إن العلم بالله وأسمائه وصفاته أشرف العلوم وأجلها على الإطلاق، لأن شرف العلم بشرف المعلوم، والمعلوم في هذا العلم هو الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو أفضل ما حصَّلته النفوس، وأشرف ما اكتسبته القلوب، وأزكى ما أدركته العقول؛، فأجل معلوم وأعظمه وأكبره هو الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم، الحي القيوم الملك الحق المبين العلي العظيم، الموصوف بصفات الكمال ونعوت الجمال، المنزه عن كل نقص وعيب، وعن كل تشبيه وتمثيل؛ لكن الأسف فالأسف أن مع كون علم أسماء الله وصفاته أشرف العلوم، وأعظمها فقد تشتت الآراء، وتنازعت الأفكار، ووقع النزاع الشديد بين الأمة في هذا الباب بعد انقضاء عصر الصحابة، ومُضي الرعيل الأول، فانقسم الناس في هذا الباب بعد ائتلاف إلى ثلاث طوائف: أهل تعطيل، وهم الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية مع التفاوت فيما بينهم، وأهل تمثيل وهم السبأية من غلاة الروافض وغيرهم، وهم –أيضاً- طوائف، وأهل سواء السبيل وهم أهل السنة والجماعة الذين سلكوا سبيل ذلك الرعيل الذي عاصر التنزيل، واقتدوا بهم، واهتدوا بهديهم، فسلموا من ضلالة النفي والتعطيل، ولم يرتكسوا في حَمَأَة التشبيه والتمثيل، وكانوا بين ذلك على هدي قاصد وصراط مستقيمثم إن من أشد ما وقع فيه الضلال والانحراف من هذا الباب بين الأمة هو صفة العلو لله تبارك وتعالى على الرغم من ورود الأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة على ثبوتها مع تنوعها وكثرتها، فضل فيها خلق كثير، وحرفوا النصوص الواردة فيها عن معانيها، وحملوها على غير مرادها، وانحرفوا عن إثباتها لله تعالى كما يليق بجلال الله وعظمته سبحانه. فياتي موضوعنا مبيناً لهذه الصفة العظيمة، ومعناها في اللغة، وإطلاقاتها في القرآن والسنة، وموضحاً لتنوع الأدلة الدالة على ثبوتها لله تعالى من الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة مع بيان معتقد أهل السنة والجماعة في هذه الصفة، وإبراز ما هم عليه من الحق والصواب بالإضافة إلى سرد أقوال المخالفين وشبههم، والرد عليهم بدحض شبهاتهم وتفنيدها،
معنى العلو لغةً .
العلوُّ مصدر من علا الشيءُ عُلُوًّا فهو عَليٌّ ويقال: عَلا فلانٌ الجبل إذا رَقِيَه، وعَلا فلان فلانًا إذا قَهَره، والعَليُّ الرَّفيعُ، وتَعالَى تَـرَفَّع، وأصل هذه المادة يدلُّ على السموِّ والارتفاع، وهو ضد السُّفل([2]).
المقصود بعلو الله عند أهل السنة والجماعة، وأقسامه.
إن المقصود بعلو الله عند أهل السنة والجماعة هو أن الله عز وجل له العلو المطلق من كل الوجوه، قال تعالى: (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)، فاسمه تعالى “العلي” دل على العلو المطلق من كل الوجوه، قال ابن القيم -رحمه الله- :”وكذلك اسم العلي، واسم الحكيم وسائر أسمائه، فإن من لوازم اسم العلي العلو المطلق بكل اعتبار، فله العلو المطلق من جميع الوجوه: علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات، فمن جحد علو الذات فقد جحد لوازم اسمه العلي”
فالله سبحانه وتعالى عظيم فليس فوقه عظيم ولا يٌشبهه عظيم، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي له الخلق والأمر وحده، كما أنه له العبادة وحده، وأنه تعالى قهر جميع المخلوقات فلا يخرج أحد منهم عن سلطانه وقهره، وأنه بذاته فوق خلقه
فهم يثبتون العلو لله بجميع أقسامه، وأقسامه ثلاثة، وهي كما يلي:
أولاً: علو القدر والعظمة والشأن: ومعناه أن الله ذو قدر عظيم لا يساويه فيه أحد من خلقه، ولا يعتريه معه نقص، ومن أدلته قوله تعالى: “وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ” (الزمر:67).
