تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 10 من 10

الموضوع: كشف شبهات المشركين للإمام محمد بن عبد الوهاب

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي كشف شبهات المشركين للإمام محمد بن عبد الوهاب

    للمشركين شبه كثيرة وحجج ومعارضات يتوصلون بها إلى الشرك وابطال التوحيد ، ولو قامت شبههم لقامت الفتنة وأصبح الدين مفرقاً ليس كله لله تعالى ولكن الشيخ كشف شبههم واحدة واحدة ، ونقضها حتى أبطلها جميعاً وحاصل هذه الشبه يمكن تصويره في سبع شبهات هي : 1. أن الشرك لا يكون فيمن يشهد أن هو النافع الضار المدبر ولكنه يقصد أولياء الله والصالحين لأن لهم جاهاً وشفاعة عند الله تعالى وهو مذنب فيدعوهم ويستغيث بهم ويذبح لهم وينذر لهم ليشفعوا له عند الله تعالى لا غير .
    2. والشرك إنما هو في من يعبد الأصنام . والأولياء والصالحون ليسوا مثل الأصنام فمن يدعوهم ليس مثل من يدعو الأصنام .
    3. أن من يقصد الصالحين والأولياء بالدعاء والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك ليس مشركاً وليست هذه الأمور شركاً لأنه وهو يفعل ذلك لا يريد منهم وإنما يطلب من الله شفاعتهم فهذا ليس عبادة لهم ولا شركاً بالله تعالى بل توسل بهم .
    4. أنه وهو يقصدهم بهذا الفعل إنما يطلبهم مما أعطاهم الله تعالى وقد أعطاهم الشفاعة والجاه والقرب لديه ولاسيما رسول الله صلى الله عليه وسلم .
    5. قالوا وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم ثم بنوح،ثم بإبراهيم ، ثم بموسى ، ثم بعيسى، فكلهم يعتذرون حتى ينتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك في قصة إبراهيم عليه السلام لما ألقى في النار أن جبريل عرض عليه الأغاثة . قالوا فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركاً .
    6. ويقولون : أن المشركين هم الذين نزل فيهم القرآن أولا وهم لا يشهدون أن لا إله إلا الله ويكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم وينكرون البعث ويكذبون القرآن ويجعلونه سحراً ، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصدق القرآن ونؤمن بالبعث ونصلى ونصوم فكيف تجعلوننا مثل أولئك المشركين لأننا قصدنا أولياء الله ليشفعوا لنا فحسب .
    7. ويقولون : إن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة قتل من قال لا إله إلا الله .. وقال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، وأحاديث أخرى بهذا المعنى في الكف عمن قالها ، فمن قالها لا يكفر ولا يقتل ولو فعل ما فعل .

    هذا هو حاصل الشبه التي يشبه بها المشركون ممن يدعى الإسلام ، ويريد قلب الحقائق فيجعل التوحيد إلحاداً ، والإلحاد توحيد – وقد كشف الشيخ هذه الشبه ونقضها فبطلت بكتاب الله المحكم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الحاكمة ، والحق القائم الذي أحقه الله بكلماته الكونية كما أحقه بكلماته الشرعية .
    ونورد كيف بين الشيخ كشفه لهذه الشبهات فقال بمعناه :
    أن الشبهة الأولى وهى قولهم أن الشرك يكون فيمن يشهد أن الله هو النافع الضار المدبر ، ولو دعا غيره واستغاث به وذبح له ونذر له ليشفع له ويقربه عند الله أن هذه مقالة المشركين الأوائل سواء بسواء وهم الذين كفرهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستحل دماءهم وأموالهم وسبى نساءهم وذراريهم مع اقرارهم بأن الله هو النافع الضار الخالق المدبر بدليل قول الله تعالى : {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} (يونس:31).
    وغير هذه الآية من الآيات الكثيرة وأن هؤلاء المشركين يقولون ما دعوناهم وتوجهنا إليهم إلا لطلب القربى والشفاعة بدليل قوله تعالى : {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر :3)
    وقوله تعالى : {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } ( يونس : 18) .

    وكشف الشيخ الشبهة الثانية وهي قولهم أن الشرك إنما هو فيمن يعبد الأصنام . والأولياء ، والصالحون ليسوا مثل الأصنام فمن يدعوهم ليس مثل من يدعو الأصنام بما ذكر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة من الحكم بكفر جميع من يدعو غير الله تعالى مهما كان هذا الغير ، سواء كان نبياً أو ملكاً أو من دونهما أو دعا طاغوتا أو صنماً فالحكم على من دعا غير الله واحد ، ولم يفرق الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم بين من يعبد الأصنام وبين من يعبد الصالحين في الحكم بل الجميع يحكم بأنهم مشركون بالله .
    ويقول الشيخ في قوله تعالى :{ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } إلى قوله تعالى : {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }( الزمر : 64- 67) .
    فيه مسائل : فيها أنواع من بطلان الشرك وتقبيحه :
    الأول : الجواب عن قول المشركين : هذا في الأصنام واما الصالحون فلا . قوله { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ } عام فيما سوى الله .
    الثانية : أن المسلم إذا أطاع من أشار عليه في الظاهر كفر ، ولو كان باطنه يعتقد الإيمان ، فإنهم لم يريدوا من النبي صلى الله عليه وسلم تغيير عقيدته ، ففيه بيان لما يكثر ممن ينتسب إلى الإسلام في اظهار الموافقة للمشركين خوفاً منهم ، ويظن أنه لا يكفر إذا كان قلبه كارهاً له .
    الثالثة : أن الجهل وسخافة العقل هو موافقتهم في الظاهر ، وأن العقل والفهم والذكاء هو التصريح بمخالفتهم ولو ذهب مالك ، خلافاً لما عليه أهل الجهل من اعتقاد أن بذل دينك لأجل مالك هو العقل ، وذلك في آخر الآية : {أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } (1).
    ويقول الشيخ : فإن قال قائل من المشركين : نحن نعرف أن الله هو الخالق الرازق المدبر ، لكن هؤلاء الصالحين مقربون ، ونحن ندعوهم وننذر لهم وندخل عليهم ونستغيث بهم ونريد بذلك الوجاهة والشفاعة و إلا فنحن نفهم أن الله هو الخالق الرازق المدبر . فقل : كلامك هذا مذهب أبي جهل وأمثاله ، فإنهم يدعون عيسى وعزيراً والملائكة والأولياء يريدون ذلك كما قال الله تعالى :{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر :3).
    قال تعالى :{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ }(يونس:18).

    وكشف الشيخ الثالثة وهي قولهم أن من يقصد الصالحين بالدعاء والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك ليس مشركاً وليست هذه الأمور شركاً بل هي توسل بهؤلاء الأولياء . فأجب الشيخ : بأن الدعاء والاستغاثة والذبح والنذر و نحوهما مما أمر الله أن يتقرب العبد به إليه فهو عبادة وكل أنواع العبادة لا يجوز صرف شيء منها لغير الله تعالى ، والشرك إنما هو في العبادة وفي أنواعها ، وصرف شيء من أنواعها كصرف مجموعها لأن الله أغنى الشركاء عن الشرك ، فمن أشرك معه غيره تركه وشركه وقولهم أن التوحيد بالدعاء والاستغاثة والذبح والنذر ونحوها إلى غير الله لا يريد منه وإنما يريد من الله بشفاعته ليس عبادة قد أبطله الله بأنه سماه عبادة كما تقدم من قوله تعالى : {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } (2) (يونس:18).
    وقال الشيخ – رحمه الله – في كشف تسميتهم دعاء الأموات والأولياء بالتوسل ليتوصلوا إلى جوازه : ( الدعاء الذي يفعل في هذا الزمان أنواع :
    النوع الأول : دعاء الله وحده لا شريك له الذى بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم .
    النوع الثاني : أن يدعوا الله ويدعو معه نبياً أو ولياً ، ويقول أريد شفاعته و إلا فأنا أعلم ما ينفع ولا يضر إلا الله ، لكن أنا مذنب ، وأدعوا هذا الصالح لعله يشفع لي فهذا الذي فعله المشركون وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتركوه ولا يدعو مع الله أحداً لا لطلب شفع ولا نفع .
    النوع الثالث : أن يقول : اللهم إني أتوسل إليك بنبيك أو بالأنبياء أو الصالحين فهذا ليس شركاً ولا نهينا الناس عنه ( على أنه شرك ) ولكن المذكرون عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهم أنهم كرهوه لكن ليس مما نختلف نحن وغيرنا فيه (3) .
    وسئل الشيخ رحمه الله عن قول بعض الفقهاء في الاستسقاء : لا بأس بالتوسل بالشيوخ والعلماء المتقين ، وقولهم : يجوز أن يستشفع إلى الله برجل صالح ، وقيل يستحب ، وقول أحمد : إنه يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في دعائه والفرق بين هذا القول وقول أحمد وغيره في قوله عليه الصلاة والسلام (( أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق )) الاستعاذة لا تكون بمخلوق ، فما معنى هذا ؟ وما العمل عليه منهما ؟
    فأجاب بقوله : قولهم في الاستسقاء لا بأس بالتوسل بالصالحين . وقول أحمد : يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، مع قولهم أنه لا يستغاث بمخلوق فالفرق ظاهر جداً ، وليس الكلام مما نحن فيه فكون بعض يرخص بالتوسل بالصالحين وبعضهم يخصه بالنبي صلى الله عليه وسلم وأكثر العلماء ينهى عن ذلك ويكرهه، فهذه المسألة من مسائل الفقه ، ولو كان الصواب عندنا قول الجمهور أنه مكروه فلا ننكر على من فعله ولا انكار في مسائل الاجتهاد لكن انكارنا على من دعا المخلوق أعظم مما يدعو الله تعالى ، ويقصد القبر يتضرع عند ضريح الشيخ عبد القادر أو غيره يطلب فيه تفريج الكربات ، واغاثة اللهفات ، واعطاء الرغبات ، فأين هذا ؟ ممن يدعو الله مخلصاً له الدين لا يدعو مع الله أحد ولكن يقول في دعائه : أسألك بنبيك أو بالمرسلين أو بعبادك الصالحين ، أو يقصد قبر معروف أو غيره يدعو عنده ، ولكن لا يدعو إلا الله مخلصاً له الدين ، فأين هذا مما نحن فيه ؟ (4) .
    وهكذا يكشف الشيخ تلبيسهم حيث جعلوا دعاء غير الله توسلاً ببيان ما هو التوسل الحقيقي في الدعاء والفرق بينه وبين دعاء غير الله تعالى وأن التوسل مسالة خارجة عن موضوع النزاع وهو دعاء غير الله تعالى .

    وكشف الشيخ الرابعة وهي قولهم : إنهم يطلبون الأنبياء والأولياء مما أعطاهم الله تعالى وقد أعطاهم الشفاعة والجاه والقرب لديه ولاسيما رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى وإن أعطاهم ما أعطاهم فقد نهى أن يطلب منهم الشفاعة والزلفى عند الله ، وأمر بأن يطلب ذلك منه جميعاً ولا يشفع عند الله أحد إلا من بعد إذنه ، والله سبحانه لم يأذن بأن نطلب من الميت ذلك ، وأما الحي الذي يطلب منه دعاؤه وهذا عام في جميع الصالحين الأحياء القادرين على الدعاء .
    والمقصود أن الدعاء والذبح والنذر والاستغاثة ونحوها مما أمر الله أن يعبد به ، لابد من أن تؤدى لله خالصة لا يشركه فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل كما قال تعالى :{ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدا} وغير ذلك من الآيات والأحاديث الكثيرة التي بينها الشيخ للدلالة على الإخلاص في جميع أنواع العبادة ومن أنواعها طلب الشفاعة من الله لديه فيتوجه بذلك الطلب والرغبة والقصد إلى الله مباشرة وبدون واسطة كما قال تعالى :{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }(البقرة :186) .
    فلا تطلب الشفاعة من غير الله تعالى لأن الشفاعة كلها له سبحانه ، قال تعالى :{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً } (الزمر:44).ولا يشفع أحد في أحد إلا من بعد أن يأذن الله تعالى – كما قال تعالى : {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (البقرة :255) . كما قال تعالى {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى} (الأنبياء: 28). والله لا يرضى أن تطلب الشفاعة من أحد إلا بإذنه ، وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد . قال تعالى :{ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدا}. وقال تعالى : {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً * قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} . وقال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيما} (النساء:48) . وقال تعالى :{ قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} ( سبأ:22، 23).
    قال الشيخ : قال أبو العباس: (( نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب . كما قال : {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى}فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة ، كما نفاها القرآن وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم (( أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده ، لا يبدأ بالشفاعة أولاً )) ثم يقال له : (( ارفع راسك ، وقل يسمع ، وسل تعط ، واشفع تشفع )) وقال أبو هريرة (( من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال : من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه )) فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله ، ولا تكون لمن أشرك بالله .
    وحقيقته : أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ، ليكرمه وينال المقام المحمود .
    فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها من شرك ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص )) أ-هـ كلام ابن تيمية .
    قال الشيخ :
    (( فإذا كانت الشفاعة كلها لله ، ولا تكون إلا من بعد إذنه ، ولا يشفع النبي ٍ صلى الله عليه وسلم ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه ، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد . تبين لك أن الشفاعة كلها لله فاطلبها منه وقل : اللهم لا تحرمني شفاعة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، اللهم شفعه فيّ وأمثال هذا )).
    وأيضا فإن الشفاعة أعطيها غير النبي صلى الله عليه وسلم ، فصح أن الملائكة يشفعون ، والأولياء يشفعون ، والافراط يشفعون أتقول : أن الله أعطاهم الشفاعة فاطلبها منهم فإن قلت هذا : رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكر الله في كتابه وأن قلت : لا – بطل قولك : أعطاه الله الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله (5).
    وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد : (( وأما الاستشفاء بالرسول صلى الله عليه وسلم في حياته ، فالمراد به استجلاب دعائه وليس خاصاً به صلى الله عليه وسلم بل كل حي صالح يرجى أن يستجاب له فلا بأس أن يطلب منه أن يدعو للسائل بالمطالب الخاصة والعامة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر لما أراد أن يعتمر من المدينة : (( لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك )) (6) .
    والحديث رواه الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمر (( أن عمر استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن له فقال : يا أخي أشركنا في صالح دعائك ، ولا تنسنا )) قال عبد الرزاق في حديثه . فقال عمر : (( ما أحب أن لي بها ما طلعت عليه الشمس لقوله : يا أخي )) (7) .

    وكشف الشيخ الخامسة وهي قولهم : يستدلون على جواز الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ودعائه كذلك : بأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم ، ثم بنوح ، ثم بإبراهيم ، ثم بموسى ، ثم بعيسى ، فكلهم يعتذرون حتى ينتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
    ويستدلون كذلك بقصة إبراهيم عليه الصلاة السلام لما ألقى في النار عرض جبريل الاغاثة فلو كانت شركاً لم يعرضها جبريل عليه السلام – فكشفها الشيخ ببيان أن المنكر هو استغاثة العبادة التي تفعل عند القبر وسائر القبور ، أو تفعل في غيبة المستغاث به والتي يطلب بها ما لا يقدر عليه إلا الله وحده من غير الله تعالى .
    أما استغاثة الناس يوم القيامة بالأنبياء ليدعوا لهم فهذا جائز بل يجوز في الدنيا والآخرة أن يطلب الشخص من الحي صالح حاضر يسمع قوله ويقدر أن يدعو الله له .
    وكذلك استغاثة إبراهيم بجبريل لو وقعت فهي في أمر يقدر عليه جبريل عليه السلام فهو كما وصفه الله شديد القوى ففي مقدوره أن يغيث إبراهيم مثل قوى في مقدوره أن يغيث عاجزا بقوته كما فعل موسى بالقبطي اغاثة للذي من شيعته .

    وكشف الشيخ السادسة – وهي أنهم يقولون : أن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن : ( لا إله إلا الله ) ويكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم وينكرون البعث ، ويكذبون القرآن ويجعلونه سحراً ، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ونصدق القرآن ، ونؤمن بالبعث . ونصلى ، ونصوم . فكيف تجعلوننا مثل أولئك . فكشفها الشيخ ببيان نواقض الإسلام وبيان أحكام المرتد وأنه الذي يكفر بعد إسلامه ، وبيان أن النواقض للإسلام لا يصح معها إسلام ولا عمل كما لا تصح الصلاة مع ناقض من نواقض الوضوء – فالشرك مثلاً يفسد العبادة ويفسد قول (( لا إله إلا الله )) مهما كانت العبادة كثيرة ولو أمثال الجبال فالشرك يفسدها ويحبطها ويجعلها هباءً منثوراً ، لأن الإسلام والشرك لا يجتمعان فمن ادعى بقاء إسلامه مع ممارسته الشرك فهو كاذب . قال الله تعالى : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ }(الزخرف :65).
    قال الشيخ فيها : المسألة الكبرى وهي كشف شبهة علماء المشركين الذين يقولون : هذا شرك ولكن لا يكفر من فعله لكونه يؤدى الأركان الخمسة فإذا كان الأنبياء لو يفعلونه كفروا فكيف بغيرهم ؟
    وأن الذي يكفر به المسلم ليس هو عقيدة القلب خاصة ، فإن هذا الذي ذكرهم الله لم يريدوا منه صلى الله عليه وسلم تغيير العقيدة ، بل إذا أطاع المسلم من أشار عليه بموافقتهم لأجل ماله أو بلده أو أهله مع كونه يعرف كفرهم ويبغضهم فهذا كافر إلا من أكره (8) .
    وقال تعالى : { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(الأنعام: 88).
    ويقول الشيخ أنه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء وكذبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام ، وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه . كمن أقر بالتوحيد وجحد وجوب الصلاة ، أو أقر بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة ، أو أقر بهذا كله وجحد الصوم أو أقر بهذا كله وجحد الحج .
    ولما لم ينقد أناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للحج ، أنزل الله في حقهم { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ} (آل عمران :97).
    ومن أقر بهذا كله وجحد البعث كفر بالاجماع ، وحل دمه وماله كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} (النساء:150،151).
    فإذا كان الله قد صرح في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقاً وأنه يستحق ما ذكرت زالت الشبهة .
    وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الأحساء في كتابه الذي أرسله إلينا .
    ويقال أيضاً إن كنت تقرأن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء وجحد وجوب الصلاة أنه كافر حلال الدم بالاجماع ، وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث .
    وكذلك لو جحد وجوب صيام رمضان وصدق بذلك كله لا تختلف المذاهب فيه ، وقد نطق به القرآن كما قدمنا .
    فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج ،فكيف إذا جحد الإنسان شيئاً من هذه الأمور كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر ؟ سبحان الله ما أعجب هذا الجهل .
    ويقال أيضاً : هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة ، وقد أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ويؤذنون ويصلون .
    فإن قال إنهم يقولون : إن مسيلمة نبي ، فقل هذا هو المطلوب ، إذا كان من رفع رجلا إلى رتبة النبي صلى الله عليه وسلم كفر وحل ماله ودمه ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف ؟ أو صحابياً أو نبياً إلى مرتبة جبار السموات والأرض ، سبحان الله ما أعظم شأنه { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (الروم:59) .
    ويقال أيضاً : الذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار كلهم يدعون الإسلام ، وهم من أصحاب علي ، وتعلمون العلم من الصحابة ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما ، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم ؟ أتظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين ؟ أم تظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر والاعتقاد في علي بن أبي طالب يُكفرّ .
    ويقال أيضاً : بنوع عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس كلهم يشهدون أن (( لا إله إلا الله محمداً رسول الله )) ويدعون الإسلام ، ويصلون الجمعة والجماعة ، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم ، وأن بلادهم بلاد حرب ، وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين .
    ويقال أيضاً : إذا كان الأولون لم يكفروا إلا أنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول والقرآن وانكار البعث وغير ذلك ، فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب :(( باب حكم المرتد )). وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه .
    ثم ذكروا أنواعاً كثيرة لكل نوع منها يكفر ويحل دم الرجل وماله حتى أنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها ، مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه ، أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب .
    ويقال أيضاً : الذين قال الله فيهم :{ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} (التوبة : 74). أما سمعت الله كفرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجاهدون معه ويصلون ويزكون ويحجون ويوحدون .
    وكذلك الذين قال الله فيهم:{ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (التوبة : 65-66) .
    فهؤلاء الذين صرح الله فيهم أنهم كفروا بعد إيمانهم وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح فتأمل هذه الشبهة وهي قولهم : تكفرون من المسلمين أناساً يشهدون أن (( لا إله إلا الله )) ويصلون ويصومون ، ثم تأمل جوابها فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق .
    ومن الدليل على أيضاً ما حكمي الله عن بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم ، أنهم قالوا لموسى : { اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} (الأعراف :138)
    وقول أناس من الصحابة ( اجعل لنا ذات أنواط ) فحلف النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا نظير قول بني إسرائيل اجعل لنا إلهاً .
    ولكن للمشركين شبهة يدلون بها عند هذه القصة : وهي أنهم يقولون : أن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك . وكذلك الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : اجعل لنا ذات أنواط لم يكفروا .
    فالجواب أن تقول إن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك وكذلك الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلوا ذلك . ولا خلاف أن بني إسرائيل لو فعلوا ذلك لكفروا .
    وكذلك لا خلاف في أن الذين نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا ، وهذا هو المطلوب ، ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها فتفيد التعليم والتحرز ، ومعرفة أن قول الجاهل ( التوحيد فهمناه ) أن هذا من أكبر الجهل ومكائد الشيطان .
    وتفيد أيضاً أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري . فنبه على ذلك فتاب من ساعته أنه لا يكفر كما فعل بنو إسرائيل ، والذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم .
    وتفيد أيضاً أنه لو لم يكفر فإنه يغلظ عليه الكلام تغليظاً شديد كما فعل رسول صلى الله عليه وسلم..انتهى
    ويقول الشيخ أن هذه الشبهة هي من أعظم شبههم فأصغ سمعك لجوابها (9) .
    لذا نقلت جوابها بنصه ، وأشير إلى أن الشيخ ألف رسالة أخرى في هذه المسألة وهي ( مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد ) (10) .

    وكشف الشيخ الشبهة السابعة وهي قولهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة قتل من قال :(لا إله إلا الله ) ، وكذلك قولهم :(( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) وأحاديث أخر في الكف عمن قالها ومراد هؤلاء الجهلة أن من قالها لا يكفر ولا يقتل ولو فعل ما فعل ، فكشف الشيخ هذه الشبهة ببيان أن من قالها وجب الكف عنه إلا أن تبين منه ما يناقض ذلك كدعاء الأولياء وقصدهم فيما هو من حق الله تعالى ، فأما حديث أسامة فإنه قتل رجلا ادعي الإسلام بسبب أنه ظن ما ادعي الإسلام إلا خوفاً على دمه وماله .
    والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك .
    وأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا}(النساء :94). أي فتبينوا فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل لقوله تعالى :{فَتَبَيَّنُوا} ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبت معنى .
    وكذلك الحديث الآخر وأمثاله . معناه ما ذكر أن من أظهر التوحيد والإسلام وجب الكف عنه إلى أن يتبين منه ما يناقض ذلك . والدليل على هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(( أقتلته بعدما قال :( لا إله إلا الله )؟ وقال : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا (لا إله إلا الله) هو الذي قال في الخوارج : (( أينما لقيتموهم فاقتلوهم لئن أدركتم لأقتلنهم قتل عاد )) مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلاً وتسبيحاً ، حتى أن الصحابة يحقرون صلاتهم عندهم وهم تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم (لا إله إلا الله) ولا كثرة العبادة ، ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة . كذلك ما ذكر في جوابه في السادسة وكشفها من قتال اليهود وهم يقولون وقتال الصحابة بني حنيفة ، وكذلك أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يغزو بني المطلق لما أخبره رجل أنهم منعوا الزكاة ، حتى أنزل الله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}(الحجرات:6) – وكان الرجل كاذباً عليهم .
    قال الشيخ : وكل هذا يدل على أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي احتجوا بها وجوب الكف عمن قالها حتى يتبين منه مخالفتها -


    د.صالح بن عبدالله العبود


  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: كشف شبهات المشركين للإمام محمد بن عبد الوهاب

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمدعبداللطيف مشاهدة المشاركة
    وكشف الشيخ السادسة – وهي أنهم يقولون : أن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن : ( لا إله إلا الله ) ويكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم وينكرون البعث ، ويكذبون القرآن ويجعلونه سحراً ، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ونصدق القرآن ، ونؤمن بالبعث . ونصلى ، ونصوم . فكيف تجعلوننا مثل أولئك . فكشفها الشيخ ببيان نواقض الإسلام وبيان أحكام المرتد وأنه الذي يكفر بعد إسلامه ، وبيان أن النواقض للإسلام لا يصح معها إسلام ولا عمل كما لا تصح الصلاة مع ناقض من نواقض الوضوء – فالشرك مثلاً يفسد العبادة ويفسد قول (( لا إله إلا الله )) مهما كانت العبادة كثيرة ولو أمثال الجبال فالشرك يفسدها ويحبطها ويجعلها هباءً منثوراً ، لأن الإسلام والشرك لا يجتمعان فمن ادعى بقاء إسلامه مع ممارسته الشرك فهو كاذب . قال الله تعالى : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ }(الزخرف :65).
    قال الشيخ فيها : المسألة الكبرى وهي كشف شبهة علماء المشركين الذين يقولون : هذا شرك ولكن لا يكفر من فعله لكونه يؤدى الأركان الخمسة فإذا كان الأنبياء لو يفعلونه كفروا فكيف بغيرهم ؟
    وأن الذي يكفر به المسلم ليس هو عقيدة القلب خاصة ، فإن هذا الذي ذكرهم الله لم يريدوا منه صلى الله عليه وسلم تغيير العقيدة ، بل إذا أطاع المسلم من أشار عليه بموافقتهم لأجل ماله أو بلده أو أهله مع كونه يعرف كفرهم ويبغضهم فهذا كافر إلا من أكره (8) .
    وقال تعالى : { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(الأنعام: 88).
    ويقول الشيخ أنه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء وكذبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام ، وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه . كمن أقر بالتوحيد وجحد وجوب الصلاة ، أو أقر بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة ، أو أقر بهذا كله وجحد الصوم أو أقر بهذا كله وجحد الحج .
    ولما لم ينقد أناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للحج ، أنزل الله في حقهم { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ} (آل عمران :97).
    ومن أقر بهذا كله وجحد البعث كفر بالاجماع ، وحل دمه وماله كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} (النساء:150،151).
    فإذا كان الله قد صرح في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقاً وأنه يستحق ما ذكرت زالت الشبهة .
    وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الأحساء في كتابه الذي أرسله إلينا .
    ويقال أيضاً إن كنت تقرأن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء وجحد وجوب الصلاة أنه كافر حلال الدم بالاجماع ، وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث .
    وكذلك لو جحد وجوب صيام رمضان وصدق بذلك كله لا تختلف المذاهب فيه ، وقد نطق به القرآن كما قدمنا .
    فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج ،فكيف إذا جحد الإنسان شيئاً من هذه الأمور كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر ؟ سبحان الله ما أعجب هذا الجهل .
    ويقال أيضاً : هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة ، وقد أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ويؤذنون ويصلون .
    فإن قال إنهم يقولون : إن مسيلمة نبي ، فقل هذا هو المطلوب ، إذا كان من رفع رجلا إلى رتبة النبي صلى الله عليه وسلم كفر وحل ماله ودمه ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف ؟ أو صحابياً أو نبياً إلى مرتبة جبار السموات والأرض ، سبحان الله ما أعظم شأنه { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (الروم:59) .
    ويقال أيضاً : الذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار كلهم يدعون الإسلام ، وهم من أصحاب علي ، وتعلمون العلم من الصحابة ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما ، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم ؟ أتظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين ؟ أم تظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر والاعتقاد في علي بن أبي طالب يُكفرّ .
    ويقال أيضاً : بنوع عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس كلهم يشهدون أن (( لا إله إلا الله محمداً رسول الله )) ويدعون الإسلام ، ويصلون الجمعة والجماعة ، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم ، وأن بلادهم بلاد حرب ، وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين .
    ويقال أيضاً : إذا كان الأولون لم يكفروا إلا أنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول والقرآن وانكار البعث وغير ذلك ، فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب :(( باب حكم المرتد )). وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه .
    ثم ذكروا أنواعاً كثيرة لكل نوع منها يكفر ويحل دم الرجل وماله حتى أنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها ، مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه ، أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب .
    ويقال أيضاً : الذين قال الله فيهم :{ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} (التوبة : 74). أما سمعت الله كفرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجاهدون معه ويصلون ويزكون ويحجون ويوحدون .
    وكذلك الذين قال الله فيهم:{ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (التوبة : 65-66) .
    فهؤلاء الذين صرح الله فيهم أنهم كفروا بعد إيمانهم وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح فتأمل هذه الشبهة وهي قولهم : تكفرون من المسلمين أناساً يشهدون أن (( لا إله إلا الله )) ويصلون ويصومون ، ثم تأمل جوابها فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق .
    ومن الدليل على أيضاً ما حكمي الله عن بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم ، أنهم قالوا لموسى : { اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} (الأعراف :138)
    وقول أناس من الصحابة ( اجعل لنا ذات أنواط ) فحلف النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا نظير قول بني إسرائيل اجعل لنا إلهاً .
    ولكن للمشركين شبهة يدلون بها عند هذه القصة : وهي أنهم يقولون : أن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك . وكذلك الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : اجعل لنا ذات أنواط لم يكفروا .
    فالجواب أن تقول إن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك وكذلك الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلوا ذلك . ولا خلاف أن بني إسرائيل لو فعلوا ذلك لكفروا .
    وكذلك لا خلاف في أن الذين نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا ، وهذا هو المطلوب ، ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها فتفيد التعليم والتحرز ، ومعرفة أن قول الجاهل ( التوحيد فهمناه ) أن هذا من أكبر الجهل ومكائد الشيطان .
    وتفيد أيضاً أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري . فنبه على ذلك فتاب من ساعته أنه لا يكفر كما فعل بنو إسرائيل ، والذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم .
    وتفيد أيضاً أنه لو لم يكفر فإنه يغلظ عليه الكلام تغليظاً شديد كما فعل رسول صلى الله عليه وسلم..انتهى
    ويقول الشيخ أن هذه الشبهة هي من أعظم شبههم فأصغ سمعك لجوابها .
    لذا نقلت جوابها بنصه ، وأشير إلى أن الشيخ ألف رسالة أخرى في هذه المسألة وهي ( مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد )
    نعم

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: كشف شبهات المشركين للإمام محمد بن عبد الوهاب

    الشبهة الأولى
    قولهم: نحن لا نشرك بالله، ونشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولكننا مذنبون، والصالحون لهم جاه عند الله، ونطلب من الله بهم.

    جواب الشبهة الأولى
    اعلم أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستباح دماءهم ونساءهم مقرون بذلك، ومقرون بأن أوثانهم لا تدبر شيئاً، وإنما أرادوا الجاه والشفاعة، ولم يغنهم هذا التوحيد شيئاً.
    وقد ذكر الله عز وجل في محكم كتابه: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ)) [سورة الأنبياء:25].
    وقال تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ)) [سورة الذاريات:56].
    وقال تعالى: ((شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) [سورة آل عمران:18].
    وقال تعالى: ((وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)) [البقرة:163].
    وقال تعالى: ((فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)) [سورة العنكبوت:56] إلى غيرها من الآيات الكثيرة الدالة على وجوب توحيد الله عز وجل في عبادته، وأن لا يعبد أحد سواه.

    الشبهة الثانية
    قوله: أن الآيات التي ذكرتها نزلت فيمن يعبد الأصنام، وهؤلاء الأولياء ليسوا بأصنام.

    جواب الشبهة الثانية
    اعلم أن كل من عبد غير الله فقد جعل معبوده وثناً فأي فرق بين من عبد الأصنام وعبد الأنبياء والأولياء؟!
    فالكفار منهم من يدعو الأصنام لطلب الشفاعة، ومنهم من يعبد الأولياء والدليل على أنهم يدعون الأولياء قوله تعالى: ((أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ)) [سورة الإسراء: 57]، وكذلك يعبدون الأنبياء كعبادة النصارى المسيح ابن مريم والدليل قوله تعالى: ((وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ)) [سورة المائدة:116]، وكذلك يعبدون الملائكة كقوله تعالى: ((وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ)) [سورة السبأ:40].
    فبهذا تبين تلبيسهم بكون المشركين يعبدون الأصنام وهم يدعون الأولياء والصالحين من وجهين:
    الوجه الأول: أنه لا صحة لتلبيسهم لأن أولئك المشركين من يعبد الأولياء والصالحين.
    الوجه الثاني: لو قدرنا أن أولئك المشركين لا يعبدون إلا الأصنام فلا فرق بينهم وبين المشركين لأن الكل عبد من لا يغني عنه شيئاً.
    وبهذا عرفنا أن الله كفر من قصد الأصنام، وكفر أيضاً من قصد الصالحين وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الشرك ولم ينفعهم أن كان المعبودون من أولياء الله وأنبيائه.

    الشبهة الثالثة
    قولهم: الكفار يريدون من الأصنام أن ينفعوهم أو يضرهم، ونحن لا نريد إلا من الله والصالحون ليس لهم من الأمر شيء، ونحن لا اعتقد فيهم ولكن نتقرب بهم إلى الله عز وجل ليكونوا شفعاء.

    جواب الشبهة الثالثة
    اعلم أن هذا قول الكفار سواءً بسواء حيث قال تعالى: ((وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) [سورة الزمر:3] وقوله تعالى: ((هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ)) [سورة يونس:18].

    الشبهة الرابعة
    قولهم: نحن لا نعبد إلا الله، وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة.

    جواب الشبهة الرابعة
    اعلم إن الله فرض عليك إخلاص العبادة له وهو حقه على الناس، حيث قال تعالى: ((ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)) [سورة الأعراف:55].
    والدعاء عبادة، وإذا كان عبادة فإن دعاء غير الله شركٌ بالله عز وجل والذي يستحق أن يدعى ويعبد ويرجى هو الله وحده لا شريك له.
    فإذا علمنا أن الدعاء عبادة، ودعونا الله ليلاً ونهاراً، خوفاً وطمعاً، ثم دعونا في تلك الحاجة نبيناً أو غيره فقد أشركنا في عبادة الله غيره.
    وقال تعالى: ((فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)) [سورة الكوثر:2] فإذا أطعنا الله ونحرنا له، فهذه عبادة لله، فإذا نحرنا لمخلوق نبي، أو جني أو غيرهما فقد أشركنا في العبادة غير الله.
    والمشركون الذين نزل فيهم القرآن، كانوا يعبدون الملائكة والصالحين واللات، وما كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك، وهم مقرون أنهم عبيد لله وتحت قهره، وأن الله هو الذي يدبر الأمر، ولكن دعوهم والتجأوا إليهم للجاه والشفاعة وهذا ظاهر جداً.

    الشبهة الخامسة
    قولهم لأهل التوحيد: أنتم تنكرون شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

    جواب الشبهة الخامسة
    اعلم بأننا لا ننكر شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نتبرأ منها، بل هو صلى الله عليه وسلم ، الشافع المشفع وأرجو شفاعته، ولكن الشفاعة كلها لله، كما قال تعالى: ((قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً)) [سورة الزمر:44].
    ولا تكون إلا من بعد إذن الله كما قال عز وجل: ((مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ)) [سورة البقرة:255] ولا يشفع إلا من بعد أن يأذن الله فيه كما قال عز وجل: ((وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى)) [سورة الأنبياء:28].
    والله لا يرضى إلا التوحيد كما قال عز وجل: ((يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ)) [سورة آل عمران:85].
    فإذا كانت الشفاعة كلها لله، ولا تكون إلا من بعد إذنه، ولا يشفع النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد، فاطلب الشفاعة من الله، فقل: اللهم لا تحرمني شفاعته، اللهم شفعه في، وأمثال هذا.

    الشبهة السادسة
    قولهم: أن الله أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة، ونحن نطلبه مما أعطاه الله.

    جواب الشبهة السادسة
    اعلم أن الله أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة ونهانا عن هذا فقال: ((فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً)) [سورة الجن:18].

    واعلم أن الله سبحانه وتعالى أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة ولكنه صلى الله عليه وسلم لا يشفع إلا بإذن الله، ولا يشفع إلا لمن ارتضاه الله، ومن كان مشركاً فإن الله لا يرتضيه فلا يأذن أن يشفع له كما قال تعالى: ((وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى)) [سورة الأنبياء:28].

    واعلم أن الله تعالى أعطى الشفاعة غير النبي صلى الله عليه وسلم، فالملائكة يشفعون، والأفراط يشفعون، والأولياء يشفعون.

    فهل نطلب الشفاعة من هؤلاء؟

    فإن كنت تريد من الرسول صلى الله عليه وسلم الشفاعة فقل: ((اللهم شفع فيَّ نبيك محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم)).

    وكيف تريد شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تدعوه صلى الله عليه وسلم مباشرة، ودعاء غير الله شرك أكبر مخرج من الملة.

    الشبهة السابعة
    قولهم: نحن لا نشرك بالله شيئاً ولكن الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك.

    جواب الشبهة السابعة
    اعلم أن الله حرم الشرك أعظم من تحريم الزنا، وأن الله لا يغفره، فما هو الشرك؟

    فإنهم لا يدرون ما هو الشرك ما دام أن طلب الشفاعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بشرك، وهذا دليل على أنهم لا يعرفون الشرك الذي عظمه الله تعالى وقال فيه: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [سورة لقمان:13].

    فكيف تبرؤون أنفسكم من الشرك بلجوئكم إلى الصالحين، وأنتم لا تعرفونه، والحكم على الشيء بعد تصوره، فحكمكم ببراءة أنفسكم من الشرك وأنتم لا تعلمونه حكم بلا علم، فيكون مردوداً.

    ولماذا لا تسألون عن الشرك الذي حرمه الله تعالى أعظم من تحريم قتل النفس والزنا وأوجب لفاعله النار وحرم عليه الجنة، أتظنون أن الله حرمه على عباده ولم يبينه لهم حاشاه من ذلك.

    الشبهة الثامنة
    قولهم: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام.

    جواب الشبهة الثامنة
    اعلم أن عباد الأصنام لا يعتقدون أنها تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها، وإن القرآن يكذب من قال أنهم كانوا يعتقدون غير ذلك.

    وأن عبادة الأصنام هو من قصد خشبة، أو حجراً، أو بنية على قبر أو غيره، يدعون ذلك ويذبحون له ويقولون إنه يقربنا إلى الله زلفى ويدفع الله عنا ببركته أو يعطينا.

    وأن فعلكم عند الأحجار والأبنية التي على القبور وغيرها هو نفس فعلهم، وبهذا يكون فعلكم هو عبادة الأصنام.

    وقولكم: الشرك عبادة الأصنام، هل هذا يعني أن الشرك مخصوص بهذا، وأن الاعتماد على الصالحين ودعاءهم لا يدخل في ذلك؟

    فهذا يرده ما ذكر الله في كتابه من كفر من تعلق على الملائكة أو عيسى أو الصالحين.

    الشبهة التاسعة
    قولهم: إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله، ويكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم، وينكرون البعث، ويكذبون القرآن ويجعلونه سحراً، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصلي ونصوم، فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟

    جواب الشبهة التاسعة
    اعلم أن العلماء أجمعوا على أن من كفر ببعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وكذب به، فهو كمن كذب بالجميع وكفر به، ومن كفر بنبي من الأنبياء فهو كمن كفر بجميع الأنبياء لقوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً)) [سورة النساء: 150-151] وقوله تعالى في بني إسرائيل: ((أَفَتُؤْمِنُون َ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ)) [سورة البقرة:85].
    فمن أقر بالتوحيد وأنكر وجوب الصلاة فهو كافر، ومن أقر بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة فإنه يكون كافراً، ومن أقر بوجوب ما سبق وجحد وجوب الصوم فإنه يكون كافراً، ومن أقر بذلك كله وجحد وجوب الحج فإنه كافر والدليل على ذلك قوله تعالى: ((وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ – يعني من كفر بكون الحج واجباً أوجبه الله على عباده – فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)) [سورة آل عمران:97].
    ومن أقر بهذا كله، ولكنه كذب بالبعث فإنه كافر بالإجماع لقول الله تعالى: ((زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) [سورة التغابن:7].
    فإذا أقررت بهذا فاعلم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعظم من الصلاة، والزكاة، والصوم والحج، فكيف إذا جحد الإنسان شيئاً من هذا الأمور كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟
    سبحان الله، ما أعجب هذا الجهل!
    فمنكر التوحيد أشد كفراً وأبين وأظهر.
    وها هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة وقد أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤذنون ويصلون وهم إنما رفعوا رجلاً إلى مرتبة النبي، فكيف بمن رفع مخلوقاً إلى مرتبة جبار السماوات والأرض؟
    أفلا يكون أحق بالكفر ممن رفع مخلوقاً إلى منزلة مخلوق آخر؟!
    وها هم الذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار كلهم يدعون الإسلام وهم من أصحاب علي رضي الله عنه وتعلموا العلم من الصحابة ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما.
    فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟
    أتظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين؟ أم تظنون أن الاعتقاد في الحسين والبدوي وأمثاله لا يضر والاعتقاد في علي بن أبي طالب رضي الله عنه يكفر؟
    وقد أجمع العلماء على كفر بني عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر وكانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلون الجمعة والجماعات ويدعون أنهم مسلمين، ولكن ذلك لم يمنعهم من حكم المسلمين عليهم بالردة حين أظهروا مخالفة المسلمين في أشياء دون التوحيد حتى قاتلوهم واستنفذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين.
    وإذا كان الأولون لم يكفروا إلا حين جمعوا جميع أنواع الكفر من الشرك والتكذيب والاستكبار فما معنى ذكر أنواع من الكفر في (باب حكم المرتد).
    كل نوع منها يكفر حتى ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب، فلولا أن الكفر يحصل بفعل نوع منه وإن كان الفاعل مستقيماً في جانب آخر لم يكن لذكر الأنواع فائدة.
    وأن الله تعالى حكم بكفر المنافقين الذين قالوا كلمة الكفر مع أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يصلون ويزكون ويحجون ويجاهدون ويوحدون، فقال الله تعالى فيهم: ((يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ)) [سورة التوبة:74].
    وأن الله تعالى حكم بكفر المنافقين الذين قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح، فقال الله تعالى فيهم: ((قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)) [سورة التوبة: 96].
    ومن الدليل على أن الإنسان قد يقول أو يفعل ما هو كفر من حيث لا يشعر قول بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم لموسى عليه الصلاة والسلام: ((اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)) وقول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط" فقال: "الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ((اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)) [سورة الأعراف: 138] لتركبن سنن من كان قبلكم".
    وهذا يدل على أن موسى ومحمداً عليهما الصلاة والسلام قد أنكروا ذلك غاية الإنكار.

    الشبهة العاشرة
    قولهم: في قول بني إسرائيل لموسى ((اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)) وقول بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط" إن الصحابة وبني إسرائيل لم يكفروا.

    جواب الشبهة العاشرة
    أن الصحابة وبني إسرائيل لم يفعلوا ذلك حين لقوا من الرسولين الكريمين إنكار ذلك، ولا خلاف أن بني إسرائيل لو فعلوا ذلك لكفروا، وكذلك لا خلاف في أن الذين نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا.

    الشبهة الحادية عشر
    قولهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة قتل من قال: "لا إله إلا الله"، وكذلك قوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله "، وأحاديث أخرى في الكف عمن قالها.

    جواب الشبهة الحادية عشر
    أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود وسباهم وهم يقولون لا إله إلا الله.
    وأن الصحابة قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويصلون ويدعون أنهم مسلمون.
    وأن الذين حرقهم علي بن أبي طالب كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله.
    وأن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال لا إله إلا الله، وأن من جحد شيئاً من أركان الإسلام كفر وقتل، ولو قالها.
    فكيف لا تنفعه إذا جحد فرعاً من الفروع، وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أصل دين الرسل ورأسه؟
    وأما حديث أسامة الذي قتل فيه من قال لا إله إلا الله حين لحقه أسامة ليقتله وكان مشركاً، فقال: لا إله إلا الله، فقتله أسامة لظنه أنه لم يكن مخلصاً في قوله وإنما قاله تخلصاً فليس فيه دليل على أن كل من قال: لا إله إلا الله فهو مسلم معصوم الدم، ولكن فيه دليل على أنه يجب الكف عمن قال: لا إله إلا الله، ثم بعد ذلك ينظر في حاله حتى يتبين، والدليل قول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ)) [سورة النساء:94] أي فتثبتوا، وهذا يدل على أنه إذا تبين أن الأمر كان خلاف ما كان عليه فإنه يجب أن يعامل بما يتبين من حاله، فإذا بان منه ما يخالف الإسلام قتل ولو كان لا يقتل مطلقاً إذا قالها لم يكن فائدة للأمر بالتثبت.
    وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " فإن معنى الحديث أن من أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين أمره، لقوله تعالى: ((فَتَبَيَّنُواْ )) لأن الأمر بالتبين يحتاج إليه إذا كان في شك من ذلك، أما لو قال: لا إله إلا الله بمجرده عاصماً من القتل فإنه لا حاجة إلى التبين.
    واعلم أن الذي قال لأسامة: "أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله"، وقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله..." هو الذي أمر بقتال الخوارج وقال: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم" مع أن الخوارج يصلون ويذكرون الله ويقرؤون القرآن، وهم قد تعلموا من الصحابة رضي الله عنهم ومع ذلك لم ينفعهم ذلك شيئاً، لأن الإيمان لم يصل إلى قلوبهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يجاوز حناجرهم".

    الشبهة الثانية عشر
    قولهم: أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، ثم بنوح، ثم إبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى فكلهم يعتذر حتى ينتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركاً.

    جواب الشبهة الثانية عشر
    اعلم بأن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها، كما قال الله تعالى في قصة موسى: ((فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ)) [سورة القصص:15].
    وأن الناس لم يستغيثوا بهؤلاء الأنبياء الكرام ليزيلوا عنهم الشدة، ولكنهم يستشفعون بهم عند الله عز وجل ليزيل هذه الشدة، وهناك فرق بين من يستغيث بالمخلوق ليكشف عنه الضرر والسوء، ومن يستشفع بالمخلوق إلى الله ليزيل الله عنه ذلك، وهذا أمر جائز كما أن الصحابة رضي الله عنهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم في حياته أن يدعو الله لهم، وأما بعد موته فحاشا وكلا أنهم سألوه ذلك عند قبره، بل أنكر السلف الصالح على من قصد دعاء الله عند قبره فكيف بدعائه نفسه؟
    ولا بأس أن تأتي لرجل صالح تعرفه وتعرف صلاحه فتسأله أن يدعو الله لك، وهذا حق إلا أنه لا ينبغي للإنسان أن يتخذ ذلك ديدناً له كلما رأى رجلاً صالحاً قال ادع الله لي، فإن هذا ليس من عادة السلف رضي الله عنهم، وفيه إتكال على دعاء الغير، ومن المعلوم أن الإنسان إذا دعا ربه بنفسه كان خيراً له لأنه يفعل عبادة يتقرب بها إلى الله عز وجل.

    الشبهة الثالثة عشر
    قولهم: أن في قصة إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار اعترض له جبريل في الهواء فقال: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا، دليل على أنه لو كانت الاستغاثة بجبريل شركاً لم يعرضها على إبراهيم؟

    جواب الشبهة الثالثة عشر
    اعلم أن جبريل إنما عرض عليه أمراً ممكناً يمكن أن يقوم به فلو أذن الله لجبريل لأنقذ إبراهيم بما أعطاه الله تعالى من القوة فإن جبريل كما وصفه الله تعالى: ((شَدِيدُ الْقُوَى)) [سورة النجم:5] فلو أمره الله أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها ويلقيها في المشرق أو المغرب لفعل ولو أمره أن يحمل إبراهيم إلى مكان بعيد عنهم لفعل ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل.
    وهذا يشبه لو أن رجلاً غنياً أتي إلى فقير فقال هل لك حاجة في المال؟ من قرض أو هبة أو غير ذلك؟ فإنما هذا مما يقدر عليه، ولا يعد هذا شركاً لو قال نعم لي حاجة أقرضني، أو هبني لم يكن مشركاً.---قال كاتبه عبدالله بن حميد الفلاسى -
    قمت بنقله واختصاره من كتاب كشف الشبهات للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وقد دمجت شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله لكشف الشبهات مع كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: كشف شبهات المشركين للإمام محمد بن عبد الوهاب

    متن كشف الشبهات
    بسم الله الرحمن الرحيم
    قال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب. رحمه الله تعالى:
    (اعلم رحمك الله أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده. فأولهم نوح عليه السلام أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا، وآخر الرسل محمد، وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين، أرسله إلى قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيرًا، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله. يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده: مثل الملائكة، وعيسى، ومريم، وأناس غيرهم من الصالحين. فبعث الله إليهم محمدًا يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم عليه السلام، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله لا يصلح منه شيء لغير الله لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل فضلا عن غيرهما، وإلا فهؤلاء المشركون مقرون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي إلا ه، ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السموات السبع ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيها كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره.
    فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء الذين قاتلهم رسول الله يشهدون بهذا فاقرأ قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } [يونس: 31] وقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } [المؤمنون] وغير ذلك من الآيات.
    فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا وأنه لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا (الاعتقاد) كما كانوا يدعون الله سبحانه ليلًا ونهارًا.
    ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا له، أو يدعوا رجلًا صالحًا مثل اللات: أو نبيا مثل عيسى وعرفت أن رسول الله، قاتلهم على هذا الشرك ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [الجن] وقال: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ } [الرعد: 14] وتحققت أن رسول الله قاتلهم ليكون الدعاء كله لله، والنذر كله لله، والذبح كله لله، والاستغاثة كلها لله، وجميع أنواع العبادات كلها لله، وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة أو الأنبياء، أو الأولياء، يريدون شفاعتهم، والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم.
    عرفت حينئذٍ التوحيد الذي دعت إليه الرسل: وأبى عن الإقرار به المشركون، وهذا التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله، فإن الإله هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور، سواء ملكا، أو نبيًا، أو وليا، أو شجرة، أو قبرًا، أو جنيًا لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر، فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قدمت لك، وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد. فأتاهم النبي يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي (لا إله إلا الله) والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها. والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق به والكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه، فإنه لما قال لهم: قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ص: 5].
    فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك، فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني.
    والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق إلا الله، ولا يدبر الأمر إلا الله، فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله.
    إذا عرفت ما ذكرت لك معرفة قلب، وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء: 48] وعرفت دين الله الذي أرسل به الرسل من أولهم إلى آخرهم الذي لا يقبل الله من أحد سواه، وعرفت ما أصبح غالب الناس عليه من الجهل بهذا أفادك فائدتين:
    الأولى: الفرح بفضل الله وبرحمته، كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس].
    وأفادك أيضًا الخوف العظيم، فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل، فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله تعالى كما كان يفعل الكفار المشركون، خصوصًا إن ألهمك الله ما قص عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم، أنهم أتوه قائلين: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ } [الأعراف: 138]. فحينئذٍ يعظم حرصك وخوفك على ما يخلصك من هذا وأمثاله.
    وأعلم أنه سبحانه من حكمته لم يبعث نبيا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } [الأنعام: 112]. وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج كما قال تعالى: {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ } [غافر: 83].
    إذا عرفت ذلك، وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه أهل فصاحة وعلم وحجُج، فالواجب عليك أن تتعلم من دين الله ما يصير لك سلاحًا تقابل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}. ولكن إذا أقبلت على الله، وأصغيت إلى حجه وبيناته، فلا تخف ولا تحزن {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } [النساء: 76].
    والعامي من الموحدين يغلب ألفًا من علماء هؤلاء المشركين، كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [الصافات]، فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان، وإنما الخلوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح، وقد من الله تعالى علينا بكتابه الذي جعله {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل] فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها، كما قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا }، قال بعض المفسرين: هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة.
    وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله في كتابه جوابًا لكلام احتج به المشركون في زماننا علينا فنقول:
    جواب أهل الباطل من طريقين: مجمل، ومفصل.
    أما المجمل فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة لمن عقلها، وذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } [آل عمران: 7].
    وقد صح عن رسول الله، أنه قال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم».
    مثال ذلك إذا قال لك بعض المشركين: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [يونس: 62]، أو استدل بالشفاعة أنها حق، وأن الأنبياء لهم جاه عند الله أو ذكر كلامًا للنبي يستدل به على شيء من باطله، وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره، فجاوبه بقولك: إن الله ذكر أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتبعون المتشابه، وما ذكرته لك من أن الله ذكر أن المشركين يقرون بالربوبية، وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأولياء مع وقلهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله هذا أمر محكم بين، لا يقدر أحد أن يغير معناه، وما ذكرته لي أيها المشرك من القرآن أو كلام النبي لا أعرف معناه، ولكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض، وأن كلام النبي لا يخاف كلام الله عز وجل، وهذا جواب سديد، ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى، فلا تستهن به فإنه كما قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [فصلت].
    وأما الجواب المفصل: فإن أعداء الله لهم اعتراضات كثيرة على دين الرسل يصدون بها الناس عنه.
    منها قولهم: نحن لا نشرك بالله، بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا لا يملك لنفه نفعًا ولا ضرا، فضلا عن عبد القادر أو غيره، ولكن أنا مذنب والصالحون لهم جاه عند الله، وأطلب من الله بهم، فجاوبه بما تقدم وهو أن الذين قاتلهم رسول الله مقرون بما ذكرت، ومقرون بأن أوثانهم لا تدبر شيئًا، وإنما أرادوا الجاه والشفاعة.
    واقرأ عليه ما ذكر الله في كتابه ووضحه.
    فإن قال: هؤلاء الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام، كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنام أم كيف تجعلون الأنبياء أصنامًا؟ فجاوبه بما تقدم فإنه إذ أقر أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله، وأنهما ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة. ولكن غذا أراد أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكره، فاذكر له أن الكفار منهم من يدعو الصالحين والأصنام ومنهم من يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } [الإسراء: 57]، ويدعون عيسى ابن مريم وأمه، وقد قال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [المائدة] واذكر له قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ] وقوله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } [المائدة].
    فقل له: أعرفت أن الله كفر من قصد الأصنام، وكفر من قصد الصالحين وقاتلهم رسول الله.
    فإن قال: الكفار يريدون منهم: وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار لا أريد إلا منه والصالحون ليس لهم من الأمر شيء ولكن أقصدهم أرجو من الله شفاعتهم.
    فالجواب: أن هذا قول الكفار سواء بسوادٍ فاقرأ عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [الزمر: 3] وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } [يونس: 18]، وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ }. واعلم أن هذه الشبه الثلاث هي أكبر ما عندهم، فإذا عرفت أن الله وضحها في كتابه، وفهمتها فهمًا جيدًا فما بعدها أيسر منها. فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله وهذا الالتجاء إلى الصالحين، ودعاءهم ليس بعبادةٍ. فقل له: أنت تقر أن الله فرض عليك إخلاص العبادة وهو حقه عليك؟ فإن قال: نعم، فقل له: بين له هذا الذي فرض عليك وهو إخلاص العبادة لله وحده وهو حقه عليك، فإن كان لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبينها لا بقولك: قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [الأعراف]. فإذا اعلمته بهذا فق ل له: هل علمت هذا عبادة لله؟ فلا بد أن يقول لك: نعم، والدعاء مخ العبادة، فقل له: إذا أقررت أنه عبادة لله وعوت الله ليلًا ونهارًا خوفًا وطمعًا، ثم دعوت في تلك الحاجة نبيًا أو غيره هل أشركت في عبادة الله غيره؟ فلا بد أن يقول: نعم، فقل له: فإذا عملت بقول الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [الكوثر]، وأطعت الله ونحرت له هذا عبادة، فلا بد أن يقول: نعم، فقل له: فإذا نحرت لمخلوق نبي أو جني أو غيرهما، هل أشركت في هذه العبادة غير الله؟ فلا بد أن يقر، ويقول نعم، وقل له أيضًا: المشركون الذين نزل فيهم القرآن، هل كانوا يعبدون الملائكة والصالحين واللات وغير ذلك؟ فلا بد أن يقول: نعم، فقل له: وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك، وإلا فهم مقرون أنهم عبيد الله وتحت قهره، وأن الله هو الذي يدبر الأمر ولكن دعوهم، والتجئوا إليهم للجاه والشفاعة، وهذا ظاهر جدا.
    فإن قال أتنكر شفاعة رسول الله وتبرأ منها فقل: لا أنكرها ولا اتبرأ منها، بل هو الشافع والمشفع وأرجو شفاعته، ولكن الشفاعة كلها لله كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ولا تكون إلا من بعد إذن الله كما قال عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } [البقرة: 255]، ولا يشفع في أحد إلا من بعد أن يأذن الله فيه كما قال عز وجل: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى }، وهو لا يرضى إلا التوحيد كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، فإذا كانت الشفاعة كلها لله ولا تكون إلا بعد إذنه ولا يشفع النبي لا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد بين لك أن الشفاعة كلها لله، وأطلبها منه، وأقول: اللهم لا تحرمني شفاعته، اللهم شفعه في، وأمثال هذا.
    فإن قال: النبي أعطي الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله، فالجواب أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا فقال: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [الجن]. فإذا كنت تدعو الله أن يشفع نبيه فيك، فأطعه في قوله {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [الجن] وأيضًا فإن الشفاعة أعطيها غير النبي، فصح أن الملائكة يشفعون والأفراط يشفعون والأولياء يشفعون، أتقول: إن الله أعطاهم الشفاعة وأطلبها منهم؟ فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكر الله في كتابه، وإن قلت لا، بطل قولك أعطاه الله الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله.
    فإن قال أنا لا أشرك بالله شيئًا حاشا وكلا ولكن الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك، فقل له: إذا كنت تقر الله حرم الشرك أعظم من تحريك الزنا وتقر أن الله لا يغفره، فما الذي حرمه الله وذكر أنه لا يغفره، فإن كان لا يدري، فقل له: كيف تبرئ نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه؟ أم كيف يحرم الله عليك هذا ويذكر أنه لا يغفره ولا تسأل عنه ولا تعرفه، أتظن أن الله يحرمه ولا يبينه لنا؟؟.
    فإن قال: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام فقل: ما معنى عبادة الأصنام؟ أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها؟ فهذا يكذبه القرآن كما في قوله تعالى: قل من يرزقكم من السماء والأرض الآية.
    وإن قال هو من قصد خشبة أو حجرًا أو بنية على قبر أو غيره يدعون ذلك ويذبحون له ويقولون، إنه يقربنا إلى الله زلفى ويدفع عنا ببركته ويعطينا ببركته.
    فقل صدقت، وهذا فعلكم عند الأحجار والبنايات التي على القبور وغيرها، فهذا أقر أن فعلهم هذا هو عبادة الأصنام، وهو المطلوب ويقال له أيضًا قولك: «الشرك عبادة الأصنام»، هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا، وأن لاعتماد على الصالحين ودعاءهم لا يدخل في هذا؟ فهذا يرده ما ذكر الله في كتابه من كفر من تعلق على الملائكة أو عيسى أو الصالحين فلا بد أن يقر لك أن من أشرك في عبادة الله أحدًا من الصالحين فهو الشرك المذكور في القرآن وهذا هو المطلوب.
    وسر المسألة أنه إذا قال: أنا لا أشرك بالله، فقل له: وما الشرك بالله: فسره لي؟ فإن قال: هو عبادة الأصنام، فقل: وما معنى عبادة الأصنام فسرها لي؟ فإن قال أنا لا أعبد إلا الله وحده فقل: ما معنى عبادة الله وحده فسرها لي؟ فإن فسرها بما بينه القرآن فهو المطلوب، وإن لم يعرفه فكيف يدعي شيئًا وهو لا يعرفه، وإن فسر ذلك بغير معناه بينت له الآيات الواضحات في معنى الشرك بالله وعبادة الأوثان، وأنه يفعلونه في هذا الزمان بعينه، وأن عبادة الله وحده لا شريك له هي التي ينكرونها علينا ويصيحون كما صاح إخوانهم حيث قالوا: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ص: 5].
    فإن قال: إنهم لا يكفرون بدعاء الملائكة والأنبياء، وإنما يكفرون لما قالوا: الملائكة بنات الله: فإنا لم نقل: عبد القادر ابن الله ولا غيره. فالجواب: إن نسبة الولد إلى الله كفر مستقل؛ قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ } [الإخلاص]، والأحد الذي لا نظير له، والصمد المقصود في الحوائج، فمن جحد هذا؛ فقد كفر، ولو لم يجحد السورة. وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ } [المؤمنون: 91]، ففرق بين النوعين، وجعل كلا منهما كفرًا مستقلًا. وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الأنعام: 100]، ففرق بين كفرين. والدليل على هذا أيضًا أن الذين كفروا بدعاء اللات، مع كونه رجلًا صالحًا: لم يجعلوه ابن الله، والذين كفروا بعبادة الجن لم يجعلوهم كذلك، وكذلك أيضًا العلماء في جميع المذاهب الأربعة؛ يذكرون في باب حكم المرتد أن المسلم إذا زعم أن لله ولدًا؛ فهو مرتد، ويفرقون بين النوعين، وهذا في غاية الوضوح.
    وإن قال: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [يونس: ]. فقل: هذا هو الحق، ولكن لا يعبدون، ونحن لم نذكر إلا عبادتهم مع الله، وشركهم معه، وإلا؛ فالواجب عليك حبهم واتباعهم والإقرار بكرامتهم، ولا يجحد كرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلال… إلخ، ودين الله وسط بين طرفين، وهدى بين ضلالتين، وحق بين باطلين.
    فإذا عرفت أن هذا الذي يسميه المشركون في زماننا هذا «الاعتقاد»، هو الشرك الذي أنزل الله في القرآن وقاتل رسول الله الناس عليه، فاعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا بأمرين:
    أحدهما: أن الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله إلا في الرخاء، وأما في الشدة فيخلصون لله الدين، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا } [الإسراء: 67] وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } [الأنعام: 40] وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا } [الزمر: 8] وقوله: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا } [لقمان: 32].
    فمن فهم هذه المسألة التي وضحها الله في كتابه وهي أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله يدعون الله ويدعون غيره في الرخاء، وأما في الضر والشدة فلا يدعون إلا الله وحده لا شريك له، وينسون سادتهم، تبين له الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأولين، ولكن أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهمًا راسخًا؟ والله المستعان.
    والأمر الثاني. أن الأولين يدعون مع الله أناسًا مقربين عند الله: إما أنبياء وإما أولياء وإما ملائكة، ويدعون أشجارًا أو أحجارًا مطيعة لله ليست عاصية، وأهل زماننا يدعون مع الله أناسًا من أفسق الناس، والذين يدعونهم هم الذين يحلون لهم الفجور من الزنا، والسرقة، وترك الصلاة، وغير ذلك والذي يعتقد في الصالح أو الذي لا يعصي مثل الخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده ويشهد به.
    إذا تحققت أن الذين قاتلهم رسول الله أصح عقولًا وأخف شركًا من هؤلاء فاعلم أن لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا، وهي من أعظم شبههم فاصغ سمعك لجوابها.
    وهي إنهم يقولون: إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله ويكذبون الرسول، وينكرون البعث، ويكذبون القرآن ويجعلونه سحرًا، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصلي، ونصوم، فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟ فالجواب: أنه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدق رسول الله في شيء وكذبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام.
    وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه، كمن أقر بالتوحيد، وجحد وجوب الصلاة، أو أقر بالتوحيد والصلاة، وجحد وجوب الزكاة، أو أقر بهذا كله وجحد الصوم، أو أقر بهذا كله وجحد الحج، ولما لم ينقد أناس في زمن النبي للحج، أنزل الله في حقهم {فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [آل عمران]. ومن أقر بهذا كله وجحد البعث كفر بالإجماع، وحل دمه وماله، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } [النساء] ..
    فإذا كان الله قد صرح في كتابه أن من آمن ببعضٍ فهو الكافر حقًا، وأنه يستحق ما ذكر. زالت هذه الشبهة، وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الأحساء في كتابه الذي أرسل إلينا.
    ويقال أيضًا: إذا كنت تقر أن من صدق الرسول في كل شيء وجحد وجوب الصلاة، أنه كافر حلال الدم بالإجماع، وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث، وكذلك إذا جحد وجوب صوم رمضان لا يجحد هذا، وصدق بذلك كله ولا تختلف المذاهب فيه، وقد نطق به القرآن كما قدمنا، فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي محمد، وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج، فكيف إذا جحد الإنسان شيئًا من هذه الأمور كفر؟ ولو عمل بكل ما جاء به الرسول، وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسول كلهم لا يكفر، سبحان الله! ما أعجب هذا الجهل.
    ويقال أيضًا: هؤلاء أصحاب رسول الله قاتلوا بني حنيفة وقد أسلموا مع النبي، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويصلون ويؤذنون، فإن قال: إنهم يقولون: أن مسيلمة نبي، قلنا: هذا هو المطلوب، إذا كان من رفع رجلا إلى رتبة النبي، كفر وحل ماله ودمه، ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة، فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف، أو صحابيا، أو نبيا، إلى مرتبة جبار السموات والأرض؟ سبحان الله ما أعظم شأنه {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [الروم].
    ويقال أيضًا: الذين حرقهم علي بين أبي طالب بالنار، كلهم يدعون الإسلام، وهم من أصحاب علي وتعلموا العلم من أصحابه ولكن اعتقدوا في علي، مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟ أتظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين؟ أم تظنون أن الاعتقاد في تاجٍ وأمثاله لا يضر، والاعتقاد في علي بن أبي طالب يكفر؟.
    ويقال أيضًا: بنو عبيد القداح الذين لكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس، كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويدعون الإسلام، ويصلون الجمعة والجماعة فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه، اجمع العلماء على كفرهم وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين.
    ويقال أيضًا: إذا كان الأولون لم يكفروا إلا لأنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول والقرآن، وإنكار البعث، وغير ذلك، فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب «باب حكم المرتد» وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعًا كثيرة كل نوع منها يكفر ويحل دم الرجل وماله، حتى أنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها، مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب.
    ويقال ايضًا: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ } [التوبة: 74]. أما سمعت أن الله كفرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله يجاهدون معه ويصلون معه ويزكون ويحجون ويوحدون، وكذلك الذين قال الله فيهم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ( } [التوبة] فهؤلاء الذين صرح اللهم أنهم كفروا بعد إيمانهم وهم مع رسول الله في غزوة تبوك، قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح.
    فتأمل هذه الشبهة وهي قولهم: تكفرون من المسلمين أناسًا يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون ويصومون، تأمل جوابها فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق.
    ومن الدليل على ذلك أيضًا حكى الله عن بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم أنهم قالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ } [الأعراف: 138]، وقول ناس من الصحابة: «اجعل لنا ذات أنواط» فحلف أن هذا نظير قول بني إسرائيل {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا }. ولكن للمشركين شبهة يدلون بها عند هذه القصة وهي أنهم يقولون: فإن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك، وكذلك الذين قالوا: «اجعل لنا ذات أنواط» لم يكفروا.
    فالجواب أن تقول: إن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك وكذلك الذين سألوا النبي لم يفعلوا، ولا خلاف في أن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك، ولو فعلوا ذلك لكفروا، وكذلك لا خلاف في أن الذين نهاهم النبي لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نَهْيه، لكفروا، وهذا هو المطلوب.
    ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها فتفيد التعلم والتحرز ومعرفة أن قول الجاهل التوحيد فهمناه أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان.
    «وتفيد» أيضًا أن المسلم إذا تكلم بكلام كُفر وهو لا يدري فنبه على ذلك فتاب من ساعته، أنه لا يكفر، كما فعل بنو إسرائيل والذين سألوا النبي، «وتفيد» أيضًا أنه لو لم يكفر فإنه يغلظ عليه الكلام تغليظًا شديدًا كما فعل رسول الله.
    وللمشركين شبهة أخرى يقولون: إن النبي أنكر على أسامة قتل من قال: لا إله إلا الله، وقال له: «أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟» وكذلك قوله: «أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله»، وأحاديث أخرى في الكف عمن قالها، ومراد هؤلاء الجهلة أن من قالها لا يكفر ولا يقتل ولو فعل ما فعل.
    فيقال لهؤلاء الجهلة: معلوم أن رسول الله قاتل اليهود وسباهم وهو يقولون: لا إله إلا الله، وأن أصحاب رسول الله قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله ويصلون ويدعون الإسلام، وكذلك الذين حرقهم على بني أبي طالب بالنار.
    وهؤلاء الجهلة يقولون: إن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال: لا إله إلا الله، وأن من جحد شيئًا من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها، فكيف لا تنفعه إذا جحد فرعًا من الفروع؟ وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أساس دين الرسل ورأسه، ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث، ولن يفهموا.
    فأما حديث أسامة فإنه قتل رجلًا ادعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادعى الإلام إلا خوفًا على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك وأنزل الله تعالى في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا } [النساء: 94]. أي تثبتوا، فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت، فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل لقوله تعالى: فتبينوا ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبيت معنى، وكذلك الحديث الآخر وأمثاله.
    معنى ما ذكرناه إن من أظهر التوحيد والإسلام وجب الكف عنه إلا أن يتبين منه ما يناقض ذلك.
    والدليل على هذا أن رسول الله هو الذي قال: «أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟»، وقال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولون لا إله إلا الله» هو الذي قال في الخوارج: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عادٍ، مع كونهم أكثر الناس عبادة، وتهليلًا وتسبيحًا، حتى أن الصحابة يحقرون صلاتهم عندهم، وهم تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم «لا إله إلا الله» ولا كثرة العبادة، ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة.
    وكذلك ما ذكرناه من قتال اليهود وقتال الصحابة بني حنيفة، وكذلك أراد أن يغزو بني المصطلق لما أخبره رجل منهم أنهم منعوا الزكاة حتى أنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } [الحجرات: 6]، وكان الرجل كاذبًا عليهم، وكل هذا يدل على أن مراد النبي في الأحاديث التي احتجوا بها ما ذكرناه.
    ولهم شبهة أخرى وهي ما ذكر النبي أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، فكلهم يعتذر حتى ينتهوا إلى رسول الله قالوا فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركًا.
    والجواب أن تقول: سبحان من طبع على قلوب أعدائه، فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها، كما قال تعالى في قصة موسى {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } [القصص: 15] وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب أو غيره في أشياء يقدر عليها المخلوق، ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلوها عند قبور الأولياء أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله.
    إذا ثبت ذلك فاستغاثتهم بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف، وهذا جائز في الدنيا والآخرة، وذلك أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك ويسمع كلامك وتقول له: ادع الله لي كما كان أصحاب رسول الله يسألونه ذلك في حياته، وأما بعد موته، فحاشا وكلا أنهم سألوا ذلك عند قبره، بل أنكر السلف على من قصد دعاء الله عند قبره، فكيف بدعائه نفسه؟
    ولهم شبهة أخرى وهي قصة إبراهيم لما ألقي في النار اعترض له جبريل في الهواء فقال له: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم أما إليك فلا، فقالوا: فلو كانت الاستغاثة شركا لم يعرضها على إبراهيم.
    فالجواب: أن هذا من جنس الشبهة الأولى فإن جبريل عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدر عليه، فإنه كما قال الله تعالى فيه: شديد القوى فلو أذن له أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها من الأرض والجبال ويقلبها في المشرق أو المغرب لفعل، ولو أمره الله أن يضع إبراهيم في المشرق أو المغرب لفعل، ولو أمره الله أن يضع إبراهيم عليه السلام في مكانٍ بعيد عنهم لفعل، ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل، وهذا كرجل غني له مال كثير يرى رجلًا محتاجًا فيعرض عليه أن يقرضه أو أن يهبه شيئًا يقضي به حاجته فيأبى ذلك المحتاج أن يأخذ ويصبر إلى أن يأتيه الله برزق لا منة فيه لأحد، فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون؟.
    ولنختم الكلام بمسألة عظيمة مهمة تفهم مما تقدم ولكن نفرد لها الكلام لعظم شأنها ولكثرة الغلط فيها فنقول:
    لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلمًا، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر مرتد معاند ككفر فرعون وإبليس وأمثالهما، وهذا يغلط فيه كثي رمن الناس يقولون: أن هذا حق ونحن نفهم هذا ونشهد أنه حق، ولكننا لا نقدر أن نفعله، ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم، أو غير ذلك من الأعذار، ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق، ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار كما قال تعالى: {اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا } [التوبة: 9] وغير ذلك من الآيات: كقوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ }. فإن عمل بالتوحيد عملًا ظاهرًا وهو لا يفهمهم ولا يعتقده بقلبه، فهو منافق، وهو شر من الكافر الخالص {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ } [النساء: 145].
    وهذه المسألة مسألة طويلة تبين لك إذا تأملتها في السنة الناس ترى من يعرف الحق ويترك العمل به، لخوف نقص دنيا أو جاه أو مداراة لأحد، وترى من يعمل به ظاهرًا لا باطنًا، فإذا سألته عما يعتقده بلقبه فإذا هو لا يعرفه. ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله: أولاهما، قوله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [التوبة: 66] فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله، كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه اللعب والمزح، تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر ويعمل به خوفًا من نقص مالٍ، أو جاهٍ أو مداراة لأحد، أعظم ممن يتكلم بكلمة يمزح بها.
    والآية الثانية قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } [النحل]، فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئنًا بالإيمان، وأما غير هذا فقد كفر بعد غيمانه سواء فعله خوفًا أو مداراة، أو مشحة بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله، أو فعل على موجة المزح أو لغير ذلك من الأغراض إلا المكره فالآية تدل على هذا من وجهين:
    الأول قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ }، فلم يستثن الله تعالى إلا المكره، ومعلوم إن الإنسان لا يكره إلا على الكلام أو الفعل، وأما عقيدة القلب فلا يكره أحد عليها.
    والثاني قوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ } فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد والجهل والبغض للدين ومحبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظا من حظوظ الدنيا فآثره على الدين، والله سبحانه وتعالى أعلم وأعز وأكرم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم».

