تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: أخلاق الكبار

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي أخلاق الكبار

    أخلاق الكبار

    الشيخ: خالد السبت


    إذا تكلمنا عن أخلاق الكبار؛ فإنما نعني بالكبار أصحاب النفوس الكبيرة الذين يُحلّقون عاليا، ويترفعون عن الدنايا وسفساف الأمور، فتعلو هممهم عن الدوران في الوحل والحضيض، فلا يدور الواحد منهم حول نفسه ترضيه كلمة وتغضبه أخرى، ويعجبه المدحويسوؤه الذم، ويقاطع هذا لأنَّه ذمه، ويحب هذا لأنه مدحه، ويعادي هذا لأنه جرحه، يدور مع نفسه حيث دارت، ويسخط من أجلها، يحب لها ويغضب لها؛ فهذا صاحب نفس دنية، رضي بأن يكون مع نفسه في الهاوية، وحرم نفسه جنة قبل جنة الأرض وهيانشراح الصدر والأنس والسعادة التي تحصل بالترفع والعلو عن الدنايا وسفساف الأمور، هؤلاء هم الكبار الذين سنتحدث عنهم.
    ولا أعني بالكبار من تقدم بهم العمر، ولا أعني بهم من تذوقوا المناصب العالية ووصلوا إلى المراتب الرفيعة، وإنما أتحدث عن أصحاب نفوس كبرى وصدور واسعة، لا يلتفتون لأنفسهم ولا يقفون عندها، وإنما تعنيهم المصالح الكبرى للإسلام؛ فهؤلاء حري بنا أن نتحدث عن أخلاقهم وأوصافهم وأن نشيع هذا الحديث.

    موضوع مهم
    فهذا الموضوع أطرحه لشدة الحاجة إليه؛ فنحن بحاجة إلى مذاكرته؛ لأننا كثيرًا نغفل عن هذه المعاني؛ فكم من خطبة قد فسخت، وكم من أسرة قد شُتتت، وكم من محبة تحولت إلى عداوة، وكم من شراكة في عمل دنيوي أو عمل دعوي قد تشتتت وتشرذمت، وكم من علاقات قطعت أوصالها!؛ بسبب تدني النفوس وبسبب الوقوف عند حظ النفس يرضى الإنسان لأجلها ويغضب لأجلها؛ فيكون منتصرًا لنفسه على أي حال كان، ولا يقبل أن يصدر منه تجاهه خلل ولا تقصير ولا نقص، وإن حصل شيء من ذلك فلا عفو ولا مسامحة ولا تذكر لصنائع المعروف القديمة والروابط التي جمعت بين هؤلاء المتحابين، ينسى كل هذا وينقلب رأسا على عقب مبغضا لهذا الإنسان الذي تصور أنه تنقصه وأنه قصر في حق من حقوقه.

    لماذا هذا التدني؟
    لماذا يجعل الإنسان نفسه بهذه المثابة؟ أقول هو الركون إلى أصل خلقته ومادته الأولى التي خلق منها وهي الطين؛ فالإنسان خلق من عنصرين: قبضة من الطين ونفخة من الروح، فإذا ركن الإنسان إلى أصل مادته وهي الطين فإنها تجذبه وتشده إلى أسفل فتتدنى أخلاقة وتسوء ويصدر منه ما لا يليق وما يخجل العاقل منه إذا تبصرة وتذكرة، وإذا كسر الإنسان هذه الآثار وهذه القيود والأغلال حلق عاليا وارتفع وتسامي بأخلاقه فتجاوز نفسة وجعلها خلف ظهرة فلم يعد ذلك الإنسان الذي ترضيه الكلمة وتسقطه الكلمة فتجاوز هذه المرحلة ثم بعد ذلك يتعامل مع الآخرين بصدر واسع ونفس كبيرة، يتحمل منهم الصدمات والكدمات والأخطاء والعيوب، ويتحمل منهم كل ما صدر تجاهه من تقصير في حقه الخاص، ولا يصلح لمن أراد أن يحصل المراتب العالية إلا هذه الأخلاق.
    من نخاطب؟
    هذا الموضوع يخاطب به العلماء وطلاب العلم والدعاة إلى الله -عز وجل- وأصحاب الولايات من الأمراء والملوك والرؤساء وكل من له ولاية صغرت أم كبرت، وتخاطب به الأمهات، ويخاطب به المربون والمعلمون وعامة الناس، يخاطب به كل طالب؛ فلا أحد يرضى بحال من الأحوال أن يوصف بدنائة النفس وأنه صغير منحط الهمة، يعيش في نفس صغيرة.
