هانت عليهم فتعلقت قلوبهم ببارئها
حسينية تدركيت

دمعة أمل أشرقت من بين ثنايا ألم كسر خاطري، وحرك لواعجَ قلبي بعد سكون، والشيخ يُردِّد: لا غايةَ للمؤمن إلا رضا الله ثم الجنة.
هدوء عجيب يبدده صوت القارئ وهو يربط القلوب بالله - سبحانه -: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[الأعراف: 43].
وُعُود يقف عندها العقلُ البشري حائرًا من تأثيرها على ذاته، ويعجز عن تصوُّر مدى عُمقها، وهي تخترق الألَم والحزن، فيختفي كأنَّه لم يكن، كيف لا وهي تَعِدُ بحياة خالدة لا حزنَ فيها ولا تعب ولا نصب...؟!
فهل تغلب المؤمنَ لحظاتُ ألَمٍ يسكن في عُمقها الأمل، وفي أعماق وجدانه يسكن يقينُه بأنَّ الله يعده بالحسنى إن هو تَجمَّل بالصبر، ومضى في رحلة الحياة يقطف ثمار إيمانه، فإذا هي حلوة ندية، يزينها صبره واحتسابه على أقدار الله؟!
تهون كلُّ الصعاب إذا كان الطريقُ مُمَهَّدًا يأخذ بأيدينا إلى السعادة الأبدية، حتى الألم يخف ويختفي حينما تهفو الأرواح إلى الجنان، نسيمُها يُرفْرِف على أطيافٍ تدنو منها بخُطًا حثيثة، تتجرع الصبر حلوًا، كلما استعرضت آيات الله وهي ترفع الهمم نحو القمم، لا استسلام ولا بكاء على أطلالٍ فانية زائلة، ولا إحساس بالحرمان، بل شموخ وصبر وثبات؛ كما قال - سبحانه - في محكم كتابه الكريم: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا)[الفرقان: 75].
كم أصلحت الكلمة (الجنة)، ورممت بداخلي من صور كانت مُشوَّهة، وجعلت في آخر النفق نورًا يكبر ويكبر، وفي حنايا روحي همسة شوق تردد الآية الكريمة: (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا)[الإنسان: 12].
كنت أتابع الشيخ وهو يردد:
لا ضيرَ من همٍّ أو غَمٍّ أو حزن يصيب المؤمن، فبه تُغفرُ ذنوبه، وترفع درجاته في أعلى عليِّين، ما وَخْزَةُ ألم في دارٍ لا قرارَ فيها، إن تصبَّر المؤمن واحتسب على الله الأجر والثواب - إلاَّ كان جزاؤه الجنة.
وما الدنيا بالنسبة للآخرة إلاَّ وَمْضَة برق وَمَض واختفى، عمر زمني قصير جدًّا لا يُقاس بالأبدية التي لا نِهايَةَ لها، ثم ما مُتع الدنيا أمام النعيم السرمدي في الجنة؟!
وقد يغمرنا الإحساس بالحرمان في غمرة الابتلاء، والرُّوح بعدُ تُحلِّق باحثةً عن مصدر للأمان، وبينما هي كذلك يتبين لنا أنَّ الحرمان الحقيقي: أنْ لا تعرف أن لك ربًّا رحيمًا يرحم ضعفَك، ويجبر كسرك، ويمدك بالعون؛ كي لا تنهزم، فتمضي مرفوعَ الرأس كأنَّك تقول: مهلاً ليست هذه هي النهاية، هناك مشهدٌ آخر للحياة لا يراه إلاَّ من أعطاه الله البصيرة المستنيرة بالإيمان، إنه نعيم الجنة، هنا ينجلي في الشعور بالطمأنينة والسكينة والرحمة، ثم مَوعد ينتظره المؤمن الصابر لا يُخلَف أبدًا، إنه قريب وإن بدا غيرَ ذلك، ونحن في ساحة اختبار كبرى، كل منا عليه أن يَمُرَّ منها، ثم هناك الفوز العظيم، أو الخسران المبين، وستنجلي لنا حقائقُ كبرى غفلت عنها قلوبنا، بينما كانت ترتع في مراتع اللَّهو هذه.