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: كشف شبهات المشركين للإمام محمد بن عبد الوهاب

    « شرح مختصر لكشف الشبهات»

    قوله: (اعلم رحمك الله): أمر بالعلم والأمرُ بالعلم أمرُ بخير، وأفضل الخير أن تعلم، وهذا تشبه واقتداء بالكتاب العزيز فإن أول أية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }() اقرأ: يعني: اعلم، والله جل وعلا قال في أعظم معلوم وأكمله وأشرفه في آية سورة محمد، وهو التوحيد: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } ولهذا نقل الشيخ محمد بن عبدالوهاب في «ثلاثة الأصول» عن الإمام البخاري في كتاب العلم أنه قال: باب العلم قبل القول والعمل وقول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ وَالْمُؤْمِنَات ِ}.

    وهذه الجملة: البسملة ثم الأمر بالعلم والدعاء للمتعلم، منهج في رسائل الشيخ المختصرة ومتونه، تتميز به مختصراته ورسائله.
    «اعلم رحمك الله» وهذا دعاء للمتعلم برحمة الله عليه، وأن يرحمه ربه، ومن رحمة الله عليه أن يعرف ويتعلم أشرف معلوم، وأن يعلم أردأ معلوم، فأشرف معلوم هو توحيد الله عز وجل، وأردأ معلوم هو الشرك، ومعرفة الشرك لا لذاته بل للحذر منه ليحذره الإنسان، وليحذره طالب العلم من باب معرفة الشر والخبث ليجانبه، كما قال الأول:
    عرفت الشر لا
    للشر ولكن لتوقيه
    ومن لا يعرف الشر
    من الخير يقع فيه
    وحذيفة رضي الله عنه يقول: (كان الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه)([7])، والله جل وعلا ذكر عن إبراهيم عليه السلام أنه قال لما: دعا ربه {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ }(، فدعا ربه أن يجنبه هو – وهو خليل الله – وأبنائه وهم أنبياء الله ورسله – عليهم الصلاة والسلام – الشرك بعبادة الأصنام، فمعرفة الشر لا تقل أهمية عن معرفة الخير، لا لذات الشر! ولكن للحذر منه والانتباه من الوقوع فيه أو التهاون من الوقوع والتساهل فيه، كما هو حال بعض المنتسبين إلى العلم في هذا الزمان، فإنه وإن لم يقع في الشرك لكنه يهوِّن من شأنه، ومن الوقوع فيه، أو يبرر للناس ما وقعوا فيه من الشرك أصغره وأكبره، بأمثال هذه الشُّبَه والتلبيسات والمغالطات التي تولى الشيخ رحمه الله وجزاه عنا وعن المسلمين خيرًا، الجواب عنها.

    قال رحمه الله (اعلم رحمك الله أن التوحيد هو إفراد الله سبحانه بالعبادة وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده، فأولهم نوح عليه السلام أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر).
    هذه المقدمة في أن تعلم أن التوحيد الذي بعث الله به رسله من أولهم نوح صلى الله عليه وسلم إلى آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر الشيخ آدم عليه السلام لأنه كان نبيًا مبعوثًا إلى مؤمنين وهم أبنائه وزوجته، وفي الحديث لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن آدم أنبي كان؟ قال: «نعم نبي مُكلم»، وبينه وبين نوح عليهم الصلاة والسلام عشرة قرون

    فكان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على التوحيد حتى حدث فيهم في قوم نوح الشرك، فبعثه الله بالتوحيد، وهو إفراد الله بالعبادة.

    فما هو هذا التوحيد؟ التوحيد له معنى عند أهل السنة، وله معنى عند الرافضة وله معنى عند الصوفية وله معنى عند الأشاعرة.

    فمعنى التوحيد عند أهل السنة: هو إفراد الله بالعبادة، هو شهادة أن لا إله إلا الله، ولهذا المقدمة كلها دائرة على تحقيق هذا المعنى، التوحيد؛ هو معنى لا إله إلا الله، وهو إفراد الله بالعبادة، بأنه لا أحد يستحق العبادة إلا الله.

    أما التوحيد عند الرافضة والقبورية: هو التقرب إلى الله جل وعلا بساداتهم وأوليائهم بصرف أنواع من العبادة لهم لأنهم لهم جاه وقدر عند الله فغدا التوحيد شركا وجعلوا الشرك توحيدًا، وشركهم بذبحهم القرابين ونذورهم ودعائهم واستغاثتهم بالحسين أو بالعباس أو بعبدالقادر أو بالدسوقي، أو بالعيدروس أو بالشاذلي أو بالبدوي أو بمحيي الدين، أو بالمرسي أبو العباس، أو الكباشي، أو البرهان، أو الختمي، أو التيجاني، أو الهواري، أو شمس تبريز … أو بأسماء كثيرة عمت وطمت في بلاد المسلمين شرقًا وغربًا شمالًا وجنوبًا، حيث جعلوا أصحاب المقامات والعتبات والأضرحة وسائط بينهم وبين الله بل تطور هذا عند بعضهم حتى اعتقدوا التأثير والنفع والضر والتصرف في أحوال الكون وهذا شرك في الربوبية.

    1 – جعلهم وسائط بينهم وبين الله شرك في العبادة.

    2 – أن يعتقدوا أنهم مؤثرون يملكون النفع والضر والتصرف في العالم وهم أموات في قبورهم فهذا شرك في الربوبية.
    فالتوحيد عند الصوفية غايته: الفناء في المعبود، وهو تحقيق الجبر بطريق تحقيق توحيد الربوبية.

    التوحيد عند الأشاعرة والمتكلمين: هو إفراد الصانع المخترع وهو أيضًا فناء في توحيد الربوبية. ولهذا التوحيد الذي هو غاية عند الصوفية في طبقاتهم وفرقهم وعند الأشاعرة عن المتكلمين والماتريدية وغيرهم فتوحيدهم الذي يفنون به أنفسهم هو الجبر، وهو أن لا يشاهد غير الله وكل فعل فهو طاعة لله، وسبيله وطريقه توحيد الربوبية: إفراد الله عز وجل بالخلق والرزق والصناعة والإحداث.

    فهذا نوح عليه الصلاة والسلام أنكر قومه الشرك في أولئك الصالحين: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وهم رجال صالحون كانوا في أولئك القوم فماتوا في وقت مقارب، فحزن عليهم قومهم فجاءهم الشيطان فسول لهم – والشيطان أيها الإخوة يطبخ على نار هادئة، لا يستعجل النتائج كما يفعل بعض المتهورين – جاء إلى هؤلاء وقال: صوروا عليهم صورًا – يعني انحتوا لهم منحوتات تشبههم – وانصبوها في مجالسكم فإذا رأيتموها نشطتم على العبادة، فجاءهم بمقصد حن لكن السبيل إليه سيء وبدعة، ففعلوا ذلك فذهب ذلك الجيل وجاء جيل بعدهم من أحفادهم نُسي فيهم العلم، فجاءهم الشيطان وقال لهم: إن آباءكم ما صوروا هذه الصور إلا أنهم كانوا صالحين، وكانوا يستشفعون بهم الله، يتوسلون بهم إلى الله، فدعوهم فوقعوا في الشرك وعند ذلك بعث الله نوحًا عليه السلام، وهو أول شرك وقع في بني آدم فدل ذلك على أن الشرك طارئ في بني آدم ليس أصيلًا.
    ومختصو علم الاجتماع الذين أخذوا علمهم عن أساتذتهم في فرنسا أو أوروبا وأمريكا: من أمثال سارتر وغيره يقولون: إن الشرك في الإنسان أصيل، لأن الإنسان كان بدائيًا في حياته وفي طعامه وشرابه ولبسه حتى في معتقداته، ثم ما زال يتطور حتى بلغ التوحيد وهذا من أبطل الباطل!.
    فمن أول جنس الإنسان؟ أليس آدم عليه السلام؟ فآدم كان موحدًا، وكذا بنوه على عشرة قرون حتى جاء الشرك، إذًا فالشرك طارئ على الإسلام والتوحيد ودخيل، والأصل في بني آدم أنهم كانوا أهل توحيد وإسلام.

    والنبي صلى الله عليه وسلم كسر صور الصالحين – صورهم المنحوتة عليهم – حيث كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا، صورت على رجال صالحين منها من الأصنام التي كان العرب يعبدونها، اللات وهو رجل كان في الطائف وكان يلت السويق للحاج يطعمهم إياه، والسويق نوع من الطعام فلما مات وكان صالحًا عكفوا على قبره وأوحى إليهم الشيطان أن صوروا له صورة، فصوروا صورة هي رمز عن هذا الصنم فأصبحوا يتقربون إليه، وكذا الحال في مناة والعزة وهبل، والنبي صلى الله عليه وسلم كسر الأصنام وأبطلها لأن الإبطال لها إبطال لمادة الشرك.

    لقد وجد من المسلمين من عاب على أتباع الرسول ممن كسر الأصنام وهدم الأضرحة وهذا في الحقيقة عيب على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أعابهم دل على أنه ما حقق التوحيد وما اعتنى بهذه الدعوة – التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم – فالنبي صلى الله عليه وسلم كسر الأصنام لأنها رموز لهذا الشرك وتكسيره إياها من حسم مادة الشرك، فهم ما عبدوا الحجر لذاته ولكن عبدوا ما يرمز إليه الحجر، تطور هذا ببعضهم مع طول العهد حتى عبدوا الأحجار واعتقدوا فيها النفع والضر.
    ولهذا بلغ العرب في جاهليتهم الحضيض الداني في الوثنية، ومن صور وثنياتهم: أعراب بدور رُحل يسافر الأعرابي ثم يترك، فيتخذ أربعة أحجار ثلاثة ينصبها لقدره يطبخ عليها عشاءه، والرابع ينصبه يتقرب إليه، وهب أنه في مكان ليس فيه حجارة؟ هل كان يحمل معه الحجارة؟ لا يحملها معه إلا إذا كانت صغيرة، فكان أحدهم يجمع ترابًا ويحلب عليه شاة ثم يعبده ولهذا النفوذ الكبير في شمال الجزيرة كان يقطن فيه أقوام من العرب وكان يُسمى عندهم برمل «عالج» رجل منهم، وهو أبو عثمان النهدي عبد الرحمن بن مل التابعي المشهور أبو عثمان هذا عمر حتى بلغ مائة ثمانين سنة، تسعون سنة عاشها في الجاهلية ومثلها في الإسلام، يصف حالهم لما جاءهم داعي النبي صلى الله عليه وسلم وأبو عثمان هذا مخضرم أدرك الجاهلية وأدرك الإسلام، لكنه ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم، وبالتالي لم يكن صحابيًا، قال: جاءنا داعي النبي صلى الله عليه وسلم وكنا في جاهلية جهلاء كان يعمد أحدنا إلى لقحته – إلى ناقته وهم على الرمال الحمراء النفوذ الكبير (من شمال حائل إلى الجوف) بحار عظيمة من الرمل، لأن النفوذ ليس فيه حجارة – فيحلبها عليه: يحلب الناقة على الأرض تحتها فتيبس وهي حمراء ويُصيبها اللبن الأبيض فتشهب وتكون يابسة قال: فلا يزال يعبد ذلك المكان حتى يرتحل عنه؛ لأن العرب كانوا في الجاهلية يقطنون في الصيف في مكانهم حيث الكلأ والعشب يقطنون عند موارد الماء فهذه عبادتهم حتى يرتحلوا، فلما جاءهم داعي النبي صلى الله عليه وسلم آمنوا به، وهذا يدل على أهم بلغوا في جاهليتهم حضيضًا دانيًا فهؤلاء منهم من وضع الأصنام فعبدها لأنها رمز لهذا الصالح الذي اعتقد فيه، ومنهم من تطور به هذا الشرح حتى اعتقد النفع والضر في الحجر.

    أحدهم اتخذ حجرًا اتخذه ربًا فجاءه يومًا وإذا هذا الثعلب على ربه يتبول، فقال:
    أربٌّ يبول الثعلبان برأسه
    لقد هان من بالت عليه الثعالب
    فهُدي بهذا إلى التوحيد والإيمان بالله عز وجل.
    وآخر يتخذ إلهه من التمر يعجنه ويعبطه ويشكله حتى يكون مثل الصلصال يرسمه فإذا جاع أكله: أكل ربه؟! هذه حالهم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فكسر صور الأصنام وصور الصالحين، فقد جاء داعيًا لهم بالتوحيد داعيًا إلى أن يفردوا الله بالعبادة، ولما سأل الحصين والد عمران رضي الله عنهم كم تعبد؟ قال: أعبد ستة آلهة خمسة في الأرض وواحد في السماء قال: من تقصده في حاجتك في رغبائك في سرائك قال: الذي في السماء، قال: إذن فأفرده بالعبادة، قال: نعم(، لأنها وافقت بداهة الفطرة وبداهة العقل.

    تنبيه
    إذًا فالأصنام والأوثان من حجارة أو نحوها ليست مقصودة لذاتها، وإنما هي رموز للصالحين والأولياء، وهذا ما لم يدركه القبوريون الروافض وغيرهم، حيث ظنوا الشرك محصورًا في عبادة الأصنام! وعليها نزلوا آيات أحاديث النهي عن الشرك في الكتاب والسنة. وزعموا أن المقامات والأضرحة مشروعة لأنها خارجة عن معنى الأصنام، وهذا غلط عظيم وجهل خطير بالتوحيد وأدلته في الوجهين، قامت عليه أكثر شبههم في توحيد العبادة.


    قال رحمه الله تعالى: (وآخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين، أرسله إلى قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيرًا).
    هذه مقدمة في حال العرب مع جاهليتهم الجهلاء فإنهم لم يكونوا خالين من مظاهر العبادة، بل كانوا يصلون ويحجون ويتصدقون ويعظمون الله ويعظمون حرمه ويتعبدون لله جل وعلا، فما كانوا خلوا عن العبادة لكنهم كانوا على انحراف خطير في أصل العبادة، وذلك بصرف نوع من العبادة أو أكثر، كأن يذبح أحيانًا لله لغير الله وسائر ذبحه لله، أو يدعو ويستغيث أحيانًا بغير الله وسائر حاله دعاء الله والاستعانة به…! ولهذا لو قلت لك هل كان العرب ليست لهم عبادة؟ الجواب: لا، بل كانوا يعبدون الله جل وعلا، ويُعظمونه ويحجون بيته ويتصدقون ويُصلون، ويُعظمون حرماته؟.
    وهذه مقدمة افطن لها لأنه سيأتيك مشرك قبوري وعابد مقام وضريح يُقدم قرابين لهذا الضريح أو يطوف به أو يدعوه، ويقول لا إله إلا الله، فما الفرق بينه وبين العربي في جاهليته؟ وما الفرق بينه وبين أهل مكة في الجاهلية؟ الجواب: لا فرق؛ لأن أهل مكة يعظمون الله جل وعلا ويعظمون الحرم حتى إن الرجل من العرب كان إذا وجد في الحرم قاتل أبيه، وقالت أخيه لا يُهيجه؛ تعظيمًا لحرم الله جل وعلا، بل إذا وجده في الأشهر الحرم في أي مكان لا يُهيجه ولا يصيب منه تعظيمًا لهذا الزمان من تعظيمهم للحرمات، وإذا أرادوا قتل أحد خرجوا به خارج الحرم، بل كانوا إذا جاءهم مظلوم انتصروا له حتى ولو من أنفسهم، وهذا مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه حذرهم من الشرك. وكانوا يحجون وكانوا لا يطوفون بالبيت بثياب عصوا الله فيها، ولهذا إن كان لأحدهم أحد أو صديق من أهل مكة يُعطيه ثياب طاف بها وإلا طاف عُريانًا، فإن أهل مكة يُقال لهم «الحمس» وهم يطوفون بثيابهم وإنما الذي يتجرد من ثيابه هو الأفقي إن لم يجد من يعيره ثيابه من الحمس! وهذا من الازدواج والتناقض، وذلك أنهم في هذه الأمور يُشددون في المعاصي وفي التوحيد يتهاونون؟! حتى إن المرأة قد تطوف عريانة وتبقى سيورًا على عورتها إذا لم تكسها أختها من أهل الحرم ولهذا قالت المرأة في الجاهلية:

    اليوم يبدو بعضه أو كله
    وما بدا منه فلا أحله
    فهي طافت بالبيت عُريانة، ولهذا امتنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يحج على الفور لما فرض الله عليه الحج في العام التاسع لوجود مظهر الشرك ومظهر الفسوق ولهذا أناب عنه من يحج بالناس أفضل الصحابة أبا بكر الصديق رضي الله عنه ثم أردفه بعلي وأبي هريرة رضي الله عنهما يصيحان بالناس: «أن لا يحج بعد العام مشرك وأن لا يطوف بالبيت عريان»([14])، وفيه أنزل الله قوله جل وعلا {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا } [الأعراف: 31]، فهؤلاء كانوا يعبدون الله ويوحدونه في أنواع من العبادة لكنهم أشركوا في غيرها والعبادة لا تكون صحيحة إلا إذا كانت خالصة من الشرك في جميع أنواعها. وقس هذا على أهل زماننا يتضح لك أنهم متساوون فيما هم فيه من الشرك؛ في مشركي زماننا مع المشركين السابقين من حيث صرف العبادة أو بعضها لغير الله، مع زيادة مشركي زماننا عليهم في الشرك في الربوبية في حالي السراء والضراء!.
    قال رحمه الله (ولكنهم يجعلون المخلوقات وسائط بينهم وبين الله. يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله ونريد شفاعتهم عنده مثل الملائكة وعيسى ومريم وأُناس غيرهم من الصالحين فبعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم يُجدد لهم دين أبيهم إبراهيم ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله لا يصلح منه شيء لا ملك مقرب ولا لنبي مرسل فضلًا عن غيرهما، وإلا فهؤلاء المشركون مقرون يشهدون أن الله هو الخالق الرزاق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، وأن جميع السموات السبع ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيها كلهم عبيده وتحت صرفه وقهره).
    لقد كان المشركون ومنهم أهل مكة يعبدون الله ويوحدونه، وكانوا مقرين بتوحيد الربوبية يعتقدون أن الخالق واحد هو الله، وأن الرازق واحد، وأن المحي واحد، وأن المميت واحد، وأن المتصرف في كونه واحد، لا يعتقدون أن هناك متصرف غيره وبهذا يظهر الفرق بين المشركين الأولين وبين غُلاة المشركين المعاصرين الذين يدَّعون أن لصالحيهم وأن لمقربيهم تصرفات في العالم وفي الكون وهذا شرك في الربوبية! وأولئك المشركون الأولون ما أشركوا مع الله في الربوبية؟! فانظر إلى الفرق بين مشركي زمننا والمشركين الأولين! واعجب لذلك؟! هذه المسألة الأولى ..
    المسألة الثانية: أن مشركي العرب كانوا يشركون مع الله أناسًا صالحين:
    إما ملائكة أو أنبياء أو رسل أو أولياء، الملائكة مثل: جبريل، والأنبياء مثل: عيسى وعُزير ودانيال ويونس، وكاوا يشركون في صالحين مثل مريم وود واللات… إلخ، أما مشركو زماننا فقد يشركون بمن هو طالح فاسق فاجر والعياذ بالله، وقد يُقيم الضريح على جسم حمار أو كلب ويلبس على الناس أنه قبر رجل صالح، ألاحظتم أيها الأخوة الفرق بين هذا وهذا؟!، ولهذا ساق الشيخ لكم أن هؤلاء شركهم في أنهم تقربوا إلى هؤلاء الصالحين بأنواع من العبادات منهم من كان يعبد الجن خوفًا منهم قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا }([15])، فقد كان ينزل أحدهم إلى المكان يقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهائه، وهذا شرك في الاستعاذة، المقصودة أن جنس شركهم في الصالحين وجنس شركهم في توحيد العبادة في الألوهية.
    وأما في الربوبية فهم موحدون مقرون لله بالربوبية، ولهذا ساق الشيخ في هذا المقام آيتين من القرآن: آية سورة يونس، وآية سورة المؤمنون قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ }([16])، وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ }([17])، فهم مقرون بأن الله هو الذي يخلقهم ويرزقهم ويحييهم ويميتهم، ولكن شركهم في العبادة في التقرب في الاعتقاد، شرك الاعتقاد: أن يعتقد أن هذا ينفعه عند الله ولو لم يقع هذا في الشرك لكان مشركًا في اعتقاده، وأعظم منه أن يعتقد أن هذا مؤثر يؤثر في الكون في العالم، يعلم الغيب.. وهذا شرك في التأثير وهو شرك في الربوبية، وهو أقبح من الشرك في العبادة وكلاهما قبيحان!.
    وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب نبه على الفرق بينهما مرارًا ومن مواضع هذا التفريق الشهيرة ما ذكره في نواقض الإسلام العشرة، فالناقض الأول في شرك الربوبية، والثاني في شرك الوسائط، والله المستعان.
    قال رحمه الله (فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون لله هذه الشهادة فاقرأ قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } [يونس: 31] وقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ( } [المؤمنون] وغير ذلك من الآيات.
    فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا، ولم يدخلهم في التوحيد الذي جحدوه وهو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا: الاعتقاد، كمان كانوا يدعون الله سبحانه ليلًا ونهارًا.
    ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا له، أو يدعو رجلًا صالحًا مثل اللات، أو نبيًا مثل عيسى. وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم على هذا الشرك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } (الجن) وكما قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ } [الرعد: 14] وتحققت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قاتلهم ليكون الدعاء كله لله والنذر كله لله والذبح كله لله والاستغاثة كلها لله وجميع أنواع العبادة كلها لله. وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام وأن قصدهم الملائكة والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم. عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون وهذا التوحيد هو معنى قولن: لا إله إلا الله. فإن الإله عندهم هو الذي يُقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكًا أو نبيًّا أو وليًّا، أو شجرة أو قبرًا أو جنيًّا لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده، كما قدمت لك وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ «السيد».
    فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي: لا إله إلا الله، والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها. والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق والكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه فإنه لما قال لهم: قولوا: لا غله إلا الله قالوا: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ص: 5] فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفرة. بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني. والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق ولا يدبر الأمر إلا الله، فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله.

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: كشف شبهات المشركين للإمام محمد بن عبد الوهاب

    إذا عرفت ما قلت لك معرفة قلب، وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء: 48]، وعرفت دين الله الذي أرسل به الرسل من أولهم إلى آخرهم، الذي لا يقبل الله من أحد دينًا سواه. وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا.

    أفادك فائدتين: الأولى: الفرح بفضل الله ورحمته كمنا قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [يونس] وأفادك أيضًا الخوف العظيم. فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل. وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله تعالى كما يظن المشركون.
    خصوصًا إن ألهمك الله ما قص عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم، أنهم أتوه قائلين: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ } [الأعراف: 138] فحينئذ يعظم حرصك وخوفك على ما يخلصك من هذا وأمثاله.
    واعلم أن الله تعالى بحكمته لم يبعث نبيًا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } [الأنعام: 112] وقد يكون لأعداء التوحيد علم كثيرة وكتب وحجج كما قال تعالى: {82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَ } [غافر: 83] إذا عرفت ذلك وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه أهل فصاحة وعلم وحجج، فالواجب عليه أن تعلم من دين الله ما يصير سلاحًا تقاتل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } ولكن إذا أقبلت على الله وأصغيت إلى حججه وبيناته فلا تخف ولا تحزن {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } [النساء: 76].
    قال المصنف – رحمه الله – : فإذا تحققت: إذا تحققت أنهم كانوا مقرين بالربوبية! وإقرارهم بالربوبية لم يدخلهم في الإسلام، بل حاربهم النبي صلى الله عليه وسلم وكذبهم وكفرهم، وتحققت أن الذي جحدوه وهو ما دعاهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إفراد الله بالعبادة: وهو توحيد العبادة، إذا تحققت من هذا عرفت الشرك الذي يسميه الناس في زمانه – أي زمان الشيخ – بالاعتقاد في السادات والأولياء والصالحين والأنبياء وغيرهم أنهم ينفعون عند الله وأنهم وسائط بينننا وبين الله جل وعلا (فهذه المقدمة مهمة لكشف هذه الشبه) لأن صاحب هذه الشبه يقول بأن التقرب بالذبح أو بالدعاء أو بالاستغاثة بالسادات أو بالأولياء ليس شركًا ولا يخرج من الملة ولا يحل الدم والمال … إلخ.
    والشيخ يقرر عليهم ويقول: ما الفرق بين هذا وبين شرك الأولين: شرك العرب؟ لا فرق بينه لمن عقل وفهم التوحيد الذي جاء به النبي والأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام، وعرف ما نهوا عنه من الشرك، ولم يعاند ولم يكابر. فهؤلاء محتاجون أصلًا لمعرفة التوحيد الذي جاء به الأنبياء وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم هذا أولًا.
    وثانيًا: هم محتاجون لمعرفة ما هذا الشرك الذي حاربه الرسل وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم وحاربوا أهله وحذروا منه ومنهم.
    وكلا الأمرين: معرفة التوحيد ومعرفة الشرك مهمان ومتلازمان فإنه فلا يتحقق أحدهما إلا بتحقيق الآخر.
    حيث قد يعرف التوحيد ولكن لا يحققه لله عز وجل بجهله بالشرك القادح في التوحيد.
    مثاله:
    من عرف وجوب العبادة لله وحده دونما شريك. ولم يتحقق أن التوسل بغير الله بسؤالهم الشفاعة والاستغاثة بهم شرك يقدح في أصل الدعاء والسؤال الذي هو نوع من أنواع العبادة، فعدم تحقيقه علمًا وعملًا يوقعه في اللبس وعدم اعتباره شركًا قادحًا في التوحيد.
    والسبب عدم تحقيق علم التوحيد الذي بعث الله به رسله – عليهم الصلاة والسلام – ومعرفة الشرك الذي نهوا عنه، فهذا مقصد عظيم قرره الشيخ في هذه المقدمة!!.
    إذا عرفت التوحيد المطلوب، وتحققته، وعرفت الشرك وفهمته، علمت ما يقع به الناس من التوحيد أو الشرك.

    قال رحمه الله {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [الصافات].
    فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان، كمان هم الغالبون بالسيف والسنان، وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح).
    هذا الذي أشار إليه شيخ الإسلام أمر واقع، وحقيق، وملموس أيضًا، أن العامي الذي حقق لله جل وعلا التوحيد يغلب ألفًا من علماء السوء وعلماء الشرك فلم؟
    لأن معه من الله تأييد، ومعه من الله برهان، وهو من جند الله، والله جل وعلا تكفل بنصر جنده {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [الصافات] وقال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج] فجند الله هم الغالبون فإن لم يكن أهل التوحيد وأهل الإيمان هم جند الله فمن جند الله إذن؟!.
    وعلماء المشركين الذين أوتوا علومًا وكتبًا وتأليف جبناء مع الحق؛ لأن الحق مستقر والباطل مزهوق، كما قال سبحانه في آية الإسراء {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } [الإسراء] وهذا الكلام والتقرير في عرض أمثلته يطول. ومظانه كتب السير والتأريخ في التراجم ولا سيما تراجم علماء العقيدة الصحيحة وعلماء التوحيد من السلف والخلف، وسير أئمة التوحيد والعقدة بصبرهم وجهادهم وغيرتهم على دين الله.
    لكن أسوق لكم حادثة وقعت في مكة في هذا العصر، أسندها عن شيخنا محمد بن عثيمين – رحمه الله – حيث رآها ونقلها لنا.


    حادثة تبين أن العامي من الموحدين يغلب الرؤوس من المشركين

    حدثنا بها شيخنا الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله وهي قريبة من وقتنا هذا، وهي مفيدة في هذا الباب: حدثنا رحمه الله عن رجل من رجال الهيئة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالحرم من رجال الحسبة، كان واقفًا بجوار المقام: مقام إبراهيم عليه السلام، وهذا يقول الشيخ: أنا رأيت هذا بعيني في الضحى وكان هذا الرجل قصيرًا نحيفًا من أسرة علمية مباركة لكنه كان عاميًا موحدًا، يقول: فجاء رجل من ذوي العمائم من العجم: رافضي فأخذته عاطفته الشركية فجعل ينادي بمكانه عند المقام: يا حُسين يا حُسين، يستغيث به، والناس يسمعونه، يقول شيخنا: فأخذ الرجل المحتسب – وهو من رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الحرم المكي – بتلابيب ذلك الرجل فجمع عليه ثيابه وهو قصير نحيف وذلك الرجل – صاحب العمامة – ضخم وعظيم الهيئة وكأن هذا الرجل مع هذا كطفل صغير مع أبيه، أو كحوار ناقة مع أمه، وإذا هو يسحبه من عند المقام إلى مشاية باب الملك عبد العزيز، إلى أن أخرجه من باب الملك عبد العزيز، والأصل الرافضي منقاد له غير معاند، وهو يقرأ قول الله جل وعلا من سورة التوبة {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ } [التوبة: 28] يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هذا رأي عيني، وكنتُ كلما رأيته – أي هذا المحتسب –

    هذا شاهد على ما أشار إليه الشيخ أن العامي الموحد يغلب ألفًا من علماء المشركين لأنهم هباء لا شيء، إنما هيكل ومنظرة، أما في الحقيقة فلا حجة ولا برهان، أما أهل التوحيد معهم تأييد رب العالمين، ومعهم فطرة سليمة، ولهذا العامي الموحد في كل زمان ومكان يثبت في قوله وفعله ومبدئه وعقيدته، إذا كان صادقًا في إيمانه ثابتًا فيه. فتمسك بهذا الأصل، وحققه فإنه مفيد عزيز جدًا! هذه غلبة بالقوة – وهناك مثال بالحجة في قصة ذكرها الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين رحمه الله في «رده علي ابن جريس». قال إن رجلًا عالمًا من أهل الطائف التقى بعامي من أهل نجد، فقال الطائفي للنجدي: أنتم تحتقرون الأولياء والشهداء. والله تعالى يقول: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }. فقال العامي النجدي: هل قال الله: {يُرْزَقُونَ } أو قال {يَرزقون} فقال الطائفي: بل قال: {يُرْزَقُونَ } قال العامي النجدي: ما دموا يرزقون. فأنا أسأل الذي رزقهم أن يرزقني – فقال الطائفي: ما أكثر حجاجكم يا أهل نجد!

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: كشف شبهات المشركين للإمام محمد بن عبد الوهاب

    قال المصنف رحمه الله (وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح).

    انتبه أيها المؤمن، فالخوف على الموحد الذي يسلك الطريق فعنده توحيد وعنده عقيدة وعنده تصفية لهذا الإيمان ومحقق التوحيد لله لكن ما عنده سلاح! ما عنده علم! هذا الذي يُخاف عليه، حيث تأتيه شبهة فتقلب هذا الأصول عنده إلى أمور مشكوكة والعياذ بالله قد يضلُّ بها، إذًا الشأن مع التوحيد، العلم بدلائل هذا التوحيد وأدلته وبراهينه وكشف شبه أصحاب التشبهي والتشكيك وأصحاب الأهواء.
    وقال رحمه الله (وقد من الله تعالى علينا بكتابه الذي جعله {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [النحل] فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها. كما قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } [الفرقان] قال بعض المفسرين: هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة).
    وهذا القول ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره أنها عامة في كل حجة يُدلي بها المبطل إلى يوم القيامة أن في القرآن كشفها، وإنما الشأن فيمن يفهم، ويستنبط ويُحسن الاستدلال بأدلة القرآن، وهذا لا يتأتى إلا بعد طول ممارسة ومدارسة وعلم بهذه الأصول: أصول التوحيد، أصول تلقي العلم وفهمها، وبالتالي تنكشف عنده شبه وباطل المبطلين، ولهذا غالبًا أن ذوي الشبهات إنما يستطيلون على قليل العلم وضعاف البصيرة، الصغار سنًا أو علمًا، فيستطيلون عليهم بأهوائهم وشهواتهم، أما طلبة العلم المحققون أو العلماء المحررون في علمهم فهؤلاء لا سبيل إلى ذوي الشبهات عليهم أبدًا سواء كان في التوحيد، أو في فروع الشريعة.
    قال رحمه الله (وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله في كتابه جوابًا لكلام احتج به المشركون في زماننا علينا. فنقول: جواب أهل الباطل من طريقين مجمل ومفصل. أما المجمل، فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة لمن عقلها وذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } [آل عمران: 7].

    الآن دخول إلى مقصود المؤلف في كشف الشبهات، وذلك أن ذوي الشبهات لهم جوابان:

    1 – مجمل.
    2 – ومفصل.
    الجواب المجمل: خلاصة مقصده: وهو أنه إذا جاءك القبوري، أو المشرك، أو من يدعو غير الله جل وعلا، أوي صرف له أنواعًا من العبادة يريد أن يصوب ما هو عليه ويبرر حاله فأتاك بأدلة وجاءك بنصوص يريد أن يستدل بها ويلبس عليك فقل: أنا لا أعرف ما تقول بهذا القول، أنا عندي قواطع أبني عليها، وأنا أعرف أن الله جل وعلا ذكر لنا من يلوي لسانه بكلام الله ليوافق مذهبه، يلوي أناق النصوص ليوافق قوله، وقد حذرنا من هؤلاء كمنا في أول آل عمران: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } [آل عمران: 7].
    فأنا لا أدع المحكم الذي عندي لأجل المتشابه، وهذا جواب مجمل ينفع مع كل ذي شبهة، ولا تكن إمعة رخوًا خفيفًا أينما نُقلت انتقلت، وكيفما حولت تحولت، ما دام أنك أخذت اعتقادك عن علم ويقين فاثبت عليه! ولا تنتقل عنه إلا بشيء مثله بالوضوح أو أوضح منه، وهذا يا أيها الإخوة في كل أمر، وهو في العقيدة أولى، لا تنتقل عن اليقين إلا عن يقين واضح، وبدليل: بصحة استدلال أو بصحة تعليل.
    أما مجرد شبهه فتصير مثل المنبت الذي لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى. وهذا هو المنبت الخفيف المرجوج، أما الراسخ الثابت العاقل البصير فتجده أمهل الناس عند الشبهات، وعند الفتن فتنبه!.
    والوقوف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } كما في المصاحف التي بين أيدينا وقف لازم، وعيب على من لا يقف!، لأن الواو بعدها في أشهر أقوال أهل العلم استئنافية {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا }.
    وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ذكر وجهًا ثانيًا أن المتشابه يعلم الله تأويله، ويعلم تأويله الذين أوتوا العلم وهم الراسخون في العلم فيكون الوقف عندئذ وقف مستحب، ولا معيبة على من أتم قراءته ولما يقف، لأن الراسخ في العلم يعلم تأويل هذا المتشابه يرده إلى المحكم.
    لم؟ لأنه بناها على أصل عظيم، وهو أن القرآن ليس فيه متشابه تشابهًا كليًا لا يعرف معناه أحد، وهذا أصل مهم؛ لأن القرآن ما نزل إلا هدى، فلا يشتبه إلا على من لا علم عندهم، على من لم يحققوا العلم فيه، لكنه لا يشتبه على الجميع بل يدريه ويعلمه ويحققه الراسخون في العلم.
    قال رحمه الله (وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم».
    وهذا في حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين، تقول رضي الله عنها: «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم(

    قال رحمه الله: (مثال ذلك: إذا قال لك بعض المشركين: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [يونس: 62]. أو أن الشفاعة حق، وأن الأنبياء لهم جاه عند الله، أو ذكر كلامًا للنبي صلى الله عليه وسلم يستدل به على شيء من باطله وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره فجوابه بقولك: أن الله ذكر في كتابه أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتبعون المتشابه، وما ذكرته لك من أن الله تعالى ذكر أن المشركين يقرون بالربوبية وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأولياء مع قولهم: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } [يونس: 18] هذا أمر محكم بين، لا يقدر أحد أن يغير معناه، وما ذكرت لي ايها المشرك في القرآن أو كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا أعرف معناه ولكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض، وأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يُخالف كلام الله عز وجل).
    يعني: كيف أترك آيات التوحيد العظيمة الكثيرة في القرآن الكريم وآخذ بشبهتك التي أدليت بها علي. فطريقة أهل الأهواء: يتركون المحكمات كلها ويبحث عن دليل واحد قد يكون ضعيفًا، وقد يكون محتمل الدلالة يستدل به على باطله، وليس هذا في التوحيد فقط، بل وفي مسائل الإيمان تجدهم فيه يبحثون عن حديث فيه أن ترك العمل لا يؤثر في الإيمان!! فكيف نصنع بالنصوص الأخرى الكثيرة التي حتمت العمل، والتي بلغت مبلغ التواتر ما نصنع بها؟! أأتركها لأجل حديث واحد محتمل الدلالة أو ضعيف الدلالة؟ أو ضعيف السند، هذه هي طريقة أهل الأهواء! فإن رضخت لهم دل على نقص علمك ونقص فقهك وعدم رسوخك فيما اعتقدت، بل ويدل ذلك على نقص عقلك وإدراكك. وإن رددت كلامه إلى هذا الأصل سلمت بنفسك وأسلمت لله رب العالمين.
    إذًا عندك قواطع النصوص لا يناقض بعضها بعضًا ولا يعارض بعضها بعضًا ولا تتخلف، أما ما جئتني به فلا أفهمه ولا أدرك ما تريد من الشبهة فما أترك ما أنا عليه من أمر قاطع لأمر مشتبهٍ فيه، ومعلوم أن الشك يرجع إلى اليقين، فالشك لا يزول بشك مثله وإنما يزول باليقين، فهذه قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة الغراء، وهذا أصل عظيم في هذا البا، قل: أعتقد أن كلام الله لا يتناقض ولا يتعارض وأن كلام الله حق، أما الذي أتيت به فأنا ما فهمته، وما عرفته وهذا الجواب جواب محكم فرددت أمرك إلى الإحكام لا إلى التشابه.
    قال رحمه الله: (وهذا جواب سديد ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله فلا تستهن به فإنه كما قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [فصلت].
    وهذا يجعلك يا أيها الموفق، إذا أُدليت عليك الشبهة سواءً في الفتن، أو في المحن، أو في التحزبات، أو في أمور العقائد: في الإيمان، وفي توحيد العبادة، وفي الأمور العملية، يكون هذا مسلكك، وتنطرح بين يدي الله جل وعلا أن يردك إلى الحق وأن يرشدك وأن يسددك، ولا تستقل برأيك أو تعول على فهمك وفهم جماعتك، لا! بل كُن مع الله جل وعلا سائلًا إياه أن يهديك ولهذا نُكرر الفاتحة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة] في كل ركعة؟ نسأل الله أن نثبت على هذا الدين وأن يهدينا لما ضل عنه غيرنا ولهذا قال:
    ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله فلا تستهن به كما قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [فصلت] فبصبرهم حصلوا هذا الفضل العظيم، وما يُلقاها إلا ذو حظ عظيم هذا يقتضي منك أن تبحث عن مقومات هذا الصبر ومقومات هذا الثبات بالانطراح بين يدي الله جل وعلا وبالثبات والرسوخ، إن سكرة الشباب وبعض طلاب العلم، كثرت التنقلات عندهم في كل يوم لهم جادة ومنهج وطريق! وهؤلاء ما أسهل أن يضلوا ويتنكسوا! لم؟ لأن منهجهم غير راسخ، كذلك في باب العلم الشرعي ما أسرع ما تأتيه شبهة فتضله.
    انظر إلى إخوانك الذين كانوا معك في سبيل الاستقامة والهداية أو في حال الطلب للعلم، كانوا على حال ثم أصبحوا على حالٍ أخرى، نعم أنت وُفقت إلى الآن ما انحرفت لكن اثبت، ابتغ الأسباب في الثبات ولزوم طريقة أهل الثبات على الدين بالمحكمات بطريقة أهل العلم بالرسوخ، وأحذر بُنيات الطريق واحذر الشبهات واحذر الأهواء لئلا تضل كما ضلوا لأن الذين ضلوا إنما ضلوا لأنهم يعتقدون أنهم على حق وهذا معنى قول الله جل وعلا {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا } [فاطر: 8] يظن أنه مصيب وفي الحقيقة هو سيء العمل كيف عرفنا أنه سيء؟ بميزان الكتاب والسنة بميزان العلم بميزان طريقة السلف {فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } [فاطر: 8] هذا أصل سواء في أهل الإيمان أو في ضعاف الإيمان أو من تنكبوا هذا الطريق إلى طريق أهل الاهواء والبدع والشبهات والتحزبات والقيل والقال أو من انتكس عن دين الله، فكان بعد أن كان متدينًا مستقيمًا رجع إلى أن كان منحلًا مفرطًا، والمثبت من ثبته الله جل وعلا نسأل الله الثبات على دينه وأن لا يضلنا بعد إذ هدانا: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ }

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: كشف شبهات المشركين للإمام محمد بن عبد الوهاب

    قال رحمه الله: (وأما الجواب المفصل: فإن أعداء الله لهم اعتراضات كثيرة على دين الرسل، يصدون بها الناس عنه: منها قولهم: نحن لا نشرك بالله، بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، فضلًا عن عبد القادر أو غيره، ولكن أنا مذنب، والصالحون لهم جاه عند الله وأطلب من الله بهم. فجاوبه بما تقدم وهو أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرون بما ذكرت، ومقرون أن أوثانهم لا تدبر شيئًا وإنما أرادوا الجاه والشفاعة، واقرأ عليهم ما ذكر الله في كتابه ووضحه.
    هذه أول شبهة سيكشفها الشيخ في كشف الشبهات، وهي نحو ثلاث عشرة شبهة، ثلاثة منها هي الرئيسية التي يكثر ذكرها من أولئك. هذه أولها:
    1 – الشبهة الأولى:
    وهو قولهم: (نحن لا نشرك بالله بل نعتقد أنه لا يخلق ولا يرزق إلا الله وحده)، هذه الشبهة تفيد أن صاحبها وملقيها! ما عرف التوحد الذي جاءت به الرسل؛ لأنه قال: نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق إلا الله هذا هو توحيد الربوبية وهذا هو الذي قاتل النبي صلى الله عليه وسلم الكفار مع أنهم أقروا بالربوبية لكن ما نفعهم إقرارهم بها وحدها، إذن هو ما عرف الشرك وما عرف التوحيد! فهذه الشبهة وما أكثر ما نسمعها من هؤلاء وأمثالهم، بل إن من طاوعهم على هذه الشبهة قادتهم إلى أن أشركوا بالربوبية؛ لأن هؤلاء المعتكفين عند المقامات والأضرحة المتعلقين بالأنبياء والصالحين اعتقدوا فيهم الآن فيهم التأثير والنفع والضر والتصرف في الكون بعد ما كانوا يعتقدون أنهم مجرد وسائط إلى الله، ويعترفون أن المقصود وهو الله، والنافع الضار المؤثر المتصرف هو الله، لكنهم مع تطاول المدة وعدم الإنكار بلغوا هذا الحد، وانتقلوا من الشرك القبيح في العبادة إلى ما هو أقبح منه الشرك في الربوبية.
    وقوله (واقرأ عليه ما ذكر الله في كتابه ووضحه) يعني الآيات التي جاءت أن هؤلاء أقروا بذلك مثل قوله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] وقوله سبحانه: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } [يونس: 18]، يقولون المقصود هو الله لكن هؤلاء وسائط يشفعون لنا وضح له هذه الآيات فهمها إياه، الحجة لا تقوم إلا بفهم لها يعرفها وليس مجرد أن يردها من غير إدراك لمعانيها.
    قال رحمه الله: (فإن قال هذه الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام، كف تجعلون الصالحين مثل الأصنام، أم تجعلون الأنبياء أصنامًا؟ فجاوبه بما تقدم).
    2 – وانتبه إلى هذه الشبهة الثانية وهي ناشئة من الجهل بالشرك! فلم يعرفه ولم يحققه، وذلك أن أولئك المشركين في الجاهلية ما عبدوا أصنامًا أحجارًا بذاتها إلا لأنها رموز إلى أقوام ورجال صالحين؛ وليست هي المقصودة بالتعظيم والعبادة لذاتها، بل لكونها رموزًا لأولئك؟! كما قال عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } فهؤلاء المبررون من الملائكة والأنبياء والصالحين هذا شأنهم ع الله يبتغون رضوانه.. كما سيأتي، ومع هذا ما عذرهم ذلك، وهذا من جهلهم بما هو الشرك ظنوا أن الشرك فقط هو عبادة الاحجار وهذا ظن فاسد، بل الشرك كل من جعل مع الله أحدا: ملك مقرب عظيم أو ذليل صغير أو كبير، أو جليل، أو حقير.
    وهذه الشبهة أصل كبير لدى المخالفين من الروافض والقبورية والمتكلمين الذين ظنوا أن الشرك المخرج من ملة الإسلام هو في عبادة الأصنام والحجارة وفي اعتقاد التأثير في الصالحين مع الله، أما اتخاذهم إلى الله وسائل ووسائط تقرب إليه فهو التوحيد عندهم ولدى أمثالهم، في تغافل وتجاهل عظيمين لقوله تعالى في أول سورة الزمر: {) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3}.
    قال رحمه الله (فإنه إذا أقر أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله، وأنهم أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة، ولكن أراد أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكر فاذكر له أن الكفار منهم من يدعوا الأصنام، ومنهم من يدعو الأولياء الذين قال فيهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } [الإسراء: 57] الآية، ويدعون عيسى بن مريم وأمه وقد قال الله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [المائدة] واذكر له قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [سبأ] وقوله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } [المائدة] فقل له: أعرف أن الله كفر من قصد الأصنام، وكفَّر أيضًا من قصد الصالحين وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم).
    يعني أولئك المدعوين أي الذين يدعون المشركين من دون الله نم الأنبياء ومن الملائكة ومن الجن ومن الصالحين يبتغون إلى ربهم الوسيلة – وهي التقرب والقربى – أيهم أقرب! ولهذا يوم القيامة يتبرؤون من دعوة هؤلاء كما تبرء عيسى – عليه الصلاة والسلام – ممن اتخذه وأمه إلَهَيْن، كما تتبرأ الملائكة ممن عبدهم {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [سبأ: 41]، (وقل له عرفت أن الله كفَّر من قصد الأصنام وكفَّر أيضًا من قصد الصالحين) فهم ظنوا أن التكفير لمن قصد الحجارة، ومعلوم أن الأصنام ما قُصدت لذاتها ولكن لأنها رموز عن أولئك الصالحين، ولهذا حرم التصوير لأنه وسيلة إلى الشرك.
    قال رحمه الله: (فإن قال: الكفار يريدون منهم، وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار المدبر، لا أريد إلا منه والصالحون ليس لهم من الأمر شيء، ولكن أقصدهم أرجو من الله شفاعتهم فالجواب: أن هذا للكفار سواءً بسواء واقرأ عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18].
    3 – هذه الشبهة الثالثة
    فالشبهة الأولى: يقول: أنا ما أشركت! أنا أعتقد أن الله هو الخالق الرازق، والشبهة الثانية يقول: أن هذه الآيات نزلت فيمن عبد الأصنام وأنا لا أعبد الأصنام، أنا أتقرب إلى الله بهؤلاء الصالحين؛ بجاههم وبقدرهم، فهذه الشبهة الثالثة يقول: إن الكفار يريدون منهم، وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار، فلاحظوا أنه رجع إلى توحيد الربوبية.
    وهذا من الجهل الذريع بهذه الكلمة، كلمة التوحيد لا إله إلا الله، ولهذا الشيخ المجدد رحمه الله دندن كثيرًا حول بيان هذه الكلمة، فليس معناها: لا نافع لا ضار لا خالق إلا الله، وإنما معناها: لا معبود بحق إلا الله! وهذه مشكلة عظيمة وواقعة، وهذا المفهوم التبس على كثير ! حيث يدرِّسون الناس التوحيد بأن معناه: معنى لا إله إلا الله: لا خالق لا رازق إلا الله كما عقيدة علماء الكلام والصوفية التي يسمونها: التوحيد (وأنا أذكر أنه جاءنا مدرس بلغ أعلى الرتب الجامعية (أ.د) أستاذ دكتور «برفسور» في تخصص العقيدة والفلسفة والطلاب كما تعرفون يحبون أن يباحثوا أساتذتهم؛ فسألناه عن معنى: لا إله إلا الله؟ قال: الله!! كل الناس يعرفون معنى لا إله إلا الله معناها: لا نافع لا ضار لا خالق إلا الله. فهل هذا معنى لا إله إلا الله؟؟! الجواب: قطعًا لا! لأن هذا الذي أقر به المشركون ولم يؤمنوا، فهم جهلوا هذه الكلمة، وبالتالي ترتب على جهلهم بها أن وقعوا بالشرك يظنونه إيمانًا وتوحيدًا. إذن هذه الشبه الثلاث هي أعظم ما عليه شبهات أهل الضلال والباطل في توحيد العبادة، ويقود رايتهم في هذا الزمان طائفتان عظيمتان:

