بها في تحرير طريق الوصول إلى سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وتمييز صحيحها من سقيمها وآحادها من مشهورها ومتواترها تختلف فيه بصورة إجمالية عن مدرسة المحدثين في تمحيص الأحاديث وتنقيتها .
أقول : وما قيمة هذه المدرسة والضوابط عند علماء الأمة
قال أبو شامة المقدسي : وأئمة الحَدِيث هم المعتبرون الْقدْوَة فِي فنهم فَوَجَبَ الرُّجُوع إِلَيْهِم فِي ذَلِك وَعرض آراء الْفُقَهَاء على السّنَن والْآثَار الصَّحِيحَة فَمَا ساعده الْأَثر فَهُوَ الْمُعْتَبر وَإِلَّا فَلَا نبطل الْخَبَر بِالرَّأْيِ وَلَا نضعفه إِن كَانَ على خلاف وُجُوه الضعْف من علل الحَدِيث الْمَعْرُوفَة عِنْد أَهله أَو بِإِجْمَاع الكافة على خِلَافه .. .
مختصر المؤمل في الرد إلى الأمر الأول (55)
قال الدكتور : والمحدثون جل اشتغالهم بالأسانيد ورجالها إجمالا في تحقيق ما وصل إلينا من رسول الله والفقهاء يشتغلون بالمعاني والأصول والقواعد التي دارت عليها السنة في معرفة ما توافق منها وما اختلف عنها .
أقول : الإسناد من الدين , ولولا الإسناد وأهله لضاع الدين وهدمت الشريعة , فلم التقليل من شأن هذا الفن .
قال ابن الصلاح : أصْلُ الإسْنادِ أوَّلاً خَصِيصَةٌ فاضِلةٌ مِنْ خَصَائِصِ هذهِ الأُمَّةِ ، وسُنَّةٌ بالِغَةٌ مِنَ السُّنَنِ المؤَكَّدةِ. رُوِّيْنا مِنْ غيرِ وَجْهٍ عَنْ عبدِ اللهِ بنِ المبارَكِ - رضي الله عنه -، أنَّهُ قالَ: ((الإسْنادِ مِنَ الدِّيْنِ، لَوْلاَ الإسْنادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ ما شَاءَ)).
مقدمة ابن الصلاح (363)
قال الدكتور : والطريق الأخرى التي راعاها الفقهاء هي تلقي الحديث بالقبول والعمل بين الفقهاء من الطبقات الأولى من الصحابة والتابعين مع شدة تحريهم في قبول السنة عن النبي دال على وقوفهم على ما يرد الحديث بنسخ أو تخصيص أو تأويل وما أشبه ذلك .. فالثقة بهؤلاء الأئمة الأعلام من سلف هذه الأمة في نصرة دين الله والحفاظ على شريعته .
أقول : بل الثقة في علم الحديث وما يتعلق به فهم أهل الاختصاص :
نقل قوام السنة أبو القاسم الأصبهاني عن أبي المظفر السمعاني قوله : فَكَمَا يرجع فِي معرفَة مَذَاهِب الْفُقَهَاء الَّذين صَارُوا قدوة فِي هَذِهِ الْأمة إِلَى أهل الْفِقْه، وَيرجع فِي معرفَة اللُّغَة إِلَى أهل اللُّغَة، وَيرجع فِي معرفَة النَّحْو إِلَى أهل النَّحْو، فَكَذَلِك يجب أَن يرجع فِي معرفَة مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وَأَصْحَابه إِلَى أهل النَّقْل وَالرِّوَايَة، لأَنهم عنوا بِهَذَا الشَّأْن، واستغلوا بحفظه والتفحص عَنهُ وَنَقله، ولولاهم لَا ندرس علم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم -، وَلم يقف أحد عَلَى سنته وطريقته.
الحجة في بيان المحجة (2/236-237)
قال الدكتور : وهذا الطريق الذي يسلكه الفقهاء يرون أنه أدق وأحكم من غيره لأن الراوي الثقة يمكن أن يقع منه الخطأ والغفلة لبشريته في حين أن الأصول المحكمة الموجودة في سائر النصوص بعيد عنها هذا .. ثم ذكر أمثلة على ذلك :
أقول : رحم الله امرأ عرف قدر نفسه , ولم يفضحها ؛ تأمل معي قوله :
إن طريقة الفقهاء أدق وأحكم , أتعبت من بعدك بهذا التأصيل !.
قال السمعاني يرد على أبي زيد الدبوسي الحنفي وقد تكلم على شروط الرواية: وأنا أعلم قطعا أنه لم يكن فى هذا العلم حظ أعنى العلم بصحيح الأخبار وسقيمها ومشهور الأخبار وغريبها ومنكراتها وغير منكراتها لأن هذا أمر يدور على معرفة الرواة ولا يمكن أن يقترب من مثل هذا بالذكاء والفطنة فكان الأولى به عفا الله عنه أن يترك الخوض فى هذا الفن , ويحيله على أهله ؛ فإن من خاض فيما ليس من شأنه فأقل ما يصيبه افتضاحه عند أهله , وليست العبرة بقبول الجهلة وأن لكل ساقطة لاقطة , ولكن ضالة ناشد ولكن العبرة فى كل علم بأهله إلا ذهن ولكل عمل رجال فينبغي أن يسلم لهم ذلك.
قواطع الأدلة (1/399)


