قصة الإمام النابلسي مع المعز العبيدي
عبد الله علي العبدلي
من أهم المهمات وأفضل القربات التناصح والتوجيه إلى الخير، والتحذير مما يخالفه ويغضب الله - عز وجل -، ويباعد من رحمته، وقد أوضح الله - جل وعلا - في كتابه العظيم منزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقدمه في بعض الآيات على الإيمان بالله تبارك وتعالى، قال - سبحانه -: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)[آل عمران: 110].
وإن من أولى الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العلماء، وقد ذم الله- تبارك وتعالى -أحبار اليهود بسبب تقصيرهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال - سبحانه -: (تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّو نَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [المائدة: 62-63]، وقال - تعالى -: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة: 79].
وهناك نماذج عبر التاريخ ممن ثبتوا على الحق وصدعوا به ووثقوا بما عند الله، ومن هؤلاء الأعلام الإمام أبو بكر النابلسي.
قال الإمام الذهبي - رحمه الله - معرفا به: "الإِمَامُ، القُدْوَةُ، الشَّهِيْدُ، أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ النَّابُلسِيِّ.. .وَأَخْبَرَنِي الثِّقَةُ أَنَّهُ كَانَ إِمَاماً فِي الحَدِيْثِ وَالفِقْهِ، صَائِمَ الدَّهْرِ، كَبِيْرَ الصَّوْلَةِ عِنْدَ العَامَّةِ وَالخَاصَّةِ... وَقِيْلَ: قَالَ شريفٌ مِمَّنْ يعَاندُهُ لَمَّا قَدِمَ مِصْرَ: الحَمْدُ للهِ عَلَى سَلاَمَتِكَ، قَالَ: الحَمْدُ للهِ عَلَى سلاَمَةِ دِينِي، وَسلاَمَةِ دُنْيَاكَ"[1].
أتى الإمام النابلسي من الشام إلى مصر أسيراً من قبل الفاطميين، وكان الفاطميون يجبرون علماء المسلمين على لعن أعيان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنابر، وكان الإمام النابلسي - رحمه الله - ممن يأبى ذلك بل ويرى بوجوب قتال هؤلاء الشيعة العبيديون، فلما وصل إلى مصر، جاء جوهر الصقلي قائد الجند للمعز لدين الله الخليفة الفاطمي بالزاهد أبا بكر النابلسي.
وقد ذكر لنا هذه الحادثة غير واحد من المؤرخين، قال العلامة ابن كثير - رحمه الله - في ترجمة المعز: "... كان يدعي إنصاف المظلوم من الظالم، ويفتخر بنسبه وأن الله رحم الأمة بهم، وهو مع ذلك متلبس بالرفض ظاهرًا وباطنًا، كما قال القاضي الباقلاني: إن مذهبهم الكفر المحض، واعتقادهم الرفض، وكذلك أهل دولته ومن أطاعه ونصره ووالاه قبحهم الله وإياه.
وقد أحضر بين يديه الزاهد العابد الورع الناسك التقي أبوبكر النابلسي، فقال له المعز بلغني عنك أنك قلت لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة ورميت المصريين - أي الفاطميين - بسهم؟
فقال النابلسي: ما قلت هذا، فظن أنه رجع عن قوله، فقال له كيف قلت؟ قال قلت ينبغي أن نرميكم بتسعة ثم نرميهم بالعاشر، قال: ولم؟ قال: لأنكم غيرتم دين الأمة، وقتلتم الصالحين، وأطفأتم نور الإلهية، وادعيتم ما ليس لكم.
فأمر بإشهاره في أول يوم، ثم ضرب في الثاني بالسياط ضربًا شديدًا مبرحًا، ثم أمر بسلخه - وهو حي - وفي اليوم الثالث، فجيء بيهودي فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن، قال اليهودي فأخذتني رقة عليه، فلما بلغت تلقاء قلبه طعنته بالسكين فمات. - رحمه الله - فكان يقال له الشهيد، وإليه ينسب بنو الشهيد من نابلس إلى اليوم"[2].
وقال الإمامُ الذهبي في السير: قَالَ أَبُو ذرٍ الحَافِظُ: سَجَنَهُ بَنُو عُبَيْدٍ، وَصلَبُوهُ عَلَى السُّنَّةِ، سَمِعْتُ الدَّارَ قُطْنِيَّ يذكُرُهُ، وَيَبْكِي، وَيَقُوْلُ: كَانَ يَقُوْلُ، وَهُوَ يُسْلَخُ: (كَانَ ذَلِكَ فِي الكِتَابِ مَسْطُوراً)[الإِسرَاء: 58][3].
وقال أيضاً: قَالَ ابْنُ الأَكفَانِيِّ: "تُوُفِّيَ العَبْدُ الصَّالِحُ الزَّاهِدُ أَبُو بَكْرٍ بنُ النَّابُلسِيِّ، كَانَ يَرَى قِتَالَ المغَاربَةِ، هَرَبَ مِنَ الرَّملَةِ إِلَى دِمَشْقَ، فَأَخَذَهُ مُتَوَلِّيهَا أَبُو محمودٍ الكُتَامِيُّ، وَجعَلَهُ فِي قفصِ خشبٍ، وَأَرسَلَهُ إِلَى مِصْرَ، فَلَمَّا وَصلَ قَالُوا: أَنْتَ القَائِلُ، لَوْ أَنَّ مَعِيَ عَشْرَةَ أَسهُمٍ... وَذَكَرَ القِصَّةَ، فسُلِخَ وَحُشِيَ تِبْناً، وَصُلبَ"[4].