    العبرة بالعمل والتطبيق
    وكان بعض العلماء مثل الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمة الله- يقول: «لو دعوت الناس إلى الأخلاق الحسنة وترك القبائح كالزنا والسرقة لوافقني على ذلك الجميع؛ فهو حديث يوافق عليه الموافق والمخالف»؛ فالناس كلهم يستحسنون ذلك ويعشقون سماعه، ولكن التطبيق شيء آخر؛ فهو المحك الذي تظهر فيه معادن الناس، وتندل فيه النفوس، وتظهر حقائقها، فليست العبرة بأن يستحسن الإنسان سماع خلق حسن إنما العبرة بالعمل والتطبيق، فليست الأحلام في حال الرضا وإنما الأحلام في حال الغضب، وليست الأخلاق الفاضلة أن توزع ابتسامات في الرضا مع أصحابك وجلسائك، وإنما الأخلاق الحقيقية أن تسمو بك في الظروف والأحوال جميعها، وتترفع عن الدنايا وسفاسف الأمور، هذه هي الأخلاق التي ينبغي أن يكون الإنسان عليها، الله -عز وجل- قد وصف نفسة وسمى نفسه بالعَفوِّ والعَفْو صفة من صفاته وهي صفة عظيمة كريمة تعني: التجاوز عن الذنب والذلة وعدم المؤاخذة بالجريرة، وترك المعالجة بالعقوبة؛ فهو عَفوٌّ كريم حليم يحب العفو؛ فنسأله -تبارك وتعالى- أن يتغمدنا جميعًا بعفوه وكرمه ولطفه وحلمه.
    سؤال مهم
    ينبغي لكل واحد منا أن يسأل نفسه بعدما عرف توصيف هذه الخلة هل هو من أصحاب النفوس الكبيرة؟ هل هو متحل بهذا الوصف الذي اجتمعنا من أجل الحديث عنه؟ أم أنه قد قصر في هذا الباب تقصيرا بيناً فأدى ذلك إلى أمور سيئة مستهجنة من عداوات وأحقاد وتربص في تصفية الحسابات مع هذا أو ذاك.
    اختلاط الأمور
    كثيرًا ما يختلط علينا الأمر بين الانتصار للدين وبين الانتصار للنفس، وأحيانا يخرج الإنسان غاضبا يريد الانتصار والانتقام، ويريد الإيقاع بين خصومه ومخالفيه، ويخرج بوجه متغير، وهو بذلك قد تلبس وتدثر بدثار يدعي فيه أنه ينتصر للدين والعقيدة والإيمان، ويفعل ذلك غيرة على شرائع الإسلام؛ فيلتبس الأمر عليه بين الانتصار لنفسة وبين الانتصار لدين الله -تبارك وتعالى-، كما يلتبس كثيرا علينا أمر العزة وأن المؤمن عزيز؛ فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وكثيرا ما تلتبس هذه العزة -عزة النفس- مع الانتقام والرغبة في الاقتصاص ممن جنى علينا بعض الجنايات فلربما صدر منا ما لا يليق تحت مظلة العزة -عزة المؤمن- وأنه لا يرضى بالظلم، وأنه ليس من الهوان في شيء فينتصر لنفسة ولربما بالغ في الانتصار تحت مسمي عزة المؤمن، قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}، وما علم أن الآيات القرآنية جميعها تذكر فضل العفو والصفح والمسامحة قال الله -عز وجل-: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، ولكن من يطيق ذلك؟ قال -عز من قائل-: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.
    نزغ الشيطان
    يأتيه الشيطان يحركه أن ينتصر لنفسه زاعما أن ترك هذا الانتصار من العجز، وأن الناس يعيرونه بالضعف ويلمزونه بالنقص قال -تعالى-: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}؛ فهذه الآيات خاطبنا الله -عز وجل- بها من أجل تقويم هذا السلوك وتصحيح المفاهيم وما الواجب المتعين على الإنسان؟ وما الفضل؟ وكيف يرتقي الإنسان بنفسه؟ وكيف يغلق على الشيطان مسالكه؟ فلا يفسد عليه ما يرنو إليه من إصلاح القلب.
    قصور كبير
    سأذكر لكم نماذج كثيرة تدلل دلالة أكيدة على أن ثمة قصورًا كبيرًا وخللا واضحا على المستويات جميعها عند الدعاة إلى الله وعامة الناس وعند الزوجات وعند الجيران والمربين والمصلين وفئات المجتمع إلا ما رحم الله -عز وجل-، أمثلة تبين لك حالنا مع حال الذين ربوا أنفسهم وتجاوزوا حظوظ النفس، ولم أقف في هذا الحديث على خصائص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب؛ فهي خصائص كبرى وأخلاقه ملخصة لنا بعبارة مختصرة «كان خلقة القرآن» كما قالت عائشة -رضي الله عنها- فماذا ظنك في عظيم كان خلقه القرآن إلا اتساع الصدر والترفع على الأخلاق الدنية؟!
    أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم
    فلو تحدثنا عن أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لما وسعنا هذا المقال، ثم إن تخصيص الحديث عن أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب خصوصا لربما يكون مدخلا لقائل يقول هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نزع الله منه حظ الشيطان وهو صغير صبي مسترضع في بني سعد، أخرج منه علقة حين شُق صدره - صلى الله عليه وسلم-، ثم شُق صدره - صلى الله عليه وسلم- ثانيةً في قصة الإسراء والمعراج وغسل قلبه - صلى الله عليه وسلم - ولغاديده بماء زمزم في طستٍ من ذهب فطُهر تطهيرا، فمن كان بهذه المثابة فلاشك أنه أعظمُ الناس خُلُقا وأكثرهم حلما وأطيبهم نفساً، وقد يحتج محتج فيقول هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد طهره الله هذا التطهير فأنى لنا بذلك؟!
