أي الدارين تريدين ؟!
محمد بن عبد الله العبدلي

إن المتأمل في حياة الإنسان وما يمر فيها من أطوار متعددة، ويسكن أماكن مختلفة ومتنوعة، ويخرج من الأولى ليدخل في التي تليها حتى يأتي في مستقره الذي كتبه الله -تبارك وتعالى- له في نهاية المطاف، والأصل في ذلك قول الحق- تبارك وتعالى - في كتابه الكريم: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ) [سورة المؤمنون: 12-16]، فأصل خلق الإنسان من طين، وذلك لآدم - عليه الصلاة والسلام -، ثم هنالك أطوار يمر بها في بطن أمه وهي أول دار يسكنها، نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً ثم تكسى تلك العظام باللحم، وهذه الدار يمكث فيها تسعة أشهر ثم ينتقل منها، فيخرج إلى دار أخرى إنها هذه الحياة الدنيا، دار الابتلاء، دار العمل، وهذه الدار يمكث فيها ما يقدر له الله- تبارك وتعالى -من الأجل ثم ينتقل منها بما عمل فيها إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وكل عمل مجزي به، فيخرج من هذه الحياة بالموت الذي كتبه الله على جميع الخلق كما في قوله: (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) [سورة آل عمران: 185]، وبالموت ينتقل الإنسان إلى الحياة البرزخية في القبر إلى قيام الساعة فيخرج منه إلى أرض المحشر، إلى الوقوف بين يديّ الله- تبارك وتعالى -في يوم القيامة، يخرجون حفاة عراة غرلا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً))، قلت: يا رسول الله النساء والرجال جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض))[1]، خاشعة أبصارهم كأنهم الجراد في انتشارهم قال الله: (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ) [سورة القمر: 7]، وفي هذا اليوم أعني يوم القيامة- يكون فيه فصل القضاء، ووزن الأعمال، فمن ثقل فيه ميزان أعماله الصالحة فهنيئاً له الدار الأبدية دار الخلود، دار النعيم، هنيئاً له الجنة، ومن خف ميزانه فيا حسرته، ويا خيبته، قال الله - تعالى -: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ) [سورة الأعراف: 8-9]، ويقول الله - تبارك وتعالى - في الحديث القدسي الذي رواه الإمام مسلم عن أبي ذر - رضي الله عنه - وفيه أنه قال: ((يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه))[2].
العين تبكي على الدنيا وقد علمت *** أن السلامة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها *** إلا التي كانت قبل الموت يبنيها
فلا تركن إلى الدنيا وزخرفها *** فالموت لا شك يفنينا ويفنيها
أختي الكريمة: هذه الدار هي آخر دار يمر بها الإنسان فإما جنة وإما نار، خلود لا موت في أحدهما، وفيما يلي أيتها الكريمة نعرض لبعض من أوصاف تلك الدور عسى أن تُشحذ الهمم للمسابقة والمسارعة إلى أحدهما:
من صفات الجنة:
إن الله- تبارك وتعالى - جعل الجنة درا المتقين الأبرار، ودعاهم ربهم للتنافس بالأعمال، وبين لهم صفاتها في كتابه الكريم وبينها كذلك النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - في سنته، ليشتاق العُشاق، وفيما يلي نذكر بعضاً منها:
- أن نعيمها أبدي لا يفنى ولا يزول، وأن الأنهار تجري من تحتها: أهل الجنة في الجنة ينعمون في نعيم لا يفنى ولا يبيد، الأنهار تجري من تحتهم، أنهار من عسل مصفى وأنهار من خمر لذة للشاربين، أنهار من لبن لم يتغير طعمه قال الله- تبارك وتعالى -: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ) [سورة الرعد: 35]، فالذين تركوا ما نهاهم الله- تبارك وتعالى - عنه، ولم يُقصِّروا فيما أمرهم به، لهم هذا النعيم المقيم الأبدي جزاء بما عملوا، فتلك عاقبتهم ومآلهم الذي يصيرون إليه، وقال - سبحانه -: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ) [سورة محمد: 15]، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه))[3]، وإذا أُدخل أهل الجنةِ الجنةَ وأهل النارِ النارَ أُتي بالموت فيوضع بين الجنة والنار فيذبح كما ثبت من حديث عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وصار أهل النار إلى النار، أُتى بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي مناد يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم))[4].
- فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة السجدة: 17]، وقال: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [سورة الزخرف: 71]، قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "فلا يعلم أحد عظمة ما أخفى الله لهم في الجنات من النعيم المقيم، واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد، لَمَّا أخفوا أعمالهم أخفى الله لهم من الثواب، جزاء وفاقاً؛ فإن الجزاء من جنس العمل" [5]، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله - تعالى -: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فاقرؤوا إن شئتم: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ)[6].