مسألة : اعتبار عمل الصحابة
قال الدكتور : فيتسع مفهوم السنة عند السادة الحنفية بحيث يشمل أقوال الصحابة وأفعالهم ,وقد كان لهذا أثر ظاهر في مسألة حجية قول الصحابي التي يبنى عليها من المسائل ما لا يعد .. ثم قال : فأقوال الصحابة معتبرة في بناء الأحكام عليها بل اعتبروها الأمر الذي استقر عليه الشرع للمكانة العالية التي تبوؤها ..
قال الدكتور: وسر اعتماد هذا المنهج حتى لا يتعامل مع القرآن والسنة كنصوص جامدة كل يؤولها كيفما يريد ويفهمها على أي طريق شاء ..
أقول : وما وجه الجمود في الكتاب والسنة ؟, وهل كان الصحابة يفتون بغير الكتاب والسنة , وهل كان الإمام أبو حنيفة يقدم قول الصحابي على حديث النبي صلى الله عليه وسلم .
قال الإمام أبو حنيفة : آخذ بكتاب الله، فما لم أجد فبسنة رَسُول الله، فإن لم أجد في كتاب الله ولا سنة رَسُول الله، أخذت بقول أصحابه، آخذ بقول من شئت منهم، وأدع من شئت منهم، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فَأَمَّا إِذَا انتهى الأمر، أَوْ جاء إلى إِبْرَاهِيم، وَالشَّعْبِيّ، وابن سيرين، وَالحَسَن، وعطاء، وَسَعِيد بن المسيب، وعدد رجالا، فقوم اجتهدوا فأجتهد كما اجتهدوا .
تاريخ بغداد (15/502)
فهذه ترتيب الأدلة عند الإمام أبي حنيفة لا كما صوره الدكتور .
أم أنك تشير إلى الإجماع الطبقي المزعوم ؟
مسألة : السنة المشهورة
قال الدكتور : فالسنة عند المحدثين على قسمين متواتر وآحاد والآحاد غريب وعزيز ومشهور ؛ فالمشهور من أفراد الآحاد إذ يرويه عدد محصور .. وأما الفقهاء فلاحظوا جانب العمل والقبول للرواية فانقسمت السنة بحسب ورودها عندهم إلى ثلاثة أقسام : وهي المتواتر والمشهور والآحاد ..وبهذا يتبين أن مدار الشهرة عند الحنفية على العمل والقبول والإجماع من كبار الصحابة والتابعين وهي بمثابة الحكم بثبوت الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فكما أن المحدثين اعتبروا تصحيح الحفاظ وتضعيفهم للحديث بناء على النظر في الأسانيد وغيرها ؛ فإن السادة الأحناف اعتبروا هذا الوجه واعتبروا وجها آخر أقوى منه في رفع الحديث إلى درجة التواتر وقبولهم له .
وهذا الاعتبار للعمل والقبول في تقوية الحديث غير خاص بالحنفية وإنما مشهور عند المالكية بعمل أهل المدينة .
أقول : المشهور عند أهل الحديث ؛ من أقسام حديث الآحاد , وهم المعول عليهم في هذه التقاسيم , أما جعله بمنزلة المتواتر , فهذا لم يوافقهم عليه أحد . قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح عند كلامه على الحديث المشهور: "ومنه المتواتر الذي يذكره أهل الفقه وأصوله، وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص ... ولعل ذلك لكونه لا تشمله صناعتهم هل الحديث وهم أهل الاختصاص ولا يكاد يوجد في رواياتهم .
المقدمة لابن الصلاح (267)
ثم تحدث عن السنة المتواترة
قال الدكتور : إن للحنفية تقسيما مختلفا عن غيرهم في قوة ورود السنة إلينا وثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم يراعي الجانب العملي الذي يهتمون به في فقههم لاهتمامهم بمراعاة مراتب الأدلة في الثبوت والدلالة لإعطاء الحكم قوته ... قال ومن أمعن النظر وأغار الفكر رأى رجحان ما ذهب إليه الأصوليون في هذا التقسيم وهذا ما شهد به محدث العصر محمد أنور شاه الكشميري حيث قال : ما ذكره المحدثون في تعريفات أقسام الحديث من المتواتر وخبر الآحاد والمشهور ليس بجيد والأحسن ما ذكره الحسامي كأنه روح الكلام ومخه فراجعه – الحسامي أحد المتون المشهورة في أصول الحنفية
أقول : ومن الحسامي أمام جهابذة الحديث , ولو ذكره الكشميري , فهو من أهل العصور المتأخرة , وهل يوازى أمام قول من سبقه من أهل الحديث .
ثم قال الدكتور : فهذه هي الورطة الظلماء التي وقع بها كثيرون إذ حاسبوا الفقهاء والأصوليين بمصطلح أهل الحديث فزعزعوا الثقة بالفقه وشككوا في أصله وسعوا في هدم بنائه.
أقول : بل الورطة لمن تحدث في غير فنه , وركب غير مركبه , ومن حاسبهم هم أهل الاختصاص ؛ أعني أهل الحديث, وأئمة المذهب الحنفي كانوا يرجعون لهم في هذا :
روى ابن أبي حاتم عن أحمد بن حفص يقول سمعت أبي يقول سمعت إبراهيم بن طهمان يقول: أتيت المدينة فكتبت بها ثم قدمت الكوفة فأتيت أبا حنيفة في بيته فسلمت عليه فقال لي: عمن كتبت هناك؟ فسميت له، فقال: هل كتبت عن مالك بن أنس شيئا؟ فقلت: نعم، فقال: جئني بما كتبت عنه، فأتيته به، فدعا بقرطاس ودواة فجعلت أملي عليه وهو يكتب.
قال أبو محمد : ما كتب أبو حنيفة عن إبراهيم بن طهمان عن مالك بن أنس ومالك بن أنس حي إلا وقد رضيه ووثقه ولا سيما إذ قصد من بين جميع من كتب عنه بالمدينة مالك بن أنس وسأله أن يملي عليه حديثه فقد جعله إماما لنفسه ولغيره.
الجرح والتعديل (1/4)
وقال ابن أبي حاتم : فإن قيل ذكرت اتفاق أهل العلم على الشهادة لهم بذلك , وقد علمت بما كان بين علماء أهل الكوفة وأهل الحجاز من التباين والاختلاف في المذهب, فهل وافق أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن جماعة من ذكرت من أهل العلم في التزكية لهؤلاء الجهابذة النقاد أو وجدنا ذلك عندهم؟ قيل: نعم - قال سفيان الثوري: ما سألت ابا حنيفة عن شئ، ولقد كان يلقاني ويسألني عن أشياء .
فهذا بين واضح إذ كان صورة الثوري عنده هذه الصورة أن يفزع إليه في السؤال عما يشكل عليه أنه قد رضيه إماما لنفسه ولغيره.
الجرح والتعديل (1/3)
ثم نقل عن الكشميري تقسيم التواتر إلى أربعة أقسام :
اثنان مسلم بها عند كافة العلماء وهما تواتر السند وتواتر المعنى .
قال : وأما الثالث فهو تواتر النقل طبقة عن طبقة بدون ذكر الأسانيد ... وهي طريقة مشهورة جدا عند الفقهاء تسمى عند الحنفية بالنقل المتوارث وعند المالكية بإجماع أهل المدينة .
وأما الرابعة فهي تواتر العمل من الصحابة والتابعين في مسألة ما وهي ظاهرة في فهم سلف الأمة فيما يعتمدون ويعتبرون , وصرح بحقيقتها الكاساني حيث قال : تواتر من حيث ظهور العمل به قرنا فقرنا من غير ظهور المنع والنكير عليهم في العمل به إلا أنهم ما رووه على التواتر لأن ظهور العمل به أغناهم عن روايته .
أقول : وهذا التواتر المزعوم من أشار إليه من العلماء قبل الكشميري ؟ وحتى الكاساني المنقول عنه أقر أن هذا التواتر ليس على سبيل الرواية بل على سبيل الشهرة وعدم الإنكار .
ومعلوم أن الإجماع السكوتي على قول أكثر العلماء ليس بحجة , فما وجه جعله متواترا وإجماعا ؟
وقد تقدم أقوال العلماء في رفض هذا الإجماع والتواتر المزعوم .