    حال سلفنا الصالح -رضي الله عنهم
    ولهذا سنذكر نماذج أخرى من حال سلفنا الصالح -رضي الله عنهم- في أبواب شتى لئلا يكون لمعترض اعتراض أو حجة، والمقصود هو أن نعالج النفوس أيها الإخوان، ونقطع دابر الشيطان؛ فأقول أيها الإخوان، ذكرت نماذج قليلة من حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمور معينة قصدا من أجل أن هذه الأمور لو كانت مع غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لربما ردها بعض من مازالت نفوسهم تعاني رواسب الجاهلية، ولربما لو نُسبت الى غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لربما تجرأ بعضُ هؤلاء على لمز من وقع ذلك منه كما سترون في أمثلةٍ أريدها في هذه المحاضرة.
    اختبر نفسك
    اختبر نفسك حين تختلف مع قوم في مسائل علمية من قضايا الاعتقاد من أهل الأهواء والبدع والضلالات؛ فهؤلاء كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة أن من كان الإيمان منخرماً في قلبه فلا محل لموالاته، قال -تعالى-: {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}؛ فالكافر لا محل لموالاته، وأما من جمع بين عملٍ صالح وسيئ في باب الشبهات من البدع والضلالات أو في باب الشهوات كالمعاصي فإن هؤلاء يتجزأ الولاء والبراء معهم.
    عقيدة أهل السنة والجماعة
    فعقيدة أهل السنة والجماعة محكمة في هذا الباب وهي: أن نحب الإنسان على قدر ما فيه من إيمان واتباع السنة، ونبغضه على قدر ما فيه من الانحراف والضلال والبعد عن طاعة الله -عز وجل-، وقد يختلط علينا الأمر حين نقف وجها لوجه مع من ابتُلوا بشيء من التقصير في حق الله -عز وجل- بسبب شبهة أو شهوة، فيظن الظان أنه أحيانا يتصرف التصرف الشرعي انتصارا للدين، والواقع أنه ينتصر لنفسه، ربما قال بعض هؤلاء في حق فلان من الناس قولةً لا تليق، لربما أساؤوا اليه ووقعوا في عرضه فبلغه ذلك فشمر عن ساعد الجد ينتصر لنفسه، ويجلب عليهم بخيله ورجله وهو يزعم أنه ينتصر للدين ويدافع عن التوحيد والعقيدة والإيمان وقد يكون الأمر خلاف ذلك؛ فهو يدافع عن حظه وشهوته ونفسه.
    فتنة القول بخلق القرآن
    هذا الإمام أحمد -رحمه الله- لما وقعت فتنة القول بخلق القرآن، حبس وجرجر وضرب واضطهد، وكان يضرب في وسط نهار رمضان في الحر وهو صائم حتى يفقد وعيه، ثم بعد ذلك يُنقل إلى موضعه في السجن وآثار الدماء قد لطخت ثيابه، وهو الإمام أحمد -إمام أهل السنة والجماعة -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- إمام زمانه، ومع ذلك لم ينتصر لنفسه ولم يغضب لنفسه، وإنما كان يغضب لله -جل جلاله-، وكان يقول بعد ذلك: كل من ذكرني في حل وقد جعلت أبا إسحاق (يعني المعتصم) وهو الذي ضربه وجلده، في حل ورأيت الله يقول: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكرٍ بالعفو في قصة مسطح في قصة الإفك ثم قال وما ينفعك أن يعذب الله أخاك المسلم في سبيلك.
    ملفات الأحقاد
    الإمام أحمد بعدما أوذي هذا الأذى لم يفتح ملفات من الأحقاد، ولا سجلات من العداوة! فلان هو المتسبب، وفلان هو الذي سعى في الموضوع، وفلان خذلني، وفلان قصّر في حقي، وفلان لم يسعَ في خلاصي من أسر هؤلاء، وفلان ما زارني بعد السجن، وفلانٌ صدرت منه بعض الكلمات التي لربما يُفهم منها أنه كان مباركا لهذا العمل راضيا به، لم يفتح شيئا من هذا إطلاقا، ولم ينقل لنا التاريخ عن الإمام أحمد -رحمه الله- على طول ترجمته كلمة واحده تدل على أنه قد وقف عند نفسه.
    شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله
    وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أوذي ورمي بالعظائم، وكفّره علماء، وأفتوا السلطان بقتله، وضرب بعضهم على صدره وقال دمه في عنقي دمه حلال، وبقي -رحمه الله- يتنقل من سجن إلى سجن في دمشق وفي القاهرة، وبقي مددًا متطاولة في السجن، فلا يلبث أن يُخرج منه حتى يُعاد إليه مرةً اخرى، قام عليه أهل عصره من شيوخ أهل البدع والضلال والأهواء ومن الحسدة الذين امتلأت قلوبهم غيظا وحنقا على هذا الإمام الذي ملأ الدنيا علما ودعوة، وكسر أهل الضلال والبدع بصوارم السنة، ومازالت كتبه شاهدة بذلك، كان من ألد أعداء شيخ الإسلام الذين يفتون بقتله وبحل دمه وبكفره رجلٌ من فقهاء المالكية يقال له ابن مخلوف، مات ابن مخلوف في حياة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فعلم بذلك تلميذه ابن القيم فجاء يهرول إلى شيخ الإسلام يبشره بموت أكبر أعدائه وألدهم فقال له: أبشر قد مات ابن مخلوف، فماذا صنع شيخ الاسلام بن تيمية -رحمه الله-؟ هل سجد سجدة الشكر وقال الحمد لله الذي خلص المسلمين من شره؟ لم يقل ذلك، وما قال كما يقول بعضنا: حصاةٌ ألقيت عن طريق المسلمين، مستريحٌ ومستراحٌ منه، لم يقل شيئا من ذلك، بل قال ابن القيم فنهرني وتنكر لي واسترجع، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمرٌ تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه فسُرُّوا به، ودعوا له، فمن منّا يصنع ذلك؟ من منا يذهب إلى خصمه إذا مات يذهب إلى أهله وذويه ويعزيهم ويقول لا تكون لكم حاجه إلا كنت لكم مكانه ويواسيهم؟ من منا يصنع ذلك..؟ أصحاب النفوس الكبيرة يصنعون ذلك.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: أخلاق الكبار

    أخلاق الكبار (2)


    الشيخ: خالد السبت



    ما زال الحديث موصولاً عن أخلاق الكبار، أصحاب النفوس الكبيرة، الذين يحلقون عاليا، ويترفعون عن الدنايا وسفاسف الأمور، وذكرنا في المقال السابق أهمية هذا الموضوع، وشدة الحاجة إلى مذاكرته لكثرة الغفلة عنه، ولاشك أننا لو تحلينا بهذه الأخلاق لاستطعنا أن نكسب كثيرًا من القلوب، ونحن قد نتعامل مع بعض الذين نختلف معهم من المسلمين تعاملا فظًا غليظًا؛ فنكون بهذا أشداء على أهل الإيمان، والله وصف أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم بأنهم: {رحماء بينهم}، والله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه}.
    فهذا عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين، قال في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المهاجرين في غزوة المريسيع: «ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قال الأول سمن كلبك يأكلك»، ويقول ظنا أن خزائن السموات والأرض بيده : «لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا»، يقول: «أنتم الذين آويتموهم وأطعمتموهم، فلا تنفقوا عليهم من أجل أن يتفرقوا عن بلادكم ويبحثوا عن بلد آخر تؤويهم»، فهذا من أصحاب النفوس الصغيرة ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب نفس كبيرة؛ لما مات هذا المنافق ذهب إلى قبره، وأعطى ابنه قميصه ليكفنه فيه، وقام على قبره يستغفر له حتى نهي عن ذلك، وهذا لا يفعله إلا أصحاب القلوب الرحيمة الواسعة الكبيرة.
    الفرق بين الولاء والبراء حظ النفس
    وليس معنى ذلك تمييع قضية الولاء والبراء، بل هي أصل ثابت، ولكن يجب أن نفرق بين الولاء، والبراء، وبين حظ النفس، فالولاء والبراء ثابت في القلب، وأما النفس فدعها خلف ظهرك، لا تنتصر لها، ولا تقف عندها، والكبار لا يليق بهم أن يدوروا حول أنفسهم، حقدا على هذا، ومشكلة نفسية مع هذا، وقضية شخصية مع ثالث؛ فهذه النفسية لا تصلح أن تكون نفسية داعية، وهذا يفسد أكثر مما يصلح.
    إني قد أحللتك
    لما مرض شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله- مرض الوفاة في السجن، وقد منع عنه كل شيء، حتى الأقلام والأوراق؛، لكي لا يؤلف بتحريض من هؤلاء المبتدعة، من شيوخ الضلالة، ومن الحسدة، كأن بعضهم قد تحرك ضميره، فجاء إلى شيخ الإسلام في السجن يعتذر إليه، ويلتمس منه أن يحلله، لكنَّ شيخ الإسلام لم يقل: الآن! هيهات أن أعفو عنك، أبدا ما قال شيئا من ذلك، بل قال: «إني قد أحللتك وجميع من عاداني، وهو لا يعلم أني على حق»، وقال: «إني قد أحللت السلطان الملك الناصر من حبسه إياي، كونه على ذلك مقلدا غيره، فَمثْله يتقطع قلبه من الغل لا ينام الليل، وليقتص منهم، ولم يتشف من هؤلاء الأعداء، يموت في السجن وهم يشمتون فيه.