- أول زمرة تدخل الجنة: إن أول زمرة تدخل الجنة تكون صورهم كالقمر ليلة البدر، وأنهم يزوجون من الحور العين، لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين على آثارهم كأحسن كوكب دري في السماء، إضاءة قلوبهم على قلب رجل واحد لا تباغض بينهم ولا تحاسد، لكل امرئ منهم زوجتان من الحور العين يرى مخ سوقهن من وراء العظم واللحم))[7].
- منازل أهل الجنة: إن الله- تبارك وتعالى - يكرم أهل الجنة بأنواع النعيم، ومن ذلك تلك المنازل التي لبناتها الذهب والفضة، وملاطها المسك، وحصباؤها الياقوت واللؤلؤ، وتربتها الزعفران والورس كما ثبت ذلك عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بناء الجنة لبنة من ذهب، ولبنة من فضة))[8]، وعنه - رضي الله عنه - قال: قلنا: يا رسول الله، أخبرنا عن الجنة، ما بناؤها؟ قال: ((لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، ملاطها المسك الأذفر، حصباؤها الياقوت واللؤلؤ، وتربتها الورس والزعفران، من يدخلها يخلد لا يموت، وينعم لا يبأس، لا يبلى شبابهم، ولا تخرق ثيابهم))[9].
ومما ورد في خيام أهل الجنة حديث أبي بكر بن عبدالله بن قيس عن أبيه - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا))[10]، وعنه - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الخيمة درة طولها في السماء ستون ميلا في كل زاوية منها أهل للمؤمن لا يراهم الآخرون))[11].
ويقول رب العزة والجلال - سبحانه -: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ) [سورة الزمر: 20]، يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "أخبر -أي الله- عن عباده السعداء أنهم لهم غرف في الجنة، وهي القصور الشاهقة (مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ)، أي: طباق فوق طباق، مَبْنيات محكمات مزخرفات عاليات" [12].
- آنية أهل الجنة: ومن النعيم الذي ينعمون به أهل هذه الدار أن آنيتهم من الذهب والفضة بعد أن كانت محرمة عليهم في الحياة الدنيا فقد ثبت عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن))[13].
- أهل الجنة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون: ومن صفات أهل الجنة أن الله- تبارك وتعالى -جعلهم يأكلون ويشربون لكنهم لا يتغوطون ولا يبولون ولا يمتخطون، كما في حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يأكل أهل الجنة ويشربون، ولا يمتخطون ولا يتغوّطون ولا يبولون، طعامهم جُشَاء كريح المسك، ويلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النفس))[14].
- رؤية الله -تبارك وتعالى-: ومن أعظم نعيم أهل الجنة الذي به يتنعمون رؤية الرب -تبارك وتعالى- قال رب العزة والجلال: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [سورة يونس: 26] عن صهيب - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ قال يقول الله- تبارك وتعالى -: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم - عز وجل -))[15]، وفي الرواية التي بعده: " ثم تلى هذه الآية: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)"، فالحسنى الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم.
فهذه بعض صفات الجنة وأهلها، نقتصر عليها، ومن رام المزيد فعليه بمطالعة كتاب الله- تبارك وتعالى - وتدبره والوقوف عند آياته، وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهما الأصل في قبول الأخبار الغيبية، وفيما يلي نذكر بعضاً من صفات النار.
من صفات النار: إن الله -تبارك وتعالى- جعل النار دار الهوان، لكل مجرم عاتٍ معرض عن عبادة الله تبارك وتعالى، وقد ورد في كتاب الله وفي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - التحذير منها، ومن الأعمال التي تقرب إليها، وورد كذلك صفاتها؛ ليفر الإنسان منها، وفيما يلي أختي الكريمة نذكر بعضاً من صفاتها فمنها:
- قوتها: لقد ورد في قوة هذه النار العظيمة أنها يُسمع لها تغيظ وزفيراً إذا رأت أصحابها كما قال الله عنها: (إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) [سورة الفرقان: 12]، وأما ما ورد فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ناركم هذه التي يُوقِد ابن آدم جزءٌ من سبعين جزءًا من حرِّ جهنم))، قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله، قال: ((فإنها فُضِّلت عليها بتسعةٍ وستين جزءًا كلّها مثل حرّها))[16]، وكذا ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اشتكت النار إلى ربِّها فقالت: ربّ، أكل بعضي بعضًا فأذن لها بنفَسَين: نفَسٌ في الشتاء ونفَسٌ في الصيف، فأشدُّ ما تجدون من الحرّ، وأشدّ ما تجدون من الزمهرير))[17].
