جهود العلماء في حفظ السنة
( الجزء الاول )
حكمت الحريري

علمت مما ذكرناه في الحلقة السابقة مكانة السنة المطهرة في دين الإسلام، فهي أس العلوم الشرعية ومفتاحها، ومشكاة الأدلة السمعية ومصباحها، ومبنى شرائع الإسلام وأساسها، لأن علوم القرآن وعقائد الإسلام بأسرها وأحكام الشريعة بتمامها تتوقف على بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وما لم تكن أمور العبادة مرتبطة بذلك فلا يعتمد عليها ولا يصار إليها. قال - تعالى -: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة))، ((النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم))، ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليماً))، ((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)).

وعلمت أيضاً كيف كان هدي السلف الصالح رضوان الله عليهم في التمسك بالسنة والحرص على التزامها والعمل بها ومحبة صاحبها - عليه الصلاة والسلام -. فعن عمر بن الخطاب قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد - وهي من عوالي المدينة - وكنا نتناوب النزول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك، فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته فضرب بابي ضرباً شديداً، فقال: أثمّ هو؟ ففزعت فخرجت إليه فقال: قد حدث أمر عظيم.. قال: فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي، قلت: طلقكن رسول الله؟ قالت: لا أدري، ثم دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت وأنا قائم: أطلقت نساءك؟ قال: لا، فقلت الله أكبر[1].

وأمثلة أخرى ذكرتها من قبل يظهر من خلالها حرص الصحابة على اتباع السنة.

ولما كان شأن السنة كذلك فقد قيّض الله - تعالى - في كل قرن لها رجالاً بذلوا من أجلها النفس والنفيس والغالي والرخيص، وركبوا من أجلها الصعب والذلول، وآثروا قطع المفاوز والقفار وتنعموا بالبؤس في الأسفار مع مساكنة أهل العلم والأخبار، وقنعوا عند جمع الأحاديث والآثار بوجود الكسر والأطمار، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.

فقد جعلهم الله - تعالى - أركان الشريعة، وهدم بهم كل بدعة شنيعة، فهم أمناء الله من خليقته، والواسطة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته، والمجتهدون في حفظ ملته، فإن كل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأياً تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث، فإن الكتاب عدتهم والسنة حجتهم، من كادهم قصمه الله، ومن عاندهم خذله الله.

ومن أراد أن يعرف حق المحدثين ومن سلك مسلكهم لحفظ سنة سيد المرسلين واجتهادهم في التحري للمسلمين فليتابع أخبارهم وليطالع مصنفاتهم في معرفة الرجال والعلل والأحكام وعلوم الحديث ومعرفة الحديث وطرقه إلى آخر ما هنالك من فنون ابتكروها وقواعد علمية سلكوها[2] طاعة لله ومحبة لرسول الله الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وإليك طرفاً من أخبار جهودهم في حفظ السنة شكر الله سعيهم:

1 - الرحلة في طلب الحديث[3]:
تذكر بعض كتب السير أن عدد الصحابة - رضي الله عنهم - في آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما حج حجة الوداع وكانوا معه إذ ذاك أكثر من مائة ألف[4]، وعندما تمت الفتوحات الإسلامية ومكن الله لعباده الصالحين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فتحت بلاد الشام والعراق ومصر، فتفرق الصحابة في تلك الأمصار ونشأ عن ذلك الرحلة في طلب الحديث إذ أن الصحابة والتابعين لم يكونوا على درجة واحدة في معرفة سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخباره.

فعن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاشتريت بعيراً ثم شددت عليه رحلي، فسرت إليه شهراً حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس فقلت للبواب: قل له جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله، قلت: نعم، فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديثاً بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال: "يحشر الناس يوم القيامة - أو قال العباد - عراه غرلاً بهماً"، قال: قلنا وما بهماً، قال: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحدٍ من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه حتى اللطمة"، قال: قلنا كيف وإنا إنما نأتي الله - عز وجل - عراة غرلاً بهماً قال: بالحسنات والسيئات"[5].