مسألة : قبول المرسل
قال الدكتور : وقد جعل الحنفية المرسل في درجة أعلى من المسند على حسب حال راويه وثقته ومكانته ودرجته العلمية قال عيسى بن أبان : المرسل أقوى عندي من المسند . ثم قال : وهذا القبول للمرسل ليس خاصا بالحنفية بل عليه جمهور الفقهاء ... ثم قال : فكل عصر له طريقه في حفظ الدين ونقل العلم فلا يقاس على غيره من العصور , وكل أهل علم وفن لهم أصولهم وضوابطهم في نقله وتحريره فلا يحاكمون بأهل علم آخر .
أقول : المرسل نوع من أنواع الانقطاع , وهو من أقسام الضعيف , وهذه المسألة تحدث عنها العلماء في كتب المصطلح بما يكفي .
قال ابن الصلاح : ثُمَّ اعْلَمْ أنَّ حُكمَ المرسَلِ حُكْمُ الحديثِ الضعيفِ، إلاَّ أنْ يصحَّ مَخْرَجُهُ بمجيئِهِ مِنْ وجهٍ آخَرَ - كما سَبقَ بيانُهُ في نوعِ الحسَنِ .
المقدمة (130)
وقال ابن الصلاح : ما ذكرناه من سقوط الاحتجاج بالمرسل هو المذهب الذي استقر عليه آراء جماهير حفاظ أهل الحديث".
المقدمة (54)
حتى من قال بقبول المرسل من العلماء وضع له شروطا :
قال ابن حجر : تقدم النقل عن ابن عبد البر وغيره أن من قال بالمرسل لا يقول به على الإطلاق، بل شرطه أن يكون المرسل ممن يحترز في الرواية، أما من كان يكثر الرواية عن الضعفاء أو عرف من شأنه أنه يرسل عن الثقات والضعفاء، فلا يقبل مرسله مطلقا , وممن حكاه - أيضا- أبو بكر الرازي من الحنفية.. ثم لا يخفى أن محل قبول المرسل عند من يقبله إنما هو حيث يصح باقي الإسناد، أما إذا أشتمل على علة أخرى فلا يقبل .
النكت على ابن الصلاح (2/569)
الأمر الآخر : إن الأحناف لم يقبلوا أي مرسل بل قيدوه أن يكون أرسله إمام من أئمة النقل:
قال ابن حجر : واقتضى إطلاق المصنف النقل عن المالكية والحنفية أنهم (يقبلونه) مطلقا وليس كذلك، فإن عيسى بن أبان وابن الساعاتي وغيرهما من الحنفية وابن الحاجب ومن تبعه من المالكية لا يقبلون منه إلا ما أرسله إمام من أئمة النقل، بل رده القاضي الباقلاني مطلقا ونازع في قبوله إذا اعتضد - أيضا -.وقال: الصواب رده مطلقا وهو من أئمة المالكية- والله أعلم -.
النكت على ابن الصلاح (2/569)