- طعام أهلها وشرابهم: إن أهل النار يأكلون ويشربون، لكن هذا الأكل والشراب من نوع خاص، إنه كما قال الله- تبارك وتعالى -: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ*كَال مُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ*كَغَ ْيِ الْحَمِيمِ) [سورة الدخان: 43-46]، وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((لو أن قطرة من الزقوم قطرات في دار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم فكيف بمن يكون طعامه؟))[18]، هذا طعامهم إذا جاعوا، فإذا أكلوا منها التهبت أكبادهم عطشاً، (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا) [سورة الكهف: 29] والمهل- وهو الرصاص المذاب - يشوي وجوههم حتى تتساقط لحومها، فإذا شربوه على كره وضرورة قطع أمعاءهم، ومزَّق جلودهم.
- لباس أهلها: وإن أهل النار يعطون لباساً لكنه لباس الشر والعار والعذاب والمهانة، فقطعت لهم ثياب من نار، قال الله عنهم: (سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ) [سورة إبراهيم: 50]، فلا يقيهم هذا اللباس حر جهنم، وإنما يزيدها اشتعالاً وحرارة، وثم إنهم لا يستطيعون أن يتقوا به لهب النار وحرها عن وجوههم: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ* يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ* وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ* كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) [سورة الحج: 19-21].
- وقودها: يقول الله- تبارك وتعالى - مخبراً عن وقود هذه الدار بأنهم الناس والحجارة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [سورة التحريم: 6].
- بعد قعرها: إن من عظم النار أن قعرها بعيد جداً فقد قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كنا عند النبي- صلى الله عليه وسلم - فسمعنا وجبة- أي صوت شيء وقع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أتدرون ما هذا؟ قال قلنا الله ورسوله أعلم قال هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها)[19].
أختي الكريمة: ها نحن قد كشفنا الحُجُب وبينا لك مصير الإنسان في هذه الحياة، ثم بينا أن في القيامة حساب وسؤال ثم إما جنة أو نار
فالموت باب وكل الناس داخلة *** يا ليت شعري بعد الموت ما الدار
الدار جنة عدن إن عملت *** بما يرضي الإله وإن فرطت فالنار
هما مصيران ما للمرء غيرهما *** فانظر لنفسك ماذا أنت تختار
فاختاري أيتها الكريمة أيَّ المنازل تُريدين؟ ومع أيِّ الفريقين تذهبين؟ ولا تحرمي نفسك جنَّات النعيم باتباع الهوى والشيطان، فتكونين من أهل النار -والعياذ بالله-، النار..
فيها غلاظ شداد من ملائكة *** قلوبهم شدة أقسى من الحجر
لهم مقامع للتعذيب مرصدة *** وكل كسر لديهم غير منجبر
سوداء مظلمة شعثاء موحشة *** دهماء محرقة لواحة البشر
يا ويلهم تحرق النيران أعظمهم *** فالموت شهوتهم من شدة الضجر
ضجوا وصاحوا زمانا ليس ينفعهم *** دعاء داع ولا تسليم مصطبر
وكل يوم لهم في طول مدتهم *** نزع شديد من التعذيب في سقر
فيا أيتها الكريمة إذا كانت النار بهذه المثابة بل أشد وأفضع، ولا زلت في زمن الإمهال، أليست فرصة لكِ أن تتخلصي من الآثام وتقبلي إلى الكريم الرحمن بالتوبة والإنابة حتى تكونين من أهل الجنة دار النعيم، أسأل الله العظيم بمنه وكرمه أن يحرم أجسامنا على النار، ونسأله أن يجعلنا من أهل دار الجنان، والحمد لله رب العالمين.
_______________
[1]: رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة، برقم (2859).
[2]: رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2577).
[3]: رواه مسلم، برقم (2836).
[4]: رواه مسلم، برقم (2850).
[5]: تفسير ابن كثير(6/365)، دار طيبة.
[6]: رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم (3072)، ومسلم، أوائل كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، برقم(2824).
[7]: رواه البخاري، برقم (3081)
[8]: رواه أحمد في المسند برقم (8747)، وقال محققوه: حديث صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3116).
[9]: رواه أحمد في المسند برقم (9744)، وقال محققوه: حديث صحيح، وقال الألباني: صحيح لشواهده في تحقيق مشكاة المصابيح برقم (5630)، وفي صحيح الجامع برقم (3116).
[10]: رواه مسلم، برقم (2838).
[11]: رواه مسلم، برقم (2838).
[12]: تفسير ابن كثير (7/91)، دار طيبة.
[13]: رواه البخاري برقم (7006)، ومسلم برقم (180).
[14]: رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيا، برقم (2835).
[15]: رواه مسلم، برقم (181).
[16]: رواه مسلم، برقم (2843).
[17]: رواه البخاري، برقم (3087)، ومسلم برقم (617).
[18]: رواه الحاكم في المستدرك، برقم (3686)، وقال: صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه؛ مشكاة المصابيح، برقم (5683)؛ وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب برقم(2159)؛ وضعيف الترمذي برقم(481)؛ وروي بالفظ: " فكيف بمن ليس له طعام غيره؟ " في صحيح ابن حبان برقم (7470)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
[19]: رواه مسلم، برقم(2844).