    الآن يتم الانتقام
    بل أكثر من هذا وقع للملك الناصر انقلاب؛ فذهب عليه ملك، وكان الذي قام بهذا الانقلاب ملك يقال له: المظفر ركن الدين بيبرس، وكان هؤلاء العلماء، والفقهاء، والقضاة، والحسدة الذين لم يألوا جهدًا لشيخ الإسلام ابن تيمية، كانوا قد التفوا حول هذا الملك الجديد، وصاروا حاشية له، وأداروا ظهورهم للأول؛ فتركوه وتوجهوا من جديد إلى الملك الجديد، ثم استطاع الملك الناصر أن يسترد ملكه من جديد؛ فجاء وجلس على سرير ملكه، وأحضر هؤلاء القضاة، والعلماء، والفقهاء، وأجلسهم بين يديه، وقد طأطؤوا رؤوسهم، لا يدرون ماذا سيصنع بهم، وبينما هم كذلك؛ إذ طلع عليهم رجل من بعيد لم يميزوه في بادئ الأمر فلما اقترب؛ فإذا هو شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي كان في السجن قد أمر الملك بإخراجه من جديد ودعاه إلى مجلسه؛ فأسقط في أيديهم، وقالوا: الآن يتم الانتقام.
    فتاوى تحريضية
    فقام الملك يمشي إلى شيخ الإسلام توقيرا له، ولم يكن من عادته ذلك، هو يجرجره من سجن إلى آخر، ثم عانقه وأخذه إلى شرفة وناحية في القصر، وجلس يتحدث معه سرا، قال له: ما تقول في هؤلاء؟ يقول شيخ الإسلام: فعلمت أنه قد حنق عليهم، وأنه أراد أن ينتقم لنفسه، يقول: فشرعت في مدحهم، والثناء عليهم، وشكرهم، وأنهم لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك، ولا قيام لملكك، إلا بهم فهم قضاة البلد وفقهاؤهم يقول: فأخرج لي أوراقا وقراطيس من جيبه، فيها فتاوى بخطوطهم يقول: انظر ماذا قالوا فيك، كفروك، وأفتوا بقتلك، لو كان الإنسان صاحب نفس صغيرة لانتقم لنفسه؛ فماذا قال شيخ الاسلام: أما أنا فهم في حل من جهتي، قد عفوت عنهم، ثم بدأ شيخ الإسلام بعد ذلك يبث علمه في المساجد، وكثر أتباعه وناصروه ومؤيدوه.
    لا أحب أن يؤذى أحد من المسلمين
    وبدأ أولئك الذين يتحركون في الكيد له، ويطمعون بالنيل منه، بدؤوا يتلطفون له ويعتذرون إليه من سابقتهم؛ فماذا كان يقول؟ قد جعلت الكل في حل مما جرى، وكان يقول: «ليُطوَ هذا البساط»، وكتب رسائل إلى أصحابه وإخوانه في دمشق، يذكرهم بهذا المعنى يقول: أول ما أبدأ بما يتعلق بي؛ فتعلمون أني لا أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين، فضلا عن عموم أصحابنا بشيء، لا باطنا، ولا ظاهرا، ولا عندي عتب على أحد منهم، ولا لوم, بل لهم عندي من الكرامة، والإجلال، والمحبة، والتعظيم، أضعاف أضعاف ما كان كل بحسبه، ولا يخلو الرجل، إما أن يكون مجتهدا مصيبا، أو مخطئا مذنبا؛ فالأول مأجور مشكور، والثاني مع أجره على الاجتهاد؛ فمعفو عنه مغفور له.
    ما رأينا مثل ابن تيمية
    يقول: وقد أظهر الله الحق وبينه، فلا أحب أن يُنتصر من أحد بسبب كذبه عليَّ أو ظلمه وعدوانه؛ فإني قد أحللت كل مسلم، وإني أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمنٍ من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا أو ظلموا فهم في حلٍ من جهتي، وأما في حق الله؛ فالله يتولى الجميع إن شاء غفر لهم، وإن شاء عاقبهم، يقول ولو كان أحد يشكر على سوء صنيعه، لشكرت هؤلاء على سوء صنيعهم معي؛ فمن منا يفعل هذا؟ من منا يتعامل مع الخصوم بهذه الطريقة؟؛ ولذلك كان ابن مخلوف يقول وهو عدوه المالكي الذي ذكرته آنفا -كان يقول-: «ما رأينا مثل ابن تيمية، ما تركنا شيئا في السعي فيه، ولمَّا قدر علينا عفا عنا». بهذا نستطيع أن نكسب قلوب الناس، بهذا نستطيع أن نكسب قلوب الأعداء، فضلا عن الأصحاب والأصدقاء.
    سرعان ما ينفرط العقد
    حينما يكون حول العالم، أو الداعية، مجموعة من طلابه وتلامذته؛ فيتعامل معهم بطريقةٍ يتعلق فيها بحظوظه النفسية الخاصة؛ فإن هؤلاء لا يمكن أن يصبروا على الاستمرار والمداومة معه، ولا يمكن أن يُنتجوا عملا تنتفع به الأمة؛ لأن هؤلاء سرعان ما ينفرط العقد، ويتفرقون ويتحولون إلى أعداء، بل إن شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه الله- انفرد به بعض أهل البدع في ناحيةٍ من نواحي القاهرة؛ وضربوه، وشتموه؛ فتسامع الناس بذلك؛ فخرج كثير من الأمراء، والقادة، والجنود، والعامة، والوجهاء، يبحثون عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-؛ فوجدوه في مسجد على البحر، وتتابع آخرون يتلاحقون ويتسامعون؛ فاجتمعوا عنده، وقالوا له: يا سيدي قد جاء خلقٌ من الحسينية لو أمرتهم أن يهدموا مصر كلها لفعلوا!
