قال الشيخ بن باز على شرح الطحاوية -
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُخَاطَبَ لَا يَفْهَمُ الْمَعَانِيَ الْمُعَبَّرَ عَنْهَا بِاللَّفْظِ إِلَّا أَنْ يَعْرِفَ عَيْنَهَا أَوْ مَا يُنَاسِبُ عَيْنَهَا، وَيَكُونُ بَيْنَهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وَمُشَابَهَةٌ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى، وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ تَفَهُّمُ الْمُخَاطَبِينَ بِدُونِ هَذَا قَطُّ، حَتَّى فِي أَوَّلِ تَعْلِيمِ مَعَانِي الْكَلَامِ بِتَعْلِيمِ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ، مِثْل: تَرْبِيَة الصَّبِيِّ الَّذِي يُعَلَّمُ الْبَيَانَ وَاللُّغَةَ، يُنْطَقُ لَهُ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ له، وَيُشَارُ لَهُ إِلَى مَعْنَاهُ إِنْ كَانَ مَشْهُودًا بِالْإِحْسَاسِ الظَّاهِرِ أَوِ الْبَاطِنِ، فَيُقَالُ لَهُ: لَبَنٌ، خُبْزٌ، أُمٌّ، أَبٌ، سَمَاءٌ، أَرْضٌ، شَمْسٌ، قَمَرٌ، مَاءٌ، وَيُشَارُ لَهُ مَعَ الْعِبَارَةِ إِلَى كُلِّ مُسَمًّى مِنْ هَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ ، وَإِلَّا لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَى اللَّفْظِ وَمُرَادَ النَّاطِقِ بِهِ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ يَسْتَغْنِي عَنِ التَّعْلِيمِ السَّمْعِيِّ، كَيْفَ وَآدَمُ أَبُو الْبَشَرِ أَوَّلُ مَن عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أُصُولَ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، وَهِيَ الْأَسْمَاءُ كُلُّهَا، وَكَلَّمَهُ وَعَلَّمَهُ بِخِطَابِ الْوَحْيِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ؟ فَدَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى هِيَ بِوَاسِطَةِ دَلَالَتِهِ عَلَى مَا عَنَاهُ الْمُتَكَلِّمُ وَأَرَادَهُ، وَإِرَادَتُهُ وَعِنَايَتُهُ فِي قَلْبِهِ، ولَا يُعْرَفُ بِاللَّفْظِ ابْتِدَاءً، وَلَكِنْ لَا يُعْرَفُ الْمَعْنَى بِغَيْرِ اللَّفْظِ حَتَّى يَعْلَمَ أَوَّلًا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى الْمُرَادَ هُوَ الَّذِي يُرَادُ بِذَلِكَ اللَّفْظِ وَيُعْنَى بِهِ، فَإِذَا عَرَفَ ذَلِكَ ثُمَّ سَمِعَ اللَّفْظَ مَرَّةً ثَانِيَةً عَرَفَ الْمَعْنَى الْمُرَادَ بِلَا إِشَارَةٍ إِلَيْهِ.
الشيخ: والمقصود من هذا كله بيان أنَّ أسماء الرب عزَّ وجل وصفاته لها أصول لبني آدم معروفة؛ ولهذا عرفوا المعنى: فالسميع معروف عند بني آدم، ما هو السميع؟ والعليم كذلك، والبصير، والقادر، أراد، شاء، اليد، الوجه، جنس هذه الأصول معروفة، فإذا جاءت في صفات الله جلَّ وعلا: السميع العليم، والعزيز الحكيم، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:27]، ظهر للمُخاطب هذه المعاني مما عرفه سابقًا في لغة العرب التي يُخاطب بها قومه، ويُخاطبه بها قومه، وهكذا في اللُّغات الأخرى التي يتخاطبون بها، فإنَّ لها أناسًا يعرفون هذه المعاني، ولكن لا يلزم أن تكون المعاني في مثل تلك المعاني من كل الوجوه، لكن فيه التَّشابه في الأصل -أصل المعنى- ولا يلزم إذا قلت: أن الذَّرة سميعة بصيرة، وأن الإنسان سميع بصير، لا يلزم من هذا أن يكون الإنسانُ شبيهًا بالذرة، أو الذرة شبيهة بالإنسان، وهكذا أشباه ذلك، فإن أكمل التَّفاوت موجود حتى في المخلوقات، تفاوت عظيم بين الذرة وبين الإنسان، وبين البعير وبين الذرة، وأشباه ذلك. فالتفاوت الذي بين أسماء الله وصفاته وبين صفات المخلوقين أعظم وأكبر، فلا يلتقي هذا مع هذا، بل بينهما بون عظيم، وإن كان أصل الاشتراك في المعاني معروفًا؛ إذ به عُرف المعنى، فالسمع معروف للأصوات، والبصر للمرئيات، بهذا يُعرف المعنى: وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:61]، معناه أنه يسمع الأصوات، ويرى الأشياء، كما أن ابن آدم يسمع ويرى، ولكن ليس السميع كالسميع، وليس البصير كالبصير، وهكذا كونه عليمًا والإنسان عليم، فالله يُسمَّى: عالمًا، والله جلَّ وعلا قال: وَأُولُو الْعِلْمِ [آل عمران:18]، ولكن ليس العليم كالعليم، وهكذا العبد له إرادة: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [آل عمران:152]، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]، هذا له مشيئة، وهذا له مشيئة، هذا له إرادة، وهذا له إرادة، معروف المعنى ما هو، لكن ليست إرادةُ الله الآتي فيها كل شيءٍ، وهو قادر على كل شيءٍ؛ مثل إرادة المخلوق الضَّعيفة المحدودة، وهكذا بقية الصِّفات. وهذا الذي اشتبه على الجهمية والمعتزلة، وظنوا أنَّ هذا القدر المشترك، وأن هذا الأصل الذي هو المضاف أنَّ هذا يُوجب التَّشبيه؛ فأبطلوا هذا ونفوه حتى عطَّلوا الله من صفاته؛ حذرًا من هذا التَّشبيه بزعمهم. وأولئك الجهلة الآخرون ظنوا أنَّ هذا الأصل المشترك وهذا القدر المشترك يُوجب التَّشبيه فقالوا: يد كأيدينا، ووجه كوجوهنا، وعلم كعلومنا، وسمع كأسماعنا. فوقعوا في التَّشبيه الباطل الذي أبطله الله بقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل:74]، فهؤلاء حادوا عن الصواب لغلوهم في الإثبات، والجهمية وأشباههم حادوا عن الصواب لغلوهم في التَّنزيه، فلا أفلح هؤلاء ولا هؤلاء. أما أهل السنة ففازوا بالتوفيق، وفازوا بالفلاح، وأثبتوا القدر المشترك، وأثبتوا الأصول، ونفوا المشابهة والتَّمثيل.https://binbaz.org.sa/audios/1781/04-