من أسرار القرآن

فرضية الصيام وعلاقتها بنداءات سورة البقرة

الشيخ عبدالفتاح إبراهيم سلامة




هذه محاولة لقراءة عجلى لآيات الصوم من خلال سورة البقرة، ذلك أنه لا بد لنا عند محاولة تفهمنا لنص من نصوص القرآن الكريم أن نقرأه في سياق السورة التي ورد بها وأن نقف على تاريخ نزوله بين مراحل التشريع، وأن نبحث عن سبب النزول، مع الاهتداء بعموم اللفظ وروح التشريع.

فمثلاً قول اللَّه تبارك وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ‏ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ‏ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].

هذا النداء بـ ﴿ يَا أَيُّهَا.... ﴾ سبقته ستة نداءات كان هو سابعها وتلته ستة نداءات أخر، فكان هو واسطة العقد بينها.

ومن عجيب الأمر، بل ومن غريب الإعجاز القرآني الذي تسجد له الجباه أن هذا الترتيب لم يأت إلا بحكمة ولحكمة بالغة:-
فالحديث عن الصلاة سابق في السورة للحديث عن الصيام بمقدار التقدم التاريخي للصلاة على الصيام.

ويتأخر الحديث عن الحج كما تأخرت فرضيته عن الصيام، فيأتي الحديث عن الحج إشارة في قوله: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ..... ﴾ [البقرة: 189]: ثم يأتي بعد الحديث عن شريعة القتال في سبيل اللَّه حديث عن الحج: ﴿ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ..... ﴾ [البقرة: 196].

ثم ننتقل إلى نقض إشكال عجيب، فرب معترض يقول إن الحديث عن الحج تقدم قبل هذا في هذه السورة في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [البقرة: 125].

والجواب أن جعل البيت مثابة للناس وأمنا، والصلاة في مقام إبراهيم وتطهير البيت للطائفين. كل هذا كان منذ أن أمر اللَّه إبراهيم ببناء البيت ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ﴾ [البقرة: 127].

كل هذا كان شريعة محكمة في رسالة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وهو شريعة ثابتة غير منسوخة في ملة إمام الأنبياء محمد صلوات اللَّه وسلامه عليه،.. ولذلك فإن الآية بدئت بـ (إذ): وهي تفيد الماضى، أي: (واذكر إذ) وقد تكررت (إذ) قبل هذه الآية مباشرة: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ.... ﴾ وبعدها مباشرة كذلك: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ.... ﴾ ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ... ﴾ والشواهد كثيرة كثيرة وبمثل هذا يجاب على قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ [البقرة: 158].

فهي تقول: ﴿ فَمَنْ حَجَّ ﴾ تمهيدًا لتفصيل بعض أحكام الحج بعد تفصيل أحكام الصيام.

ونعود إلى نداءات السورة السابقة على النداء بالصيام وهي كما يلي:
1- ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21].

فهذا أول أمر وأول نداء في السورة بالعبادة: وهي أي العبادة: مطلق الانقياد والإذعان لله رب العالمين، وبكمال العبادة يكمل الإيمان، ويفوز المؤمن بجنة الرحمن، وكان الخطاب بـ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ دعوة للبشرية إلى طريق اللَّه....

2- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِين َ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 104].

هذه الآية نداء للمؤمنين أن يتأدبوا بأدب المسلمين مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين كانوا يقولون للرسول بالعربية ﴿ رَاعِنَا ﴾ وهي كلمة سب بالعبرية، ولا بد لتحذير المجتمع الإسلامي من مكر اليهود وشرهم.

3- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153]. تأمل سبق الصبر للصلاة في ترتيب الآية وتأمل صلة الصبر بالصلاة وبالصوم حتى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "الصوم نصف الصبر....".

4- ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأرضِ حَلاَلاً طَيِّبًا.... ﴾ [البقرة: 167].

5- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ.... ﴾ [البقرة: 172].

تأمل تكرار الأمر بالأكل من الحلال والطيبات من الرزق، قبل الأمر بالصيام، وهو نهي عن الطعام المباح.

6- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى.... ﴾ [البقرة: 178].

وهذا أمر بالصيام عن الدماء، وإهدار أرواح الناس بالباطل قبل الأمر بالصيام.

7- ثم يأتي الأمر بالصيام بعد الأوامر السابقة يتلوه بعد النداء بوصف الإيمان ستة أوامر أخرى وهي:-
1- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً.... ﴾ [البقرة: 208].

فبعد عديد من الأوامر الشرعية اقتضى المقام تنبيه المؤمنين إلى أن قضية الإيمان كل لا يتبعض، فليس لمؤمن أن يعمل بحكم، ويذر آخر.