ثانياً: علو القهر والغلبة والسلطان: وهو أن الله سبحانه وتعالى قاهر جميع مخلوقاته بسلطانه، فالخلق مسخرون كلهم بسلطانه، ومن أدلته قوله تعالى: “وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ” (الأنعام:61).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- :”والمنازع يُسَلِّمُ أنه موصوف بعلو المكانة وعلو القهر، وعلو المكانة معناه: أنه أكمل من العالم، وعلو القهر مضمونه أنه قادر على العالم، فإذا كان مباينًا للعالم، كان من تمام علوه أن يكون فوق العالم، لا محاذيًا له، ولا سافلًا عنه، وَلَمَّا كان العلو صفة كمال، كان ذلك من لوازم ذاته، فلا يكون مع وجود غيره إلا عاليًا عليه، لا يكون قط غير عَالٍ عليه”
ثالثاً: علو الذات: وهو أن الله تعالى بذاته فوق عرشه وعلى جميع خلقه، ومن أدلته قوله تعالى:”أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ” (الملك:17).
قال ابن القيم -رحمه الله- :”لأن جماهير المسلمين وسائر الملل قد وقع منهم الإجماع على الإشارة إلى الله سبحانه وتعالى من جهة الفوق في الدعاء والسؤال واتفاقهم بأجمعهم على ذلك حجة ولم يستجز أحد الإشارة إليه من جهة الأسفل ولا من سائر الجهات سوى جهة الفوق”.
قال أيضاً -رحمه الله- في النونية: والفَوْق أنواعٌ كلها_______________لله ثابتة بلا نُكران
فوقية الذات، وفوقية القهر، وفوقية القدْر.
العلو ثلاثة أقسام علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات، فأما القسمان الأولان فلا يختلف في إثباته لله أحد من المسلمين، وأما القسم الثالث وهو علو الذات فأهل التعطيل ينكرونه، ويثبته أهل السنة والجماعة، فمحل النزاع في المسألة هو إثبات علو الذات - يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- :”والمنازع يُسَلِّمُ أنه موصوف بعلو المكانة وعلو القهرالفرق بين العلو والاستواء.
العلو والاستواء على العرش صفتان من صفات الله تعالى أثبتهما سبحانه لنفسه في محكم كتابه، وأثبتهما له رسول e ويجب الإيمان بهما على حقيقتهما من غير تعطيل، ولا تأويل، ولا تشبيه، ولا تمثيل، ويمكن التفريق بينهما بوجوه تالية:
أولاً: صفة العلو تقتضي علو الله تعالى على جميع مخلوقاته بما فيها العرش وغيره، وصفة الاستواء تقتضي علو الله تعالى على عرشه واستواءه عليه.
ثانياً: أن العلو ثابت بالعقل والفطرة والنص ، أما الاستواء فثابت بالنص فقط، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : “وأما الاستواء على العرش: فمن الصفات المعلومة بالسمع فقط دون العقل
ثالثاً: أن العلو صفة ذات لله تعالى، فهو متصف بها أزلاً وأبداً لا تنفك عنه، وأما الاستواء فهو صفة فعل، متعلقة بمشيئة الله جل وعلا.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- :”فالأصل أن علوه على المخلوقات وصف لازم له كما أن عظمته وكبرياءه وقدرته كذلك وأما “الاستواء” فهو فعل يفعله سبحانه وتعالى بمشيئته وقدرته؛ ولهذا قال فيه:”ثم استوى” (الأعراف:54). ولهذا كان الاستواء من الصفات السمعية المعلومة بالخبر. وأما علوه على المخلوقات فهو عند أئمة أهل الإثبات من الصفات العقلية المعلومة بالعقل مع السمع”.
معتقد أهل السنة والجماعة في صفة العلو.
إن صفة العلو لله تعالى من الصفات التي يثبتها أهل السنة والجماعة كما أثبتها سبحانه في كتابه، وأثبتها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته من غير تأويل ولا تعطيل، ولا تشبيه ولا تمثيل، فهم مجمعون على أن الله في السماء ، وأنه مستو على العرش، بائن من خلقه، و فوق المخلوقات كلها، وأنه سبحانه وتعالى لا يحويه شيء من هذه المخلوقات، ولا يحتاج إلى شيء منها، بل هو خالقها والقيوم عليها.
وقال شيخ الحنابلة الامام أبو الحسن علي البربهاري -رحمه الله- (ت 329 هـ) : “وهو على عرشه استوى وعلمه بكل مكان ولا يخلو من علمه مكان”([13]).
قال أبو بكر الآجري -رحمه الله- (ت360 هـ) : “فعِلْمُه عز وجل محيط بجميع خلقه، وهو على عرشه، وهذا قول المسلمين”.
الأدلة على معتقد أهل السنة والجماعة.
