استثمار اللغة في البناء المعرفي لعلم مقارنة الأديان.. كيف غاب هذا الوجه؟!
د.خالد فهمي

كان أمرًا عجيبا أن تغيب أو تكاد دراسات استثمار اللغة وما قامت به من أثر جبار في دعم بناء واحد من أمس العلوم رحما بالدعوة الإسلامية بمعناها الواسع، ألا وهو علم مقارنة الأديان.
كان عجيبا أن يغيب هذا الوجه في غالب دراسات هذا العلم في العصر الحديث مع ظهوره واستعلانه في أدبيات هذا العلم عند مؤسسيه من عباقرة الإسلام الأوائل من مثل ابن حزم الأندلسي (ت 456هـ) وأبي حامد الغزالي (ت 505هـ) وغيرهما.
صحيح أن مداخل أخرى مهمة تجلت في أدبيات هذا العلم في العصر الحديث وتنامت أشكال العناية بها.

انشغل أهل العلم في هذا الباب ببيان مراحل نشأته وتطوره، وكان مما ظهر النص على أن ابتكار هذا العلم من مفاخر المسلمين على حد تعبير د.أحمد شلبي- رحمه الله- في كتابه: مقارنة الأديان والاستشراق (ص10).

وقد كان من شأن هذا المدخل الكشف عن موقفين متوازيين من النظر الإسلامي للملل الأخرى يسيران جنبا إلى جنب في غير تعارض ولا تناقض، كان أولهما نظريا يهدف إلى تأسيس الإيمان الإسلامي في قلوب من آمن بالإسلام عن طريق استجماع الأدلة المفضية إلى الحكم بأن الإسلام هو الدين الحق، وهو الدين الخاتم، وهو الدين الوريث، وهو الدين المهيمن على غيره، وهو من هذا المنظور الدين الذي لا دين سواه على ما جاء وصرح به الذكر الحكيم في غير موضع من مثل قوله تعالى {إن الدين عند الله الإسلام} (آل عمران: 19) ومن مثل قوله جل وعلا {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه} (آل عمران: 85).
وكان آخر الموقفين عمليا وواقعياً مبدأ حاكما عاما تمثل في كفالة الحريات العامة والخاصة وعلى رأسها حرية الاعتقاد، وهو المتمثل في الاعتراف بالوجود لغير المسلمين ممن عرفوا تاريخيا تحت اسم جامع هو أهل الذمة، وهذان الجانبان العلمي (النظري) والعملي (الواقعي) غير متناقضين؛ ذلك أن تأسيس الإيمان في قلوب من اختار الإسلام شيء، وترك الآخر وما اختاره لنفسه شيء آخر.
صحيح أن ثمة حوارا ممكنا حول كثير من نقاط الخلاف المعرفية والعقدية ربما تفرضه طبيعة الحوار بين المسلمين وغيرهم في البقعة الواحدة، وهذا الممكن هو بعض الذي رشح ظهور علم مقارنة الأديان بدعم قرآني واضح في قوله تعالى {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} والنهي هنا متوجه إلى طريقة المجادلة، وهو بعض ما يثبت قاعدة المجادلة ولا ينفيها.

المدخل المنهجي
وفي هذا السياق انشغل أئمة هذا العلم حديثا، وبعض هذا الانشغال تأسيس على ما توارد عليه أئمته قديما- فظهرت العناية بالأصول المنهجية التي يلزم السير في طريقها، وتكاد أن تكون مباحث المنهج والمصادر هي المهيمنة على إرشادات هذا المدخل، بحيث يهتم هذا المدخل ببيان أنواع المناهج والمعالجات بشكل يجعل الموضوع المفرد هو عصب الموضوع مشكل الدراسة، بمعنى أنه من الممكن مثلا إفراد موضوع كرؤية الأديان المختلفة لموضوع «الله» والخروج بنتائج تضع الأمور في نصابها إنصافا لما يستحق الإنصاف من أفكار الملل المختلفة بإزائه من مثل ما صنع العقاد مثلا، أو من مثل ما صنع موريس بوكاي عندما أفرد للعلم مؤلفه المهم بالدراسة في الأديان الثلاثة عبر كتبها المعروفة، الأمر الذي قاده إلى إقرار التميز اللانهائي للنص القرآني العزيز من حيث أصالة مصدره، ومن حيث أصالة تفرده، ومن حيث بقائه مصانا محفوظا، ومن حيث كونه الكتاب الوحيد الذي يعلن عن علم الله سبحانه من غير تدخل بشري!
