الزمن في الشعر العربي
عامر أحمد عامر

ليس ثمَّ شيء من الغرابة أن يحضر الحديث عن الزمن (ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا) في شعرنا العربي، بله في الأدب العربي كله، ذلك أن قضيته ما برحت تؤرق الأنام، فضلًا عن الأدباء والشعراء أصحاب الحس المرهف والعيون المبصرة لما لا يراه غيرهم، ولما كان الأدب الصادق مرآة تعكس ما في نفس صاحبها كان الحديث عن الأعمار والآجال والأزمنة الغابرة والذكريات الخالدة واستشرافات المستقبل يشغل مساحة لا بأس بها فيه.
الحديث عن الزمن في الشعر العربي عبر مراحله المختلفة تقولب في أشكال عدة وسلك مسالك شتى، منها الحديث عن الزمن الماضي، وتمثل في بكاء الأطلال والتغني بأجمل الذكريات، والحسرة والندم على ما مر من عمر الشباب دون بلوغ المراد، أو إحساس الشاعر بأنه أنفق من عمره في اللهو والضياع.
بلغ هذا الملمح في الشعر مبلغًا عظيمًا، لاسيما في الشعر الجاهلي، إذ كان بكاء الأطلال والحسرة على ما قد كان في الأيام الخوالي ركنًا ثابتًا في بناء القصيدة في الجاهلية، فهذا امرؤ القيس مثلًا يستهل خالدته به:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وهذا طرفة بن العبد يستهل معلقته به أيضًا فيقول:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
وليس ذلك بالخفي ولا بالقليل ولا يحتاج إلى جهد كبير للتنقيب عنه، سواء في العصر الجاهلي أو فيما جاء بعده، وإن كان بصورة أقل في العصور المتأخرة.
أما الحديث عن الشباب والشيب فقد كان حاضرًا بقوة في مراحل الشعر العربي المختلفة دون تمييز بينها، لاسيما في شعر الحكمة والشعر الديني، ولعل أول ما يقفز إلى الذهن في هذا الصدد الشعر المنسوب إلى أبي العتاهية:
ألا ليت الشباب يعود يومًا
فأخبره بما فعل المشيب
وهذا البوصيري صاحب البردة الشهيرة في مدح الرسول "صلى الله عليه وسلم" والذي استهل بردته أيضًا بالحديث عن الأطلال والذكريات القديمة:
أمن تذكر جيران بذي سلم
مزجت دمعًا جرى من مقلة بدم
يقول عن الشيب:
فإن أمارتي بالسوء ما اتعظت
من جهلها بنذير الشيب والهرم
ولا أعدت من الفعل الجميل قرى
ضيف ألمَّ برأسي غير محتشم
«وجميل رأي ابن الفارض في الشيب، إذ يقول:
أهلًا وسهلًا بالمشيب فإنه
سمة العفيف وحلية المتحرج
ضيف ألمَّ برأسي فقريته
رفض الغواية واقتصاد المنهج
ومنهم من استعجله كابن دقيق العيد، وهو خير من تحدث في الشيب إذ قال:
تمنيت أن الشيب جاور لمتي
وقرب مني في صباي مزاره
لآخذ من عصر الشباب نشاطه
وآخذ من عصر المشيب وقاره» (1).
ومن صور الحديث عن الزمن في الشعر العربي ما جاء من الكلام عن الزمن الحاضر، وذلك إما بالسآمة منه وتمني انقضائه عاجلًا أو العكس، ومن أشهر ما جاء في النوع الأول قول امرئ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه
وأردف أعجازًا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
ومن النوع الثاني قول الشاعر:
يا ليل طل يا نوم زل
يا صبح قف لا تطلع
ومن ذلك (الحديث عن الزمن الحاضر) ما يخاطب به أبوالطيب المتنبي يومًا يمر به من المفترض أن يكون من أسعد الأيام، وهو يوم العيد، إلا أنه يراه غير ذلك، فلا يتمنى مجيئه، بل يطلب أن تحول بينهما صحار شاسعة، ذلك أنه يذكره بأحبابه الذين من المفترض أن يكونوا معه فيه:
عِيدٌ بأيَّةِ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ
بِمَا مضى أمْ لأمرٍ فيكَ تجديدُ
أمَّا الأحبةُ فالبيداءُ دُونَهُمُ
فليتَ دُونَكَ بيدًا دونها بيدُ
ومن صور الحديث عن الوقت الكلام عن قيمته وأهميته، ولعل أشهر ما جاء في هذا قول أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته في رثاء مصطفى كامل التي مطلعها:
المشرقان عليك ينتحبان
قاصيهما في مأتم والداني:
دقـــات قلــب المــرء قائــلة لـه
إن الحيــــاة دقائـــق وثـــواني
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرهـا
فــالذكـــر للإنسان عمــر ثانِ
وختامًا فإن الحديث عن الزمن في آداب العرب، شعرًا ونثرًا، ظاهرة يستغرق الحديث عنها دراسات كاملة، لأنه متشعب الفروع، متعدد الأنماط، متفرق الزوايا، مختلف بالطبع عند كل شاعر أو أديب عن غيره، وبالتالي تتعدد حوله الفلسفات والرؤى، وتختلف النظرة إليه باختلاف البيئات والعقائد والمذاهب الفكرية، وقد أعدت بالفعل دراسات حول هذا الغرض غير أن القضية مازالت ظمأى إلى المزيد، من هذه الدراسات قضية الزمن في الشعر العربي.. الشباب والمشيب للدكتورة فاطمة محجوب، والزمن في الشعر السعودي بين عامي 1400هـ-1420هـ.. دراسة تحليلية، وهي عبارة عن رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير في الأدب إعداد أسماء بنت عبدالعزيز بن محمد الجنوبي- جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
الهوامش
(1) كتاب أطايب الكلام لحمد عيسى الكندري صـ27 و28