هذه الصفة من أظهر الصفات التي جاءت بها النصوص مستفيضةً متواترةً من الكتاب والسنة، وفيما ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- عن بعض أصحاب الشافعي ألف دليل، وقد قسم ابن القيم -رحمه الله- الأدلة النقلية الدالة عليه إلى عشرين نوعاً، وكل نوع تحته عدد من الأدلة ، وقد أجمع على إثباتها سلف الأمة وأئمتها من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم، ودلت عليها العقول والفطر السليمة.
أدلة أهل السنة والجماعة على علو الله تعالى على خلقه علواً ذاتياً من الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة مرتبةً في خمسة أقسام، وكل ما سيذكر غيض من فيض، وقطرة من بحر، وقليل من كثير، و فيما يلي بعض الأدلة:
أولاً: أدلة القرآن.
لقد دل القرآن على علو الله، وكونه فوق جميع خلقه بوجوه كثيرة، وفي كل وجه منها آيات عديدة، فمنها ما يلي:
أولاً : التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو ذاتاً وقدراً وقهراً، ومنها: قوله تعالى: “سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى” (الأعلى : 1)، وقوله تعالى: “عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ” (الرعد : 9).
ثانياً: التصريح بالاستواء مقروناً بأداة (على) مختصا بالعرش، وقد جاء هذا في سبعة مواضع في كتاب الله جل وعلا، ومنها: قوله تعالى: “إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ” (الأعراف: 54).
والاستواء في لغة العرب إذا عدي بحرف الجر “على” كان بمعنى علا وارتفع .
ثالثاً : التصريح بالفوقية، ومنها قوله تعالى: “يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ” (النحل : 50)، وقوله تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (الأنعام : 18).
رابعاً : التصريح بعروج الأشياء وصعودها وارتفاعها إليه سبحانه، ومنها: قوله تعالى: “تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ” (المعارج 4:3)، وقوله تعالى: “إليه يصعد الكلم الطيب” (فاطر: 10)، وقوله تعالى: “بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً” (النساء : 158).
خامساً: التصريح بتنزيل الكتاب منه، ومنها:قوله تعالى: “تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ” (السجدة:2)
ولا يعقل النزول والتنـزيل إلا من أعلى إلى أسفل، ففي هذا دلالة علوه تعالى على خلقه فإن “من” في هذه الآيات لابتداء الغاية، فإذا كان ابتداء النزول والتنزيل منه دل على علوه سبحانه وتعالى.
سادساً: التصريح بأنه سبحانه وتعالى في السماء، ومنها قوله تعالى :”أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ” (الملك 16: 17).
ثانياً: أدلة السنة.
لقد تنوعت دلالة السنة –أيضاً- على علو الله سبحانه وتعالى ومباينته لخلقه، وهي كثيرة، أذكر بعضها فيما يلي:
أولاً: التصريح بالعلو المطلق حيث جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في سجوده “سبحان ربي الأعلى”الحديث
ثانياً: التصريح بالصعود إليه كما جاء في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- :”من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا الطيب فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه(- حتى تكون مثل الجبل”
ثالثاً: التصريح بالعروج إليه حيث جاء في الحديث عن ملائكة الليل :”ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بكم” الحديث
رابعاً: التصريح برفع بعض الأشياء إليه كما في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- :”أن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغى له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور”
وفي هذا كله دلالة على علو الله سبحانه وتعالى لأنه لا يعقل الصعود والعروج والرفع إلا من أسفل إلى أعلى
خامساً: التصريح بالفوقية: ففي الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي”.
سادساً: التصريح بأنه في السماء حيث قال النبي -صلى الله عليه وسلم- :”ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحا ومساء” الحديث.
ويدل عليه أيضاً حديث الجارية حيث قال لها النبي -صلى الله عليه وسلم- : “أين الله؟” قالت فى السماء، قال: “من أنا؟” قالت أنت رسول الله. قال: “أعتقها فإنها مؤمنة” .
فالسماء اسم جنس للعالي فالمراد ب(في السماء) أي في العلو، دون السفل.
سابعاً: الإشارة إليه حساً إلى العلو كما أشار إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع :”…. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس “اللهم اشهد اللهم اشهد” ثلاث مرات”الحديث.
وغيرها كثيرة جداً.
ثالثاً: دليل الإجماع.
لقد أجمع السلف من الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان وأئمة أهل السنة والجماعة على أن الله فوق عرشه فوق سماواته، وذكر هذا الإجماع عديد من السلف -رحمهم الله-، سأذكر هنا بعضا منه.