والسلم هو الإسلام فاقبلوا الإسلام كله، وجعل قبوله دخولاً فيه، كأن الإسلام مكان أمين إذا دخلته صرت من أهله ثم تتتابع الأوامر مرة أخرى...

2- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم.... ﴾ [البقرة: 204].

3- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى.... ﴾ [البقرة: 264].

4- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ.... ﴾ [البقرة: 267]، أمر بالإنفاق مع بيان أن المال هو مال اللَّه: ﴿ مِمَّا رَزَقْنَاكُم ﴾ ثم بيان لآداب الإنفاق بالنهي عن إيذاء المحتاج لأنك لست متفضلاً عليه، بل فضل اللَّه عليك أكثر، والفقير إنما يأخذ حقه، ثم أمر بأن يكون كسبك من الحلال، وأن تنفق من الحلال أطيبه ﴿ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ ﴾.

5- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 278]، وبعد الأمر بإنفاق الأموال، أمر قاطع أن لا تجمع الأموال من السحت، وأن لا تستغل حاجة المحتاج فترابى، وصدق اللَّه: ﴿ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾ [الروم: 39].

فهذه الآية الكريمة، بينت وجه الصلة بين الأمر بالإنفاق والنهي عن الربا... وبعد التحريم الأبدي للربا، يأتي تفصيل أحكام الدين في أطول آية في القرآن الكريم كله، وهي آية الدين:-
6- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ... ﴾ [البقرة: 282].

بعد هذه القراءة العجلى في محاولة لتدبر بعض أسرار الترتيب والنداء بـ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ ننتقل إلى اللفظ التالي وهو:
(كتب..):
ورد هذا اللفظ في خطاب المؤمنين أربع مرات في أربع آيات وردت خلال سورة البقرة (وورد اللفظ مرتين في السورة تقريعًا لبني إسرائيل على نكوصهم عن الجهاد) وهذه الآيات التي ورد فيها اللفظ هي:-
1- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى..... ﴾ [البقرة: 178].

2- ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 180].

3- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ‏ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ.... ﴾ [البقرة: 183].

4- ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ... ﴾ [البقرة: 216].

وكتب أي فرض كما في قول اللَّه سبحانه وتعالى: ﴿ ..... إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103].... أي فرضًا مؤقتًا بأوقاته فتأمل الوحدة المتحدة لتشريعات القرآن الكريم، وتأمل أيضًا كيف توسطت فريضة الصيام بين هذه الفرائض.

فالقصاص فريضة مكتوبة وإلا ضاعت الأرواح وأزهقت الأنفس وسادت الحياة شريعة المخلب والناب...

ويمكن أن نقول إن هذه الآيات تمثل من جوانب الإسلام كنماذج ما يلي:-
1- التشريع الجنائي في الإسلام (ومنه القصاص).
2- النظام المالي (ومنه الوصية والميراث).
3- الجانب التعبدي (ومنه الصيام).
4- الجانب الحربي والعلاقات الدولية (ومنه فريضة القتال).

فالقصاص حفاظ على الحياة من عدوان ذئاب البشر.

والوصية والميراث حفاظ على المال أن يذهب إلى غير ذويه، وحفاظ على كيان الأسرة بعد وفاة العائل، ووفاء للأب الذي ربي فينتفع ببعض مال ولده..

و﴿ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِين َ ﴾ استلال لأحقاد المعسرين من ذوي القربى بإعطائهم من التركة ما يصلح بعض أحوالهم، ويدفع ألسنتهم إلى الترحم على ميتهم، ولإزالة ما بنفوسهم من وساوس الشر الكامنة في الصدور.

الحفاظ على قيم الحق نقية في النفس الإنسانية وذلك عن طريق التربية الإسلامية ومنها التربية بالصوم.

الحفاظ على عقيدة الإسلام من كيد المتربص، وعلى كيان الدولة المسلمة من غارات حزب الشيطان في الأرض كما قال رب العالمين ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 39].

وهذا سر من أسرار استعمال لفظ بعينه في القرآن، وتكرره في مواضع دون غيرها وكم في القرآن من أسرار، لو كان البحر مدادًا لكلماتها لنفد البحر قبل نفادها.

وهذا أيضًا من أسرار ترتيب الآيات في السورة الواحدة أفصح لنا عن أسرار من التشريع، وعن كنوز من مناهج التربية الإسلامية وهذا قليل من كثير... فإذا وجدت لسانًا قائلاً فقل.
المصدر: مجلة التوحيد، عدد 1397 رمضان هـ.