مسألة : معارضة الآحاد للأقوى
وهذه فرع دخل تحته مسائل :
قال الدكتور: وهو ما وقع فيه الخلل لمعارضته لدليل فوقه بالعرض عليه لأن معارضة الآحاد لما هو أقوى من حيث قوة النقل يندرج تحتها معارضته للقرآن والحديث المتواتر والحديث المشهور ..
أقول : معاذ الله أن يتعارض الكتاب والسنة وكليهما من عند الله , وإنما التعارض في ذهن الفقيه .
ثانيا : تأمل بما يريد من المعارضة بما سبق بما يريد بالمشهور والمتواتر على رأيه , لتعلم ماذا يريد بالأقوى , فالمشهور عنده ليس من حيث الرواية كما هو عند المحدثين بل يريد شهرة النقل المتوارثة .
وكذا المتواتر الطبقي الذي أشار إليه ولم يسبق إليه .
ثم ذكر عدة مسائل :
معارضة الآحاد للقرآن
نقل أثرا عن علي : إنها ستكون بعدي رواة يروون عني الحديث فأعرضوا حديثهم على القرآن ؛ فما وافق القرآن فحدثوا به وما لم يوافق القرآن فلا تأخذوا به .
أقول : وهذا الأثر منكر , وليس فقط مرسل كما ذكر قال الجوزقاني : هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ وَهَمٌ، وَالصَّوَابُ: عَنْ زَيْدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ مُرْسَلًا مُنْقَطِعًا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرْسَلُ عِنْدَنَا لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: سَأَلْتُ أَبِي، عَنْ جُبَارَةُ بْنُ الْمُغَلَّسِ؟ فَقَالَ: ضَعِيفُ الْحَدِيثِ.
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ: جُبَارَةُ بْنُ الْمُغَلَّسِ كَذَّابٌ .
الأباطيل والمناكير (1/475)
قال الدكتور : لأن عمومات الكتاب وظواهرها لما أفادت اليقين قدمت على الظني المستفاد من الآحاد فصارت كالنصوص الخاصة .والخصوصات لا يجوز تخصيصها ومعارضتها بغيرها لأن فيه ترك العمل بالأقوى من الدليل بما هو أضعف منه كما في حديث الآحاد في عدم صحة الصلاة لمن لم يقرأ الفاتحة : لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب وهو مخالف لعموم قوله : فاقرأوا ما تيسر من القرآن فقدم القرآن .
أقول : وهي المسألة التي تسمى بمسألة الزيادة على النص , وقد تقدم الحديث عنها في بداية المقال , وأن جمهور العلماء لم يسلموا بهذه القاعدة .
قال ابن القيم : وَطَائِفَةٌ ثَانِيَةَ عَشَرَ: رَدُّوا الْحَدِيثَ إِذَا خَالَفَ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ بِزَعْمِهِمْ، وَجَعَلُوا هَذَا مِعْيَارًا لِكُلِّ حَدِيثٍ خَالَفَ آرَاءَهُمْ، فَأَخَذُوا عُمُومًا بَعِيدًا مِنَ الْحَدِيثِ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ فَجَعَلُوهُ مُخَالِفًا لِلْحَدِيثِ وَرَدُّوهُ بِهِ، فَرَدُّوا حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِمُخَالَفَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] وَرَدُّوا أَحَادِيثَ الْقُرْعَةِ لِمُخَالَفَةِ ظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] ... ثم قال : وَرَدُّوا الْحَدِيثَ لِكَوْنِهِ يَتَضَمَّنُ زِيَادَةً عَلَى الْقُرْآنِ فَيَكُونُ نَسْخًا لَهُ وَالْقُرْآنُ لَا يُنْسَخُ بِالْحَدِيثِ، وَرَدُّوا بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْفَاسِدَةِ مَا شَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ، كَأَحَادِيثِ فَرْضِ الطُّمَأْنِينَة ِ، وَأَحَادِيثِ فَرْضِ الْفَاتِحَةِ، وَحَدِيثِ تَغْرِيبِ الزَّانِي.
وَقَدْ أَنْكَرَ الْأَئِمَّةُ عَلَى مَنْ رَدَّ أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ، وَقَالُوا: لَا تُرَدُّ السُّنَّةُ بِالْقُرْآنِ فَكَيْفَ بِمَنْ رَدَّهَا بِرَأْيٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ قَاعِدَةٍ هُوَ وَضَعَهَا .
مختصر الصواعق (609-610)
وقال : فَهَذَا الَّذِي وَقَعَ مِنْ وَضْعِ قَاعِدَةٍ بَاطِلَةٍ لَهُ لِرَدِّ الْأَحَادِيثِ بِهَا بِقَوْلِهِمْ فِي كُلِّ حَدِيثٍ زَائِدٍ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ: هَذَا زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، فَيَكُونُ نَسْخًا، وَالْقُرْآنُ لَا يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ، فَهَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ الَّذِي حَذَّرَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، فَمَنْ رَدَّ السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ بِغَيْرِ سُنَّةٍ تَكُونُ مُقَاوِمَةً لَهَا مُتَأَخِّرَةً عَنْهَا نَاسِخَةً لَهَا، فَقَدْ رَدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَدَّ وَحْيَ اللَّهِ.
مختصر الصواعق (612-613)
مسألة : معارضة الآحاد للحديث المتواتر
قلت : وقد تقدم المراد بالتواتر في عرفهم , فقد أدخلوا في التواتر ما اصطلحوا عليه بالتواتر الطبقي , فلزم الانتباه لما يريده بالتواتر .
أقول : وقد ضرب مثالا على ذلك ب ( غسل الرجلين ) رواه أربعة وثلاثون صحابيا , وهي مقدمة في نظره على حديث الآحاد عن المغيرة إن رسول الله توضأ ومسح على الجوربين والنعلين !.
أقول : هذا مثال, لرد السنة الصحيحة الصريحة .
مع أن سنة المسح على الجوربين ورد عن عدة من الصحابة , قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ عَلِيُّ بْنُ أبي طالب وبن مَسْعُودٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَأَبُو أُمَامَةَ وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ وَعَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وبن عباس انتهى وقال الحافظ ابن القيم في تهذيب السنن : قال ابن الْمُنْذِرِ : يُرْوَى الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ عَنْ تِسْعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علي وعمار وأبي مسعود الأنصاري وأنس وبن عُمَرَ وَالْبَرَاءِ وَبِلَالٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ وَأَبُو أُمَامَةَ وَعَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ وَعَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا انْتَهَى
وقال ابن القيم : وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَئِمَّةَ الْإِسْلَامِ جَمِيعَهُمْ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، الْأَخْذِ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَحَّ، وَلَمْ يَأْتِ بَعْدَهُ حَدِيثٌ آخَرُ بِنَسَخِهِ، سَوَاءٌ عَرَفُوا مَنْ عَمِلَ بِهِ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ عَمِلَ النَّاسُ بِخِلَافِهِ أَوْ بِوِفَاقِهِ، فَلَا يَتْرُكُونَ الْحَدِيثَ لِعَمَلِ أَحَدٍ، لَا يَتَوَقَّفُونَ فِي قَبُولِهِ عَلَى عَمَلِ أَحَدٍ، وَلَا يُعَارِضُونَهُ بِالْقُرْآنِ وَلَا بِالْإِجْمَاعِ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْمُعَارَضَةَ مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ.
مختصر الصواعق (614)
مسألة: معارضة الآحاد للحديث المشهور
قلت : وقد تقدم معنى المشهور عند الأحناف وهو اشتهار الحديث والاستعمال له فصار عندهم على ذلك من أقسام المتواتر ..
وضرب مثالا بحديث البينة على المدعي واليمين على من أنكر وهو مقدم على حديث الآحاد : قضى رسول الله باليمين مع الشاهد الواحد .
أولا : قال ابن القيم : وَطَائِفَةٌ أُخْرَى رَدَّتِ الْأَحَادِيثَ بِعَدَمِ مَعْرِفَتِهَا بِمَنْ ذَهَبَ إِلَيْهَا، وَسَمَّوْا عَدَمَ عِلْمِهِمْ إِجْمَاعًا وَرَدُّوا بِهِ كَثِيرًا مِنَ السُّنَنِ، وَبَالَغَ الشَّافِعِيُّ وَبَعْدَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى هَؤُلَاءِ وَوَسَّعَ الشَّافِعِيُّ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ فِي الرِّسَالَتَيْن ِ وَكِتَابِ جُمَّاعِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهَا، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تُجْمِعَ الْأُمَّةُ عَلَى خِلَافِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ مَعْلُومَةٌ نَاسِخَةٌ، فَتُجْمِعُ عَلَى الْقَوْلِ بِالسُّنَّةِ النَّاسِخَةِ، وَأَمَّا أَنْ تَتَّفِقَ عَلَى الْعَمَلِ بِتَرْكِ حَدِيثٍ لَا نَاسِخَ لَهُ، فَهَذَا لَمْ يَقَعْ أَبَدًا، وَلَا يَجُوزُ نِسْبَةُ الْأُمَّةِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَدْحٌ فِيهَا وَنِسْبَةٌ لَهَا إِلَى تَرْكِ الصَّوَابِ وَالْأَخْذِ بِالْخَطَأِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: مَنِ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَقَدْ كَذَبَ، لَعَلَّ النَّاسَ قَدِ اخْتَلَفُوا هَذِهِ دَعْوَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَالْأَصَمِّ، وَلَكِنْ يَقُولُ: لَا أَعْلَمُ النَّاسَ اخْتَلَفُوا .
مختصر الصواعق (611)
ثانيا : حديث القضاء بالشاهد واليمين ليس خبر آحاد فيما ذكره الحنفية من وصف الآحاد ؛ فهو مشهور أو أعلى من المشهور في اصطلاحهم فقد رواه أكثر من عشرين صحابيا – فالمثال غير صحيح- .
انظر: أثر علل الحديث في اختلاف الفقهاء (151)


