قال الامام محمد بن عبد الوهاب فى رسالة كشف الشبهاتوَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ مِنْ حِكْمَتِهِ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيّاً بِهَذا التَّوحِيدِ إِلاَّ جَعَلَ لَهُ أَعْدَاءً
كَما قالَ تَعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنّ} الآية [الأنعام: 112].
وَقَدْ يَكُونُ لأَعْدَاءِ التَّوحِيدِ عُلُومٌ كَثيرةٌ وكُتُبٌ وحُجَجٌ كَما قالَ تَعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِنَ العِلْمِ وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون}[غافر: 83].------------------------------قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ فى شرحه لكشف الشبهات(وَاعْلَمْ) أَيُّهَا الطَّالِبُ (أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ مِنْ حِكْمَتِهِ) البَالِغَةِ (لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا) مِن الأَنْبِيَاءِ (بِهَذَا التَّوْحِيدِ) مِن لَدُنْ نُوحٍ إِلَى أَنْ خَتَمَهُم بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِلاَّ جَعَلَ لَهُ أَعْدَاءً) إلاَّ قَيَّضَ لَهُ أَعْدَاءً قَصْدُهُم الإِغْوَاءُ والصَّدْفُ عن دِينِ اللهِ؛ هَذَا الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ.
وهَذِه حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ؛ ابْتِلاَءُ الأَخْيَارِ بالأَشْرَارِ لِيَكْمُلَ للأَخْيَارِ مَرَاتِبُ الجِهَادِ، وإِلاَّ لو شَاءَ لَمَا جَعَلَ للأَشْرَارِ شَيْئًا مِن السُّلْطَةِ {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لاَنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} الآيةَ.
سُنَّتُهُ البَالِغَةُ أَنْ يُسَلِّطَ الأَشْرَارَ عَلَى الأَخْيَارِ؛ سَلَّطَ الأَشْرَارَ عَلَى الرُّسُلِ فَمَا دُونَهِم، وَلَيْسَ هَوَانًا بالأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ وأَتْبَاعِهِم، ولَكِنْ ليَقُومَ الأَخْيَارُ بالجِهَادِ، فَتَعْظُمَ الدَّرَجَةُ، ويَعْظُمَ الأَجْرُ، ويَنَالُوا المَرَاتِبَ العَالِيَةَ؛ لأَِنَّ الجَنَّةَ غَالِيَةٌ لاَ تُنَالُ إِلاَّ بالصَّبْرِ عَلَى المَصَاعِبِ والمَشَاقِّ.
واعْلَمْ أَنَّ أتْبَاعَهُم كَذَلِكَ، مَنْ صَدَّقَ اللهَ في اتِّبَاعِهِ للرُّسُلِ كَانُوا أَعْظَمَ أَعْدَائِهِ (كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} يَشْمَلُ جَمِيعَ الأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ بَيَّنَ العَدُوَّ فَقَالَ: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} يَعْنِي مِن هَؤُلاَءِ وهَؤُلاَءِ.
والشَّيَاطِينُ هُم الذين فيهم تَمَرُّدٌ وعُلُوٌّ،قَالَ بَعْضُهُم: إِنَّه بَدَأَ بِشَيَاطِينِ الإِنْسِ؛ لأَِنَّهُم أَعْظَمُ فِي هَذَا المَقَامِ مِن شَيَاطِينِ الجِنِّ؛ لأَِنَّ شَيْطَانَ الإِنْسِ يَأْتِي في صُورَةِ نَاصِحٍ مُحِبٍّ لَيِّنِ الجَانِبِ واللِّسَانِ، ثُمَّ بَيَّنَ الذي بِهِ يَصْدِفُونَ عَن الحَقِّ فَقَالَ: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} فَتَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ تَزْيِيفَ القَوْلِ باللعِبَارَةِ لَهُ تَأْثِيرٌ، وَأَنَّ الحَقَّ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ مَن يَجْعَلُهُ في صُورَةِ البَاطِلِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
في زُخْرُفِ القَوْلِ تَحْسينٌ لِبَاطِلِـهِ =وَالحَقُّ قَدْ يَعْتَرِيهِ سُوءُ تَعْبـــِيـرِ
تَقُولُ هَذَا مُجَاجُ النَّحْلِ تَمْدَحُـهُ = وَإِنْ تَشَا قُلْتَ ذَا قَيْءُ الزَّنَــابِيرِ
مَدْحًا وَذَمًّا وَمَا جَاوَزْتَ وَصْفَهُمَا = وَالحَقُّ قـَدْ يَعْتَرِيهِ سُوءُ تَعْبِيرِ
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} لَكِنَّهُ جَعَلَهُم ابْتِلاَءً وامْتِحَانًا لِيَتَبَيَّنَ المُجَاهِدُ مِن القَاعِدِ والصَّابِرُ مِن غَيْرِ الصَّابِرِ وَالمُجِدُّ مِن المُخْلِدِ {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}، وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ وتَهْدِيدٌ وتَغْلِيظٌ.(2) (وَقَدْ يَكُونُ لأَعْدَاءِ التَّوحِيدِ عُلُومٌ كَثيرةٌ) لُغَوِيَّةٌ (وَكُتُبٌ) يَرْجِعُونَ إِلَيْهَا (وَحُجُجٌ) لَكِنَّهَا عِنْدَ التَّحْقِيقِ مِثْلَ السَّرَابِ عِنْدَ المُنَاظَرَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّها لاَ شَيْءَ {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} عِنْدَ الحَاجَةِ إِلَيْهِ.
وَمِن تِلْكَ الحُجَجِ مَا تَقَدَّمَ، ومِنْهَا مَا يَأْتِي الجَوَابُ عَنْهُ.
والعِلْمُ: هو المَوْرُوثُ عن الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
وأَمَّا عِلْمُهُم فهو إِمَّا مَنَامَاتٌ - أَحْلاَمٌ- أَو تُرَّهَاتٌ بَاطِلَةٌ لاَ أَصْلَ لَهَا، ومِنْهَا شَيْءٌ صَحِيحٌ في نَفْسِهِ لَكِنْ لاَ يَفْهَمُونَهُ، وهو في الحَقِيقَةِ لاَ يَدُلُّ عَلَى بَاطِلِهِم بل هو رَدٌّ عَلَيْهِم، والدَّلِيلُ أَنَّ عِنْدَهُم عُلُومًا كَثِيرَةً وكُتُبًا وحُجَجًا قَوْلُه تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }.____________________ قال الشيخ صالح الفوزانهذه حِكْمَةُ اللهِ عَزَّ وعَلاَ، وهي تَتَلَخَّصُ في أَمْرَيْنِ:
الأَمْرُ الأَوَّلُ:
أَنَّه مَا بَعَثَ نَبِيًّا مِن أَنْبِيَائِهِ إلاَّ جَعَلَ له أَعْدَاءً مِن المُشْرِكِينَ، كَمَا في الآيةِ الَّتِي ذَكَرَها المُؤَلِّفُ، وكَمَا في الآيةِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ المُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} وللهِ في ذَلِكَ الحِكْمَةُ مِن أَجْلِ أَنْ يَتَبَيَّنَ الصَّادِقُ مِن الكَاذِبِ، ويَتَبَيَّنَ المُطِيعُ مِن العَاصِي.
إِذَا بَعَثَ الأَنْبِياءَ يَدْعُونَ إِلَى الهُدَى صَارَ هناك دُعَاةٌ للضَّلاَلِ مِن أَجْلِ أَنْ يَمْتَحِنَ النَّاسَ أَيُّهم يَتَّبِعُ الأَنْبِيَاءَ، وأَيُّهُم يَتَّبِعُ دُعَاةَ الضَّلاَلِ، ولَوْلاَ ذَلِكَ لَكَانَ النَّاسُ كُلُّهُم يَتَّبِعُونَ الأَنْبِيَاءَ ولو بالظَّاهِرِ، ولاَ يَتَمَيَّزُ الصَّادِقُ في اتِّبَاعِهِ مِن المُنَافِقِ؛ لأَِنَّ الأَنْبِيَاءَ يَتَّبِعُهُم المُؤْمِنُ الصَّادِقُ ويَتَّبِعُهُم المُنَافِقُ الكَاذِبُ، والَّذي يُمَيِّزُ هَذَا مِن هَذَا هو الابْتِلاَءُ والامْتِحَانُ، فالشَّدَائِدُ هي الَّتِي تُبَيِّنُ الصَّادِقِينَ مِن المُنَافِقِينَ، فاللهُ جَعَلَ أَعْدَاءً للأَنْبِيَاءِ لِحِكْمَةٍ مِن أَجْلِ الابْتِلاَءِ والامْتِحَانِ {لِيَمِيزَ اللهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} هذه هي الحِكْمَةُ بأَنَّ اللهَ جَعَلَ لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الإِنْسِ والْجِنِّ، والشَّيْطَانُ هو المَارِدُ العَاصِي، فَكُلُّ مَن تَمَرَّدَ عن طَاعَةِ اللهِ فإنَّه شَيْطَانٌ، سَوَاءٌ كَانَ مِن الجِنِّ أو مِن الإِنْسِ حَتَّى الدَّوابُّ المُتَمَرِّدَةُ تُسَمَّى شَيْطَانًا، وهو مِن: شَاطَ الشَّيْءُ إِذَا اشْتَدَّ، أَوْ مِن: شَطَنَ إِذَا ابْتَعَدَ، فالشَّيْطَانُ يَكُونُ مِن عَالَمِ الجِنِّ ويَكُونُ مِن عَالَمِ الإِنْسِ.