وعن عطاء بن أبي رباح قال: خرج أبو أيوب إلى عقبة بن عامر وهو بمصر يسأله عن حديث سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قدم أتى منزل مسلمة بن مخلّد الأنصاري وهو أمير مصر فأخبر به فعجل فخرج إليه فعانقه وقال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ قال: حديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبق أحد سمعه غيري وغير عقبة فابعث من يدلني على منزله، قال: فبعث معه من يدله على منزل عقبة فأخبر عقبة به فعجل فخرج إليه فعانقه وقال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبق أحد سمعه غيري وغيرك في ستر المؤمن، قال: نعم سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من ستر مؤمناً في الدنيا على خزية ستره الله يوم القيامة"، فقال له أبو أيوب صدقت، ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته فركبها راجعاً إلى المدينة فما أدركته جائزة مسلمة بن مخلّد إلا بعريش مصر[6].

وعن كثير بن قيس قال: كنت جالساً عند أبي الدرداء في مسجد دمشق فأتاه رجل فقال: يا أبا الدرداء أتيتك من المدينة مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحديث بلغني أنك تحدث به عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فما جاء بك تجارة؟ قال: لا، قال: ولا جاء بك غيره؟ قال: لا. قال: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:

"من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر"[7].

وعن ابن عباس قال: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت لرجل من الأنصار: هلم نسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجباً لك يا ابن عباس، أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من ترى؟ فترك ذلك، وأقبلت على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه فتسفي الريح علي التراب فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك، فأسألك، قال: فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس عليّ، فقال: هذا الفتى أعقل مني[8].

وعن عمرو بن ميمون الأودي قال: قدم علينا معاذ بن جبل اليمن رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلينا، قال: فسمعت تكبيره مع الفجر رجل أجش الصوت، قال: فألقيت عليه محبتي فما فارقته حتى دفنته بالشام ميتاً، ثم نظرت إلى أفقه الناس بعده فأتيت ابن مسعود فلزمته حتى مات فقال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيف بكم إذا أتت عليكم أمراء يصلون الصلاة لغير ميقاتها؟" قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك يا رسول الله؟ قال: صلّ الصلاة لميقاتها واجعل صلاتك معهم سبحة"[9].

وحدث عامر الشعبي رجلاً بحديث ثم قال له: أعطيناكها بغير شيء قد كان يركب فيما دونها إلى المدينة [10].

وعن محمد بن القاسم بن بشير: سمعت محمد بن يزيد النسوي العطار سمعت يعقوب بن سفيان يقول: كنت في رحلتي في طلب الحديث فدخلت إلى بعض المدن فصادفت بها شيخاً احتجت إلى الإقامة عليه للاستكثار عنه، وقلت نفقتي وبعدت عن بلدي فكنت أدمن الكتابة ليلاً واقرأ عليه نهاراً، فلما كان ذات ليلة كنت جالساً أنسخ وقد تصّرم الليل، فنزل الماء في عيني فلم أبصر السراج ولا البيت فبكيت على انقطاعي وعلى ما يفوتني من العلم فاشتد بكائي حتى اتكأت على جنبي فنمت فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم فناداني: يا يعقوب بن سفيان لِمَ أنت بكيت؟ فقلت: يا رسول الله ذهب بصري فتحسرت على ما فاتني من كتب سننك وعلى الانقطاع عن بلدي. فقال: ادن مني فدنوت منه فأمرّ يده على عيني كأنه يقرأ عليهما، قال: ثم استيقظت فأبصرت وأخذت نسخي وقعدت في السراج أكتب[11]. مات يعقوب بن سفيان سنة 277 ه.

وقال الحافظ أبو إسحاق بن حمزة: سمعت أبي يقول: كنت رحلت إلى يعقوب ابن سفيان فبقيت عنده ستة أشهر. فقلت: طال مقامي عندك ولي والدة، فقال: رددت الباب على والدتي ثلاثين سنة [12].

وقال سعيد بن المسيب: إن كنت لأسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد [13].

وقال أبو مسعود عبد الرحيم الحاجي: سمعت ابن طاهر المقدسي يقول: بلت الدم في طلب الحديث مرتين: مرة ببغداد ومرة بمكة المكرمة، كنت أمشي حافياً في الحر فلحقني ذلك، وما ركبت دابة قط في طلب الحديث، وكنت أحمل كتبي على ظهري وما سألت في حال الطلب أحداً، كنت أعيش على ما يأتي[14]. ولد محمد ابن طاهر المقدسي سنة 448 ه، وتوفي سنة 507 ه.

وعن علي بن أحمد الخوارزمي قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي حاتم يقول: كنا بمصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة كل نهارنا مقسم لمجالس الشيوخ وبالليل النسخ والمقابلة، قال: فأتينا يوماً وأنا ورفيق لي شيخاً فقالوا: هو عليل، فرأينا في طريقنا سمكة أعجبتنا فاشتريناه، فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس، فلم يمكنا إصلاحه ومضينا إلى المجلس فلم نزل حتى أتى عليه ثلاثة أيام وكان أن تغير فأكلناه نيئاً، لم يكن لنا فراغ أن نعطيه من يشويه، ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد[15]. ولد عبد الرحمن بن أبي حاتم سنة 241 ه، وتوفي سنة 327 ه.

هذا والأخبار في رحلات العلماء لطلب الحديث وتعلم السنة تفوق الحصر، فكيف يأتي شبعان مترف سمين فيجازف ويهوّن ويحط من شأن العلماء ويغمط جهودهم، هذا فعل المكذبين، فويل للمكذبين، فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله، الذين لا يعرفون أقدار الفضلاء ولا يجلونهم، إنه لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذووه، وقد علمت أيها القارئ اللبيب من خلال ما سبق ذكره عن الرحلات المضنية التي قام بها العلماء وذلك من فضل الله عليهم الذي أفرغ عليهم الصبر حتى حصلوا ما حصلوا من العلم والأجر، وإنما يقال لمبغضيهم ومنتقصي أقدارهم، يقال لهم: لا حظ لكم بهذه المكارم ولا صلة لكم بها، إنما يقال لهم:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها *** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

- - - - - - - - - - - - - -
[1] - صحيح البخاري، كتاب العلم، باب التناوب في العلم، رقم: 89.
[2] - انظر: الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم، لمحمد بن إبراهيم الوزير المتوفي سنة 840 ه ص: 120.
[3] - للإمام أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت المعروف بالخطيب البغدادي المتوفي سنة 463 ه، كتاب بهذا العنوان وهو حافل بأخبار الرحلة في طلب الحديث.
[4] - أنظر الرحيق المختوم للمباركفوري ص: 4590.
[5] - مسند الإمام أحمد تحقيق حمزة الزين، رقم: 15984.
[6] - الرحلة في طلب الحديث، رقم: 34، ص: 118، وجامع بيان العلم لابن عبد البر: 1/93.
[7] - مسند الإمام أحمد، تحقيق حمزة الزين، وحسن إسناده. رقم: 21612، وأبو داود، والترمذي.
[8] - الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ص: 29، وسير أعلام النبلاء: 3/326.
[9] - سنن أبي داود، باب: "إذا أخّر الإمام الصلاة عن الوقت".
[10] - أنظر صحيح البخاري، كتاب العلم، باب تعليم الرجل أمته وأهله، رقم: 97.
[11] - سير أعلام النبلاء: 3/183.
[12] - سير أعلام النبلاء: 13/180.
[13] - الرحلة في طلب الحديث، رقم: 41، ص: 127.
[14] - تذكرة الحفاظ للذهبي: 4/1242.
[15] - سير أعلام النبلاء: 13/263.