مسألة : مخالفة الحديث للعمل
ويدخل تحتها مسائل :
مخالفة الراوي لمرويه فالعبرة عند الحنفية بما عمل لا بما روى
قلت : وهذه قاعدة أبطلها العلماء بل الفقهاء
قال الإمام شمس الدين بن القيم : "ترى كثيرًا من الناس إذا جاء الحديث يوافق قول من قلدة , وقد خالفه راويه يقول: "الحجة فيما روى لا في قوله" ؛ فإذا جاء قول الراوي موافقًا لقول من قلده، والحديث يخالفه قال: "لم يكن الراوي يخالف ما رواه إلا قد رأينا ذلك في الباب الواحد وهذا من أقبح التناقض.
"والذي ندين لله به، ولا يسعنا غيره أن الحديث إذا صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يصح عنه حديث آخر بنسخه أن القرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك ما خلفه، ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنًا من كان لا راوية، ولا غيره إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث ولا يحضره، وقت الفتيا أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة أو يتأول فيه تأويلًا مرجوحًا أو يكون في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضا في نفس الأمر أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه، وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه، ولو قدر انتفاء ذلك كله -ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه- لم يكن الراوي معصومًا، ولم توجب مخالفته لما رواه سقوط عدالته حتى تغلب سيئاته حسناته، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك". ا. هـ.
إعلام الموقعين (3/28)
مسألة : مخالفة الصحابة للحديث
قال الدكتور: إن خالف بعض الصحابة العمل بالحديث إذا كان ظاهرا لا يحتمل الخفاء عليهم يورث الطعن فيه لذلك قالوا : عمل صحابي آخر بخلافه يسقطه عن درجة الاعتبار بخلاف عمل الصحابي نفسه بخلاف مرويه فإنه يجعله غير معتبر أصلا
أقول : " قول الصَّحَابِيّ - مهما كَانَتْ مكانته - لا تقاوم الوقوف بوجه النص، لا سيما إذا كَانَ النص لا يحتمل التأويل، وإنما يعدُّ هَذَا من اجتهادات ذَلِكَ الصَّحَابِيّ، والأمة ملزمة بالعمل بالنص، وغير ملزمة بالعمل باجتهادات الصَّحَابَة، قَالَ الشَّافِعِيّ – رَحِمَهُ للهُ -: ((كيف أترك الْحَدِيْث بعمل من لَوْ عاصرته لحاججته , والحديث - إذا صَحَّ سنده واتضحت دلالته - حجة عَلَى الأمة، بِمَا فِيْهَا الصَّحَابِيّ ؛ لذا قَالَ ابن القيم: : والذي ندين الله بِهِ ولا يسعنا غيره - وَهُوَ القصد في هَذَا الباب - أن الْحَدِيْث إذا صَحَّ عن رَسُوْل الله - صلى الله عليه وسلم -، وَلَمْ يصح عَنْهُ حَدِيْث آخر ينسخه: أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كُلّ ما خالفه، ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائناً من كَانَ لا راويه ولا غيره، إذ من الممكن أن ينسى الرَّاوِي الْحَدِيْث، أو لا يحضره وقت الفتيا، أو لا يتفطن لدلالته عَلَى تِلْكَ المسألة، أو يتأول فِيْهِ تأويلاً مرجوحاً، أو يقوم في ظنه ما يعارضه، ولا يَكُوْن معارضاً في نفس الأمر، أو يقلّد غيره في فتواه بخلافه؛ لاعتقاده أنَّهُ أعلم مِنْهُ، وإنه إنما خالفه لما هُوَ أقوى مِنْهُ، وَلَوْ قُدّر انتفاء ذَلِكَ كله، ولا سبيل إِلَى العِلْم بانتفائه ولا ظنه، لَمْ يَكُنْ الرَّاوِي معصوماً، وَلَمْ توجب مخالفته لما رَوَاهُ سقوط عدالته، حَتَّى تغلب سيئاته حسناته، وبخلاف هَذَا الْحَدِيْث الواحد لا يحصل لَهُ ذَلِكَ " .
أثر اختلاف الأسانيد والمتون في اختلاف الفقهاء (167)نقلا منه
أقول : تأمل معي قول الإمام الشافعي :" لَوْ عاصرته لحاججته ", ما أعظم اتباعه !.
مسألة : مخالفة الآحاد للحادثة المشهورة ( ما تعم به البلوى )
قال الدكتور : هو ما تمس الحاجة إليه في عموم الأحوال أو يحتاج إليه الكل حاجة متأكدة مع كثرة تكرره .
أقول : قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِي ُّ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ مُخَرَّجَةٌ فِي كُتُبِ الْأَئِمَّةِ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ كَمَا تَرَى، وَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ وُقُوعَ الِاخْتِلَافِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ قَبِيلِ مَا تَعُمُّ بِهِ
الْبَلْوَى؛ لِأَنَّ أَحْوَالَ الضَّبْطِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْجِهَاتِ وَالْأَوْقَاتِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَاصِدِ، وَدَلِيلُهُ الشَّاهِدُ؛ إِذْ رُبَّ شَخْصٍ يَتَغَافَلُ عَنْ أَمْرٍ هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ حَتَّى لَا يُبَالِيَ بِهِ بَالًا، وَلِعَدَمِ مَا يُعَارِضُهُ، وَيَتَنَبَّهُ لِأَمْرٍ هُوَ مِنْ تَوَابِعِهِ، بَلْ دُونَ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَفْتُرُ عَنْ ذِكْرِهِ لِوُجُودِ مَا يُنَاقِضُهُ، وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ .. ثم ضرب مثالا على ذلك .
الاعتبار في الناسخ والمنسوخ (82)
أقول : تأمل معي قول هذا الإمام : أَحْوَالَ الضَّبْطِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْجِهَاتِ وَالْأَوْقَاتِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَاصِدِ، وَدَلِيلُهُ الشَّاهِدُ . لتعلم مدى دقة علماء الحديث في قواعدهم وأصولهم .
وقال ابن القيم : وَطَائِفَةٌ عَاشِرَةٌ: رَدَّتْهُ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَقَبِلَتْهُ فِيمَا عَدَاهُ، وَحَكَوْهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ كَذِبٌ عَلَيْهِ وَعَلَى أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، فَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمُ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا هَذَا قَوْلُ مُتَأَخِّرِيهِم ْ، وَأَقْدَمُ مَنْ قَالَ بِهِ عِيسَى بْنُ أَبَانٍ وَتَبِعَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَغَيْرُهُ.
مختصر الصواعق (607)