وقد أفاضت أدبيات هذا العلم نظريا وتطبيقيا قديما وحديثا في إلزام المقارنين بضرورة العودة إلى المصادر الأصيلة لأديان محل المقارنة والدراسة وهو أمر- وإن بدا بديهيا وطبيعيا- يلزم النص عليه وتأكيده.
وليس هذا الوجه هو الوجه الوحيد الممكن في دراسات الأديان المقارنة وإن كان أجداها وأكثرها ملاءمة للذائقة العلمية المعاصرة.

المدخل الموضوعي (العلمي)
وهو عصب هذا العلم الإسلامي الفريد الذي تجلت في كل أدبياته عبر تاريخ المسلمين قديما وجديدا مجموعة من غاياته المهمة يمكن إجمال بعضها فيما يلي:
1- الغاية الدينية، وتتمثل في بيان الحق الذي انحرفت به أيد بشرية بسبب من عوامل كثيرة في مناطق مختلفة من ديانات العالم، وهو الأمر الذي أثبتت نتائجه التفوق الظاهر لدين الإسلام باعتباره الدين الخاتم الحق المصون بالقدرة الإلهية، وهي غاية تعريفية دعوية من جانب ودفاعية جهادية بسلام العلم من جانب آخر.
2- الغاية الهدائية: وتكشف هذه الغاية في استثمار نتائج الغاية السابقة بمعنى أنه ترتب على إثبات كون الدين الإسلامي هو كلمة الله العليا المصونة من التحريف، والفساد أمر مهم جدا هو تفتح عدد من القلوب والعقول على هذه النتيجة فقادت خطاها نحو طريق الإقبال على الله، والإيمان به وفق المنظور الإسلامي، وهو المشهد المتكرر في حياة العقيدة الإسلامية إلى الآن.
3- الغاية العلمية: وقد تجلت هذه الغاية في التطوير الذي استمر في داخل أروقة هذا العلم في الحواضر الإسلامية المختلفة، وهو بعض ما قاد إلى تنوع في الموضوعات المدروسة تبعا لاختلاف الأقاليم، حيث ظهرت في العراق والشام مثلا دراسات تتعلق بمقارنة الملل والفرق بالإسلام وبيان ما في أفكارها من تهافت وانحراف، على حين تجلت دراسات علم مقارنة الأديان في الأندلس على يد ابن حزم مثلا في عنايتها بمقارنة اليهودية والرد عليها في ضوء المعرفة الإسلامية.
4- الغاية الحضارية: كان من أهم دراسات علم الأديان المقارن في العصر الحديث الكشف عن وجه حضاري مائز في البيئة الإسلامية تمثل في القدرة الظاهرة للمعرفة الإسلامية على إنتاج علوم لم يكن للعالم سبق عهد بها، وهو الأمر الذي يدل على مثال له علم الأديان المقارن، وهو ما قاد كثيرًا من دارسي الحضارات في الشرق والغرب إلى الاعتراف بأن هذا العلم واحد من مبتكرات العقل الإسلامي في اهتدائه بالنسق القرآني.
وثمة غايات أخرى يمكن أن تنضاف إلى ما سبق مع حسن العناية بمقررات هذا العلم في الأكاديميات المختلفة عالميا تسهم في تقدم علوم كثيرة، ولاسيما في مجالات دراسة ثقافات الشعوب، وولاءاتها، وتوجهاتها وفي مجالات دراسة العلاقات الخارجية بين الدول، وفي دراسات التفاوض السياسي، وفي دراسات التجارة الخارجية، وحوارات الحضارات وغيرها.

المدخل اللغوي
في هذا المضمار استثمرت أدبيات هذا العلم صنوفا متنوعة من المعرفة المنتمية لتخصصات مختلفة كان أكثرها بروزا، ولاشك، العلوم التالية:
1- العلوم الشرعية، ولاسيما ما تعلق منها بالقرآن الكريم بما هو المصدر الأصيل الذي انبنت عليه هذه الشريعة الإسلامية السمحة بحيث صارت المعرفة بالتفسير وبعلومه المحيطة به أمرًا أكثر من واجب!
وقد كان لعلم الاعتقاد (العقيدة) في مناهجه وأطواره المختلفة أثر مهم في تطوير علم مقارنة الأديان بشكل حاسم وفائق في الوقت نفسه.
ينضاف إلى ذلك إسهامات علم الحديث النبوي الشريف (الرواية) وهو المتمثل في المدونات النصوصية الشارحة والمفصلة لما ورد في الكتاب العزيز، أو الدراسة المتمثلة في المعرفة التفصيلية بأحوال النصوص صحة وضعفا وبأحوال الرواة كذلك.
2- العلوم العقلية المتمثلة في استثمار عدد من إسهامات علوم من مثل الفلسفة والمنطق والرياضيات في بيان ما انطوت عليه كثير من الأديان السابقة في مواجهة الإسلام من تناقضات واضطرابات واختلافات، ولعل من أكثر العلوم إسهاما في بناء صرح هذا العلم ما نراه من إسهام علوم المنطق والفلسفة والجدل والمناظرة، وفرع النقد الخارجي من علوم التاريخ والطبقات والرجال؛ ذلك أن مبحثا مهما جدا من مباحث علم الأديان المقارن انصب على بيان ما امتاز به القرآن الكريم في مواجهة غيره من كتب الملل السابقة فيما يتعلق بطريق وصوله إلينا، وهو الأمر المفقود في وصول الكتب السابقة إلى الناس بطريق غير موصول بمن تنزلت عليهم.
وقد تبدت بعد هذين النوعين من العلوم إسهامات غاية في الأهمية للمعرفة اللغوية يصح أن نقرر في ضوئها أن كثيرا من تماسك هذا العلم كان سيتعرض للخطر الحقيقي لو لم تظهر اللغة بإسهاماتها المختلفة في أجوائه.
وبالإمكان أن نقرر أن المعرفة اللغوية تجلت تجليا واضحا عبر مستويات أساسية كان أثرها الفاعل في تشكيل بناء هذا العلم، ويمكن اختصارها في المحاور التالية:
أ- مستوى المعجم (إسهام المعرفة بالمعجم في خدمة علم الأديان المقارن)
ب- مستوى النحو (إسهام المعرفة بالنحو في خدمة علم الأديان المقارن) وفي فحص أثر هذين المحورين بما أمدّاه لهذا العلم من معارف يظهر أثر غير منكور لهما في بناء هيكله وتشكيل صرحه.
ومن الأمثلة الواضحة لاستثمار المعرفة بالمعجم (متن اللغة) في دراسات علم الأديان المقارن ما يواجهنا به ابن حزم في رسالة «الرد على ابن النغريلة اليهودي» (ضمن رسائل ابن حزم، تحقيق د.إحسان عباس- رحمه الله، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ببيروت 1981م 3-43): من أن اللجوء إلى بادي الألفاظ قبل تطلب وجوه التأويل قد يكون طريقا حاسما في بيان الأخطاء الكثيرة في كثير من الاتهامات التي وجهها هذا اليهودي إلى القرآن الكريم.
وفي اتجاه آخر يكشف ابن حزم- رحمه الله- عن الأهمية القصوى للمعرفة النحوية في بناء علم مقارنة الأديان، فيقرر في الرد على ابن النغريلة الذي يدعي أن محمدًا- صلى الله عليه وسلم- كان في شك من أمره اعتمادًا على حمل إن في قوله تعالى { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك} (يونس: 94) فيقول (3/53) «كان يلزم هذا... ألا يتكلم في لغة لا يحسنها... وليعلم أن إن في هذه الآية ليست التي بمعنى الشرط... وإنما معنى إن هاهنا الجحد فهي هنا بمعنى «ما» وهذا المعنى هو أحد موضوعاتها في اللغة العربية»!
