احتساب النبي صلى الله عليه وسلم على الناس في الزينة واللباس 1
منصور صالح حسين الجادعي

إنّ سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ بعثته وحتى وفاته تدل على أن حياته كلها كانت احتساباً على الناس لإصلاح عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم وأخلاقهم، وجميع شؤونهم، ومن تتبع كتب السنة والسير وجد ذلك ظاهراً جلياً، والحديث عن احتسابه - صلى الله عليه وسلم - على أمته هو الحديث عن سيرته وأقواله وأفعاله منذ أن بعثه الله - تعالى - رسولاً للعالمين إلى أن قبضه إليه - سبحانه وتعالى -، وأنَّى لمقال كهذا أن يأتي على ذلك، ولكننا سنسلط الضوء على شيء يسير من جانب احتسابه - صلى الله عليه وسلم - على الناس في الأخطاء التي كانت تقع منهم في زينتهم ولباسهم، ومن خلال ذكر بعض النصوص والحوادث التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعالج فيها تلك الأخطاء، ويبين الطريق الصحيح فيها يتبين لنا هذا الجانب:
احتسابه على من لبس الحرير:
إن لبس الحرير للرجال مما حرمه الله - سبحانه وتعالى -، وبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه حلال للإناث، وقد وردت النصوص الدالة على ذلك ومنها حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله - عز وجل - أحل لإناث أمتي الحرير والذهب وحرمه على ذكورها))[1]، وقال: ((من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة))[2] ولما رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حلة سيراء[3] تباع قال: يا رسول الله ابتع هذه والبسها يوم الجمعة وإذا جاءك الوفود. قال: ((إنما يلبس هذه من لا خلاق له))، فأُتِي النبي - صلى الله عليه وسلم - منها بحلل فأرسل إلى عمر بحلة فقال: كيف ألبسها وقد قلت فيها ما قلت؟ قال: ((إني لم أعطكها لتلبسها، ولكن تبيعها أو تكسوها)) فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم[4]. فنرى في هذه النصوص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن لبس الحرير، وعندما رأى من لبسه غضب وأنكر عليه هذا الفعل، حيث وإنه قد نهى عن ذلك وبين حكمه، فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: كساني النبي - صلى الله عليه وسلم - حلة سيراء فخرجت فيها فرأيت الغضب في وجهه فشققتها بين نسائي[5]. وعند مسلم: "أهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حلة سيراء فبعث بها إليَّ فلبستها فعرفت الغضب في وجهه فقال: ((إني لم أبعث بها إليك لتلبسها، إنما بعثت بها إليك لتشققها خمراً بين النساء))"[6].
قال الشيخ عطية بن محمد سالم: "ونأخذ من هذا الحديث أن تغيير المنكر قد يكون باليد، وقد يكون باللسان، وقد يكون بالنظرة، ولذا يقول العلماء في باب التعزيرات: إذا ارتكب إنسان أمراً محظوراً واقتضى الأمر تعزيره فيعزر الأشخاص بحسب ذواتهم، فشخص لا ينفع فيه التعزير إلا بالضرب والجلد، وشخص يكفي أن يقال له: يا فلان! والله ما كان يليق بمثلك أن يفعل هذا.
وشخص يعزر بأن تعرض عنه، فإذا أقبل عليك أعرضت عنه، وهذا أثقل عليه من السب ومن الضرب، ويكفي هذا في تعزيره.
فالشخص الأبي الكريم تكفيه النظرة، والشخص الأقل منه كرماً يحتاج إلى كلام وإلى إيقاف، والشخص فاقد الإحساس يعزر بالضرب، فهنا أدرك علي -رضي الله تعالى عنه-0 إنكار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه لبس هذا النوع، وحالاً قطعها وقسمها بين نسائه"[7].
أما لبس علي بن أبي طالب لتلك الحلة فأظن والله أعلم بالصواب أنه - رضي الله عنه - ظن أنه لما أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - إياها جاز له لبسها، وإلا ما أقدم على ذلك. ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنكر عليه ذلك وعلمه كيف يصنع بها، والله أعلم.
وروي حديث آخر في احتساب النبي - صلى الله عليه وسلم - على من لبس الحرير عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: أقبل رجل من البحرين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلم فلم يرد عليه، وكان في يده خاتم من ذهب وعليه جبة حرير، فألقاهما ثم سلم فرد - عليه السلام -[8].
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرد السلام على ذلك الرجل لأنه متلبس بمنكر، وواقع في خطأ، وهذا الفعل من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه دلالة واضحة على إنكاره - صلى الله عليه وسلم - على ذلك الرجل، فلما أن خلع الرجل تلك الجبة ونزع ذلك الخاتم وسلم رد النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه السلام -.
احتسابه على من لبس الذهب:
كذلك من الأمور التي حرمها النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذكور أمته لبس الذهب، فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ حريراً فجعله في يمينه، وأخذ ذهباً فجعله في شماله ثم قال: ((إن هذين حرام على ذكور أمتي))[9].
ولما رأى رجلا متختما بخاتم من ذهب أنكر عليه وذكر الوعيد المترتب على ذلك الفعل، فعن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى خاتماً من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه وقال: ((يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده)) فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خذ خاتمك انتفع به قال: لا والله لا آخذه أبدا وقد طرحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[10].
قال الطيبي: "فيه من التأكيد أنه أخرج الإنكار مخرج الإخبار وعمم الخطاب بعد نزع الخاتم من يده وطرحه، فدل على غضب عظيم وتهديد شديد"[11].
وعن أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى في يده خاتماً من ذهب فجعل يقرع يده بعود معه، فغفل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه فأخذ الخاتم فرمى به، فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يره في أصبعه، فقال: ((ما أرانا إلا قد أوجعناك وأغرمناك))[12].
قال النووي - رحمه الله - في حكم الذهب: "وأما خاتم الذهب فهو حرام على الرجل بالإجماع، وكذا لو كان بعضه ذهباً وبعضه فضة، حتى قال أصحابنا لو كانت سن الخاتم ذهبا أو كان مموها بذهب يسير فهو حرام لعموم الحديث الآخر في الحرير والذهب..."[13].
وقال في تعليقه على حديث ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله: (فنزعه فطرحه): "فيه إزالة المنكر باليد لمن قدر عليه، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - حين نزعه من يد الرجل: ((يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده)) ففيه تصريح بأن النهي عن خاتم الذهب للتحريم كما سبق، وأما قول صاحب هذا الخاتم حين قالوا له: خذه لا آخذه وقد طرحه - صلى الله عليه وسلم -، ففيه المبالغة في امتثال أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واجتناب نهيه وعدم الترخص فيه بالتأويلات الضعيفة"[14]ا. هـ.
احتسابه على من لبس المعصفر:
ذكر الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي ثوبين معصفرين[15] فقال: ((إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها))[16]، وفي رواية أنه قال: ((أأمك أمرتك بهذا؟)) قلت أغسلهما قال: ((بل أحرقهما))[17]، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر على ابن عمرو لبسه لمثل هذه الثياب ونهاه عن لبسه لها بل أمره بأن يحرقها، وهذا فيه عقوبة وتغليظ وزجر له - رضي الله عنه - ولغيره عن مثل هذا الفعل.
قال الشيخ عطية بن محمد سالم: "فلما رآهما عليه سأله النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا السؤال: ((أمك أمرتك بهذا؟)) كأنه يتلقى الأوامر من أمه، والذي يتلقى الأوامر من أمه في أمور عادية فهو من بر الوالدين، وهو واجب إذا كانت الأم حصيفة عاقلة توجه ولدها، لكن هذا المنهج وهذا الأسلوب فيه قرينة كراهية ما رأى عليه من اللباس، وهل يكون مدحاً للأم التي أمرته، أم ذماً له لأنه يتلقى الأوامر من أمه ويترك السنة؟ فمن تلقى الأوامر من أمه، أو من أبيه، أو زوجه وترك السنة النبوية يقال له مثل ذلك، وقد قال - تعالى -: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ)[التغابن: 14]، فهنا الرسول كلمه بهذا لأنه كره هذا اللون"[18].