قال عالم الشام الإمام الأوزاعي -رحمه الله- (ت 157 هـ) : “كنا والتابعون متوافرون نقول : ( إن الله عز وجل على عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته”
وقال عثمان الدارمي -رحمه الله- (ت280 هـ) :”وقد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله تعالى فوق عرشه فوق سمواته”
قال ابن بطة العُكبري الحنبلي -رحمه الله- (387 هـ) :” وأجمع المسلمون من الصحابة والتابعين وجميع أهل العلم من المؤمنين أن الله تبارك وتعالى على عرشه فوق سماواته بائن من خلقه وعلمه محيط بجميع خلقه لا يأبى ذلك ولا ينكره إلا من انتحل مذاهب الحلولية”
وقال شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني -رحمه الله- ( ت449 هـ) :”ويعتقد أصحاب الحديث ويشهدون أن الله فوق سبع سمواته على عرشه كما نطق كتابه وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف ، لم يختلفوا أن الله على عرشه وعرشه فوق سمواته”
رابعاً: أدلة العقل.
ولاشك أن العقل الصريح السليم يدل على وجوب الله تعالى بذاته فوق جميع خلقه وذلك من عدة أوجه:
أولاً: أن جهة العلو أشرف الجهات، وهي صفة كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، والله تعالى وجب له الكمال المطلق من كل الوجوه([30]) كما قال تعالى :”وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” (الروم:27) ، فلزم ثبوت العلو لله تعالى.
ثانياً: أنه إذا انتفت صفة العلو ثبتت صفة السفل لتقابلهما ، وصفة السفل صفة نقص ، والله تعالى منزه عن كل نقص.
ثالثاً: أنه إذا ثبت أن العالم كرة، وأن الله لابد أن يكون مبايناً لخلقه، والعلو المطلق فوق الكرة، فيلزم أن يكون في العلو.
رابعاً: أن الله خلق الخلق، فإما أن يكون خلقهم في ذاته أو خارجاً عن ذاته، فالأول باطل لأنه مستلزم للباطل، وهو أن يكون محلا للحوادث فيبقى أن الله خلقهم خارجاً عن ذاته، وهذا لا يخلو من حالتين إما أنه دخل فيهم بعد خلقهم أو لم يدخل فيهم، فالأول باطل لأنه لا يحل في المخلوقات، والثاني(أنه لم يدخل فيهم) لا يخلو من ثلاثة أحوال إما أن يكون أسفل منهم، أو محاذياًلهم، أو فوقهم، فالأولان باطلان لأنهما صفتا نقص، والثالث هو الحق
خامساً: أدلة الفطرة.
ولاشك أن العلو معلوم بدليل الفطرة، وهو مركوز في فطر بني آدم، لا يستطيع أحد أن ينفك عنه، ويمكن إجمال ما قاله أهل السنة في الدليل الفطري على علو الله في النقاط التالية.
أولاً: أن هذا أمر مستقر في فطر بني آدم، ومعلوم لهم بالضرورة.
ثانياً: أن العبد بفطرته يجد في قلبه ضرورة التوجه إلى جهة العلو في دعاء العبادة، ودعاء المسألة، ولا يتوجهون إلى غيره من الجهات.
ثالثاً: أن الأمم المختلفة متفقة على ذلك من غير مواطأة من بعضهم البعض، ويمتنع في مثل هؤلاء أن يتفقوا على تعمد الكذب عادة.
رابعاً: أنهم يقولون بألسنتهم: إنا نرفع أيدينا إلى الله، ويخبرون عن أنفسهم أنه يجدون في قلوبهم اضطراراً إلى قصد العلو.
وكثيراً ما يورد العلماء هنا قصة أبي المعالي الجويني مع أبي جعفر الهمذاني لما اعترض عليه، وهو يقرر نفي العلو، فقال له الهمذاني: دعنا مما تقول، ما هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، ما قال عارف قط يا الله إلا وجد من قلبه معنى يطلب العلو، لا يلتفت يمنةً ولا يسرةً، فكيف ندفع هذه الضرورة من قلوبنا، فصرخ أبو المعالي، ووضع يده على رأسه وقال: حيرني الهمذاني، ونزل.
فالعقلاء جميعهم مفطورون على التوجه إلى العلو عند الدعاء واللّجاء والاضطرار، مما يدل قطعاً على أن الله في العلو.
قال الإمام أبو الحسن الأشعري -رحمه الله- (ت324هـ) :”ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دَعَوا نحو السماء لأن الله تعالى مستو على العرش الذي هو فوق السماوات فلولا أن الله عز و جل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يحطونها إذا دَعَوا إلى الأرض”