ويتضح من هذا المثال كيف أن استثمار المعرفة اللسانية أو اللغوية هي الباب أو المفتتح الأول الواجب استثماره في دراسات الأديان المقارنة، وبيان انحرافات أهل الملل والنحل والفرق في قياس أفكارها المدعومة بتأويلات أهلها للنصوص القرآنية، وفي هذا السياق تقترح الورقة مما تبدى من عناية مؤلفات الأديان المقارنة والردود على أهل الملل في التراث الإسلامي- ما يلي:
- ضرورة صناعة معجم يرصد الدلالات التي وضعها أهل هذه الفرق والملل والديانات بإزاء عدد ضخم من المفردات حتى صح أن نقرر أن لأهل هذه الاتجاهات معجما خاصا، وهو ما يدعونا إلى جمع مادته وتحريره وتوثيق نقوله، وفيما يلي نموذج مصغر لبعض مادة هذا المعجم المقترح مستخرج من كتاب فضائح الباطنية، لأبي حامد الغزالي، مرتبة هجائيا على منطوقها:
> التلبية = إجابة الداعي إلى مذهبهم.
> الجنابة = مبادرة المستجيب بإفشاء سر إليه قبل وصوله إلى مرتبة استحقاقه لهذا.
> الزنا = إلقاء نطفة العلم الباطنة في نفس من لم يسبق معه عقد العهد.
> الصيام = الإمساك عن كشف الأسرار.
> الطهور = التنظف من كل معتقد سوى معتقدات الباطنية.
> الغسل = تجديد العهد على من أفشى سرًّا إلى من لا يستحقه.
وتأمل هذه المفردات التي وُضعت لها معان خاصة في أدبيات قطاع كبير من مؤلفات الملل والنحل والأديان الأخرى قائد إلى استنباط الغايات الصريحة من ورائها وهي إسقاط التشريع، وإسقاط التكاليف، والتحرر من كل قوانين الشريعة، وإشاعة الانحلال الأخلاقي، هذا جانب، ومن جانب آخر فإن كشف ما أصاب هذه الدلالات من تحريف وفساد لن يتم إلا بمعرفة عميقة بتاريخ المعجمية العربية قبل الإسلام وفي ظلاله الكريمة.
واستمداد معلومات المعجمية واستثمارها في هذا التراث أمر ظاهر فاش في أدبياته المختلفة وهو ما نرى مثالا واضحا عليه في الملل والنحل للشهرستاني وهو يتتبع تاريخ تطور كلمتي (الأب/ الابن) في اعتقاد النصرانية حيث بيّن أن الكلمتين كانتا تستعملان استعمالا مجازيا، أي على غير الحقيقة، يقول (237) «وأطلقوا لفظ الأبوة والبنوة على الله عز وجل وعلى المسيح... ولعل ذلك من مجاز اللغة، كما يقال لطلاب الدنيا: أبناء الدنيا، ولطلاب الآخرة: أبناء الآخرة». وظل هذا المعنى مستقرا حتى المؤتمر الذي تزعمه آريوس.
وفي هذا الذي نقلته دليل على العناية البالغة بمعلومات المعجم إلى حد مثير للدهشة والإعجاب معًا.
وقد استمر أمر استثمار المعرفة اللغوية في غير ما مستوى حتى العصر الحديث على ما نرى من اللجوء إلى دراسات تتعلق بمبحث العلم الإنساني فيما فعله مونتي مثلا في إثبات مصرية العلم النبوي موسى على ما نقل موريس بوكاي في كتابه الشهير عن العلم في الكتب الثلاثة القرآن والتوراة والإنجيل.
وفحص هذا المنجز المعرفي في هذا الباب المهم جدًّا من أبواب العلم ولاسيما في هذا العصر النكد الذي يتهم فيه الإسلام في غير موطن من مواطن العالم قائد إلى الكشف عن جهد ضخم، وعن معلومات لغوية تتعلق بالمعجم والدلالة، وبالصرف وبالأبنية ودلالاتها وخصائصها وبالتراكيب وبوظائف المواقع النحوية المختلفة وخصائص الأساليب اللغوية- أسهمت في بيان أن القرآن هو كلمة الله العليا، وأنه كلمة الحق، وأن الإسلام هو دينه الخاتم المهيمن الوارث المصحح لمسيرة الحياة الإنسانية في سعيها على هذه الأرض مهتدية بمنهج السماء.