    ليس الأمر كما تزعمون
    فماذا قال لهم؟ هل قال لهم؟ نعم أنتم الذين تعرفون قدر علمائكم، ولا خير في أمة لا تعرف قدر علمائها، هؤلاء أهل بدع وضلالات أحرقوهم وأريحوا الناس منهم، ما قال هذا الكلام، القضية تتعلق بشخصه هو؛ فماذا قال؟ قال لهم لأي شيء؟ قالوا لأجلك، قال لهم: هذا لا يحق، قالوا نحن نذهب الى بيوت هؤلاء الذين آذوك؛ فنقتلهم ونخرب دورهم؛ فإنهم شوشوا على الناس؛ فرفض ثم أعادوا الكرة بثوب آخر أنهم أثاروا فتنه وشوشوا على الناس؛ فقال هذا لا يحل؛ فقالوا: فهذا الذي فعلوه بك هل يحل؟ ولابد أن نذهب إليهم ونقاتلهم على ما فعلوا؛ فكان ينهاهم ويزجرهم عن ذلك؛ فلما أكثروا عليه، قال: إنما يكون الحق لي، أو لكم أو لله؛ فإن كان الحق لي فهم في حل؛ فإن لم تسمعوا مني ولم تستفتوني؛ فافعلوا ما شئتم، وإن كان الحق لله؛ فالله يأخذ حقه كيف شاء؛ فقالوا له: هذا الذي فعلوه بك هل هو حلال؟ قال هذا الذي فعلوه قد يكونون مثابين عليه مأجورين فيه، قالوا: فتكون أنت على الباطل وهم على الحق؟ فقال ليس الأمر كما تزعمون؛ فإنهم قد يكونون مجتهدين مخطئين؛ ففعلوا ذلك باجتهادهم والمجتهد المخطئ له أجر! ناس يضربونه ويشتمونه، ويؤذونه ببدنه، ومن أهل الضلالات والأهواء والبدع، ويقول: إنهم قد يؤجرون! أين نحن من مثل هؤلاء؟
    أنا لا أنتصر لنفسي
    بل خرج عليه رجل من المبتدعة؛ فانفرد بشيخ الإسلام في محلةٍ وناحية، ولم يكن هناك أحد فأساء الأدب إليه وأسمعه ما يكره وشتمه؛ فعلم الناس بذلك، وبدؤوا يأتون NgD شيخ الإسلام، يريدون الانتصار له؛ فسمع ذلك الرجل؛ فبدأ يتلطف ويرسل الوسائط، يظن أن شيخ الإسلام سينتصر لنفسه؛ فكان شيخ الإسلام يرد بعبارةٍ مختصرة، يقول: أنا لا أنتصر لنفسي، يعني دعوا هذا الرجل يطمئن، ويرتاح، وينام قرير العين، أنا لا أنتصر لنفسي.
    العقيدة والمنهج
    هؤلاء قومٌ يختلف معهم شيخ الاسلام في مسائل تتعلق بالعقيدة والمنهج، أما الخلاف في المسائل الفرعية؛ فهذا يكون الحكم فيه كما سبق سعة الصدر، وهو أحرى بذلك وأولى؛ لأن الخلاف في المسائل العلمية الاجتهادية الفرعية، أمر سائغ ولا يلحق المخالف فيه تضليلٌ ولا تبديع، ولا ينسب إلى هوى إذا كان يقصد الحق، والناس لطالما اختلفوا في مسائل الاجتهاد ولكن أصحاب النفوس الصغيرة، لربما احتدم النقاش معه؛ فصار يلقاك بوجه آخر وابتسامةٍ مائلة من شقٍ واحد، يُضمر لك ضغينةً، ويحمل عليك في نفسه؛ لأنه قد اختلف معك في مسألة من مسائل الفروع.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: أخلاق الكبار

    أخلاق الكبار (3)



    الشيخ: خالد السبت



    ما زال الحديث موصولا عن أخلاق الكبار -أصحاب النفوس الكبيرة- الذين يحلقون عاليا ويترفعون عن الدنايا وسفساف الأمور، وذكرنا في المقال السابق نماذج من أصحاب هذه النفوس الكبيرة، واليوم نستكمل الحديث عن هذه النماذج.

