مفهوم الأمن في القرآن
معنى الأمن:
الأمن: طمأنينة النفس وزوال الخوف.
ويكون الأمن في مقابلة خوف العدو بخصوصه.
والأمن يتعلق بالمستقبل، ولذا عرفه بعضهم- عبد القاهر الجرجاني- بأنه: عدم توقع مكروه في الزمان الآتي.
وقد ورد في القرآن لفظ "الأمن" في موضعين متتاليين فقال - تعالى -: (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)[سورة الأنعام: الآية81: 82].
وورد في القرآن لفظ " أمَنَة " في موضعين وفي حديثه عن غزوتين:
أ - في غزوة بدر، حين أنزل الله النعاس على الصحابة أثناء المعركة. قال - تعالى -: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ) [سورة الأنفال: الآية: 11].
ب- وفي غزوة أحد، قال - تعالى -: (ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ) [سورة آل عمران: الآية: 154].
والفرق بين الأمن والأمنة- وإن كانا متقاربين-: أن الأمنة تختص فيما إذا كان سبب الخوف حاضراً، مثل حالة حرب العدو وحصاره، فما يحصل للمسلمين من أمن ينزله الله عليهم في تلك الحال يسمى أمنة. أما الأمن فهو شامل لما هو أعم من ذلك.
2- أهمية الأمن في الحياة: الأمن نعمة عظيمة، بل يكاد يكون من أعظم النعم لأن مقتضاه: الأمن النفسي والطمأنينة والسكينة التي يستشعرها الإنسان، فيزول عنه هاجس الخوف، ويحس بالرضا والسعادة.
والشعور بالأمن غاية في الأهمية، ومن ثم فقد جعله الله - عز وجل - نعمة جليلة يتفضل بها على بعض خلقه، وجعل فقد هذا الأمن نقمة ينتقم الله بها من بعض خلقه العاصين أو الكافرين.
ولكون "الأمن " ضروريا للحياة، قرنه الله بالطعام والأموال والأولاد في أكثر من موضع- بل قدمه عليها في مثل قوله - تعالى -: (وَلَنَبْلُوَنّ كُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [سورة البقرة: الآية: 155].
فتأمَّل كيف بدأ بضد الأمن وهو الخوف؟ لأن الحياة بدون أمن وأمان قاسية مَّرة، بل شديدة المرارة، لا يمكن أن تطاق.
3- تجربة قريش: امتنَّ الله على قريش- قبل بعثة النبي - بأن هيَّأ لهم الأمن، وامتنَّ عليهم به- وخاصة بعد حادثة الفيل-، حيث نصر الله قريشاً على النصارى- أبرهة وأصحابه-ولكن لا بيد قريش؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام، وإنما بنصر من عنده - تعالى -لا يد لقريش فيه: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ* أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ* وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ* فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ) [سورة الفيل].
فعاشت قريش بعد هذا آمنة، لا ينالها أحد بسوء، بل كان الناس من حولها يُتخطفون بالحرب والنهب والخوف والقلق، وهي آمنة عند الكعبة، بل تعدى الأمن إلى قوافلها التجارية في رحلة الشتاء والصيف. فكانت تسير آمنة لا يعرض لها أحد بسوء؛ لأنها تجارة قريش أهل البلد الأمين. قال - تعالى -: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِل ِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ).
ولكن كيف قابلت قريش هذه النعمة العظيمة الفريدة التي عاشت في ظلالها دهراً، وتبرز عظمة هذه النعمة إذا عُلِمَ أنَّ الفوضى القبلية كانت تسود باقي مناطق الجزيرة العربية. ففي غير مكة، كان السلب والنهب، وكانت الغارات المفاجئة جزءاً من حياة تلك القبائل، وكانت الحروب تقوم لأتفه الأسباب وفي مثل هذه الأجواء القائمة تظهر قيمة الأمن والهدوء والطمأنينة التي كانت قريش تعيشه في بلدها، بل وفي قوافلها خارج بلدها.
وبعث الهادي البشير - صلى الله عليه وسلم - في أم القرى مكة، ودعا قومه إلى الإسلام وإلى هذا النور الذي جاءهم من الله - تعالى -، وأمرهم بتوحيد الله - تعالى -وترك عبادة الأصنام والطواغيت. وكان مما اممتنَّ الله به على قريش نعمة الأمن هذه. فقال - تعالى -في السورة التي تلي سورة الفيل (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [سورة قريش].
فهم آمنون في بلدهم، وفي رحلات قوافلهم في الشتاء والصيف إلى اليمن وإلى الشام.
فأمرهم - تعالى - بعبادة ربّ هذا البيت الذي أنعم عليهم بنعمة الأمن والأمان.
وقال - تعالى -: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِل ِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) [العنكبوت: الآية: 67].
فكيف لا يتدبروا هذه النعمة، وكيف يقابلوها بهذا الكفران؛ حيث جعلوا مكة بلد الله الأمين مسرحاً للأصنام، وعبادة غير الله - تعالى -، مع كفران بنعمة الله ورفض لعبادته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -
4- جواب قريش العملي والقولي: لهذه الدعوة والتذكير بتلك المنَّة؟ إنه جواب عجيب يحتاج منَّا إلى وقفة طويلة وتأمل، حيث جاء جوابهم عملياً وقولياً:
1- الجواب العملي- جاء على شقين:
أحدهما: حولوا بيت الله الحرام- والكعبة نفسها- إلى منتدى للطاغوت، فأحاطوا الكعبة بالأصنام، التي تعبد من دون الله - تعالى -.