مسألة : مخالفة الحديث للقياس إن لم يكن راويه مجتهدا
أقول : وهذا أمر تفرد به الأحناف ولم يتابعهم عليه أحد بل نقل بعض العلماء إجماع الصحابة على تقديم الخبر على القياس
قال السمعاني : واحتج من قدم خبر الواحد على القياس بإجماع الصحابة فإنهم كانوا يتركون أحكامهم بالقياس إذا سمعوا الخبر الواحد وروى أن أبا بكر رضي الله عنه نقض حكما حكم به برأيه بحديث سمعه من بلال وترك عمر رأيه فى الجنين وفى دية الأصابع بالحديث الذى نقل له , وكذلك ترك رأيه فى ترك توريث المرأة من دية زوجها بالحديث الذى رواه الضحاك بن سفيان , وترك ابن عمر رأيه فى المزارعة بالحديث الذى سمعه من رافع بن خديج, ونقض عمر بن عبد العزيز ما حكم به من رد الغلة على البائع عند الرد بالعيب بالخبر الذى روى له أن الخراج بالضمان , وهذا شىء معروف منهم وعن بعض المشاهير من الصحابة لقد كدنا نقضى برأينا وفيه خبر عن رسول الله .
قواطع الأدلة (1/359)
وقال القاضي عياض : وأما أبو حنيفة فإنه قال بتقديم القياس والاعتبار على السنن والآثار، فترك نصوص الأصول وتمسك بالمعقول وآثر الرأي والقياس والاستحسان، ثم قدم الاستحسان على القياس فأبعد ما شاء.
وحد بعضهم استحسان أنه الميل إلى القول بغير حجة , وهذا هو الهوى المذموم والشهوة والحدث في الدين والبدعة، حتى قال الشافعي من استحسن فقد شرع في الدين , ولهذا ما خالفه صاحباه محمد وأبو يوسف في نحو ثلث مذهبه إذ وجدوا السنن تخالفهم تركها لما ذكرناه عن قصد لتغليبه القياس وتقديمه .
ترتيب المدارك (1/90)




المسألة السابعة : تقليد المذاهب الفقهية :
قال صلاح أبو الحاج : ص 5 : فلا يجوز أن يفتي مفت من غير المذاهب الفقهية المعروفة .
أولا : طالب العلم حاديه الدليل سواء كان في المذاهب الأربعة أو غيرها , ولا يجوز التعصب لأحد دون النبي صلى الله عليه وسلم كائنا من كان .
قال شيخ الإسلام : وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُنَصِّبَ لِلْأُمَّةِ شَخْصًا يَدْعُو إلَى طَرِيقَتِهِ وَيُوَالِي وَيُعَادِي عَلَيْهَا غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُنَصِّبَ لَهُمْ كَلَامًا يُوَالِي عَلَيْهِ وَيُعَادِي غَيْرَ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ .
مجموع الفتاوى (20/164)
وقال رحمه الله : وَإِذا كَانَ الرجل مُتبعا لبَعض الْأَئِمَّة فَرَأى فِي بعض المسائل أَن مَذْهَب غَيره أقوى فَاتبعهُ كَانَ قد أحسن وَلم يقْدَح ذَلِك فِي عَدَالَته بِلَا نزاع بل هَذَا أولى بِالْحَقِّ وَأحب إِلَى الله وَرَسُوله مِمَّن يتعصب لوَاحِد معِين غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كمن يرى أَن قَول هَذَا الْمعِين هُوَ الصَّوَاب الَّذِي يَنْبَغِي اتِّبَاعه دون قَول الإِمَام الَّذِي خَالفه فَمن فعل هَذَا كَانَ جَاهِلا ضَالًّا.. .
مختصر الفتاوى المصرية (42) للبعلي


ثانيا : القول الوسط كما قال الشيخ محمد بن إبراهيم :
" التمذهب بمذهب من المذاهب الأَربعة سائغ، بل هو وبالإِجماع، أَو كالإجماع ولا محذور فيه كالانتساب إِلى أَحد الأَربعة ؛ فإِنهم أَئمة بالإِجماع, والناس في هذا طرفان ووسط: قوم : لا يرون التمذهب بمذهب مطلقًا وهذا غلط. وقوم جمدوا على المذاهب ولا التفتوا إلى بحث . وقوم رأَوا أَن التمذهب سائغ لا محذور فيه، فما رجح الدليل مع أَي أَحد من الأَربعة أَو غيرهم أَخذوا به .
مجموع فتاوى الشيخ ابن إبراهيم (2/17)
أقول : وهذا هو الذي ندين الله به , ويدين به مشايخنا ومن أخذنا عنهم من السلفيين ؛ فهم لا يستغنون عن المذاهب والتفقه من خلالها , من غير تعصب لقول إمام إذا كان الدليل ليس معه .


قال الدكتور : ص 92: أسباب تقليد الأئمة الأربعة : منها :
كثرة الفروع التي وردت عنهم .
قلت : مع أنه ذكر ص40 : كلما اتسعت الدائرة للفروع التي تشملها , زاد الشذوذ ! .
قال الدكتور : الخروج من الفوضى الفقهية
أقول : أكثر الناس فوضى فكرية وتلاعبا بالدين من خرج عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم وإتباع سنته , فتجده يخبط خبط عشواء ؛ وقارن بين منهج أهل الحديث الذي يعتمد على الدليل وبين متأخري الفقهاء لا سيما الأحناف من التفريع والتخريج وضرب الفرضيات التي تخالف المنقول والمعقول , وتخرج على أقوال الإمام و على أقوال , أقوال الإمام حتى أخرجوا الدين عن مقصوده والعلم عن رونقه .
وقارن بما يخرج لنا بين الفينة والفينة من المنتسبين للمذاهب , من فتاوى ساقطة , وآراء فاسدة , ولا يخفى على الجميع شذوذ علي جمعة , وأضرابه , ومن قبله الذي أحل الربا وو.. .


قال الدكتور: فإن ترك التقليد عمت الفوضى والاضطراب في معرفة الأحكام الشرعية بين الناس وشاع الجهل .
أقول : بل كما ابتعد الناس عن الوحي – الكتاب والسنة – وتعلقوا بالقياس الفاسد والقواعد الباطلة والتي اتخذوها ذريعة لرد السنة ؛ كثر الجهل ورفعت بركة العلم , وقارن بما قرره الدكتور صلاح أبو الحاج لتعلم مدى ما يحاك لهدم سنة النبي صلى الله عليه وسلم من حيث علموا أو لم يعلموا .


قال الدكتور : عدم التلاعب بأحكام الدين
وضرب على ذلك : بعض المشتغلين بالعلم ممن لم يرزقوا حظا من الفقه لا سيما ممن يكثر الاشتغال بالحديث النبوي الشريف فإنه يلاحظ نفرة عجيبة بينهم وبين أهل الفقه لتوقفهم على ظواهر النصوص والاحتكام إليها ..
أقول : وهذا من عجائب الزمان , وانقلاب الموازين الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم : سنون خداعة يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويخون فيها الأمين ويؤتمن فيها الخائن وينطق فيها الروبضة , وهو الرجل التافه يتكلم في أمر العامة .
أهل الحديث حملة الوحي , ونقلة الشريعة وحماة الدين يقال عنهم مثل هذا ؛ لا أتعجب من ذلك من كان قدوته الكوثري .
ثانيا : هذه النفرة من أدعياء المذاهب لأهل الحديث , هي لقوة حجتهم وضعف المقابل لهم في أدلته , ولذلك يتبرع ويحمر وجهه ويرتفع صوته لقلة البضاعة ولعظم المهابة التي جعلها الله للوحي وحملته والمستدلين به أو يطرده من المحاضرة كما كان يفعل الدكتور لمن يعارضه لقلة البضاعة في السنة .


قال الدكتور : إنه لا فائدة علمية تعود علينا بترك الالتزام المذهبي والدعوة للاجتهاد لكل أحد .
قال : فماهي الفائدة من هذا العمل فإن جميع ما بين من الأحكام مبين في كتب الفقه بما لامزيد عليه أما المسائل المستجدة في هذا الزمان فقد فصل أحكامها أصحاب هذه المذاهب فلم تبق شاردة ولا واردة إلا وحكمها واضح جلي .
وقال : فإنه لا فائدة من هذه الدعوى للاجتهاد إلا إذا اتهمنا الأئمة بأنهم كانوا خارجين عن الكتاب والسنة في استنباطاتهم متبعين لأهوائهم ..
أقول : فما دام الأمر كذلك فلماذا هذا التأليف من المتعالمين أدعياء العلم , ولماذا هذا التأصيل والتخليط , والتقعيد لمسائل ما أنزل الله بها من سلطان .


قال الدكتور ص104 : الفرق بين التعصب والتمذهب
قال : وعلى التمذهب بمذاهب الأئمة مشت الأمة طوال قرونها دون إنكار منكر معتد به فلا تجد مفسرا ولا محدثا ولا أصوليا ولا فقيها إلا وهو متمذهب بأحدها وآخذ بناصيتها .. ثم ذكر جملة من العلماء .
أقول : ومن قال أن أهل الحديث أو السلفيين ينكرون التمذهب , بل هم يدرسون المذاهب , وينطلقون من خلالها ولكن بدون تعصب أو تزمت ويجعلون الدليل هو الأصل والمنطلق للترجيح , وهذا هو الفرق بين مدرسة الحديث ومدرسة التمذهب , فالمتمذهب كما فعل الدكتور صلاح : لا حرج في منهجه لو رد السنة كاملة لقول ليس إمام المذهب بل لقول شيخه في هذا القرن الخامس عشر ! .


ثم نقلص :106 عن شيخه عبدالكريم المدرس : إن الترجيح بين المذاهب الأربعة فسق!.
أقول : منهج الترجيح , لا يزال عليه أهل العلم قاطبة من كل المذاهب والمدارس على مر العصور , وهذه الكتب شاهدة عليه , وكيف يتصور العلم بدون ترجيح .
ثانيا : أقول لطلبة العلم العقلاء , ماذا يريد هؤلاء من سنة النبي صلى الله عليه وسلم , وماذا يخططون , وأي منهج يريدون ؛ وما معنى الاجتهاد , وفروع الترجيح الذي ينقلونه في كتب الأصول ؛ أهي للتجمل والتنظير .
ثالثا : أليس الحكم على جملة كبيرة لا يحصون من العلماء وطلبة العلم بالفسق هو قنطرة الإقصاء والتكفير ؟


ربطها بالمستعمرين وأعداء الله
قال الدكتور ص 107: وهذه الوسيلة هي التي اتبعتها بريطانيا عند حكمها لمصر فلم تستطع مسك زمام الأمور وإشاعة أفكارها وآرائها في المجتمع المصري إلا بعد أن حرفت مناهج الأزهر ..
قلت : نعم , ولا يزال أعداء الله يكيدون لهذه الأمة , ويرسمون لها المناهج والمخططات والوسائل لطمس هوية أهل السنة , وإبعادها عن منهج النجاة – الكتاب والسنة - , ودعم الفرق التي تحسن التخدير لهذه الأمة كالفرق الصوفية التي ينتسب إليها الدكتور , وما توصيات مؤسسة راند ببعيد , والرسالة وصلت للقارئ اللبيب.


نقل الدكتور ص 108 عن التفتازاني : التعصب عدم قبول الحق عند ظهور الدليل .
قلت :ما أجمل هذا الكلام النظري الذي يتجملون به , والذي لا حقيقة له في الجانب العملي .
قال الدكتور : إن المتعصب هو السفيه المجافي لمذاهب أهل السنة المنتقص منها والطاعن واللامز فيها .. والتعصب : السفاهة والجفاء في صاحب المذهب الآخر .
قلت : كما فعل الكوثري الذي تفتخر بالانتساب إليه :
وإليك يا طالب العلم مثلا واحدا لأكبر المتعصبين المنتسبين إلى المذاهب – والذي يقتدي ويحتفي به الدكتور كثيرا في كتبه - لتعلم من المتعصب الجاني :
إليك بعض الإشارات مما قاله العلماء في الكوثري :
قال عبدالله بن محمد الصديق الغماري : وكنا نعجب بالكوثري لعلمه وسعة اطلاعه وتواضعه كما كنا نكره منه تعصبه الشديد للحنفية تعصبا يفوق الزمخشري لمذهب الاعتزال حتى كان يقول عنه شقيقنا الحافظ أبو الفيض : هو مجنون أبي حنيفة !
يقول : ولما أهداني رسالته إحقاق الحق في الرد على رسالة إمام الحرمين في ترجيح مذهب الشافعي وقرأتها غمز نسب الإمام الشافعي ...
وذكر أن الحافظ ابن حجر كان يتتبع النساء في الطريق يتغزل فيهن ..
وأكبر من هذا رمى أنس بن مالك بالخرف لأنه روى حديثا يخالف مذهب أبي حنيفة .
وأقبح من هذا حاول تصحيح حديث موضوع , لأنه قد يفيد البشارة بأبي حنيفة وهو حديث لو كان العلم بالثريا لتناوله رجال من فارس فإن الحديث في الصحيحين بلفظ الإيمان ..
انظر : إمام الكوثرية
وقال الشيخ محمد العربي التباني – وقد نقل عنه صلاح أبو الحاج عدة مرات - :فوجدت الغاية التي يرمي إليها في رسائله الأربع واحدة هي التعصب للإمام أبي حنيفة وأتباعه ومن لازم ذلك عند حضرته الغض من أئمة الإسلام وعلمائه .. تناول فيه الشافعية وغيرهم .. بل ترقى إلى الطعن في نسب الشافعي وفي مذهبه وفي أعيان أتباعه من محدثين وفقهاء وفي غيرهم , ويرى دعائم ترجمة محمد بن الحسن أقيمت على التصريح بغباوة مالك وتصغير مذهبه ولمز كبار أصحابه .. وإذا نظر المطالع إلى مقدمة نصب الراية يجده أفرغ أقصى جهده وتعصبه في موضوعها الذي هو مناقب فقهاء الكوفة وخاصة النعمان بن ثابت رحمهم الله تعالى فصرحها لم يرفع إلا على دعائم التحقير لمذهب الإمامين مالك والشافعي وأتباعهما إلى أقصى درجة مزرية بل ترقى فيها عن هؤلاء فجاء بالدهيم المعضل تناول سادات التابعين من علماء الحجاز طاوسا ومجاهدا ونافعا وربيعة شيخي مالك وقتادة بن دعامة البصري .. ليرفع بذلك من شأن الإمام أبي حنيفة ..انتهى
ذكره في تنبيه الباحث سري إلى ما في مسائل وتعاليق الكوثري (2-3) بواسطة كتاب إمام الكوثرية (54)
وأحلف بالله غير حانث أن في كتب الكوثري من التعصب والسب والشتم وتكفير المخالف والطعن في أئمة الدين من فقهاء ومحدثين مما تقشعر له الأبدان , وتشيب له الولدان , وأترفع والله عن ذكر أمور مما ذكره من سباب وشتام , وارجع إلى كتاب إمام الكوثرية للشيخ شمس الدين الأفغاني لترى العجب العجاب .
أقول : وصلاح أبو الحاج أحد مريدي الكوثري ! والمدافعين عنه ثم يأتي يرمي أهل الحديث بالتعصب والإقصاء .
والحكم للقارئ اللبيب المنصف .


قال الدكتور : ص112: إن ما يصوره أعداء هذه المذاهب بتقديم قول إمام المذهب على الحديث ليس صحيحا قطعا لأنه لا شك في أفضلية وأولوية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ولكن المسألة مختلفة اختلافا كاملا ذلك بأن إمام المذهب اجتهد في استخراج الحكم الشرعي من نصوص القرآن والسنة النبوية وآثار الصحابة بعد الجمع والتنقيح وعرضها على الأصول ولم يخالف الحديث إلا لدليل أقوى منه من آية أو حديث آخر لحصول نسخ أو تأويل أو تخصيص أو ما شابهه ..
أقول : هذا الكلام يهدم آخره أوله , ومن تأمل ما ذكره الدكتور في هذه المقدمة من القواعد والضوابط , يعلم أن كلامه مجرد دعاوي وتزييف , وأنهم أكبر الداعين لنبذ السنة , والتعصب لأقوال الأئمة ولو كانت المخالفة واضحة كوضوح الشمس .
ثانيا : لماذا في كل مسألة تتعلق بالمذاهب , يذكر فيها الاستعمار وأعداء الله ؛ أليس هذا من التهويل , وحرف الكلام عن حقيقته لمقصد بغيض ؟
قال بعض السلف: إذا أردت أن تعرف أهل الحق فانظر أين تتجه سهام الأعداء , وانظر توصيات مؤسسة راند في دعم الصوفية والقبورية والخرافية وغيرهم لتعلم من يدعم الاستعمار .


المسألة الثامنة : انتقاده للفقه المقارن
قال الدكتور :ص 113: الفرق بين الفقه المقارن وفقه الاختلاف
قال : فقه الاختلاف : هو علم يبحث في أقوال الفقهاء قصدا سواء كان بأدلتها ونقض كلام المخالف أم لا .ثم قال : ونشأته مع نشأة الفقه لأنه جزء من تركيبه ولا يتحقق الفقه بدونه
ثم قال : والفقه المقارن هو علم يبحث في أقوال الفقهاء وأدلتها ومناقشتها والترجيح بينها من غير أرباب المذاهب وبدون اعتماد على أصولهم .. ثم قال : وهذا العلم وليد هذا العصر فحسب ولم يعرف عند من سبق ,, فوجد بسبب الغزو الثقافي بعد دخول المستعمر إلى بلاد المسلمين .
أقول : لماذا هذه الحساسية من الفقه المقارن ! والهجوم عليه بلا هوادة , أليس هذا العلم يفتح مدارك النظر , ويعين الطلبة على الترجيح .
ألم يستعمله علماء المسلمين من شتى المذاهب والمدارس بلا استثناء في القديم والحديث .
أم لأنه يظهر الوجه الضعيف في الاستدلال لبعض المذاهب , وقلة الدليل , ويمنع التعصب المقيت .
أين أنت من كتب المذاهب التي تقارن بين الأقوال كالمجموع للنووي والاستذكار والتمهيد لابن عبدالبر , والمغني لابن قدامة , وشرح معاني الآثار للطحاوي وغيرها الكثير .
وفي الختام : أقول: المقام يقتضي أكثر مما ذكرنا , واقتصرنا فقط في هذا التعقب على مقدمة كتاب زبدة الكلام , وفي شرحه للكتاب وكتبه الأخرى ما يحتمل الأجزاء في بيان تخليطه وتلبيسه , وفي هذا كفاية لطالب العلم الذي يبحث عن الحق , ونسأل الله لنا وله الهداية , والحمد لله على توفيقه وإعانته .




وكتبه / محب الحديث وأهله