    الشافعي -رحمه الله- يقول عنه يونس الصدفي: ناظرته يوما -وهو يصفه بقوله: ما رأيت أعقل من الشافعي- في مسألة ثم افترقنا، ولقيني ثم أخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟
    مثال عجيب
    وخذ هذا المثال الآخر العجيب العالم الوزير ابن هبيرة -رحمه الله- نال العلم والفقه والوزارة معا، وكان له مجلس حافل بالعلماء من أرباب المذاهب الأربعة، وبينما هو في مجلسه؛ إذ ذكر مسألةً من مفردات الإمام أحمد «يعني أن الامام أحمد تفرّد في هذه المسألة عن الأئمة الثلاثة الشافعي ومالك وابي حنيفة»؛ فقام فقيهٌ من فقهاء المالكية يقال له محمد الأشيري فقال: بل قال بهذا الإمام مالك، فقال أبو هبيرة -رحمه الله- هذه الكتب وأحضرها وإذا هي تنص على أن هذه المسألة من مفردات الإمام أحمد، فقال أبو محمد الأشيري، بل قال بذلك الإمام مالك، فتكلم العلماء الذين حضروا هذا المجلس وقالوا بل هي من مفردات الإمام أحمد، فقال: بل قال بذلك الإمام مالك، فغضب ابن هبيرة وقال أبهيمةٌ أنت؟ أما تسمع هؤلاء العلماء يصرّحون بأنها من مفردات الإمام أحمد والكتب شاهدة بذلك ثم أنت تصر على قولك.! فتفرق المجلس، فهب أنك في هذا المجلس أحد الطرفين في مكان ابن هبيرة أو في مكان الأشيري، وقال لك أبهيمةٌ أنت؟ هل ستلقاه بعدها؟ هل ستأتي مجلسه؟، هل ستحضر معه؟، هل تنام تلك الليلة؟ هل تفكر بالرجوع اليه؟
    فليقل لي كما قلت له
    فلما انعقد المجلس في اليوم الثاني، جاء الفقيه المالكي وحضر كأن شيئا لم يكن، وجاء ابن هبيرة وجاء العلماء فأراد القارئ على عادته أن يقرأ ثم يعلق الوزير ابن هبيرة، فقال له قف فإن الفقيه الأشيري قد بدر منه ما بدر بالأمس، وإنه حملني ذلك على أن قلت له ما قلت فليقل لي كما قلت له فلست بخيرٍ منكم، ولا أنا إلا كأحدكم.! فكيف كان أثر هذه الكلمات؟! فضج المجلس بالبكاء، تأثروا جدا بهذه الأخلاق العالية والرفيعة، وارتفعت الأصوات بالدعاء والثناء، وجعل هذا الخصم الأشيري يعتذر ويقول: أنا المذنب، أنا الأولى بالاعتذار، والوزير ابن هبيرة يقول القصاص القصاص، فتوسط أحد العلماء وقال يا مولانا إذا أبى القصاص فالفداء فقال الوزير حكمه يحكم بما شاء، احكم بما تريد، فقال هذا الفقيه نِعمُك علي كثيرة فأي حكمٍ بقي لي؟ فقال قد جعل الله لك الحكم علينا بما ألجأتنا به إلى الافتئات عليك، فقال عليَّ بقية دين منذ كنت بالشام، فقال الوزير ابن هبيرة يعطى مائة دينار لإبراء ذمته وذمتي، فأحضر له المال، وقال له ابن هبيرة عفا الله عنك وعني وغفر الله لك ولي!
    هل نحن كذلك؟
    هل نحن كذلك؟ إذا كنا في مجلس وحصلت قضية مثل هذه كيف ستكون نتائجها؟ عداوة إلى يوم الدين، والقلب يتقطع والنفس حرقة على هذا الإنسان نسأل الله العفو والعافية. كلمات لم يخسر فيها شيء، بل ازداد بها رفعة، بل نحن نتحدث عنها بعد قرون وبعد مئات السنين، لو أنه بقي مع نفسه فكيف يكون حال هذه الصلة والعلاقة؟
    ترفعوا أيها الإخوان
    ترفعوا أيها الإخوان ارتفعوا، وحلقوا، فالنفس يجذبها الطين فتجردوا من الأهواء والحظوظ النفسانية، هذا في مسائل العلم، أما في أمور المعاش والعلاقات الاجتماعية والتجارية وغير ذلك مما يعافسه الإنسان صباح مساء ولابد أن يجد فيه ما يجد من هضمٍ في حقه ومظلمةٍ وإساءةٍ وكلمةٍ ربما لا يتحملها كثيرٌ من الناس، فكيف يصنع؟ اسأل نفسك أنت لا تبحث في ذهنك وتذهب إلى إنسان آخر، اسأل نفسك ما موقفك حين يبلغك أن فلانا يتكلم في حقك ويقع في عرضك كيف تصنع؟ هل تعزم على عداوته ومقاطعته؟
    وصية عظيمة
    الشافعي -رحمه الله- يوصينا بوصية في هذا المقام يقول: إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه فإياك أن تبادره العداوة «لا تحكم مباشرة فتتخذ إجراء وتقطع الولاية فتكون ممن أزال يقينه بشك، فالثقة حاصلة متيقنة وهذا شكٌ عارض فلا يذهب اليقين بالشك»، ولكن قابله وقل له بلغني عنك، واحذر أن تسمي له المبلغ؛ فإن أنكر ذلك فقل له: أنت أصدق وأبر، ولا تحصره في زاوية ضيقة كما يفعل بعض الناس، لا تفعل، وإنما قل له أنت أصدق وأبر عندي، ولا تحقر وتجاوز ذلك.