وأي كفر أعظم من هذا الكفر، وأي محادة لله - تعالى - أكبر من هذه المحادة؟
والشق الثاني من الموقف العملي، هو أيضاً موقف مخزٍ وذلك أن قريشاً أصبحت تحارب عباد الله المؤمنين في بلد الأمان "مكة"، فانقضت على الصحابة السابقين إلى الإسلام تسومهم وتسوم أسرهم سوء العذاب. فحولوا بلد الأمان إلى رعب وخوف للمؤمنين الصادقين. مكة التي كان يأمن فيها الخائف حتى إن الرجل كان يرى قاتل أبيه في مكة ولا يستطيع أن يتعرض له بسوء؛ لأنه في بلد الأمان مكة..!!
تأملوا: منطق طواغيت قريش العملي، مكة أمان لكل مجرم ولكل لص، ولكل قاتل، ولكل غادر- ما دام قد آوى إليها- تحولت في ظل سيادة قريش الكفار إلى رعب وفزع وخوف، وسجن وتقتيل، على من؟ على عباد الله المؤمنين الذين استجابوا لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -
2- أما جواب قريش القولي: فكان أعجب وأعجب، فبماذا أجابوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما دعاهم إلى الهدى وإلى الايمان بالله والكفر بالطاغوت، وذكرهم بنعم الله الكثيرة ومنها الأمان العظيم الذي يعيشونه دون بقية القبائل؟
اسمعوا ما قالوا، وتأملوا واعجبوا:
قال - تعالى - عن قريش: (وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) [سورة القصص: 57].
انظروا إلى المنطق المعكوس، قريش التي تعيش آمنة في ظل بيت الله الآمن، لم تشكر الله على هذه النعمة الظاهرة بحيث تستجيب لنداء الإيمان، بل استخدمت هذه النعمة في الكفر والشرك بالله - تعالى -. واحتجت على ذلك بحجة عجيبة... احتجت بأنها إن استجابت للرسول واتبعته على ما جاء به من الهدى- حاربتها القبائل الأخرى وقاتلتها وأفقدتها هذا الأمن والأمان-.
فالكفر عند قريش هو الذي يحقق الأمن والأمان، أما الإسلام والهدى والإيمان فإنه يؤدي إلى نقيض هذا الأمان، فيعرضهم للمخافة، ويغري بهم الأعداء، ويفقدهم العون والنصير، بل ويعود عليهم بالفقر والبوار.
(وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) [سورة القصص: 57].
أي منطق معكوس هذا الذي تقوله قريش!!
وأي مغالطة ومخادعة هذا الذي يتحدثون عنه؟!!
إنَّ قريشاً تبدل الحقائق- مخادعة منها- حيث إنها تفصل بين الهدى والأمان، مع أنهما متلازمان. فهي تزعم أنها إن اهتدت وآمنت بالله خافت وزال عنها الأمان.
ولقد جاء الجواب- على هذه الدعوى- سريعاً وقويا وحاضراً. فقال - تعالى -: (وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [سورة القصص: 57].
فما بالهم يخافون أن يتخطفهم الناس لو اتبعوا هدى الله، والله هو الذي مكَّن لهم هذا الحرم الآمن منذ أيام أبيهم إبراهيم. أفمن أمنهم وهم عصاة، يدع الناس يتخطفونهم وهم تقاة؟! بل إنه - تعالى -أنعم عليهم- مع الأمن- بالرزق الذي يأتيهم ويجبى إليهم من كل مكان، مع أن بلادهم ليست بلاداً زراعية. (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ): لا يعلمون أين يكون الأمن؟ وأين تكون المخافة، ولا يعلمون أن مرد الأمر كله لله.
إن زوال الأمن ومجيء الخوف يكون حين يكفر بالله ولا تشكر نعمه التي من أغلاها نعمة الأمن والرزق. ولذا قال - تعالى -بعد الآية السابقة- في احتجاج قريش والرد عليهم-: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) (سورة القصص: 58).
درس وعبرة لنا: ولكن... هل هذا منطق قريش وحدهم؟
هذا القول القرشي الباطل، كم نجد من يردده هذه الأيام... إن الكثيرين إذا دعوا إلى الإيمان والالتزام بالإسلام في جميع جوانب الحياة...
قالوا لك بمنطق قريش (وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) [سورة القصص: 57].
إن تطبيقنا للإسلام سيفقدنا الأمن والأمان؛ لأنه سيثير علينا الحروب والفتن والاضطرابات في الداخل والخارج، وستحاربنا الدول الكافرة جميعها، وسنخسر صداقتها وودها ودعمها لنا، بل ستنقض علينا وتزيل أمننا واستقرارنا. إن تطبيق الإسلام سيجر علينا هذه الويلات.
إن هذا المنطق المعكوس- القديم والحديث- يجب أن نقف عنده وقفة تأمل كبرى في مسيرتنا نحن المسلمين اليوم.
وقد بقيت في التجربة القرشية بقية: فما الذي وقع حين استجابت قريش فيمابعد لداعي الهدى ودخلوا في دين الله أفواجاً مع غيرهم من القبائل؟
هل زال أمنها كما كانت تحتج؟ هل أصابها الخوف؟ هل تسلطت عليها الدول الكبرى كما كانت تخاف؟
لا، إن قريشاً حين اتبعت الهدى رجع إليها أمنها أقوى مما كان، بل سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من أزمان. وصارت- بما معها من عقيدة ومنهج حياة- تنشر الأمن والعدل في كل بلد تفتحه