وقَوْلُه تَعَالَى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ}الزُّخْرُفُ: في الأَصْلِ الذَّهَبُ، وزُخْرُفُ القَوْلِ: هو القَوْلُ المُمَوَّهُ المُزَوَّرُ؛ لأَِجْلِ أَنْ يُغَرَّ النَّاسُ، فالقَوْلُ المُزَخْرَفُ: هو البَاطِلُ المُغَلَّفُ بِشَيْءٍ مِن الحَقِّ، وهَذَا مِن أَعْظَمِ الفِتْنَةِ؛ لأَِنَّ البَاطِلَ لو كَانَ مَكْشُوفًا مَا قَبِلَهُ أَحَدٌ، لَكِنْ إِذَا غُطِّيَ بِشَيْءٍ مِن الحَقِّ فَإِنَّهُ يَقْبَلُهُ كَثِيرٌ مِن النَّاسِ، ويَنْخَدِعُونَ بِهَذِه الزَّخْرَفَةِ، فهو بَاطِلٌ في صُورَةِ الحَقِّ {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} اللهُ قَادِرٌ عَلَى مَنْعِهِم مِن ذَلِكَ، لَكِنَّه شَاءَ أَنْ يَفْعَلُوهُ مِن أَجْلِ الابْتِلاَءِ والامْتِحَانِ، وإِذَا كَانَ هَذَا مَعَ الأنْبِيَاءِ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِم مِن الدُّعاةِ إِلَى اللهِ وعُلَمَاءِ التَّوْحِيدِ، فَأَتْبَاعُ الأَنْبِيَاءِ أيْضًا يَكُونُ لَهُمْ أَعْدَاءٌ مِن دُعَاةِ البَاطِلِ في كلِّ زَمانٍ وفي كلِّ مَكَانٍ، هَذَا مُسْتَمِرٌّ في الخَلْقِ، وُجُودُ دُعَاةِ الحَقِّ وإلى جَانِبِهِم دُعَاةُ البَاطِلِ في كُلِّ زَمَانٍ ومَكَانٍ.
الأَمْرُ الثَّانِي: وهو العَجِيبُ: أنَّ دُعَاةَ البَاطِلِ يَكُونُ عِنْدَهُم عُلُومٌ، وعندَهُم كُتُبٌ، وعندَهم حُجَجٌ يُجَادِلُونَ بِهَا أَهْلَ الحَقِّ، (كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ} يعني: الكُفَّارَ {بِالبَيِّنَاتِ} الحَقَائِقِ البَيِّنَةِ والعِلْمِ النَّافِعِ {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِن العِلْمِ} الَّذي تَوَارَثُوهُ عن أَجْدَادِهِم وآبَائِهِم، والَّذي هو عِبَارَةٌ عن كُتُبِهِم وعن حُجَجِهِم الَّتِي تَوَارَثُوها، وهذا واقِعٌ الآنَ، كم في السَّاحَةِ مِن كُتُبِ أَهْلِ البَاطِلِ ككُتُبِ الجَهْمِيَّةِ، وكُتُبِ المُعْتَزِلَةِ، وكُتُبِ الأَشَاعِرَةِ، وكُتُبِ الشِّيعَةِ، كم في السَّاحَةِ مِن كُتُبِ هَؤُلاَءِ! وعندَهم حُجَجٌ مُرَكَّبَةٌ ومُزَيَّفَةٌ تَغُرُّ الإِنْسَانَ الَّذي لَيْسَ عندَه تَمَكُّنٌ مِن العِلْمِ، فَعِلْمُ الكَلاَمِ وعِلْمُ المَنْطِقِ اعْتَمَدُوهُ وجَعَلُوهُ هو العِلْمَ الصَّحِيحَ الَّذي يُفِيدُ اليَقِينَ. أمَّا أَدِلَّةُ القُرْآنِ والسُّنَّةِ فهي حُجَجٌ ظَنِّيَّةٌ بِزَعْمِهِم.