    ثم يقول: وإن اعترف بذلك ورأيت له وجها لعذر، فاقبل منه، وإن لم تر له عذرا، فقل له ماذا أردت بما قد بلغني عنك؟ فإن ذكر ما له وجه من عذر، فاقبل منه، وان لم تر له وجها من العذر وضاق عليك المسلك فحينئذ أثبتها عليه سيئة وزلة، ثم أنت بعد ذلك بالخيار إن شئت كافأته بمثلها من غير زيادة، وإن شئت عفوت عنه والعفو أقرب للتقوى، وأبلغ في الكرم؛ لقول الله -تعالى-: {وجزاء سيئة سيئةٌ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله}؛ فإن نازعتك نفسك بالمكافئة ففكر فيما سبق منه لديك من الإحسان فعده، ثم ابدر له إحسانا بهذه السيئة ولا تبخسن باقي إحسانه السالف بهذه السيئة؛ فإن ذلك الظلم بعينه يا يونس (ويوصي بذلك يونس الصدفي).
    اتخاذ الصديق صعب
    إذا كان لديك صديق فشد بيديه؛ فإن اتخاذ الصديق صعب ومفارقته سهلة، وقد صدق رجاء ابن حيوة -رحمه الله- حين قال: «من لم يؤاخِ إلا من لا عيب فيه قلَّ صديقه، ومن لم يرض من صديقه إلا الإخلاص له دام سخطه، ومن عاتب إخوانه على كل ذنب كثر عدوه»، والإنسان ظلوم لنفسه جهول، لابد أن تصدر منه أخطاء؛ فإذا كان ينقر معك على كل قضية وكل مثل، فهذا لا شك أنه أمر صعب، سل نفسك ما موقفك ممن وشي بك وشاية سيئة وأراد الإيقاع بك والإساءة اليك؟
    جارية صفية
    هذه صفية أم المؤمنين -رضي الله عنها- لها جارية ذهبت إلى عمر متبرعة بوشاية وكانت صفية بنت حيي من اليهود وأسلمت، وتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي من أمهات المؤمنين، في خلافة عمر، ذهبت جارية لها إلى عمر تقول: إن صفية تحب السبت وتصل اليهود ، هذه تهمة تعني أنها ما زالت تحتفظ بلوثة يهودية، والسبت هو عيد اليهود ومعنى ذلك أنها تعظمه، فلم يعجل عليها عمر، ولم يقبل هذه الوشاية على أنها حقيقة ثابتة، ولكنة استدعى صفية وسألها عن ذلك؛ فقالت: أما السبت فلم أحبه منذ أن أبدلني الله به الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحما فأنا أصلها، ثم قالت للجارية ما حملك على ذلك, قالت: الشيطان, قالت: اذهبي فأنت حرة، ما أرادت أن تنتقم لنفسها!
    ابن مسعود - رضي الله عنه
    أما ابن مسعود ومن كان على شاكلته من أصحاب النفوس الكبيرة، خرج من بيته ووضع النقود في طية من طيات عمامته، وجلس عند بائع فاشترى منه طعاما، ثم أراد أن يخرج النقود فوجد أنها قد سرقت، فقال ابن مسعود لقد جلست وإنها لمعي! فتجمع مجموعة من الناس لمناصرته وإبداء المشاعر والأحاسيس، ويواسونه بهذا المصاب الذي وقع عليه، فجعلوا يدعون على هذا السارق: اللهم اقطع يد السارق الذي أخذها، وجلس كل واحد منهم يدعو. أما ابن مسعود فقال: «اللهم إن كان حمله على أخذها حاجة فبارك له فيها، وإن كان حملته جراءة على الذنب فاجعله آخر ذنوبه». لم يدعُ عليه بأي شيء، وإنما دعا له؛ فأصحاب النفوس الكبيرة يتذكرون في هذه المواقف قول الله تعالى-: {ادفع بالتي هي أحسن}؛ فهذا شعارهم.
    عمر بن عبد العزيز -رحمه الله
    عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- خامس الخلفاء الراشدين مرض مرض الوفاة فسأل مجاهدا: ما يقول الله في مرضي؟ فقالوا: يقولون مسحور، ثم دعا غلاما فقال: ويحك ما حملك على أن سقيتني السم؟ فقال: ألف دينار أعطيتها وأن أعتق؛ فقال: هاتها فأخذها ووضعها في بيت المال ثم قال له: اذهب فأنت حر، لا يراك أحد، وهذا هو الخليفة ويعرف أنه هو الذي فعل هذا واعترف، فماذا فعل به؟ قال له اذهب فأنت حر.
    الإمام مالك -رحمه الله
    والإمام مالك -رحمه الله- ضرب وجلد حتى تخلعت يداه، وكان يصلي مسدل اليدين؛ مما يجد من الألم، فلما جاء المنصور الخليفة العباسي إلى المدينة أراد أن يتجّمل عند الإمام مالك، فطلب إليه أن يقتص ممن حبسه وضربه وهو جعفر بن سليمان فماذا قال الإمام مالك؟ قال: «معاذ الله، ما قال هذا من الظلمة، نقتص منه ونؤدبه، الكبير لا ينتقم لنفسه، ولهذا ما انتقم النبي - صلى الله عليه وسلم - لنفسه قط».
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •