قال: (ولهم شبهة أخرى، وهي قصة إبراهيم لما ألقي في النار، اعترض له جبريل في الهواء فقال له: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا.قالوا: فلو كانت الاستغاثة بجبريل شركاً لم يعرضها على إبراهيم). وهذه الشبهة هي أضعف من الشبهة الأولى، ولكن المشرك - والعياذ بالله - يتشبث بخيط العنكبوت؛ لإبقائه على ما هو عليه. قصة إبراهيم هذه ذكرها بعض المفسرين، وأن جبريل -عليه السلام- اعترض له في الهواء لما ألقي في النار، فقال له: (يا إبراهيم ألك حاجة؟)فقال إبراهيم عليه السلام، وهو إمام الحنفاء، قال: (أما إليك فلا).قالوا:(لو كانت الاستغاثة شركاً لم يعرضها على إبراهيم).
وكما ترى أن الاستدلال ليس في محل الدعوى،والدليل ليس في محل الدعوى، فالكلام في الاستغاثة بالأموات، وأما الاستغاثة في أصلها - كما قلنا - دلت الأدلة على جوازها بشروطها وأما الاستغاثة التي نتكلم فيها: الاستغاثة بالغائبين، الاستغاثة بالأموات، ولهذا لو قال قائل لهؤلاء: إذا كنتم تقولون ذلك، فهل يجيز أحد منكم أن يستغيث بإنسان اليوم، مجمع على حياته بين المسلمين، وهو عيسى عليه السلام، رسول من أولي العزم من الرسل، فهل تجيزون الاستغاثة والطلب من عيسى عليه السلام، وهو حي في السماء رفعه الله -جل وعلا- إليه، ولا قائل بين المسلمين البتة أنه تجوز الاستغاثة والطلب من عيسى عليه السلام، وإنما كلامهم في الأولياء المقبورين.
ولهذا نقول:هذه الشبهة في أنه عَرَض جبريل على إبراهيم أن يغيثه، هذه لنا وليست علينا؛ لأن جبريل عليه السلام قوي -بل شديد القوى- فقد أتى النبي -عليه الصلاة والسلام- وقال له: ((يا محمد لو شئت لأطبقت على أهل مكة الأخشبين)) فقال -عليه الصلاة والسلام- وهو الرؤوف الرحيم: ((لا، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله)) عليه الصلاة والسلام، فجبريل -عليه السلام- يخلِّص إبراهيم من النار، هذا أمر سهل ميسور عليه بإقدار الله له ذلك، وجبريل كان حاضراً عَرَض الإغاثة على إبراهيم، فهذه بلا شك في خارج محل الدعوى، لكن كما ذكرت لك المشرك يتشبث بخيط العنكبوت.
قال: (فالجواب: أن هذا من جنس الشبهة الأولى، فإن جبريل -عليه السلام- عرض عليه أن ينفعه بأمرٍ يقدر عليه، فإنه كما قال الله تعالى فيه: {شَدِيدُ الْقُوَى}- {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} - فلو أذن له أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها من الأرض والجبال ويلقيها في المشرق أو المغرب لفعل، ولو أمره أن يضع إبراهيم -عليه السلام- في مكان بعيد عنهم لفعل، ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل).
ولكن إبراهيم -عليه السلام- في هذا أرادها من الله جل وعلا، وهذا يدل على الأصل الذي أصلناه ودلت عليه النصوص، وهو أنه من استغنى عن الخلق فهو أحمد؛ فهو المحمود؛ لأن الأصل أن يُسْتغنى عن الخلق، لكن الناس لا تستقيم أمورهم إلا بحاجة بعضهم إلي بعض، ولهذا ثبت في (صحيح مسلم) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوصى عدداً من أصحابه ألا يسألوا الناس شيئاً، قال: (فكان أحدهم يسقط سوطه وهو على دابته فلا يسأل أحداً أن يرفعه إليه) بل ينزل ويأخذ منه، وذلك الكمال.
والنبي -عليه الصلاة والسلام- كان قلما يحتاج إلى غيره، إذا كان الشيء يمكن أن يعمله لنفسه عمله بنفسه عليه الصلاة والسلام، يعني: في الأصل، وأما غير ذلك فهو جائز لكن ليس هو الأصل. يعني: أن هذا الدليل الذي أوردوه -وإن لم يستقم دليلاً- لكن هذا لنا وليس علينا. قال - من حيث التمثيل -: (وهذا كرجل غني له مال كثير يرى رجلاً محتاجاً فيعرض عليه أن يقرضه أو أن يهبه شيئاً يقضي به حاجته فيأبى ذلك المحتاج أن يأخذ، ويصبر إلى أن يأتيه الله برزق لا منة فيه لأحد، فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون؟!) وهذا الجواب واضح الدلالة، واضح القوة، ولكن المشركون طبع الله على قلوبهم.