وعند أبي داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: هبطنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ثنية فالتفت إلي وعليَّ ريطة[19] مضرجة[20] بالعصفر فقال: ((ما هذه الريطة عليك؟)) فعرفت ما كره فأتيت أهلي وهم يسجرون[21] تنوراً لهم فقذقتها فيه ثم أتيته من الغد فقال: ((يا عبد الله ما فعلت الريطة؟)) فأخبرته فقال: ((أفلا كسوتها بعض أهلك فإنه لا بأس به للنساء))[22].
فهذا الاستفهام من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه إنكار على صنيع عبد الله بن عمرو، ولذا تنبه عبد الله لهذا فسارع إلى إحراقها والتخلص منها.
ومن النماذج السابقة يتضح لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتردد لحظة في تغيير المنكر مستخدما أساليب متنوعة كلها تدل على إنكاره وعدم رضاه لما يراه، فنجد مثلا في حديث علي أنه - صلى الله عليه وسلم - غضب حتى رئي الغضب في وجهه على لبس علي - رضي الله عنه - للحرير، وأضاف إلى ذلك الإنكار عليه بالقول، أما من لبس الذهب فإنه - صلى الله عليه وسلم - قام بنزعه وطرحه وزجر صاحبه بوعيد شديد، جعل صاحبه يطرح ما لبسه ويأبى أخذه، وفي الحديث الآخر أنكر عليه كما يقال بلسان الحال وذلك بقرعه يد الذي ختمها بخاتم من ذهب، وكأنه يقول له ما هذا الذي في يدك؟ ألم تعلم أنه لا يجوز لكم لبس الذهب؟ ففطن ذلك الرجل لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - فتخلص منه لما رأى الفرصة سانحة لذلك، أما حديث عبد الله بن عمرو ففيه نهي صريح لعبد الله عن لبس المعصفر بل وتغليظ شديد على لبسه، فهذه بعض النماذج الاحتسابية للنبي - صلى الله عليه وسلم - على الناس في الزينة واللباس، وللحديث بقية.
نسأل الله بمنه وكرمه أن يفقهنا في دينه ويجعلنا من أنصار شرعه، والحمد لله رب العالمين.
________________
[1] سنن النسائي (8/190) رقم (5265)، وصححه الألباني، انظر ضعيف سنن النسائي رقم (5280).
[2] رواه البخاري (5/2194) رقم (5496) ومسلم (3/1645) رقم (2073).
[3] ذات خطوط يخالطها شيء من الحرير، وقيل الحلة السيراء: هي الحرير الصافي ليس فيه غير الحرير.
[4] رواه البخاري (5/2230) رقم (5636).
[5]رواه البخاري (5/2196) رقم (5502)، ومسلم (3/1644) رقم (2071).
[6]رواه مسلم (3/1644) رقم (2071).
[7] شرح بلوغ المرام رقم الدرس (110).
[8] رواه البخاري في الأدب المفرد (1/352) رقم (1022)، والنسائي في سننه (8 / 175) رقم (5206)، وضعفه الألباني، انظر ضعيف الأدب المفرد رقم (160).
[9] رواه أبو داود (2/448) رقم (4057)، وصححه الألباني، انظر: صحيح الترغيب والترهيب (2/224) رقم (2049).
[10] رواه مسلم (3/1655) رقم (2090).
[11] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (8/244).
[12] رواه أحمد (29/283) رقم (17749)، والنسائي (8/171) رقم (5190)، وقال محققو المسند: صحيح لغيره. طبعة الرسالة.
[13] شرح صحيح مسلم للنووي (14/32).
[14] المصدر السابق (14/65).
[15] (معصفرين) أي مصبوغين بعصفر والعصفر صبغ أصفر اللون، وقيل: هو المصبوغ بالحمرة.
[16] رواه مسلم (3/1647) رقم (2077).
[17] رواه مسلم (3/1647) رقم (2077).
[18] شرح بلوغ المرام (111).
[19] الريطة: كل ثوب رقيق لين.
[20] المضرج الذي ليس صبغه بالمشبع العام.
[21] يسجرون: يوقدون.
[22] رواه أبو داود (2/450) رقم (4066)، وحسنه الألباني، انظر صحيح أبي داود رقم (4066).