ويعلمنا - جل وعلا - بالابتلاء، ويربينا ويَجعلنا نرى الدُّنيا على حقيقتها، عارية من كل زينة، سفينة تتأرجح على أمواجٍ عاتية، كل شيء فيها يتغير، لا قرارَ ولا استقرار إلاَّ بين يدي الرحيم الرحمن، وإذا ما استبد بنا الحزنُ أو الألم، أماط لنا الستار عن الزخرف الفاني، وبكلمات كافية شافية يصف لنا الظل الزائل: قال - سبحانه وتعالى -: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا)[الكهف: 45].
وبينما تَختلط علينا الأمور نجد أنَّ الصحابةَ - رضي الله عنهم - والسلف عرفوا حقيقةَ الدُّنيا، فهانت عليهم، فتعلقت قلوبهم ببارئها، وكأنِّي بهم يتمثلون الحياة ولحظاتِها، ويرونها في قوله - سبحانه وتعالى -: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[العنكبوت: 2 - 3].
هذه الآية توضح لنا أنَّ الدنيا دارُ ابتلاء لا غير، إذا تعمق هذا المعنى في وجداننا، لأصبحَ الحالُ غير الحال.
فالحياةُ اختبارٌ مُدته قصيرة وإن طالت، واللبيب لا يخسر رضا رَبِّه بالتضجر والتسخط على أقدارٍ لا يَملك أن يردَّها ولا أن يغيرها، ولكن يستطيع أن يصبرَ عليها، فيؤجر عليها إن شاء الله - تعالى - فقد جاء في الحديث عن هذه المدة القصيرة، التي تتناوب فيها على المؤمن شتى الابتلاءات والمحن؛ لتمحيصه، وتمييزه، ورفع درجاته عند ربه: روى البخاري في صحيحه، عن عبدالله بن مسعود - رضي الله - تعالى -عنه - قال: "خط لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خطًّا، ثم قال: ((هذا سبيل الله))، ثم خط خطوطًا عن يَمينه وعن شماله، ثم قال: هذه سبل - قال يزيد: متفرقة - على كُلِّ سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)[الأنعام: 153]؛ أخرجه أحمد.
وعن أسرار البلاء: قال الفضيل بن عياض: "الناس ما داموا في عافية مستورون، فإذا نزل بهم بلاءٌ، صاروا إلى حقائقهم، فصار المؤمنُ إلى إيمانه، وصار المنافق إلى نفاقه".
أيعقل بعد كلِّ هذه اللطائف الربانية والرحمة التي تعمُّنا ونحن في غمرة الاختبار - أن ندعَ الفُرصةَ تفوتنا بالإصغاء إلى وسوسةٍ تبغي هلاكَنا، وتسعى لكي نهوي في دركات الجحيم، بينما هناك حياة لا تشبهها، حياة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، غمسة فيها تُنسِي المؤمنَ كلَّ بؤس رآه في حياته الدُّنيوية، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كما في جاء في الحديث، عن أنس بن مالك قال: "يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((يُؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يومَ القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابنَ آدم، هل رأيت خيرًا قط؟ هل مَرَّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويُؤتى بأشدِّ الناس بؤسًا في الدنيا من أهلِ الجنَّة، فيصبغ صبغةً في الجنة، فيقال له: يا ابنَ آدم، هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مَرَّ بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مرَّ بي بؤس قط، ولا رأيت شدةً قط))"؛ رواه مسلم.
الجنة تلك الكلمة التي من أجلِها ضَحَّى الأوائل بالغالي والنفيس، وهم يتطلعون بشوق إليها، ومن حبهم لرضا الله وحنينهم إليها، كانوا يشعرون بها حقيقةً تحركهم وتَجذِبهم إليها بإذن الله - تعالى - كما جاء في الحديث: "ثبت عن أنس بن النضر - رضي الله عنه - يوم أحد قبل استشهاده، فقد قال لسعد بن معاذ - رضي الله عنه -: يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النضر، إنِّي أجد ريحها من دون أحد"؛ الحديث متفق عليه.
آمنوا بالله ثم بما وعدهم، فترسخ ذلك في كلِّ ذرة من كيانهم، حتى لكأنَّ الغيب توارت حجبه، فانجلت لهم الجنة بنعيمها الخالد.
أرأيت كيف انجلى هذا الغمُّ بذكر الله، ثم بالشوق إلى لقائه وإلى جناته ؟!