وذكر ابن العماد في شذرات الذهب عن سنة ثلاث ستين وثلاث مئة: وفيها أبو بكر بن النابلسي محمد بن أحمد بن سهل الرملي الشهيد سلخه صاحب مصر المعز، وكان قد قال: لو كان معي عشرة أسهم لرميت الروم سهما ورميت بني عبيد تسعة فبلغ القائد جوهر فلما قرره اعترف وأغلظ لهم فقتلوه، وكان عابداً صالحاً زاهداً قوالاً بالحق[5].
حكى ابن السعساع المصري، أنه رأى في النوم أبا بكر بن النابلسي بعدما صُلب وهو في أحسن هيئة، فقال: ما فعل الله بك؟ فقال:
حباني مالكي بدوام عز *** وواعدني بقرب الانتصارِ
وقربني وأدناني إليه *** وقال: انْعَمْ بعيشٍ في جواري[6]
ومن هذا الحدث العظيم الذي حصل للإمام النابلسي، نستفيد الكثير من الدروس والعبر، فمنها:
- الشجاعة في الاحتساب:
من خلال التأمل في قصة الإمام النابلسي نجد أنه لا يخاف في الله لومة لائم، وهذا هو هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كان لا يغضب إلا إذا انتهكت حرمة من حرمات الله، فعن عائشة - رضي الله عنها -: "ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا قط بيده، ولا امرأة، ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط، فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله - عز وجل –"[7].
وقد جاء الشرع المطهر بالتشجيع على الشجاعة في الاحتساب فقال- تبارك وتعالى -: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)[الحج: 41]، وقال - سبحانه -: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[التوبة: 122].
وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((قل الحق، ولو كان مرًّا))[8].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))[9].
وجاء عند الإمام مسلم عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: "بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم"[10].
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام خطيباً فكان فيما قال: ((ألا لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه)) قال: فبكى أبو سعيد، وقال والله رأينا أشياء فهبنا[11].
وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الرجل الذي يعظ ولي الأمر وينصحه له أجر عظيم وجزاء وفير من رب العالمين، فعن جابر - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب و رجل قال إلى إمام جائر فأمره و نهاه فقتله))[12].
- الثبات على الحق:
أهل الحق هم أعظم الناس صبراًَ على أقوالهم ومعتقداتهم، والثبات على الحق سيما أهل الحق منذ بزوغ فجر الإسلام، ألا ترى إلى أبي سفيان بن حرب حين سأله هرقل ملك الروم عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ فقال: لا، قال هرقل: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب[13].
قال الإمام ابن تيمية - رحمه الله -: أما أهل السنة والحديث فما يعلم أحدٌ من علمائهم ولا صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم الناس صبراً على ذلك، وإن امتحنوا بأنواع المحن، وفتنوا بأنواع الفتن.
وهذا حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين كأهل الأخدود ونحوهم، وكسلف هذه الأمة والصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة، حتى كان مالك - رحمه الله - يقول: لا تغبطوا أحداً لم يصبه في هذا الأمر بلاء.
يقول: وإن الله لا بد أن يبتلي المؤمن، فإن صبر رفع درجته كما قال - تعالى -: (الم*أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ*وَل قَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [سورة العنكبوت: 1-3].
وقال - تعالى -: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24].
وقال - تعالى -: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [سورة العصر] [14].
- كَانَ ذَلِكَ فِي الكِتَابِ مَسْطُورا:
كلمة قالها الإمام النابلسي في اللحظات الأخيرة من حياته - رحمه الله تعالى -، تدل على مدى إيمانه بقضاء الله وقدره، وهو يعلم معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس - رضي الله عنهما -: ((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف))[15].
- حقد الباطنية على أهل الإسلام:
هذه القصة تظهر لنا مدى خبث العبيديين، وكيفية تعاملهم مع العلم وأهله، وتبين أيضاً شدة حقدهم وبغضهم لمخالفيهم من أهل السنة، وأنهم لا يتورعون عن تعذيبهم وعن التنكيل بهم بأشد أنواع التنكيل، بل وقتلهم، وما هؤلاء العلمين إلا نزر يسير من ضحايا هؤلاء العبيديين.
____________________
[1] - سير أعلام النبلاء (16/148 - 150).
[2] - البداية والنهاية (11/284).
[3] - سير أعلام النبلاء (16/148).
[4] - سير أعلام النبلاء (16/149).
[5] - شذرات الذهب ابن العماد (3/46).
[6] - سير أعلام النبلاء (16/150).
[7] - رواه مسلم (4/1814) برقم (2328).
[8] - رواه ابن حبان (2/76) برقم: (361).
[9] - رواه مسلم(1/69) برقم: (49).
[10] - رواه مسلم (6/16)، برقم: (4874).
[11] - رواه ابن ماجة (2/1328)، برقم: (4007)، قال الشيخ الألباني: صحيح.
[12] - المستدرك (3/215)4884
[13] - رواه البخاري (1/7) برقم: (7).
[14] - مجموع الفتاوى (47/52- 53).
[15] - رواه الترمذي (4/667)، برقم: (2516)، وصححه الألباني