المصطلحات
د. هاني بن عبد الله بن محمد الجبير
أي أن وصف المعطلة من أهل البدع لمن يثبت صفات الله تعالى بأنهم مشبهة أو مجسمة، لا يمنعنا عن أن نثبت لله ما أثبته لنفسه.
وقد درس بعض الكتاب مفهوم التسامح، وقرر أن القوى الأوروبية في القرن التاسع عشر الميلادي سعت باسم التسامح وحق الاختلاف في الاعتقاد إلى تفكيك الدولة العثمانية، وأن تنزع منها الحماية على الأقليات غير المسلمة، وأنه لهذا السبب وقف جمال الدين الأفغاني ضد مفهوم التسامح لمعرفته بدلالته وما يقصد منه[27].
والمقصود أن المصطلح الحادث لابدَّ من تمييزه وضبطه شكلاً ومضموناً، مع الحذر عند استعماله لما قد يؤدي إليه من تعطيل لمقصد شرعي.
ثالثاً: قاعدة التعامل مع المصطلحات:
الواجب نحو المصطلحات يمكننا أن نجمله في ثلاثة محاور:
1 - المحافظة على المصطلحات الشرعية لفظاً ومعنى، قلباً وقالباً.
فيستمل المصطلح الشرعي للدلالة على مراده، ولا يسمى بغير اسمه، سواء أكان المراد حسناً أم قبيحاً، وقد تقدم في بداية هذا المقال شواهد من الشرع على ذلك قال ابن القيم في تعليقه على النهي عن تسمية العِشاء بالعتمة: (وهذا محافظة منه صلى الله عليه وسلم على الأسماء التي سمَّى الله بها العبادات فلا تُهجر، ويُؤثر عليها غيرها، كما فعل المتأخرون في هجران ألفاظ النصوص، وإيثار المصطلحات الحادثة عليها، ونشأ بسبب ذلك من الجهل والفساد ما الله به عليم)[28].
وقال أيضاً: (كان الصحابة والتابعون يتحرون ألفاظ النصوص غاية التحري، حتى خلف من بعدهم خلوف رغبوا عن النصوص، واشتقوا لهم ألفاظاً، ومعلوم أن تلك الألفاظ لا تفي بما تفي به النصوص... فألفاظ النصوص عصمة وحجة بريئة من الخطأ)[29].
وفي المقابل فإن إطلاق اسم غير الاسم الشرعي على الشيء لا يغـيِّر حكمه، إذ المصطلح كما يُحَافظ على لفظه يحافظ على معناه، وفي هذا الخصوص يقول ابن القيم: (معلوم أن تحريم الخمر للحقيقة والمفسدة لا للاسم والصورة، فإن إيقاع العداوة والبغضاء والصدِّ عن ذكر الله وعن الصلاة لا تزول بتبديل الأسماء والصور عن ذلك، وهل هذا إلا من سوء الفهم وعدم الفقه عن الله ورسوله... ولو أوجب تبديل الأسماء والصور لتبدلت الأحكام والحقائق، ولفسدت الديانات، وبدلت الشرائع، واضمحل الإسلام، وأي شيء نفع تسمية الأشياء بغير اسمها؛ بل هؤلاء حقيق أن يتلى عليهم: {إنْ هِيَ إلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} [النجم: ٣٢][30].
2 - تعريب المصطلح غير العربي، ولزوم إحسان الصناعة العربية فيه.
فلابدَّ من (تنزيل المواضعات على مقاييس اللغة العربية وقواعدها لتحقيق سلامة المفردات، وصحة الدلالة، واستقامة تأليف المركبات منها على وجه مقبول في لسان العرب ومنهجها)[31].
وهذا لابدَّ منه إذ اللغة مرآة تنعكس فيها أحوال الثقافة والحضارة، واللسان يزدهر أو يضمحل بحسب تجدد اللغات الاصطلاحية وتعدد الرموز العلمية[32].
ومن المعلوم ما ترجم كيفما اتفق لا كيفما يجب أن يكون، بينما المتعين أن (ننظر إلى الظاهرة ذاتها، وندرس المصطلح في سياقه الأصلي، ونعرف مدلولاته حق المعرفة، ثم نحاول توليد مصطلح من داخل المعجم يطابق المراد، فتكون تسمية توافق وجهة نظرنا ونتجاوز بذلك تسميات الآخر وأوهامه، وهذا ليس انغلاقاً على الذات، بل هو انفتاح حقيقي بديل للخضوع التام.
فالانفتاح: عملية تفاعل مع الآخر، نأخذ منه ونعطيه)[33].
وإحسان الصناعة المصطلحية يدخل فيها عدم استعمال لفظ أو تركيب نهى عنه الشرع أو أفهم معنى يخالف الشرع أو مقاصده.
ومن إحسان الصنعة المصطلحية أن ما كان توقيفياً فلا يجوز أن يدخل فيه أي تعديل، فإن التغيير فيه إحداث في الدين، ومخالفة لمقصد التوقيف.
ومنها: انطباق الاسم على المسمى فقد قال تعالى: {وَإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام: 152].
والمراد أن إحسان توظيف اللغة مطلوب متأكد (فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحباب أن نحفظ القانون العربي، ونصلح الألسنة المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة... وما زال السلف يكرهون تغيير شعائر العرب حتى في المعاملات، وهو التكلم بغير العربية إلا لحاجة... بل قال مالك: من تكلم في مسجدنا بغير العربية أخُرج منه، مع أنه يجوز النطق بها لأصحابها)[34].
3 - المصطلح الحادث لا يستعمل ولا يطلق فيما فيه إطلاق أو تسمية شرعية، ومدلولات المصطلحات الحادثة لا يسلّم بها حتى يتحقق من مرادها فيقبل الصحيح ويُردُّ الفاسد.
فقد سبق أن المصطلحات الشرعية لا تستبدل، والحادثة لما قد يشوبها من عدم تنقية المعنى فلا بدَّ من وضعها تحت مجهر الشريعة ليكشف أي دخيل على الشريعة.
يقوم ابن تيمية - رحمه الله -: (من تكلم بلفظ يحتمل عدة معان، لم يُقبل قوله، ولم يُرد، حتى نستفسره ونستفصله حتى يتبيّن المعنى المراد. ويبقى الكلام في المعاني العقلية، لا في المنازعات اللفظية..)[35].
فسبيل أهل السنة: التعبير عن الحق: بألفاظ شرعية: إلهية أو نبوية كلما أمكن ذلك وعدم العدول لغيرها ولذا كرّه السلف التكلم بالجوهر والجسم والعرض ونحوها ليس لكونها اصطلاحاً حادثاً فقط، بل لاشتمالها على أمور كاذبة مخالفة للحق، ولذا كان الواجب في هذه الألفاظ ألَّا يطلق معناها حتى ينظر في مقصود قائلها، فإن كان معنى صحيحاً قُبل؛ لكن قيل له ينبغي التعبير عن الحق بلفظ شرعي دون اللفظ المجمل، وعند الحاجة يستعمل مع قرائن تبين المراد وتوضح الحاجة له[36].
والحاصل أن المصطلحات الحادثة (يجب أن توقفها الجمارك عند الاستقبال في حدود الأمة الحضارية للسؤال والتثبت من حسن النية ودرجة النفع والملائمة للهوية فالمصطلح الوافد في العلوم الإنسانية ظنين حتى تثبت براءته، والمصطلح التراثي في هذا الشأن له الأسبقية والأولوية على غيره متى وجد)[37].
والله الموفق والهادي للصواب لا إله إلا هو.
[1] تفسير القرآن العظيم (2/5).
[2]صحيح البخاري (6182)، صحيح مسلم (2247).
[3]تضمين من زاد المعاد (2/319).
[4]صحيح مسلم (644).
[5]زاد المعاد (2/320).
[6]انظر: زاد المعاد (2/320-325) وفي المرجع تخريج لهذه الأحاديث وأمثلة ضافية أخرى.
[7]المصباح المنير للفيومي (ص ل ح).
[8]التعريفات للجرجاني ص 44.
[9]انظر: دراسات في تأصيل المعرّب والمصطلح، د. حامد قنببي ص 163.
[10]حاشية الباجوري علي بن القاسم (1/20).
[11]المواضعة في الاصطلاح بكر أبو زيد ضمن فقه النوازل (1/148).
[12]مدارج السالكين (3/306).
[13]السيل الجرار (1/326).
[14]انظر: موقف أهل السنة والجماعة من المصطلحات الحادثة، د. عابد السفياني ص 37.
[15]مجموع الفتاوى (7/286).
[16]مجموع الفتاوى (19/236).
[17]درء تعارض العقل والنقل (10/306).
[18]الإصلاحية العربية والدولة الوطنية، على أو مليل 82 بواسطة الاصطلاحية الغربية في الفكر الإسلامي المعاصر سعيد شبار ص 703 ضمن ندوة الدراسات المصطلحية.
[19]إشكالية التحيز، عبد الوهاب المسيري ص 103.
[20]في المواضعة في الاصطلاح قصة التسمية (بالموسوعات) والمبنيّة على الخطأ ص 105.
[21]المرجع السابق ص 144.
[22]نحو صياغة معاصرة للمصطلح المستقبلي، محمد بريش، ضمن ندوة الدراسات المصطلحية ص 716.
[23]مجموع الفتاوى (12/107).
[24]صحيح البخاري (5146) عن ابن عمر، صحيح مسلم (769) عن عمار بن ياسر.
[25]فتح المجيد، عبد الرحمن بن حسن (2/487).
[26]مدارج السالكين لابن القيم (2/359).
[27]الاصلاحية العربية، علي أو مليل ص 110.
[28]زاد المعاد (2/320).
[29]اعلام الموقعين (4/170).
[30]إعلام الموقعين (3/127) بتصرف يسير.
[31]المواضعة في الاصطلاح (1/147).
[32]ندوة الدراسة المصطلحية (2/704).
[33] إشكالية التميز، عبد الوهاب المسيري ص 110.
[34] تضمين من مجموع الفتاوى لابن تيمية (32/252).
[35]درء تعارض العقل والنقل (1/173).
[36]شرح الطحاوية لابن أبي العزِّ - ص 7055 بتصرف.
[37] نظرات في المنهج والمصطلح، الشاهد البوشيخي ص 54.