شتانَ بين صلاتهم وصلاتي!


إبراهيم الأزرق


قال: لقد استفدت في قيام الليلة الماضية فائدة عظيمة!

قلت: وما هي رحمك الله؟ أتحفنا بها.


قطب جبينه، ورفع إصبعه، وقال متفيهقاً: نظرتُ في الركوع فوجدتُ أغلبَ المصلين لا يطبقون السنة في قص أظفار الرجلين!!


صُدِمت لأول وهلة! إذ يبدو أن صاحبنا كان يقضي مدة الركوع الطويلة نسبياً في القيام بتفقد أحوال أصابع المجاورين! ولم أملك أن ترحمتُ في خاطري على هبنّقة وعجل بن لجيم! تعالوا وانظروا بمن ابتلينا!


ولكنها عبرة؛ فشتان ما بين مصل ومصل، جسد بجوار جسد، وبين رُوحيهما ما بين السماء والأرض!


أحدهما سمت نفسه إلى الملأ الأعلى، فتحقق إيمانه بالغيب كأنه ينظر إلى الجنة والنار، وقد قامت سوقهما، فجلده يقشعر تارة ويلين أخرى، وهو ينصت إلى وعد مولاه ووعيده كأنه ينظر إليه.


وآخرُ غاية همه الأظفار والأظلاف!


وبين الاثنين مراتب، فأين أنت؟

ربما لا تكون صاحبَ الأظفار والأظلاف، فإن سلمك الله فاحرص على أن لا تكون من أصحاب التقسيم والتصنيف في الصلاة، فقد مر بي موقف آخر علمت فيه أن مِن الناسِ مَنْ غاية همه كيف صنع فلان! هل أسدل يديه بعد الركوع أو قبضهما؟ وهل هوى بركبتيه أو ابتدر الأرض بكفيه؟ وهل قام معتمداً على القبضة عاجناً أو كالسهم واقفاً؟ وهل ألصق قدميه بمجاوره أو لم يفعل... وأرجو أن لا يفهم بعض من لم يستنر قلبُه بتعظيم السنة من هذا تسفيهاً لبحث مسائل علمية مجردة، فمن قصد تسفيهَ سنةٍ قد ثبت عنده أنها سنة فقد كفر، ولكن القصد تسفيه حلم من اشتغل عن مراقبة ربه في صلاته بمراقبة تصرفات عباده، بل طفق يقسم الناس بناء على تلك المسائل الفرعية التي لا يصح أن نجعلها معقد ولاء وبراء، اختلف فيها أكابر أهل السنة قديماً وحديثاً.

وتأمل –أخي الكريم- وانظر البون الواسع، والفرق الشاسع! فشتان شتان ما بيننا وبين سلفنا رضوان الله عليهم، تأمل حالهم وتأمل حال صاحبنا المذكور وأمثاله! قال عمر بن عبد العزيز لابن أبي ملكية: صف لنا عبد الله بن الزبير فإنه ترمرم [حرك شفتيه بأدنى الكلام] على أصحابنا فتغشمروا [اعتسفوا الرأي فيه وتشددوا] عليه فكان مما قال: لقد قام يوماً إلى الصلاة فمر حجر من حجارة المنجنيق بين لحييه وصدره، فوالله ما خشع لها بصره، ولا قطع لها قراءته، ولا ركع دون الركوع الذي كان يركع، إن ابن الزبير كان إذا دخل في الصلاة خرج من كل شيء إليها، ولقد كان يركع ويسجد كأنه ثوب مطروح[1].


وقال غيره: كان الحمام يقع على رأس ابن الزبير في المسجد الحرام يحسبه جذعاً منصوباً لطول انتصابه في الصلاة[2].


وقال آخر: كانت العصافير تقع على ظهر إبراهيم بن يزيد بن شريك وهو ساجد كما تقع على الحائط، وربما نقرته[3]!


ونحو هذا نقل عن الربيع بن خُثيم[4]، وعن عنبس بن عقبة التيمي[5] فهؤلاء أربعة.


وكان مسلم بن يسار إذا أراد أن يصلي في بيته يقول لأهله: تحدثوا فلست أسمع حديثكم. وكان إذا دخل البيت سَكَتَ أهلُه فلا يُسْمَعُ لهم كلامٌ، فإذا قام إلى الصلاة تحدثوا وضحكوا. ووقع حريق إلى جنبه وهو في الصلاة فما شعر به حتى أطفئ، وسقط حائط المسجد وهو قائم يصلي فما علم به[6].


وكان بعض السلف إذا قام إلى الصلاة ارتعد واصفرَّ لونُه، فكُلِّم في ذلك، فقال: إني أقف بين يدي الله تعالى، وحُقَّ لي هذا مع ملوك الدنيا، فكيف مع مَلك الملوك[7].


وكان علي بن الحسين إذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة، فقيل له: ما لك؟ فقال: ما تدرون بين يدي من أقوم ومن أناجي[8]؟


وكان عبدالله بن مسعود إذا هدأت العيون قام فيسمع له دوي كدوي النحل حتى يصبح[9].


وقد كان صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تتورم قدماه فما يفتر[10]، ويُسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل، وعيناه تذرفان[11]، وفي الإسرائيليات أن إبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام- كان يسمع لقلبه خفقان وغليان[12]، فهذا خوف الخليلين عليهما السلام مع ما أُعطياه من الإجلال والإكرام وشرف المقام.


فالعجب كيف يطمئن قلبُ من أزعجته الآثام؟ وكيف يجول خاطره في الضَّحَاضِح والأوهام؟


فيا من إذا قام إلى الصلاة لم تخلص له ركعة، يا نائماً في انتباهه إلى متى هذه الهجعة؟


اللهم أعنا على الصلاة، وتقبلها منا بكرمك، ولا تجعلنا من الغافلين برحمتك يا أرحم الراحمين.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـ
[1] انظر تاريخ دمشق لابن عساكر 28/173.
[2] المستطرف للأبهيشي 1/20.
[3] انظر ترجمته في تهذيب التهذيب 1/154.
[4] انظر بغية الطالب في تاريخ حلب 8/3574، وصفة الصفوة 3/63.
[5] انظر مصنف ابن أبي شيبة 7/235 (35628).
[6] انظر حلية الأولياء 2/290.
[7] انظر تفسير ابن عطية المحرر الوجيز 4/319.
[8] انظر حلية الأولياء 3/133، وترجمته في تهذيب الكمال أيضاً.
[9] انظر تهذيب الأسماء للنووي 1/271.
[10] ينظر البخاري (1078) وغير موضع، ومسلم (2819).
[11] هذا معنى ما رواه النسائي في سننه (1214)، وقد صححه الألباني.
[12] المستطرف للأبهيشي 1/20، وقد أذن لنا في التحديث عن بني إسرائيل ولا حرج، وليس في الخبر ما يستنكر.