لا ضيرَ إن تألم بدنك، وتجرعت الغصص، فما هي إلاَّ لحظات تَمضي وتنقضي مدة الاختبار، أوقاتٌ فقط من الألَم تتخللها رحماتٌ وعناية ربَّانية، ترسم على الوجه الحزين ابتساماتٍ، وتزرعُ في أعماق الرُّوح سكينةً وطمأنينة وهدوءًا، سلسبيل من المعاني الحلوة ارتويتُ منه حدَّ الامتلاء، والحديث الشريف يوضِّح ذلك: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عِظَمُ الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رَضِيَ فله الرضا، ومن سخط فله السخط))؛ رواه الترمذي، وابن ماجه وصححه الألباني.
كم سنعاني إن غفلنا عن المعين الصافي! فنحن بلا شكٍّ في دار تقلب وبلاء، إن لم يكن هناك معين نرتوي منه كلما اشتَدَّ الظمأ، فسوف تهلكنا بفتنها وبهرجها الفاني وسرابها الخدَّاع.
هذه أدوية شافية وكافية؛ كي لا يضجر أحد من ألَم أو حرمان، أو فقد لشيء من عَرَض الدُّنيا الزائل، سيجد الطمأنينة تسري في عروقه، فيتجدد الأمل في الله.
روى مسلم (2999) عن صهيب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمرَه كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له)).
بعد هذا انقلب الحزن فرحًا وطمعًا في رحمةِ الله - سبحانه - وكأنَّني أستعذب الألَم، كلما تردَّد في وجداني: ((عِظَمُ الجزاء مع عظم البلاء)).
تعلو همتي فوق رغباتي، وتسمو إذا ما جالت وصالت بين بساتين الحب، تنتشي كلما أرهفت السمع للنداء الحبيب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آل عمران: 200].
ما أرقَّه! وما أبدعه! وما أجمله من نداء، وهو يتغلغل رويدًا رويدًا؛ ليُسكِن الروح! ترقص كل ذرة في كياني فرحًا وطمعًا بأن أكونَ ممن ناداهم الله فلَبُّوا النداء، وتجملوا بالصبر على البلاء.
قصيرة هي الرحلة، أغمضي عينيك، ثُمَّ تَمسكي بالحبل المتين، لا تبتعدي عن الطريق، لا يغرنَّك هذا الظل الزائل.
وليكن نبراسك كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - في الصحة والسقم، في العافية والابتلاء، وتذكري قوله - جل في علاه -: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ)[الفجر: 15 - 16].
وتشبَّثي بالسنة النبوية الشريفة، ففيها تربيةٌ للنَّفس، وتزكية لها، وهي حصن منيع يقي من سِهَام الدُّنيا.
جاء في الحديث الشريف الذي رواه الترمذي من حديث المستورد بن شداد، قال: "كنت مع الركب الذين وقفوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السَّخْلة الميتة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها))، قالوا: ومن هوانها ألقوها يا رسولَ الله، قال: ((فالدُّنيا أهون على الله من هذه على أهلها))"؛ ‏رواه الترمذي في سُنَنه.
لهوانها هانت عليَّ متاعِبُها، وبدت لي كل المصاعب التي يَمر به المسلم المبتلى على أنَّها في الحقيقة أسبابٌ لسعادته، وإن ظهر لنا العكس، فالله - سبحانه وتعالى - خلقنا لعبادته، وابتلانا ليصطفي منا الأخيار، فيبتلينا لنصبر، ويعافينا لنشكر، وفي كل ذلك خير لنا - إن شاء الله - تعالى - وبهذا تتحقق العبودية كما يريدها - سبحانه -.
قال عز من قائل: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)[الملك: 2].
تحسست قدمي وابتسمت، واتَّسعت البسمة حتى ظننتها تشمل الكون كله، وتَمسح عن كاهلي همومَ العمر عندما تذكرت جناتِ الخلد، وهمس خاطر جميل بداخلي: لعل قدمك هذه التي لا تقوى على حملك على أرض يَمشي عليها الصالح والطالح، لعلك ترتقين بها درجات الجنان دار الأنبياء والصالحين، وتختالين هناك، ليس غرورًا، بل فرحًا وطربًا برضا الله، وتحمدين هناك أنك كنت هنا من المؤمنين الصابرين.