    2 – الرافضة: وهم حاملو راية الشرك وعبادة القبور والمقامات والأضرحة والمزارات التي يصفونها بأنها عتبات مقدسة.
    3 – الصوفية بفرقهم الكثيرة: نقشبندية، وقادرية، ورفاعية، وشاذلية، وتيجانية، ودسوقية، وبرهانية، وختمية، وعيدروسية …
    في فرقٍ كثيرة لا أُحصيها لكم في هذا المقام. هذه هي أعظم شبههم: حيث يقولون: أنا ما أشرك لأني أعتقد أن الله هو الخالق الرازق، يقول: أن هذه الآيات نزلت في عُباد الأصنام، يقول: أنا أعتقد أن لا إله إلا الله وأن النافع الضار هو الله يعني يقول: لا إله إلا الله، يقولها على غير اعتقاد صحيح فهو يتلفظ بها معتقدًا أن معناها لا نافع لا ضار لا خالق لا رازق لا محي ولا مميت إلا الله، وهذه الشبه الثلاث هي أعظم ما يعول عليه هؤلاء وانظر كيف أن الله كشفها ووضحها وبيَّنها بحقيقة التوحيد، فإن ترسخت من ذلك زالت عندك شبهة يُلقيها عليك المخالفون المنحرفون في توحيد العبادة، فتكون راسخًا مثل الجبل؛ فأي شبهة تأتيك لا تبقى بل تزول أمامك بمعرفتك بهذا الكشف الذي كشفه الله جل وعلا من هذه الشبه.
    فالعلم بالتوحيد أمرك الله به، وبعث إليك رسله عليهم الصلاة والسلام، دعاة إليه، وأنزل به كتبه، والعلم بالشرك الذي حرّمه الله وعظَّمه وشدَّد النكير عليه وعلى أهله، إذا حققتهما وعرفتهما زالت عندك بعدُ هالات شبههم، فغدت عندك سرابًا لا حقيقة، عجاجًا لا شيء تحتها!.
    قال رحمه الله (واعلم أن هذه الشبه الثلاث هي أكبر ما عندهم فإذا عرفت أن الله وضحها في كتابه، وفهمتها فهمًا جيدًا فما بعدها أيسر منها).
    فالخلاصة أن المقصد الأعظم في تأصيل ردِّ تلكم الشبه والجواب عليها واضح بأمور خمسة رئيسة:
    1 – أن الله بين التوحيد ما هو؟ وأنها لا معبود بحق إلا الله، وتوحيد هؤلاء هو توحيد الربوبية وهذا أقرت به المشركون. فلا ينفعون والحالة هذه! قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [الحج: 62]!.

    2 – النبي صلى الله عليه وسلم قاتلهم على جحدهم توحيد العبادة ولم يقاتلهم على توحيد الربوبية؛ لأنهم مقرون به.
    3 – أنه صلى الله ليه وسلم قاتلهم وحكم عليهم بالنار لأنهم لم يُحققوا لله العبادة.
    4 – أنهم ما اعتقدوا في آلهتهم النفع والضر وإنما جعلوهم وسائط عند الله شفعاء صالحين.
    5 – أن هذه الأصنام كانت رموزًا لصالحين اعتقدوا فيهم الصلاح، فقصدوهم! إذا عرفت هذا وتبينته وتحققته فإن ما بعده من الشُبه كُله هين، ولا تهتم به!.
    قال رحمه الله: (فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله، وهذا الالتجاء إليهم ودعاؤهم ليس بعبادة. فقل له: أنت تقر أن الله افترض عليك إخلاص العبادة لله وهو حقه عليك، فإنه لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبينها له بقولك: قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف].
    4 – الشبهة الرابعة:
    يقول: أنا ما أعبد إلا الله لكن إذا قصدت الصالحين، قصدت عبد القادر أو محي الدين – وهو عند أهل الشام في دمشق، محيي الدين بن عربي الصوفي الخبيث الزنديق، جعلوا له مقامًا يعبدونه من دون الله – أو قال قصدت البدوي أو الحسين أو العباس أو غيرهم، فهؤلاء لا أعبدهم، ولكن ألتجأ إليهم لينفعوني عند الله وهذه ليس بعبادة!!.
    وتقول له: إذن أنت ما عرفت العبادة! فيكون جوابك أنك تُبين له ما هي العبادة؟ لأن العبادة عنده: اعتقاد التأثير، والعبادة عندنا أننا اتخذناهم عند الله وسائط شفعاء بيننا وبين الله. وأنت الآن انتقل معه من الدفاع إلى الهجوم، قل له: أنت بيِّن لي العبادة. يتضح لك أنه جاهل جهلًا مركبًا ذريعًا في العبادة، والجهل جهلان: بسيط ومركب، البسيط: هذا صاحبه جاهل وهو يدري أنه جاهل، هذا جهل بسيط يزول بالعلم، لكن الجهل المركب، صاحبه جاهل ولا يدري أنه جاهل:
    فإن كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ
    وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
    هذا هو الجهل المركب.
    ويقول ابن القيم (رحمه الله) في الكافية الشافية:
    وتعرَّ من ثوبين من يلبسهما
    يلقَ الردى بمذلةٍ وهوان
    ثوبٍ من الجهل المركب فوقه
    ثوب التعصب بئست الشوبان
    وتحل بالإنصاف أفخر حلةٍ
    زينت بها الأعطاف والكتفان
    وقوله رحمه الله (وهو حقه عليك فإنه لا يعرف العبادة) يعني إذا بيَّنت له العبادة ما هي؟ وأنها دعاء الله وقصد القلب وتمحيضه بالعبادة لله جل وعلا وعرفت أن هذه هي العبادة!، فأنت إذا قلت: يا سيدي عبد القادر اشفع لي عند الله، فأنت بهذا؟ دعوت من؟ دعوت عبد القادر، ولو كان قصدك الله، لكنك جعلت عبد القادر! بينك وبين الله واسطة في هذا الدعاء، كما حصل من المشركين لما قالوا: يا لات! يا عُزى! يا مناة! فجعلوهم عند الله وسائط وشفعاء.
    وقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [الأعراف: 55] فيه تحريم الاعتداء في الدعاء، وضابطه الاعتداء عند أهل العلم: أن تسأل الله ما لا يجوز لك شرعًا ولا قدرًا.
    فهذا اعتداء في الدعاء، فسؤالك ما لا يجوز شرعًا مثل أن تقول: اللهم أعني على الزنا، فهذا لا يجوز؟ هذا اعتداء في الدعاء أو تقول: اللهم اجعلني نبيًا من الأنبياء، هذا لا يجوز لأن الله تعالى ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم فهذا اعتداء في الدعاء. لأنك سألت الله ما لا يجوز لك شرعًا.
    أو تسأل ما لا يجوز لك قدرًا، تقول: اللهم اقلبني إلى حمار هذا لا يجوز لأنه اعتداء في الدعاء، والله جل وعلا قد خلقك إنسانًا، أو تقول: اللهم اجعلني ملكًا من الملائكة. وهكذا أمثالهما، فتنبه له!.

    قال رحمه الله: (فإذا أعلمته بهذا فقل له: هل علمت أن هذا عبادة لله؟ فلا بد أن يقول: نعم. والدعاء مخ العبادة: فقل له: إذا أقررت أنه عبادة ودعوت الله ليلًا ونهارًا وخوفًا وطمعًا، ثم دعوت في تلك الحاجة نبيًا أو غيره هل أشركت في عبادة الله غيره؟ فلا بد أن يقول نعم: فإذا عملت بقول الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [الكوثر] وأطعت الله ونحرت له، هل هذا عبادة؟ فلا بد أن يقول: نعم، فقل له: إذا نحرت لمخلوق، نبي أو جني أو غيرهما، هل أشركت في هذه العبادة غير الله؟ فلا بد أن يقر ويقول: نعم. وقال له أيضًا: المشركون الذين نزل فيهم القرآن هل كانوا يعبدون الملائكة والصالحين واللات وغير ذلك؟ فلا بد أن يقول: نعم فقل له: وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك. وإلا فهم مقرون أنهم عبيده وتحت قهره وأن الله هو الذي يدبر الأمر ولكن دعوهم والتجؤوا إليهم للجاه والشفاعة وهذا ظاهر جدًا).
    فإذا قال صاحب الشبهة: لا! فهو مكابر معاند! وإذا قال: نعم إن هذا شرك، وإذا قال: لا! ليست عبادة: نقول: إذن أنت إما مكابر أو جاهل في معنى العبادة وأنا بينتها لك، فهذا يرجع إلى المكابرة، والمكابر المعاند لا المتحمل والمتغطرس، زاد مع عباده.. والحق لا جدال معه لأنه أضحى رادًا للحق بعناد وإصرار، وأكثر هؤلاء يؤولون إلى هذه الرتبة.
    أما إذا قال: نعم الذبح والدعاء والنذر عبادة، نقول: إذن فأفردها لله تعالى وحده دونما سواه أيًا كان هذا السوى: ملكًا أو نبيًا أو صالحًا أو ضريحًا…؟! وبين له الأدلة التي جاءت بإفرادها لله جل وعلا.
    وقوله: (وقل له أيضًا المشركون الذين نزل فيهم القرآن …) هذا جواب ثان الجواب الأول كان في بيان معنى العبادة.
    2 – والجواب الثاني: في هؤلاء المشركين وهذا الجواب مبني على بيان الشرك، شرك الأولين ما هو، وكيف كان؟ فتبين له كيف وقع أولئك في الشرك، وليس لك سبيل إلى هذا، بأن تعرف أدلة التوحيد وما هو شرك أولئك فتحذره، وشركهم ما كان في الربوبية وإنما كان في الالتجاء والالتياذ والنذر والعبادة في هذا شركهم!، ولهذا دعا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ربه أن يجنبه وبنيه الشرك في عبادة الأصنام.
    قال رحمه الله: (فإن قال: أتنكر شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ منها: فقل: لا أنكرها ولا اتبرأ منها. بل هو صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع وأرجو شفاعته، ولكن الشفاعة كلها لله تعالى كمنا قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } [البقرة: 255] ولا يشفع النبي صلى الله عليه وسلم في أحد إلا بعد أن يأذن الله فيه، كما قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } [الأنبياء: 28] وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] فإذا كانت الشفاعة كلها لله ولا تكون إلا من بعد إذنه، ولا يشفع النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه، ولا يأذن الله إلا لأهل التوحيد تبين لك أن الشفاعة كلها لله وأطلبها منه فأقول: اللهم لا تحرمني شفاعته اللهم شفعه فيَّ، وأمثال هذا).
    5 – هذه الشبهة الخامسة:
    انظر – كيف يأتون الناس بالتلبيسات والشبهات، وهذا كثير لا سيما عند الغلاة بالنبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته، فيفاجئك ويتهمك بقوله: تُنكر الشفاعة أنت؟! ليسكتك ويغلبك برفع الصوت! ويخوفك بهذا الأصل يأتيك بهذا الأمر، فإن كنت رخوًا أذعنت له، وإن كنت راسخًا فقل: لا. ما أنكر الشفاعة التي هي طلب الدعاء من الحي الحاضر، ولكن أنكر أن أطلبها منه في حال موته! أو أطلبها من غير من يملكها. ومالكها هو الله عز وجل، لأن الله عز وجل يقول: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا }.

    أ – فالجواب الأول يقول: الشفاعة لله، واللام لام الملك ولام الاختصاص، والله يملكها والله يختص بها، ولا تطلب الشيء إلا من مالكه! فإن طلبته من غير مالك فأنت عندئذٍ ظالم ومعتدي، كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } [الزمر: 44].
    ب – الجواب الثاني: الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله؛ لأن الله ذكر في القرآن أنها لا تصح الشفاعة إلا من بعد إذنه، والشفاعة الصحيحة المقبولة لها شرطان:
    1 – أن يأذن الله للشافع أن يشفع.
    2 – ويأذن أن يشفع الشافع في المشفوع فيه، وهو رضا الله عن المشفوع، فبهذين الشرطين تكون الشفاعة وتصح! والدليل عليهما قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } [النجم: 26]. ولهذا إذا أتى الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المحشر يوم القيامة ذهب وسجد تحت العرش وحمد الله بأنواع من المحامد مدة طويلة حت يأتي الإذن: «يا محمد ارفع رأسك وقُل يُسمع واشفع تشفع»([21]) والحديث في الصحيحين متفق عليه فها هنا جاء الإذن، أما قبل هذا لا يشفع حتى يأذن الله له بالشفاعة.


    قال رحمه الله: (فإن قال: النبي صلى الله عليه وسلم أعطي الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله تعالى. فالجواب: أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا فقال تعالى: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [الجن] فإذا كنت تدعوا الله أن يشفع نبيه فيك فأطِعْهُ في قوله: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا }، وأيضًا، فإن الشفاعة أُعطيها غير النبي صلى الله عليه وسلم فصح أن الملائكة يشفعون، والأفراط يشفعون والأولياء يشفعون أتقول: إن الله أعطاهم الشفاعة وأطلبها منهم فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكرها الله في كتابه، وإن قلت لا بطل قولك: أعطاه الله الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله).
    6 – هذه الشبهة السادسة:
    لأنك إذا قلت يا رسول الله اشفع لي، دعوته ووقعت فيما نهاك الله عنه أنك دعوت غير الله، والنبي صلى الله عليه وسلم وعدهُ الله بالشفاعة، وأعطاه الله إياها يوم القيامة، فإذا أَذن له بذلك يوم القيامة.
    أما هذه المرحلة: في الدنيا لا نطلبها منه بعد موته بل من الله عز وجل لأنه سبحانه مالكها! فمتى نطلبها منه صلى الله عليه وسلم؟ إذا كان قادرًا بعد الإذن من الله جل وعلا. الآن تأتي إلى وزير الملك ونائبه تقول: يا فلان اشفع لنا عند هذا الأمير أو الملك يعطينا كذا، فهو يقدر أن يسمعك، لكن إذا كان ميتًا، هل تقول له اشفع لي؟ الجواب: لا! لماذا؟ لأنه لا ينفعك! فهذه هي الشفاعة. ومعنى طلب الشفاعة من الحي أن يطلب منه أن يدعو الله لغيره بحصول المطلوب.
    فعلى هذا الشبه جوابان:

    1 – الجواب الأول: أنها دعاء، وهذا جائز في حال الحياة أن يطلب من الله تعالى للمحتاج.
    2 – الجواب الثاني: أنها تطلب من النبي صلى الله عليه وسلم في حاله حياته وحيث يؤذن له فيها، وأما بعد موته فلا.
    والأفراط: جمع فَرط، هو الميت الصغير الذي سقط من بطن أمه، ويطلق أيضًا على الصغير الذي إلى دون البلوغ هؤلاء أفراط جمع فرط.
    إذًا جوابان: إذا قال: أنا أطلبها منه؛ لأن له شفاعة عند الله تعالى، له جاه رجعنا إلى شرك الأولين.
    وإذا قال: لا! فعندئذ يبطل قوله: إن الله أعطاه الشفاعة.

    قال رحمه الله: (فإن قال: أنا لا أشرك بالله شيئًا حاشا وكلا ولكن الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك. فقل له: إذا كنت تقر أن الله حرَّم الشرك أعظم من تحريم الزنا، وتُقر أن الله لا يغفره فما هذا الأمر الذي حرمه الله وذكر أنه لا يغفره، فإنه لا يدري فقل له: كيف تبرئ نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه؟ أم كيف يحرم الله عليك هذا ويذكر أنه لا يغفره ولا تسأل عنه ولا تعرفه؟ أتظن أ، الله يحرمه ولا يبينه لنا؟).
    7 – الشبهة السابعة من شبهات المشركين، أو من يُسوغ ويبرر لأهل الشرك شركهم. وذلك أنه يقول: أنا لا أشرك بالله – حاشا لله – وأنا أبعد الناس عن الشرك، ولكن الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك!! فهذا وقع في أمرين:
    الأول: أنه ما عرف الشرك ما هو؟ وكيف يقع؟ وهذا هو الخطر الأول.
    الثاني: والخطر الثاني أنه برأ نفسه من شيء لا يعرفه، فيحتاج إلى أن يُعرّف الشرك، ويُعرف أن هذا الالتجاء إلى الصالحين – الذي ادعاه وأقره على نفسه – أنه شرك بالله العظيم، وصاحب الشبهة والهوى، إذا سمع قول الشيخ هنا (فقل له: إذا كنت تُقر ان الله حرم الشرك أعظم من تحريم الزنا) قد يقول: إن الشيخ هنا يُبيح الزنا؟ قد يقول ذلك صاحب الهوى أو مغالط ملبس، لكن هل هذا يُفهم من كلام الشيخ؟ الجواب:
    أبدًا الشيخ يقول هنا – بأفعل التفضيل – إن الله حرم الشرك أعظم من تحريمه الزنا لأن الزنا؛ حرام وكبيرة من الكبائر لا يحبط العمل، والشرك محبط للعمل، فهو أكبر الكبائر كما صحَّ بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لكن صاحب الهوى إذا أراد أن يتصيد من الكلام ومن فلتات اللسان وجد إلى متصيده سبيلًا وهذه هي طريقة أهل الأهواء، لا سيما إذا تعدى هذا إلى تصيد الأخطاء القولية واللفظية غلى أن يستطيل عليه، ويتهمه: بأنهُ يقصد في كذا يريُد كذا، إذ قال: فلان يريد كذا يقصد كذا، ما أدراك أنه يريد ويقصد، بأمرٍ ما دل عليه عبارة لفظه، أو حال مقامه، وحال فعله، فالكلام بهذا كلام بالنيات وهذا والعياذ بالله يُخشى عليه أن يصل إلى منازعة الله جل وعلا في علم الغيب، لأن الذي يعلم السر وأخفى من السر هو الله جل وعلا، فإذا قلت يقصد ويريد وما دل كلامه على ما ذكرته من قصده وإرادته فهذا والعياذ بالله ادعاء بالظن والجهل ومنازعة لما غاب عنا علمه.

    فيقول الشيخ: كيف تبرئ نفسك من الشرك؟ فما هو الشرك الذي نفيتهُ عن نفسك؟ فأنت وقعت في خطأين عظيمين كلاهما قبيح وخطير، والثاني أعظم من الأول.
    قال رحمه الله: (فإن قال: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام فقل له: ما معنى عبادة الأصنام؟ أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها؟ فهذا يُكذبه القرآن وإن قال: هو من قصد خشبة أو حجرًا أو بنية على قبر أو غيره يدعون ذلك ويذبحون له يقولون: إنه يُقربنا إلى الله زلفى ويدفع الله عنا ببركته ويعطينا ببركته فقل: صدقت وهذا هو فعلكم عند الأحجار والأبنية التي عل القبور وغيرها فهذا أقر أن فعلهم هذا هو عبادة الأصنام فهو المطلوب).
    رجع الشيخ؟ إلى الشبهة الثانية من الشبه الثلاث الكبار، حيث ذكر المخالف أن الشرك عبادة الأصنام فقط ونحن لا نعبد الأصنام، وهذا خطأ في فهم شرك الأولين ما هو؟ فالمشركون الأولون ما اعتقدوا أن هذه الأخشاب والأحجار والأصنام والرخام والقبور والجن أنها تخلق وترزق، لم يعتقدوا ذلك، وإنما جعلوا هذه المظاهر الحجارة رموزًا على صالحين، إنما هم وسائط عند الله جل وعلا يقربون إلى الله زلفى وشفعاء.
    قوله رحمه الله (وإن قال: هو من قصد خشبةٍ أو حجرًا أو بنية على قرٍ) يعني: بناء قال بنية على صفة التحقير لها، بنية وليست بُنية.
    فإذا قال المخالف: الشرك عبادة الأصنام فهذا خطأ، إن قال: هو من قصد هذه الأشياء يدعوها من دون الله ويتقربون إليها يذبحون لها فهذا هو الشرك. فقد تكون الأحجار والأبنية على غير قبور، على غيران، أو على فحل تحل أو على موضع، أو على شمس، أو على قمر، ليس لازمًا أن تكون على قبور، لكنها على قبور أوضح وأظهر وأكثر وأشهر، ولهذا بعض الناس يذمنا ويُدندن علينا أن ما عندنا إلا شرك القبور؟!.
    وشرك القبور هو من أوضح مظاهر الشرك لكن لا يختص الشرك بالقبور فقط فالشرك متنوع في القبور وفي الأحجار وفي الأشجار وفي الشمس وفي القمر وفي تعظيم العلماء والأمراء والسادات في شرك الطاعة في تحكيمهم في غير شرع الله جل وعلا، هذه أنواع كثيرة من الشرك، لكن أظهرها في هذا الزمان، والزمان الذي قبله هو ما يتقرب به إلى ذوي المقامات والمزارات والعتبات والأضرحة والقبور والسادات والأولياء بأنواع العبادات والقربات، كالدعاء، والاستغاثة، والذبح، والنذور، والطواف، والحلف بها والتبرك… إلخ.
    قال رحمه الله: (ويُقال له أيضًا: قولك: (الشرك عبادة الأصنام) هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا، وأن الاعتماد على الصالحين ودعائهم لا يدخل في ذلك؟ فهذا يرده ما ذكر الله في كتابه من كفر من تعلق على الملائكة أو عيسى أو الصالحين، فلا بد أن يقر لك أن من أشرك في عبادة الله أحدًا من الصالحين فهذا هو الشرك المذكور في القرآن وهذا هو المطلوب).
    وإذا قال المخالف: إن الشرك عبادة الأصنام وأراد أن مخصوص به، فهل هذا حق أو باطل؟ الجواب: بل باطل؛ لأنه أخرج دعاء الصالحين، وأخرج الاستشفاع بالصالحين، وأخرج التوسل بالصالحين، وأخرج أيضًا الذبح للصالحين… إلخ، والصالحون ليسوا أصنامًا، فحصر الشرك عنده بالأصنام خطأ وباطل، بالشرك اسم جنس لكل من جعل مع الله أحدًا في عبادةٍ من العبادات، وإن لم يجعلها في سائر العبادات، أو في نوع واحد من أنواع العبادة كلها، في الذبح كله، فلو ذبح ذبيحة واحدة ولو عصفورًا أو نملة، أو دعا مرةً واحدة غير الله كان بذلك مشركًا إذا رضي بذلك!! والشرك عام.
    وغلاة الصوفية: أهل وحدة الوجود قالوا: إن المشركين كفروا لما خصصوا الشرك باللات أو بالعزى أو بالأصنام أو بفرعون كفروا، ولو جعلوا العبادة عموم الأشياء لكانوا مؤمنين، كما أساطينهم: قاله ابن سبعين وابن الفارض وابن عربي الصوفي، حتى جعلوا القرآن كتاب شرك ولم يجعلوه كتاب توحيد، وهذه مرحلة دنيا دنية من مراحل الغواية ودركة عظيمة من دركات الوثنية في التوحيد ما بلغها إلا عُتاة هؤلاء، وما تأتي أن يبلغوها إلا لما درجوا على تعظيم السادات والأولياء والأضرحة، واستحسنوا ذلك واستمرؤوه، ثم تفلسفوا وتذوقوا بالكفر البواح.
    والآن يبين الشيخ الأصل في هذه المسألة الأصل فيها، والسر فيها وهذا خلاصة ما سبق.
    قال رحمه الله تعالى: (وسر المسألة أنه إذا قال: أنا لا أشرك بالله فقل له: وما الشرك بالله، فسره لي؟ فإن قال: هو عبادة الأصنام فقل: وما معنى عبادة الأصنام فسرها لي؟ فإن فسرها بما بينه القرآن فهو المطلوب، وإن لم يعرف فكيف يدعي شيئًا وهو لا يعرفه؟).
    فالمقصود وإن فسر ذلك بغير معناه، بينت له الآيات الواضحات في معنى الشرك بالله وعبادة الأوثان، وأنه الذي يفعلونه في هذا الزمان بعينه، وأن عبادة الله وحده لا شريك له هي التي ينكرون علينا ويصيحون فيها كما صاح إخوانهم حيث قالوا: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }.
    قوله رحمه الله: (وسر المسألة) يعني حقيقتها ولبها وكنهها والشيء إذا عرفت حقيقته سهل بعد ذلك معرفة أفراده وأنواعه، فكيف ينفي عن نفسه شيء وهو لا يعرف هذا الشيء المنفي؟ هذا في الحقيقة تناقض! أو أنه نفى عن نفسه شيئًا سماه شركًا، وهو في الحقيقة ليس بالشرك أو أقر لنفسه بشيء سماه توحيدًا وهو في الحقيقة شرك وليس توحيدًا، هذه الدرجات وهذه المقامات في البحث والمناظرة وكشف الشبهة معهم! بمثل هذا ينتقل من الأمر الواضح إلى ما هو أقل وضوحًا وهكذا! فيرده إلى الواضح حتى يقر به، فعندئذ ليس له إلا أمرين:
    إما يوافق.
    وإما يعاند ويكابر فيجحد!

    قال رحمه الله تعالى: (فإذا عرفت أن هذا الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد هو الشرك الذي نزل فيه القرآن وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا بأمرين:…)
    ولا يعني هذا – عند من لا يظن بالشيخ خيرًا، أو عند من ساء قصده – أن الشيخ يهون من شرك الزمان الأول، بل شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا بمظهرين أشار إليهما الشيخ ومرَّ التنبيه عليهما.
    مع عظم وشناعة الشرك عند الأولين والآخرين!!.
    قال رحمه الله تعالى: أحدهما أن الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله إلا في الرخاء وأما في الشدة فيخلصون لله الدين كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا } [الإسراء: 67] وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } [الأنعام: 40] وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ } [الزمر: 8] وقوله: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [لقمان: 32].
    المقصود إذا مسكم الضر في البحر وادْلَهَمَّتْ عليكم الخطوب ما عرفتم إلا ربًا واحدًا، فهذه آية الإسراء وهي مكية مثل آية يونس {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }، هنا فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورًا؛ لأنه لما نُجلي وسُلِّم جحد من خصَّه بالدعاء والعبادة وأشرك معه غيره ف يحال الرخاء، أما شرك زماننا في حال الرخاء وحال الشدة.
    فمشرك زمننا إذا جاءته المصيبة أو الكرب أو الأمر العظيم تجده إذا كان ممن يُعظم الحسين أو العباس، نادى مستغيثًا يا حسين! يا عباس! وإن كان ممن يعظم عبد القادر وجاءت المرأة الطلق وهي حامل مثلًا، أو الغرق وهو غريق، أو الحرق نادى مستغيثًا: يا سيدي عبد القادر في حال الشدة فوقعوا في الشرك في الشدة، كما أنهم أشركوا بالرخاء، فأيهم أعظم؟! كلاهما عظيم، لكن أيهما أخطر؟! الجواب: الشرك في الشدة أخطر لأن في الشدة في حال الكرب ولا يعرف الإنسان إلا من يعتقد فيه هذا الاعتقاد، ولهذا يتجه إليه مباشرة؟! والمؤمن إذا اشتدت عليه الأمور من يعرف؟ يقول يا الله يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، يعرف ربه وخالقه الذي يعبده!، فهذا يونس عليه السلام لما ادلهمت عليه الخطوب وبقي في بطن الحوت التَقَمَه ابتلعه ما كان دعاؤه؟ {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } ما دعا أو سأل أو نادى أو استغاث بغير الله!!.
    وقوله تعالى {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } يعني في حال الضراء نسوا الشرك، ونسوا من اعتقدوا فيه، وفي حال السراء رجعوا إلى ما كانوا عليه، وأشد منهم وأخطر هو المشرك ف يحال الضراء يلتفت إلى سيده إلى من يعتقده فيه الهداية والولاية ويعتقد فيه النفع والضر كما أنه كذلك في حال السراء.
    قال رحمه الله تعالى: (فمن فهم هذه المسألة التي وضحها الله في كتابه وهي أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون الله ويدعون غيره في الرخاء، وأما في الضراء والشدة فلا يدعون إلا الله وحده لا شريك له وينسون سادتهم. تبين له الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأولين. ولكن أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهمًا راسخًا، والله المستعان).
    نعم. أي والله، والله المستعان على ما يصفون: كما قال الأول:
    علي نحت القوافي من أعنتها
    وماذا علي لو لم تفهم البقر
    مع أن هذه واضحة، لكنها ليست واضحة على من على قلبه غشاوة، وفيه عمى، فالآن الأعمى أو الأعشى ما يرى الشمس، فالبلاء فيه ليس في الشمس، فالذي لا يرى الشمس في رابعة النهار البلاء والنقص فيه هو!، كذلك في هذه المسائل الواضحة في غاية الوضوح من لم يفهمها فالنقص والخطأ فيه لا في كتاب الله المنزل، وليس في دين الله، وليس في توحيد الله تعالى.
    قال رحمه الله تعالى: (الأمر الثاني: أن الأولين يدعون مع الله أناسًا مقربين عند الله إما أنبياء، وإما أولياء، وإما ملائكة، أو يدعون أشجارًا أو أحجارًا مطيعة لله ليست عاصية، وأهل زماننا يدعون مع الله أناسًا من أفسق الناس، والذين يدعونهم هما لذين يحكون عنهم الفجور من الزنا والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك. والذي يعتقد في الصالح أو الذي لا يعصي مثل الخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده ويشهد به).
    والمقصود أن هناك أيضًا مظهر ثالث يُبين لكم أن شرك الأولين أخف من شرك هؤلاء، أن الأولين لو استحلفوا بالله لما حلفوا كاذبين وهؤلاء لو استحلفوا بالله عز وجل ما تردد أحدهم أن يحلف بالله كاذبًا لكن لو أستحلف بسيده الذي يُعظمه أو بوليه الذي يقصده ويدعوه ويرجوه، لما حلف به كاذبًا بل خشي أن تصيبه العقوبة من هذا الولي، أومن هذا السيد، أو من صاحب القبر والضريح، الذي يعتقد فيه!، فلو قلت للرافضي مثلًا: احلف بالحسين! فإنه لا يحلف كاذبًا ولو قلت للقادري: أحلف بالشيخ عبد القادر! لا يحلف! وكذا إن قلت للنقشبندي: احلف بخالد النقبشندي لا يحلف، ولو أستحلف هؤلاء بالله لما تردد أحدهم أن يحلف مائة يمين كاذبًا فاجرًا فيها؛ وذلك لأنه قام في قلبه من تعظيم هذا السيد أشد مما قام من تعظيم الله وخوفه.

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: كشف شبهات المشركين للإمام محمد بن عبد الوهاب

    قوله رحمه الله: (والأمر الثاني): يعني المثال الثاني الذي يبين أن شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا وأن شرك أهل زماننا أعظم من شرك الأولين، فمشركو زماننا شركهم في أناس فاسدين فجرة كفرة ظلمة، أما الأولون شركهم في أنبياء ورسل، وفي ملائكة، وفي صالحين، أو في أحجار وأشجار هي مطيعة لله لا يصدر منها معصية (وهذا تفاضل في دركات المُشرك بها) في دركاته، وفي حضيضه، فإن من أشرك مع الله صالحًا خير ممن أشرك مع الله فاسدًا طالحًا فاجرًا، وذلك أن هؤلاء الذين يعتقدون فيهم الولاية عندهم اعتقاد خبيث ورد عليهم من الأمم قبلنا أنه إذا وصل إلى رتبة في التعبد سقطت عنه التكاليف، وعندئذ يقع في المحرمات يسرق يزني يشرب الخمر، لأنه تجاوز القنطرة، بل يقع في نكاح محارمه، فقد يقع على أمه، أو أخته، أو بنته، أو خالته، أو عمته، لأنه جاوز القنطرة، كما يُعتقد – والعياذ بالله – فيمن قد بلغوا بزعمهم الحقيقة أو بلغوا اليقين، وهذا خروج أصلًا عن شريعة الإسلام، فكيف يُعتقد فيه الولاية وهو خارج عن هذه الشريعة، هذه هي إباحية مزدك وهي المجوس والمزدكية والمانوية هذه هي إباحيتهم التي حكم عليها العلماء بأنها زندقة، وأنها خروج عن الإسلام أصلًا فكيف بعد هذا يعتقد فيهم الولاية؟ وهم كفار بإجماع المسلمين كما حكاه أبو بكر ابن الطيب الباقلاني وأبو حامد الغزالي وأبو العباس ابن تيمية وغيرهم رحمهم الله.

    قال رحمه الله تعالى: (وإذا تحققت أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أصح عقولًا، وأخف شركًا من هؤلاء، فاعلم أن لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا وهي من أعظم شبههم، فأصبغ سمعك لجوابها وهي: أنهم يقولون: إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله، ويكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم، ويُنكرون البعث ويُكذبون القرآن ويجعلونه سحرًا، نحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث ونُصلي ونصوم فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟).
    8 – الشبهة الثامنة:
    تكثر عند من تروج عندهم مقالة الإرجاء، حيث يقولون: نحن نقول لا إله إلا الله فكيف تكفروننا؟! ونحن نصدق الرسول فكيف تُكذبوننا؟! ويجعل الشرك فقط فيمن فعل شرك الأولين فقط دون غيره، إذًا من قال: لا إله إلا الله وذبح لغير الله أتنفعه لا إله إلا الله؟ الجواب: لا تنفعه، فمن كان أصلح الناس فيما يظهر لنا، يقرأ القرآن بروايات العشر، ويحفظ الحديث، ويقوم الليل، ويصوم النهار يتصدق لكنه يُسوغ أن يدعوا النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من المخلوقين؛ يقول مثلًا: يا رسول الله المدد أو أنه يُصدق الكاهن، هل تنفعه هذا الطاعات؟؟ الجواب: لا تنفعه لأنه أتى بناقض من نواقض الإسلام، الذي لا يصلح الإسلام معه، ولا يصح الإسلام معه، ولو كان من أصلح الناس في عمله أليس كان في مكة من المشركين من يُعظمون الله يُصلون ويصومون ويحجون ويتصدقون؟ بل منهم من لا يشرب الخمر! فهل ينفعهم هذا؟ الجواب: ما نفعهم إلا إذا قالوا: لا إله إلا الله محققين فيها التوحيد لا قول مجرد عن الاعتقاد والعمل.
    ومع الأسف فإن مشركي الجاهلية كانوا أصدق من مشركي زمننا، حيث لم يقولوا لا إله إلا الله بأفواههم ما داموا لم يحققوها، ولم يعتقدوا بها. وأما مشركو زماننا فيقولونها بألسنتهم وأفواههم، ثم يخالفوها – بعلم أو بجهل – بأقوالهم – ومقاصدهم ونياتهم، وأعمالهم! نسأل الله الثبات على دينه.
    قال رحمه الله تعالى: (فالجواب: أنه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء وكذبه في شيء، أنه كافر لم يدخل في الإسلام، وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه كمن أقر بالتوحيد وجحد وجوب الصلاة، أو أقرَّ بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة، أو أقر بهذا كله وجحد الصوم، أو أقر بهذا كله وجحد الحج، ولما لم ينقد أناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للحج أنزل الله في حقهم: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران]. ومن أقر بهذا كله وجحد البعث كفر بالإجماع، وحل دمه وماله، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء].
    والمقصود هذا قرره الشيخ رحمه الله في «ثلاثة الأصول» قوله تعالى في سورة التغابن: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } لأنها من أجمع ما جاء في القرآن في آية واحدة دلت على الإيمان بالبعث في عدة مؤكدات، بلغت ستة مؤكدات في هذه الآية.
    قال رحمه الله تعالى: (فإذا كان الله قد صرح في كتابه: أن من آمن ببعض وكفر ببعض، فهو الكافر حقًا، وأنه يستحق ما ذكر، زالت هذه الشبهة، وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الأحساء في كتابه الذي أرسله إلينا. ويقال أيضًا: إن كنت تقر أن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء، وجحد وجوب الصلاة: أنه كافر حلال الدم والمال بالإجماع وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا بالبعث، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان، وصدق بذلك كله لا تختلف المذاهب فيه، وقد نطق به القرآن كما قدمنا).
    وهذا إشارة إلى «كشف الشبهات» أنه اعتراض من بعض المنتسبين للعلم في الأحساء([25]) في كتاب أرسله للشيخ حيث ما أورد عليه: كيف تُكفروننا ونحن نقول: لا إله إلا الله ونصدق بالرسول ونؤمن بالبعث؟؟ والجواب: نُكفركم إذا وقع منكم الكفر بدعاء الصالحين، أو التوسل بهم، أو سؤالهم الشفاعة، أو الالتجاء والالتياذ بهم، أو الذبح لهم، أو الطواف بمقاماتهم، لأنه لما أقررتم بالشهادة وبالبعث وبتصديق الرسول، لم تحققوا وتقروا بإفراد الله بحقه، وأعظم حقه سبحانه التوحيد.
    قوله رحمه الله (ويقال أيضًا: إذا كنت تُقر أن من صدق الرسول).
    والمقصود أنه أعظم من ذلك، القرآن إن أقر ببعضه وحرف بعضه لغير الله أشد من جحد وجوب الصلاة أو وجوب الزكاة أو وجوب الصوم أو أنكر الجهاد، من صرف بعض التوحيد لغير الله فهو أعظم وأنكر وهذه قاعدة أولى.

    قال رحمه الله تعالى: (فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم من الصلاة والزكاة، والصوم، والحج، فكيف غذا جحد الإنسان شيئًا من هذه الأمور كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟! سبحان الله، وما أعجب هذا الجهل!.
    ويقال أيضًا: هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاتلوا بني حنيفة، وقد أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويؤذنون ويُصلون.
    فإن قال: إنهم يقولون: إن مسيلمة نبي.
    فقل: هذا هو المطلوب: إذا كان من رفع رجلًا إلى رتبة النبي صلى الله عليه وسلم كفر، وحل ماله ودمه، ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة، فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف أو صحابيًا أو نبيًا إلى مرتبة جبار السموات والأرض؟ سبحان الله، ما أعظم شأنه: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [الروم].
    وهذا جواب ثالث، من الذي أسلم؟ إنهم بنو حنيفة وشهدوا أن لا إله إلا الله، وصلوا، لكنهم امتنعوا من الزكاة، ومنهم من صدق بنبوة مسيلمة وإنما منعوا الزكاة جحدًا لوجوبها لأنهم قوتلوا على منعها.
    أما (شمسان) هذا فقد كان يُعتقد فيه أنه من الأولياء في نجد، وكذا (تاج) كان يُعتقد فيه الضر والنفع، وهو صاحب مقام فيه، وأنه يُجيب من دعاه ويُغيث من استغاثه! فهذا أعظم ممن جعله نبي؟! لأنه خصص له من خصائص الربوبية، وهذا أعظم ممن صدق بنبي غير النبي عليه الصلاة والسلام.
    قال رحمه الله تعالى: (ويقال أيضًا: الذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار، كلهم يدعون الإسلام وهم من أصحاب علي رضي الله عنه وتعلموا العلم من الصحابة ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما، فكي أجمع على قتلهم وكفرهم؟ أتظنون أن الصحابة يُكفرون المسلمين؟ أم تظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر، والاعتقاد في علي ابن أبي طالب رضي الله عنه يُكفر).
    هذا جواب رابع، وهو في غلاة الرافضة الذين اعتقدوا أن عليًا هو الرب، وأن الله، وهو المدبر المتصرف، وقد أنذرهم علي رضي الله عنه ثلاثة أيام، وأمر قُنبر مولاه أن يأتي بفعله يخدون الأخاديد وأوقدوا فيها النار، وأتى بهؤلاء الغلاة السبيئة يوقفهم على هذه النار، ويتوعدهم أن يقذفهم فيها إن لم تتوبوا، وهم في كل مرة يزدادون إصرارًا! فقذفهم رضي الله عنه في النار غيرةً على توحيد الله، وقال مقولته المشهورة:
    إني لما رأيت الأمر أمرًا منكرًا
    أججت ناري ودعوت قنبرا
    رأيت الأمر أمرًا منكرًا: لأنه تعلق بجناب الربوبية بجناب الله جل وعلا، ومع ذلك حرقهم وقتلهم رضي الله عنه وأزهق دماءهم مع أنهم من أصحابه ويصلون ويشهدون أن لا إله إلا الله ويؤمنون بالبعث لكنهم أتوا بناقض من نواقضه.
    قال رحمه الله تعالى: (ويقال أيضًا: بنو عُبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس، كُلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويدعون الإسلام، ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه، أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، وغزاهم المسلمون حتى استنفذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين).
    بنو عُبيد القداح: هم الباطنيون العبيديون الذين يُنسبون زورًا إلى فاطمة، ويتسمون في التاريخ بالفاطميين، ويدخل فيهم الإسماعيلية والقرامطة والدروز والحشاشون، ويدخل فيهم أيضًا النصيرية العلوية، ويدخل فيهم أيضًا البهرة الأغاخانية، ويدخل فيهم المكارمة السليمانية والداوردية ويدخل فيهم من اعتقدوا إمامة إسماعيل، وأن للدين باطنًا وظاهرًا، كل هؤلاء غلاة الرافضة وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في النصيرية: أكفر من اليهود والنصارى وكثير من المشركين لا تحل ذبائحهم كما نص على ذلك محققو علماء الإسلام.
    قال رحمه الله تعالى: (ويقال أيضًا: إذا كان الأولون لم يكفروا إلا لأنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول والقرآن، وإنكار البعث وغير ذلك، فما معنى الباب الذي ذكره العلماء في كل مذهب: «باب حكم المرتد»، وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعًا كثيرة كل نوع منها يكفر ويحل دم الرجل وماله، حتى أنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها، مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب).
    هذا الجواب الخامس ذكره الشيخ في باب حكم المرتد الذي ذكره العلماء الفقهاء في كتاب الحدود من كتب الفقه، الشافعية والمالكية والحنابلة والحنفية في نصوص دلت على كفر بالقول: يقول قولًا فيكفر، أو يفعل فعلًا فيكفر أو يعتقد اعتقادًا فيكفر، وهذا رد على جنس المرجئة الذين ما كفروا غلا بالاعتقاد، أو بالتكذيب، أو بالجحود فقط دون الكفر بالقول أو العمل!، بل الكفر يكون بالقول وبالفعل ويكون أيضًا بالاعتقاد؛ ففي الاعتقاد اعتقادٌ مناقضٌ للدين كمن اعتقد في الأولياء والسادات فهذا الذي ينكر هذا القول (تكفير الكافر المشرك) على العلماء على الشيخ وأمثاله ينكره أيضًا على أئمة المذاهب الأربعة وتلاميذهم وأتباعهم.
    قال رحمه الله تعالى: (ويقال أيضًا: الذين قال الله فيهم: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا} [التوبة: 74]. أما سمعت الله كفرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله ويجاهدون معه ويصلون، ويزكون ويحجون، ويوحدون، وكذلك الذين قال الله فيهم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } [التوبة] فهؤلاء الذين صرح الله فيهم أنهم كفروا بعد إيمانهم وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح).
    هذا الجواب السادس الذين قالوا: ما رأين مثل قُرائنا هؤلاء …. إلخ قوله رحمه الله تعالى: (ويجاهدون معه) لأنهم خرجوا معه إلى تبوك، وجاهدوا معه من قبل، ومع ذلك كفرهم، فهم صلوا وصاموا وأظهروا التوحيد لكن لما أتوا بالناقض ما عذرهم قولهم وإتيانهم بالناقض على أن يُكفروا، وأن يقال أنهم كفروا، وكفروا بعد إسلامهم، لقوله تعالى عنهم في آية براءة: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } إذًا كان لهم إيمان ثم كفروا بهذه المقالة التي قالوها في النبي صلى الله عليه وسلم وفي أصحابه رضي الله عنهم.
    قال رحمه الله تعالى: (فتأمل هذه الشبهة وهي قولهم: تكفرون من المسلمين أناسًا يشهدون أن لا إله إلا الله، ويصلون ويصومون. ثم تأمل جوابها، فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق. ومن الدليل على ذلك أيضًا: ما حكى الله عن بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم، أنهم قالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ } [الأعراف: 138] وقول أناس من الصحابة: (اجعل لنا ذات أنواط)([26]) فحلف النبي صلى الله عليه وسلم، أن هذا نظير قول بني إسرائيل {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ }.
    9 – هذا الشبهة التاسعة:
    ومضمونهاكيف تكفرون من يقول لا إله إلا الله؟

    والرد عليها: نقوله لهم: مع ما سبق بيانه وإيراده، أننا ما كفرنا هؤلاء إلا لما أتوا بالناقض،
    قال رحمه الله تعالى: (ولكن للمشركين شبهة يُدلون بها عند هذه القصة وهي أنهم يقولون: أن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك، وكذلك الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل لنا ذات أنواط. لم يكفروا).
    فالجواب: أن نقول: إن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك، ولا خلاف أن بني إسرائيل لو فعلوا ذلك لكفروا، وكذلك لا خلاف في أن الذين نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يُطيعوه، واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا، وهذا هو المطلوب).
    10 – وهذه الشبهة العاشرة:
    وهي خلاصة للتي قبلها وتنويع في التمثيل: فالشبهة التي قبلها يقولون: كيف تكفرون من يقول: لا إله إلا الله؟ والتي قبلها يقولون: نحن نقول لا إله إلا الله كيف نكفر ونحن نُتصدق ونُصلي والله جل وعلا إنما كفر من لم يقل لا إله إلا الله، ولا يصدق بالرسول لكن على سبيل التفصيل، هذه التي مضت التاسعة وهذه عاشرة أن شُبهتهم يقولون: إن بني إسرائيل لم يكفروا بقولهم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ }، وكذلك لما مر من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم على قرية لهم صنم وأنهم كانوا حدثاء عهد بالإسلام لم يكفروا لم يكفرهم النبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا: اجعل لنا ذات أنواط هذه شبهة لهم، والجواب: أن هؤلاء قالوا هذا عن جهل وما تمادوا ف يكفرهم، فهم لم يفعلوه، ولو فعلوا كفروا، لكن لما نهوا انتهوا.
    قال رحمه الله تعالى: (ولكن هذه القصة تُفيد: أن المسلمين. بل العالم. قد يقع في أواع من الشرك لا يدري عنها، فتُفيد التعلم والتحرر ومعرفة أن قول الجاهل. التوحيد فهمناه. أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان. وتفيد أيضًا: ان المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كُفر، وهو لا يدري فنبه على ذلك فتاب من ساعته، أنه لا يكفر كما فعل بنو إسرائيل، والذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم).
    يعني رحمه الله: قصة بني إسرائيل في طلبهم الشرك، وحُدثاء العهد بالإيمان والإسلام بعد فتح مكة لما طلبوا ذات أنواط كما لأولئك ذات أنواط هاتان القصتان تجعل المؤمن على خطر، وعلى خوف، وعلى وجل عيم من أن يقع في الشرك وهو لا يشعر، لأن أولئك نبههم النبي صلى الله عليه وسلم، ونبهوا بالقرآن. لكن في هذا الزمان إن لم تكن عارفًا بالتوحيد فمن ينبهك؟ ومن يحذرك هذا الشرك؟
    وقوله رحمه الله تعالى: (ومعرفة أن قول الجاهل. التوحيد فهمناه. أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان) وما أكثر ما يقال هذا الآن نحو قولهم: نحن مللنا التوحيد، وفهمان التوحيد، وعرفناه، ومالهُ حاجة! لنأخذ المعاملات، ولنأخذ الأخلاق، ولنأخذ السياسة، ولنأخذ الاستراتيجيات الدولية، فهذا وأمثاله ما عرف السياسة ولا عرف توحيده، ضيع «مشيته ومشية الحمامة»، وهذا جهل وتهوين وتخذيل من هذا التوحيد، وتخذيل من هذا التوحيد للعناية به.
    وربما قالوا الاهتمام بهذه الدعوة التوحيد فهمناه! والجواب: لو فهمته حققته!! وأثر فيك وأُشربه قلبك؛ فإن كل إناء بالذي فيه ينضح ولا بد! ومن أحب شيئًا أكثر من ذكره، فهؤلاء أولياء الله جل وعلا دائم على لسانهم تسبيح وتهليل واستغفار لأنهم يحبون ذكر الله تعالى.


    قال رحمه الله تعالى: (وللمشركين شبهة أخرى يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة قتل من قال: «لا إله إلا الله([27])»، وكذلك قوله: «أمرت أن أقُاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله([28])». وأحاديث أخرى في الكف عمن قالها، ومراد هؤلاء الجهلة أن من قالها لا يكفر، ولا يُقتل ولو فعل ما فعل).
    11 – الشبهة الحادية عشرة:
    على سبيل التفصيل وهي ترجع في الحقيقة إلى الشبهة التاسعة، لكن أفردها الشيخ لأنه مما يستدل بها من أمور مشتبهة في الأدلة يُريدون أن يهونوا من شأن الشرك، وذلك أن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قتلهُ ظانًا أنه ما قالها إلا خوفًا من السيف، وإلا فقد عنَّف عليه النبي عليه الصلاة والسلام.
    وهذا من أدلة التحذير وشدِّة نكير تكفير المعين، وقتله وحمل السلاح عليه، لا أنها تهون من شأن الشرك وتهون من شأن أهله أو تبرره لمن يقع فيه وهو لا يشعر.
    قال رحمه الله تعالى: (فيقال لهؤلاء المشركين الجهال: معلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود وسباهم وهم يقولون: لا إله إلا الله. وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويصلون ويدعون الإسلام. وكذلك الذين حرقهم علي بن أبي طالب بالنار، وهؤلاء الجهلة مقرون أن من أكر البعث كُفَّر وقُتل ولو قال: لا إله إلا الله، وأن من جحد شيئًا من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها، فكيف لا تنفعه إذا جحد فرعًا من الفروع، وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أصل دين الرسل ورأسه؟
    ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث: فأما حديث أسامة، فإنه قتل رجلًا ادعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادعى الإسلام إلا خوفًا على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يُتبين منه ما يُخالف ذلك).
    المقصود: هل يستدل بهذا أحد على أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وعلى رضي الله عنه، بأنهم قتلوا من قال لا إله إلا الله؟ هل يصح استدلالهم بحديث أسامة؟ الجواب: لا يصح، لكن قتلوهم لما قام فيهم من الناقض من الكفر من الشرك، قوتلوا بذلك، ولم يُقبل منهم قول: لا إله إلا الله.
    وهؤلاء اليهود يعرفون لا إله إلا الله، بل اعترض حبرٌ منهم على الصحابة، فقال: إنكم تشركون تقولون: ما شاء الله وشاء محمد تقولون والكعبة، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا: ما شاء الله وما شاء محمد، قال: قولوا: «ما شاء الله وحده» وقولوا: «ورب الكعبة»([29]) دلَّك كله على أنهم يعرفون التوحيد، ومع ذلك قاتلهم لما قام فيهم من النواقض الأخرى، وكذلك المرتدون، وكذلك من قاتلهم علي رضي الله عنه، وكذلك من يأتي فيه ناقض آخر من إنكار البعث، أو جحد ما جاء به الرسول، أو جحد أركان الإسلام، أو غيرها من قواطع الدين والمعلوم من الدين بالضرورة، فإنهم يقاتلون ويُكفرون من ولي أمر المسلمين أو من له الصلاحية من القضاة والأمراء ونحوهم فقط!.
    قال رحمه الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا } [النساء: 94]. أي: فتثبتوا. فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت، فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل، لقوله تعالى: {فَتَبَيَّنُوا }. ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبت معنى).
    وهذه جاءت في الصحيحين، أن غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق رجلُ من المشركين فاتبعه أسامة ورجل من الأنصار رضي الله عنهما فلما رأى بارقة السيف على رأسه قال: أشهد أن لا إله إلا الله فكف الأنصاري، لكن أسامة وكان شابًا يافعًا لأنه مات النبي صلى الله عليه وسلم وعمره ثمانية عشرة سنة، فضربه أسامة فبلغ الخبر النبي عليه الصلاة والسلام فغضب على أسامة وأنكر عليه قال: «أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله»، قال: يا رسول الله ما قالها إلا خوفًا من القتل، قال: «هلا شققت عن قلبه، كيف بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة»؟!([30]) ثم عذر النبي صلى الله عليه وسلم أسامة رضي الله عنه وودى المقتول، أي: دفع ديته إلى أهله ولم يقم صلى الله عليه وسلم على أسامة الحدَّ؛ لأنه قتله متأولاً، وودى المقتول دفع ديته، دلالة على أن هذا الأمر والحكم بإزهاق الناس لا يُتسرع إليه ولا يُبادر إليه بل يكون على وضوح كوضوح هذه البيضاء التي عرى رؤوسكم. ولا يدل الحديث والآية على أنه لا يُكفر أبدًا من قال: لا إله إلا الله أبدًا.
    قال رحمه الله تعالى: (وكذلك الحديث الآخر وأماله معناه ما ذكرناه أن من أظهر التوحيد والإسلام وجب الكف عنه إلى أن يتبين منه ما يناقض ذلك، والدليل على هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله».
    وقال: «أمرت أن أقُاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله»).
    قوله رحمه الله: (وكذلك في الحديث الآخر) يعني حديث ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما «أمرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها»([31]).
    قال رحمه الله تعالى: (هو الذي قال في الخوارج: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلًا وتسبيحًا، حتى أن الصحابة يحقرون صلاتهم عندهم، وهم تعلموا العلم من الصحابة، فلم تنفعهم لا إله إلا الله، ولا كثرة العبادة ولا ادعاء الإسلام ما ظهر منهم مخالفة الشريعة).

    قال رحمه الله تعالى: وكذلك ما ذكرناه من قتال اليهود، وقتال الصحابة بني حنيفة، وكذلك أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يغزو بني المُصطلق لما أخبره رجل أنهم منعوا الزكاة حتى أنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } [الحجرات: 6] وكان الرجل كاذبًا عليهم.
    وكل هذا يدل على أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي احتجوا بها ما ذكرناه.
    قوله رحمه الله: (كذلك ما ذكرناه من قتال اليهود وقتال الصحابة) من أنهُ إذا قام بلا إله إلا الله، وقام بحقها، أما إذا لم يقم بحقها فلا،

    قال رحمه الله تعالى: (ولهم شبهة أخرى: وهو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس يوم القيامة سَيَتَغَيَّثون بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، فكلهم يعتذرون حتى ينتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركًا).
    12 – الشبهة الثانية عشرة:
    ومؤداها وباعتها: انظروا إلى أهل الباطل كيف يبحثون عن تبرير لشركهم ولو في أشياء محتملة، مع أن هذا المعنى الذي أشاروا إليه بعيد من هذا الحديث، وهذا إنما يكون يوم القيامة ليس في الدنيا، ولو كان في الدنيا مشروع سائغ لاستغاث الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم لما أصابتهم الخطوب المدلهمة وتكالبت عليهم الأعداء، ومع ذلك ما فعلوا ذلك، بل إنهم كادوا أن يهلكوا من شدة العطش ومع ذلك؛ استغاثوا بالله جل وعلا وتوسلوا بدعاء صالحيهم من الأحياء: بالعباس وهو حي!، فلماذا ذهبوا إلى من هو أقل فضلًا ورتبة وشرفًا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عمه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وتركوا ولم يتوجهوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولم يقولوا: يا نبي الله اشفع لنا؟! استسق لنا؟! فهل هؤلاء أصح فهومًا وأدق أفهامًا وعلومًا من الصحابة؟!! حاشا والله، لكن هؤلاء أهل شبه وتلبيس وتدليس على الناس ليزينوا لهم ويسوغوا لهم وقوعهم باشرك، ولا ينكر عليهم أهل التوحيد والإيمان. فهو منهم تبريرًا لأهوائهم وحماية لمنافعهم ومكتسباتهم من تعظيم المقامات والانتصار للذات والعقائد الفاسدة التي هم عليها، فتنبه لهذا المعنى وتأمله فهو بيت القصيد! والله المستعان. فهؤلاء مرجئة مع هؤلاء القبوريين مرجئة مع المشركين لا يُنكرون عليهم بل يعتقدون أنهم إما على حق وأنهم على مباطل لكن ما يستحقون الشرك ولا الكفر بالله جل وعلا.
    وهم خوارج مكفرة لأهل الإيمان والتوحيد أهل السنة والجماعة.
    قال رحمه الله تعالى: والجواب: أن نقول سبحان من طبع على قلوب أعدائه، فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها؛ كما قال الله تعالى في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى } [القصص: 15] وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب أو غيره في أشياء يقدر عليها المخلوق، ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله.
    إذا ثبت ذلك، فاستغاثتهم بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف.
    وهذا جائز في الدنيا والآخرة، وذلك أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك، ويسمع كلامك، فتقول له: ادع الله لي، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه الدعاء في حياته.
    وأما بعد موته فحاشا! وكلا! أنهم سألوه ذلك عند قبره، بل أنكر السلف الصالح على من قصد دعاء الله عند قبره، فكيف بدعائه نفسه!!!
    كما نقل مثل ذلك عن مالك رحمه الله وغيره، وحكي عليه اتفاق السلف غير واحد!.
    وهذا سبق أن قررناه غير مرة أن الاستغاثة من الحي القادر الذي يستطيع أن يعينك ويسمع كلامك وينصرك جائز كما قال تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ }، وكذلك يوم القيامة النبي يسمعك، حيث يأتون آدم ثم نوحا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإنهم يسمعونهم، لا أنه يدعوهم بعد موتهم، بعد مغادرتهم للدنيا، وبعد انفصال الدارين: دار الدنيا عن دار البزرخ بعضها عن بعض؛ فإن هذا هو الشرك الذي حذرهُ الصحابة ولم يقع من أحد منهم البتة.
    قال رحمه الله تعالى: (ولهم شبهة أخرى: وهي قصة إبراهيم لما أُلقي في النار اعترض له جبريل في الهواء، فقال له: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا.. قالوا: فلو كانت الاستغاثة بجبريل شركًا لم يعرضها على إبراهيم؟ فالجواب: أن هذا من جنس الشبهة الأولى، فإن جبريل عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدرُ عليه، فإنه كما قال تعالى فيه: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } [النجم: 5] فلو أذن الله له أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها من الأرض والجبال ويُلقيها في المشرق أو المغرب لفعل، ولو أمره أن يضع إبراهيم في مكان بعيد عنهم لفعل، ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل، وهذا كرجل غني له مال كثير، يرى رجلًا محتاجًا فيعرض عليه أن يقرضه أو أن يهبه شيئًا يقضي به حاجته فيأبى ذلك المحتاج أن يأخذ ويصبر إلى أن يأتيه الله برزق لا منة فيه لأحد، فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون؟!).
    13 – الشبهة الثالثة عشرة:
    وهي الأخيرة وخلاصتها ومقصودها: جبريل أهو حي أو ميت؟! أيسمعه أولا يسمعه؟ لكن نسأل الله أن لا يطبع على قلوبنا وأن لا يضلنا بعد إذ هدانا، وهذا ظاهر ف يكشفها، وهي أن الاستغاثة لو حصلت من إبراهيم بجبريل عليهما الصلاة والسلام فإنه يقدر عليه ويسمعه، وهي من الاستغاثة الجائرة.
    وأما أنها لم تحصل لأن إبراهيم عليه السلام إنما فوض أمره إلى ربه ومعبوده لكمال إيمانه وتوحيده وتقواه فوض الأمر إلى الله وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
    ولذا ثبت في الصحيح([34]) قول ابن عباس رضي الله عنهما: «حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم، حين قال لهم الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران]
    قال رحمه الله تعالى: (ولنختم الكلام. إن شاء الله تعالى. بمسألة عظيمة مهمة جدًا تفهم مما تقدم، ولكن نفرد لها الكلام لعظم شأنها، ولكثرة الغلط فيها، فنقول: لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلمًا، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما).
    إذا أفرد الكلام عليهما لعلتين:

    1 – لعظم شأنها.

    2 – ولكثرة الغلط فيها.
    قال رحمه الله تعالى: (وهذا يغلط فيه كثير من الناس، يقولون هذا حق، ونحن نفهم هذا، ونشهد أنه الحق، ولكنا لا نقدر أن نفعله، ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم، أو غير ذلك من الأعذار).
    والمقصود: هل هذا عذر مقبول؟ الجواب: لا ليس مقبولًا.
    فإذا عرفت التوحيد فاعمل به، ولا تبرر الشرك لأهله، أو تسوغه لهم، او تعذرهم به، فما دام أنك عرفت التوحيد فاعمل به وقُل به إلا أن تكون مكرهًا، كأن يكون السيف على رأسك في حالة من حالات الإكراه؛ فعندئذ تُعذر في الظاهر! لكن قلبك لا بد أن يكون منشرحًا في التوحيد.
    وانتبه إلى قاعدة شريفة، وهي: أن الإكراه بالقول والفعل، ولا يصح بالاعتقاد؟ لأن الاعتقاد لا يطلع عليه إلا الله جل وعلا.

    قال رحمه الله تعالى: (ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق، ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار كما قال تعالى: {اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا } [التوبة: 9] وغير ذلك من الآيات، كقوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [البقرة: 146]. فإن عمل بالتوحيد عملًا ظاهرًا وهو لا يفهمه، أو لا يعتقده بقلبه فهو منافق، وهو شر من الكافر الخالص؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ } [النساء: 145] إن كان لا يفهمه لعجمته فهذا معذور بينه وبين الله، وإن كان لا يفهمه لتقصيره فهذا لا يعذره!).
    وهذا الذي عناه الشيخ، لا يفهمه هؤلاء وأمثالهم لأنهم قصروا في معرفته، ولم يهتموا به، فهذا لا يُعذر عند الشيخ، وهذا ظاهر في بداهة العقل، وفي ظاهر وصراحة النص.
    قال رحمه الله تعالى: (وهذه المسألة كبيرة وطويلة تتبين لك إذا تأملتها في السنة الناس ترى من يعرف الحق ويترك العمل به لخوف نقص دُنيا أو جاه، أو مدارة لأحد.
    وترى من يعمل به ظاهرًا لا باطنًا، فإذا سألته عما يعتقده بقلبه فإذا هو لا يعرفه، ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله: أولاهما: قوله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [التوبة: 66] فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزو الروم مع الرسول صلى الله عليه وسلم كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب، تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر، أو يعمل به خوفًا من نقص مال، أو جاه، أو مداراة لأحد أعظم ممن يتكلم بكلمة يمزح بها، وأولئك يعدون في الجملة من الصحابة حتى تبين حالهم بمقالتهم، ومن تاب منهم تاب الله عليه.
    والآية الثانية: قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } [النحل] فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئنًا بالإيمان. وأما غيره هذا فقد كفر بعد إيمانه سواء فعله خوفًا أو مداراة، أو مشحة بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله، أو فعله على وجه المزح، أو لغيره ذلك من الأغراض إلا المكره).[على بن عبد العزيز الشبل]

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: كشف شبهات المشركين للإمام محمد بن عبد الوهاب

    شبهة تكاد تكون مشتركة بين طوائف المشركين في مختلف الأمم، وهي شبهة الاحتجاج بما كان عليه الآباء والأجداد، وأنهم ورثوا هذه العقيدة خلفا عن سلف، كما قال الله تعالى عنهم: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}

    وهذه حجة يلجأ إليها من يعجز عن إقامة الدليل على دعواه، وهي حجة داحضة، لا يقام لها وزن في سوق المناظرة؛ فإن هؤلاء الآباء الذين قلدوهم ليسوا على هدى، ومن كان كذلك؛ لا تجوز متابعته والاقتداء به.

    قال تعالى ردا عليهم: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} ، وقال تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} وقال تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}

    وإنما يكون الاقتداء بالآباء محمودا إذا كانوا على حق:

    كما قال تعالى عن يوسف عليه السلام أنه قال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}

    وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُم ْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}

    وشبهة الاحتجاج بما كان عليه الآباء الضالون متغلغلة في نفوس المشركين، يقابلون بها دعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:

    فقوم نوح لما قال لهم نوح: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} ، فجعلوا ما عليه آباءهم حجة يعارضون بها ما جاءهم به نبيهم نوح عليه السلام.

    وقوم صالح عليه السلام يقولون له: {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}

    وقوم إبراهيم يقولون له: {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}

    وفرعون يقول لموسى عليه السلام: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى}

    ومشركو العرب يقولون لمحمد صلى الله عليه وسلم لما قال لهم: قولوا: لا إله إلا الله! قالوا: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ}

    ثانيا:

    ومن الشبه التي يدلي بها عباد القبور اليوم ظنهم أن مجرد النطق بلا إله إلا الله يكفي لدخول الجنة، ولو فعل الإنسان ما فعل؛ فإنه لا يكفر وهو يقول: لا إله إلا الله، متمسكين بظواهر الأحاديث التي ورد فيها أن من نطق بالشهادتين حرم على النار.

    والجواب عن هذه الشبهة: أن هذه الأحاديث ليست على إطلاقها، وإنما هي مقيدة بأحاديث أخرى جاء فيها أنه لا بد لمن قال: لا إله إلا الله: أن يعتقد معناها بقلبه ويعمل بمقتضاها فيكفر بما يعبد من دون الله.

    كما في حديث عتبان: (فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله) . وإلا؛ فالمنافقون يقولون: لا إله إلا الله بألسنتهم، وهم في الدرك الأسفل من النار، ولم ينفعهم النطق بلا إله إلا الله؛ لأنهم لا يعتقدون ما دلت عليه بقلوبهم.

    وفي "صحيح مسلم": (من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه، وحسابه على الله) . فعلق النبي صلى الله عليه وسلم حرمة المال والدم على أمرين: الأول: قول لا إله إلا الله، والثاني: الكفر بما يعبد من دون الله، ولم يكتف بمجرد النطق بلا إله إلا الله، فدل على أن الذي يقول لا إله إلا الله ولا يترك عبادة الموتى والتعلق بالأضرحة؛ لا يحرم ماله ولا دمه.

    ثالثا:

    ومن الشبه التي يدلون بها أيضا: دعواهم أنه لا يقع في هذه الأمة المحمدية شرك وهم يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن هذا الذي يمارسونه عند الأضرحة من عبادة الموتى ودعائهم من دون الله لا يسمى شركا عندهم.

    والجواب عن هذه الشبهة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون في هذه الأمة مشابهة لليهود والنصارى فيما هم عليه، ومن جملة ذلكم اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنها لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمته بالمشركين، وحتى تعبد فئات من أمته الأوثان، وقد حدث في هذه الأمة من الشرك والمبادئ الهدامة والنحل الضالة ما خرج به كثير من الناس عن دين الإسلام، وهم يقولون لا إله إلا الله...

    رابعا:

    ومن الشبه التي تعلقوا بها قضية الشفاعة؛ حيث يقولون: نحن لا نريد من الأولياء والصالحين قضاء الحاجات من دون الله، ولكن نريد منهم أن يشفعوا لنا عند الله، لأنهم أهل صلاح ومكانة عند الله؛ فنحن نريد بجاههم وشفاعتهم.

    والجواب: أن هذا هو عين ما قاله المشركون من قبل في تبرير ما هم عليه، وقد كفرهم الله وسماهم مشركين؛ كما في قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}

    والشفاعة حق، ولكنها ملك لله وحده؛ كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} ؛ فهي تطلب من الله لا من الأموات؛ لأن الله لم يرخص في طلب الشفاعة من الملائكة ولا من الأنبياء ولا غيرهم؛ لأنها ملكه سبحانه، وتطلب منه؛ ليأذن للشافع أن يشفع، وليس الأمر كما هو عند المخلوقين من تقدم الشفعاء لديهم بدون إذنهم، ويضطرون إلى قبول الشفاعة لحاجتهم إليهم، وإن لم يرضوا عن المشفوع فيه؛ لأنهم يحتاجون إلى الأعوان والوزراء، أما الله سبحانه؛ فلا يشفع أحد إلا بإذنه ورضاه عن المشفوع فيه؛ قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}

    خامسا:

    ومن شبه هؤلاء أنهم يقولون: إن الأولياء والصالحين لهم مكانة عند الله، ونحن نسأل الله بجاههم ومكانتهم.

    والجواب: أن المؤمنين كلهم أولياء الله، ولكن الجزم بشخص معين أنه ولي لله يحتاج إلى دليل من الكتاب والسنة، ومن ثبت ولايته بالكتاب والسنة؛ لم يجز لنا الغلو فيه والتبرك به؛ لأن ذلك من وسائل الشرك، والله أمرنا بدعائه مباشرة دون اتخاذ وسائط بيننا وبينه، ولأن هذا هو التعليل الذي علل به المشركون من قبل أنهم اتخذوا هؤلاء شفعاء ووسائط بينهم وبين الله يسألون الله بجاههم وقربهم، فأنكر الله عليهم ذلك.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •