الأخوة و المحبة في الله تبارك وتعالى
فضيلة الشيخ عثمان بن محمد الخميس حفظه الله




الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، الرَّحمنِ الرَّحيمِ، مالكِ يومِ الدِّينِ، إلهِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، وخالقِ الخَلْقِ أجمعينَ، وأصلِّي وأسلِّمُ على سيِّدي ومولاي محمَّد بنِ عبدِ الله وعلى آلهِ وصحابتهِ أجمعينَ، أمَّا بعدُ:
فابتداءً أشكرُ القائمينَ على هذه الدَّورةِ وكذلك الحضور والمشاركين في هذه الدَّورةِ على حُسْنِ استغلالِ واستثمارِ أوقاتِهم فيما يعودُ عليهم بالنَّفعِ، فاسألُ الله تباركَ وتعالى وجلَّ في علاه أنْ يحسبَ لهم ولكمُ الأجرَ؛ هو وليُّ ذلك والقادرُ عليه، أمَّا بعدُ:
فاختارَ إخوانُكم أنْ يكونَ موضوعُ حديثِنا في هذه اللَّيلةِ: الأخوَّة في الله تباركَ وتعالى
ذلك الأمر الذي امتنَّ الله تباركَ وتعالى به على عبادهِ فقالَ جلَّ وعلا: " وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا... 103 " سورة آل عمران
وكذا هو أوَّلُ أمرٍ حرصَ عليه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عندما دخلَ المدينةَ ألا وهو أنه آخى بين المهاجرينَ والأنصارِ، فدلَّ هذا على أنَّ أمْرَ الأخوَّةِ مِنَ الأمورِ المهمَّةِ جدّاً في هذا الدِّينِ العظيمِ؛ خاصَّةً إذا جمعناها مع قولِ الله تباركَ وتعالى: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ... 10 " سورة الحجرات، فذكرَ الله تباركَ وتعالى هذه الأخوَّةَ وجعلَها أمْراً لازماً للمؤمنينَ.
الأخوَّةُ باختصارٍ قالوا: هي امتزاجُ روحٍ بروحٍ، وتصافحُ قلبٍ مع قلبٍ، قالوا: هذه هي الأخوَّةُ.
الأخوَّةُ: هي التي لا تميلُ إلى نَفْعٍ، ولا يُفْسِدُها مَنْعٌ أبداً، وإنما هي لله وفي الله سبحانه وتعالى، منافعُ الدُّنيا هذه لا تدخلُ ضِمْنَ تعريفِ هذه الأخوَّةِ التي أسال الله تباركَ وتعالى أنْ يجمعَنا عليها وأنْ يُمِيْتَنا عليها.
قالَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: " المسلمُ أخو المسلمِ، لا يظلمُه، ولا يُسْلِمُه، ومَنْ كانَ في حاجةِ أخيه كانَ الله في حاجتهِ "، هكذا يخبرُ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الحديثِ الصَّحيحِ في البخاريِّ ومسلم عنْ أمْرِ هذه الأخوَّةِ، المسلمُ أخو المسلمِ، ثمَّ ذكرَ مِنْ مستلزماتِ هذه الأخوَّةِ، قالَ: " لا يظلمُه ولا يسلمه، ومَنْ كانَ في حاجةِ أخيه كانَ الله في حاجتهِ "، هكذا يبيِّن لنا النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ما الأخوَّةُ التي يريدُها منَّا؛ صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه.
الإمامُ الشَّافعيُّ رحمه الله تباركَ وتعالى قالَ:للأخوَّةِ علاماتٌ: أنْ يَسُدَّ خَلَلَه يعني إذا احتاجَ يقفُ معه ، وأنْ يَقْبَلَ عِلَلَه إذا اعتلَّ بأمرٍ أوِ اعتذرَ وما شَابهَ ذلك مِنَ الأمورِ يقبلُ منه . قالَ:و أنْ يغفرَ زَلَّتَه.
مَنْ مِنَّا الذي لا يزلُّ؟؟ مَنْ مِنَّا الذي لا يخطئُ؟؟
فيقولُ: اِعْفُ عنْ زَلَّتهِ، إذاً سُدَّ خَلَّتَه إذا احتاجَ إليكَ، اقبلْ عللَه.. إذا تعذَّر بأيِّ عُذْرٍ اقبلْ منه.. فوِّت، لا تدقِّق، ثمَّ قالَ: اغفرْ زَلَّتَه، مَنْ ذا الذي لا يَزِلُّ؟؟ مَنْ ذا الذي عَصَمَهُ الله تباركَ وتعالى؟؟ كلُّنا نَزِلُّ، كلُّنا نُخْطِئُ، اغفرْ.. سامحْ.. تجاوزْ حتَّى تكونَ أخاً فِعْلاً في الله جلَّ وعلا.
و لذلك قالَ القائلُ:
أخوكَ الذي إنْ سَرَّكَ الأمرُ سَرَّهُ *** وإنْ غِبْتَ يوماً ظلَّ وهو حزينُ
يقرِّبُ مَنْ قرَّبتَ مِنْ ذي مودَّةٍ *** ويُقْصِي الذي أقصيتَه ويهينُ
هكذا يظهرُ أخوَّته
أخوكَ الذي إنْ سَرَّكَ الأمرُ سَرَّهُ، يفرحُ لِفَرَحِكَ وإنْ غِبْتَ يوماً ظَلَّ وهو حزينٌ، يُرى الحزنُ في وجههِ بسببِ غيابِكَ عنه.
يقرِّبُ مَنْ قرَّبتَ مِنْ ذي مودَّةٍ، يحبُّ ما تحبُّ ومَنْ تحبُّ ويقصي الذي أقصيتَه ويهينُ، لا يقبلُ منه شيئاً!! لماذا؟ لأنكَ أقصيتَه
كلُّ هذا لمحبَّتهِ لكَ!!
هكذا تكونُ الأخوَّةُ في الله تباركَ وتعالى.
هذه الأخوَّةُ لا شكَّ أنَّ لها علاماتٍ، وعلاماتُها كثيرةٌ، ولها التزاماتٌ، والتزاماتُها كثيرةٌ، ولا يمكنُنا أبداً مِنْ خلالِ هذه الجلسةِ القصيرةِ أنْ نلِمَّ بجميعِ حقوقِ الأخوَّةِ ومستلزماتِها وأمثلتِها؛ ولكنَّنا ننبِّه على بعضِ أمورِها التي قد تغيبُ عنْ بعضِ النَّاسِ.
مِنْ هذه الأمورِ التي ينبغي أنْ تُرَاعَى في قضيَّةِ الأخوَّةِ في الله تباركَ وتعالى؛ والتي تجمع النَّاسَ وتجعلُ بينهم هذه الأخوَّة:
* - أوَّلها السَّلام، نَشْر السَّلام.. إبداء السَّلام.. رَدّ السَّلام.. هذه الكلمةُ الطَّيِّبةُ التي هي اسمٌ مِنْ أسماءِ الله تباركَ وتعالى، فالله تباركَ وتعالى هو السَّلامُ، أي السَّالم مِنْ كلِّ نقصٍ وعيبٍ سبحانه وتعالى، هو الله الذي لا إله إلا هو الملكُ القدُّوسُ المؤمنُ السَّلامُ.
السَّلامُ اسمٌ مِنْ أسماءِ الله تباركَ وتعالى، هذا السَّلامُ لو نشرناه بيننا حقَّ النَّشْرِ لوجدنا أثرَه ظاهراً جدّاً، عجبتُ وما أكثرَ ما يُتَعَجَّبُ منه في هذه الأيامِ! لقيتُ رجلاً في مكانٍ ما لا أعرفُه، فقلتُ له: السَّلامُ عليكم. فارتبكَ، ورَدَّ السَّلامَ: وعليكمُ السَّلامُ ورحمةُ الله وبركاتُه، اسمحْ لي ما عرفتك!! يتعذَّر لي لأنه لم يعرفني!! قلتُ له: وأنا لا أعرفُك، هو مستغربٌ لِمَ سلَّمتُ عليه، فارتبكَ لأني سلَّمتُ عليه فظنَّ أني أعرفُه وهو لا يعرفُني، واعتذرَ، قالَ: اسمحْ لي ما عرفتك!! قلتُ له: وأنا لا أعرفُك، فالسَّلامُ هذا ليسَ لأجلِ معرفةٍ، أفشوا السَّلامَ كما قالَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: " أفشُوا السَّلامَ، وأطْعِمُوا الطَّعامَ، وصِلُوا الأرحامَ، وصَلُّو باللَّيلِ والنَّاسُ نِيَامٌ، تدخلونَ الجنَّةَ بِسَلامٍ "، فالقضيَّةُ وما فيها أنَّ نَشْرَ السَّلامِ يُوْرِثُ المحبَّةَ بين القلوبِ، ولذلك النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لما سُئِلَ: أيُّ الإسلامِ خيرٌ؟ قالَ: " تطعم الطَّعام، وتقرأ السَّلام على مَنْ عرفتَ وعلى مَنْ لم تعرفْ ".
مشكلةُ كثيرٍ مِنَ النَّاسِ اليوم أنه صارَ الكثيرون لا يُسَلِّمُوْنَ إلا على مَنْ يعرفون!! والنَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لما سُئِلَ: أيُّ الإسلامِ خيرٌ؟ قالَ: " تطعم الطَّعام، وتقرأ السَّلامَ على مَنْ عرفتَ وعلى مَنْ لم تعرفْ ".
عبد الله بن عمر رضيَ الله عنهما يقولُ:كنتُ أدخلُ السُّوقَ لا أريدُ بيعاً ولا شِرَاءً ولكنْ أريدُ أنْ أسلِّم ويُسَلَّمَ عَلَيَّ.
فقط!! طبعا أسواق السَّابق، الآن لا تدخل السُّوق للسَّلام، ولكن القصد أنه فقط ليُبْدِيَ السَّلامَ وليُلْقَى إليه السَّلامُ فقط!!
فهذه مِنَ المسائلِ التي عرفَ قَدْرَها أصحابُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فحرصُوا عليها.
و لذلك يقولُ عمرُ رضيَ الله عنه:ثلاثٌ يصفينَ لك وُدَّ أخيكَ: تسلِّم عليه إذا لَقِيتَه، وتُوْسِعُ له في المجلسِ، وتدعوه بأحبِّ أسمائهِ إليه.
مَنْ مِنَّا يصنعُ هذا؟؟؟!!
أنا لا أقولُ لا يوجدُ مَنْ يصنعُ هذا.. يوجدُ ولله الحمدُ كُثُر ولكنْ ليسوا الأكثرَ، نحن نريدُ أنْ يكونَ هؤلاء همُ الأكثرُ.. همُ الأظهرُ في هذا المجتمعِ الطَّيِّبِ المباركِ.. أنْ يبدأه بالسَّلامِ، أنْ يُوْسِعَ له في المجلسِ، أنْ يُناديَه بأحبِّ أسمائهِ إليه، أبو فلان وفلان، المهم يناديه باسمٍ يحبُّه وتطيبُ له نفسُه.
يقولُ عبدُ الله بنُ عبَّاس: لجليسي عليَّ ثلاثةُ حقوقٍ: أرمقُه بِطَرْفِي إذا دخلَ وإذا أقبلَ.
يُبدي له شيئاً مِنَ الاهتمامِ، إذا أقبلَ أرمقُه بِطَرْفِي، أنظرُ إليه ليشعرَ أني مهتمٌّ بدخولهِ.
قالَ: وأوْسِعُ له في المجلسِ.
والثَّالثة، قالَ: أُصْغِي إليه إذا تحدَّث.
والله قد يَرَى البعضُ أنها أشياء بسيطةٌ لكنَّها تؤثِّر في القلوبِ، أحياناً نظرة تؤثِّر في القلوبِ، أحياناً عَدَم رَدّ سلامٍ يُوْغِرُ القلبَ ثمَّ تكونُ قطيعةٌ.. نعم يُوْغِرُ القلبَ ثمَّ تكونُ قطيعةٌ، ومِنْ هذا أذكرُ قِصَّةً وقعتْ لعثمانَ بنِ عفَّانَ رضيَ الله عنه مع سعدِ بنِ أبي وقَّاص.
مَرَّ سعدٌ رضيَ الله عنه على عثمانَ رضيَ الله عنه فسلَّم عليه فما رَدَّ عثمانُ السَّلامَ، فتضايقَ سعدٌ، فذهبَ إلى عمرَ، وعمرُ هو الخليفةُ رضيَ الله عنه، فجاءَه وقالَ: يا أميرَ المؤمنينَ، مررتُ على عثمانَ وسلَّمتُ عليه؛ نظرَ إليَّ ولم يردّ السَّلامَ!!
- يقدِّم شكوى الآن، لماذا لم يردّ على السَّلام -
فعمرُ مباشرةً استدعى عثمانَ، فجاءَه عثمانُ، قالَ: إنَّ أخاكَ سَعْداً يشكوكَ. قالَ: ماذا يقولُ؟؟ قالَ: يقولُ إنه مَرَّ وسلَّم عليكَ فنظرتَ إليه ولم تردّ عليه السَّلامَ!! لماذا؟ قالَ: ما حصلَ، ما مَرَّ عليَّ ولا سلَّم عليَّ!! فقالَ له سعدٌ: الآن مررتُ عليكَ وسلَّمتُ ونظرتَ إليَّ ولم تردّ عليَّ السَّلامَ!! قالَ: ما حصلَ شيءٌ مِنْ هذا؟ قالَ: أنا مررتُ عليك.. ففطنَ عثمانُ وقالَ: نعم، كنتُ سارحاً ولستُ معك، قالَ: بمَ؟؟ قالَ: كنَّا مع النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يوماً فقالَ لنا: " دعوة دعا بها نبيٌّ لا تُرَدُّ " فقلنا: علِّمنا إيَّاها يا رسولَ الله، فجاءَه أعرابيٌّ وشغلَه عنَّا، ليتني سمعتُها مِنْ رسولِ الله، فأنا أتفكَّر فيها. فقالَ له سعدٌ: أنا أعرفُها. قالَ: كيف؟ قالَ: كنتُ معكم، فلمَّا انصرفَ النَّبيُّ تَبِعْتُه حتَّى كادَ يدخلُ بيتَه، فَصِرْتُ أضربُ في الأرضِ بقدميّ.
- ما يستطيع أنْ يناديَ النَّبيَّ احتراماً -
يقولُ: فَصِرْتُ أضربُ بقدميّ الأرضَ حتَّى يسمعَ النَّبيُّ فينتبهَ يقولُ: فانتبَه، فالتفتَ فرآني، قالَ: مالك أبا إسحاق؟
- وهي كُنْيَةُ سعدٍ -
فقالَ: يا رسولَ الله، قلتَ ستخبرُنا بدعوةٍ نبيٍّ، ثمَّ شغلكَ الأعرابيُّ عنَّا. فقالَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: " نعم، لا إلهَ إلا أنتَ سبحانك إني كنتُ مِنَ الظَّالمينَ، دعوةُ أخي يونس " ففرحَ بها عثمانُ.
الشَّاهدُ مِنْ هذه القِصَّةِ أنَّ سعداً سلَّم على عثمانَ، وعثمانُ ينظرُ إليه ولم يسمعْه!! فيها إحسانُ ظَنٍّ، أنَّ الإنسانَ ينبغي عليه أنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بأخيهِ، أحياناً البعضُ يقولُ ما ردَّ عليَّ السَّلامَ، ثمَّ يقطعُه قطيعةً، ويجعلُها في قلبهِ وأخوه معذورٌ.
ولذلك كانَ مِنْ هَدْيِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم كما يقولُ أنس: " كانَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذا سلَّمَ سلَّم ثلاثاً "، يقولُها الأولى، ثمَّ يقولُها الثَّانية، ثمَّ يقولُها الثَّالثة، إذا لم يسمعِ النَّاسُ؛ صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه، يؤدِّب، يعلِّم، يربِّي؛ صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه.
و أحسنُ ما سمعتُ في هذا قول القائلِ
يقولُ:
سامـحْ أخاكَ إذا خَلَطْ *** منه الإصابة والغَلَطْ
وتجـافى عنْ تعنيفهِ إنْ *** زاغَ يومـاً وقَسَطْ
واعـلمْ بأنكَ إنْ طلبتَ ** مهذَّباً رُمـْتَ الشَّطَطْ
مَنْ ذا الذي ما ساءَ قط *** ومَنْ له الحسنى فقط
مهذَّباً: يعني معصوماً
ما مِنَّا مِنْ أحدٍ إلا ويُصِيْبُ ويُخْطِئُ، لكنْ أين إحسانُ الظَّنِّ؟؟ ينبغي على الإنسانِ أنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بإخوانهِ.. أنْ يفوِّت.. أنْ يعتقدَ الخيرَ فيهم لا أنْ يظنَّ بهم السُّوءَ؛ خاصَّةً وأنَّ الله تباركَ وتعالى يقولُ: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ... 12 " سورة الحجرات، والنَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ: " إياكم والظَّنّ، فإنَّ الظَّنَّ أكذبُ الحديثِ "، هكذا يقولُ صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه.
الإمامُ الشَّافعيُّ رحمه الله تعالى كانَ مريضاً، فعادَه تلميذُه الرَّبيعُ بنُ سليمان، فلمَّا دخلَ عليه وإذا الشَّافعيُّ قد تَعِبَ مِنَ المرضِ، فقالَ له تلميذُه:قوَّى الله ضَعْفَكَ يا إمامُ.
يعني شافاك وعافاك، لكنْ تحتملُ معنىً آخر، قوَّى الله ضَعْفَكَ يعني زادكَ ضَعْفاً.
فقالَ له الشَّافعيُّ: لو قوَّى ضَعْفِي قتلني.
فانتبهَ الرَّبيعُ أنَّ الكلمةَ تحتملُ معنيينِ فقالَ:و الله ما أردتُ هذا يا إمام. يعني أردتُ الخيرَ، أردتُ قوَّى الله ضَعْفَكَ رَفَعَهُ وجعلَ مكانَه قوَّة.
قالَ:و الله لو سببتني لعلمتُ أنكَ لا تريدُ ذلك.
هذا إحسانُ الظَّنِّ، انظروا الشَّافعيّ ماذا يقولُ لتلميذهِ!! يقولُ:و الله لو سببتني لعلمتُ أنكَ لا تقصدُ ذلك.
إلى هذه الدَّرجةِ يثقُ به ويُحْسِنُ به الظَّنّ!!
يعني تصوَّروا عمَّار بن ياسر رضيَ الله عنه لما سَبَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، لو سمعَه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يسبُّه لأحسنَ الظَّنَّ به لأنه كانَ يُعَذَّبُ، وسَبَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بناءً على هذا العذابِ الذي عُذِّبَ، ومع هذا قالَ له النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: " إنْ عادوا فَعُدْ "، إنْ عادوا للإيذاءِ والتَّعذيبِ عُدْ للسَّبِّ ولا تهتمّ، لأنَّ النَّبيَّ يعرفُ ويُحْسِنُ الظَّنَّ بعمَّار وأمثالهِ رضيَ الله تباركَ وتعالى عنهم وأرضاهم.
عمرُ بنُ الخطَّابِ رضيَ الله عنه يقولُ:لا تظنّ بكلمةٍ خرجتْ مِنْ أخيكَ إلا خيراً وأنتَ تجدُ لها في الخيرِ مَحْمَلاً.
طالما أنك تجدُ لها في الخيرِ مَحْمَلاً احملْها على مَحْمَلِ الخيرِ، نعم قد تحتملُ معانٍ أخرى سيِّئة، لكنْ طالما أنها تحتملُ محملاً خَيِّراً خاصَّة وأنك تعرفُه أنه رجلٌ خَيِّرٌ.. رجلٌ صالح لا تظنّ السُّوءَ، ظُنَّ الخيرَ، بل أحياناً بعضُ النَّاسِ لو تثبَّت مِنَ الموضوعِ لانتهى كلُّ شيءٍ، قد تكونُ كلمةً لا تُقْصَدُ ثم تلقَّفها بعضُ النَّاسِ وحملتْ شَرَراً،
وقعَ لي مثلُ ذلك:
جاءَني شخصٌ وقالَ لي فلانٌ يقولُ: لا نريدُ فلاناً معنا نريدُ عثمانَ مكانَه، وبلغتِ الكلمةُ صاحبَنا الذي يريدون عَزْلَهُ وجَعْلِي أنا مكانَه، فمباشرةً جاءَني، قالَ لي: بلغني أنك تقولُ: لا أريدُ فلاناً مكاني أريدُ أنْ أكونَ مكانَه. قلتُ له: والله ما قلتُ شيئاً مِنْ هذا. قلتُ: مَنْ قالَ لك هذا؟ قالَ: قالَ لي فلانٌ. قلتُ: خيراً إنْ شاءَ الله، فذهبتُ إلى فلانٍ الذي قالَ له، قلتُ له: أنتَ قلتَ لفلانٍ كذا؟ قالَ: نعم. قلتُ له: أنا قلتُ لك ذلك؟ قالَ: لا. قلتُ: إذا لماذا تقولُ له؟ قالَ: قالَها فلانٌ. فذهبتُ إلى فلانٍ الثَّاني فقلتُ له: يا فلان، أنا قلتُ له كذا؟ قالَ: لا. قلتُ: لماذا نقلتَ عنِّي؟ قالَ: قالَها فلانٌ. وإذا رجلٌ ثالثٌ، فذهبتُ إليه فقلتُ له: يا فلانُ، أنا قلتُ لك أخْرِجُوا فلاناً وأدخلوني مكانه؟ قالَ: لا. قلتُ: لماذا نقلتَ هذا إذاً؟ قالَ: ما نقلتُ ذلك!! هذا رأيي أنا، أنا قلتُ لهم لا أريدُ فلاناً، أريدُ عثمان. ثمَّ فهموها خطأ، وانتقلتْ هكذا!! فلولا أنَّ صاحبي أحسنَ الظَّنَّ بي وأني لا يمكنُ أنْ أقولَ مِثْلَ هذا الكلام لحملَها في نفسهَ وإلى اليوم لا يكلِّمني، فلذلك الإنسان يجبُ عليه أنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بإخوانهِ، فهذه قضيَّةٌ مهمَّةٌ جدّاً.
ولذلك قَوْلُ عمرَ رضيَ الله عنه:لا تظننَّ بكلمةٍ خرجتْ مِنْ أخيكَ إلَّا خيراً وأنتَ تجدُ لها في الخيرِ مَحْمَلاً. احملْها على مَحْمَلِ الخيرِ.
كذلك مِنْ حقوقِ الأخوَّةِ:
*- المحبَّة،أنْ تحبَّه في الله ولله سبحانه وتعالى، أخبرَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: " أنَّ رجلاً زارَ أخاً له في قريةٍ أخرى. فأرصدَ الله له، على مدرجتهِ، مَلَكاً. فلمَّا أتى عليه قالَ: أين تريدُ؟ قالَ: أريدُ أخاً لي في هذه القريةِ. قالَ: هل لكَ عليه مِنْ نعمةٍ تَرُبُّها؟ قالَ: لا. غيرَ أني أحببتُه في الله عزَّ وجلَّ. قالَ: فإني رسولُ الله إليكَ، بأنَّ الله قد أحبَّك كما أحببتَه فيه ". لماذا؟؟ فعلَ شيئاً يسيراً، ليسَ بالضَّرورةِ أنْ يكونَ سفراً، قد تطرقُ بابَ جَارِكَ وتسلكُ غيرَه أبعدَ وأقربَ لكنْ في الله سبحانه وتعالى، فإنَّ الله يحبُّك إذا أحببتَه فيه سبحانه وتعالى.
جاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقالَ له: يا رسولَ الله، متى السَّاعةُ؟ يسألُ عنِ السَّاعةِ، فالنَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أجابَ عنْ سؤالهِ بسؤالٍ، فقالَ له: " وماذا أعددتَ لها؟ " قالَ: يا رسولَ الله، ما أعددتُ لها كثيرَ صيامٍ ولا صلاةٍ ولا صدقةٍ، ولكني أحبُّ الله ورسولَه. يعني هذا الذي أعددتُ، أصلِّي وأصومُ وأتصدَّق لكنْ ليسَ بكثرةٍ.. ليسَ بشيءٍ ظاهرٍ يعني، فقالَ له النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: " أنتَ مع مَنْ أحببتَ "، وهذا خيرٌ عظيمٌ لا شكَّ.
جاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّ هَذَا الرَّجُلَ، قَالَ: " هَلْ أَعْلَمْتَهُ ذَلِكَ "، قَالَ:لا.فَقَالَ : " قُمْ فَأَعْلِمْهُ "، فَقَامَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا هَذَا وَ اللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ فِي اللَّهِ، قَالَ: أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ.
ولذلك يقولُ الله تباركَ وتعالى يومَ القيامةِ: " أينَ المتحابُّونَ بجلالي "المتحابّون بجلالِ الله، المتحابُّون في الله تباركَ وتعالى يقولُ: " اليومَ أظِلُّهم في ظِلِّي. يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلِّي ". تصوَّر أنتَ تُنَادَى مِنْ بين النَّاسِ: تعالَ أنتَ كنتَ تحبُّ فلاناً فِيَّ.. ثمَّ يجمعُكمُ الله سبحانه وتعالى تحت ظِلِّ عَرْشِهِ في ذلك اليومِ الذي لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه سبحانه وتعالى.. مَنْ مِنَّا لا يتمنَّى هذا؟؟
وقد جاءَ في الحديثِ الصَّحيحِ في الصَّحيحينِ وغيرِهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قالَ: " سبعةٌ يُظِلُّهم الله تعالى في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ: إمامٌ عادلٌ، وشابٌّ نشأ في عبادةِ الله، ورجلٌ قلبُه مُعَلَّقٌ في المساجدِ، ورجلانِ تحابَّا في الله، اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه... "
أي اجتمعا في هذه الدُّنيا على المحبَّة في الله.. تفرَّقا: ماتَ هذا وماتَ هذا، وهما ما زالا يحبُّ بعضُهما الآخر في الله، يجمعهما الله تباركَ وتعالى ويقولُ: أظِلُّكما اليومَ في ظِلِّي يومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلِّي.
" رجلانِ تحابَّا في الله، اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه " اجتمعا في هذه الدُّنيا على المحبَّةِ في الله وتفرَّقا كذلك على المحبَّةِ في الله سبحانه وتعالى
بلْ يقولُ الله تباركَ وتعالى: " وَجَبَتْ محبَّتي للمتحابِّين فِيَّ " تصوَّر.. الله يحبُّك إذا أحببتَ شخصاً فيه سبحانه وتعالى!! وَجَبَتْ أمراً أوجبَه الله على نفسهِ تكرُّماً وتفضُّلاً سبحانه وتعالى " وَجَبَتْ محبَّتي للمتحابِّين فِيَّ ".
ورجلٌ جاءَ إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قالَ: يا رسولَ الله، الرَّجلُ يحبُّ القومَ ولـمَّا يلحق بهم!!
مِثْلُنا نحن الآن نحبُّ الرَّسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم.. نحبُّ الأنبياءَ عليهم السَّلام.. نحبُّ الصَّالحينَ.. نحبُّ أصحابَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم.. ولما نلحق بهم!! ما عندنا مِنَ الأعمالِ ما ندركُ بها منزلتَهم، قالَ: الرَّجلُ يحبُّ القومَ ولما يلحق بهم!!
ولما يلحق بهم أي لما يلحق بالعملِ.. بالطَّاعةِ.. بالصَّلاةِ، هناك مِنَ النَّاسِ مَنْ يجتهدُ في هذا، يعني طاووس بن كيسان كمثالٍ رحمه الله ورضيَ عنه، كانَ يصلِّي اللَّيلَ حتَّى يتعبَ وتعجزَ قدماهُ عنْ حَمْلِهِ، فكانَ يضربُ فَخِذَهُ بيدهِ يُصَبِّرُها ويقولُ:اثبتي، أيظنُّ أصحابُ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يحوزوه دوننا، والله لننازعنَّهم عليه. يعني سنعملُ مِنَ الطَّاعاتِ والقُرُبَاتِ الأمور التي تقرِّبنا إلى الله حتَّى نكون قُرْبَ هذا النَّبيِّ الكريمِ صلَّى الله عليه وسلَّم، لكنْ ليسَ كلّ النَّاسِ عندهم هذه الهِمَّة وعندهم هذا الجهاد للنَّفسِ، فهذا رجلٌ أعرابيٌّ جاءَ إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقالَ: يا رسولَ الله، الرَّجلُ يحبُّ القومَ ولما يلحق بهم!! أيْ بأعمالهِ
فقالَ صلَّى الله عليه وسلَّم: " المرءُ مع مَنْ أحبَّ " يرفعُ الله الدَّرجةَ بالمحبَّةِ سبحانه وتعالى، يقولُ أنسٌ: فما رأيتُ فرحَ المسلمون بعد الإسلامِ فَرَحَهم بهذا.
لأنهم يعلمون عِلْمَ اليقينِ مهما اجتهدوا في العبادةِ وهم أصحابُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، جاهدوا وبذلوا مِنْ قبلِ الفتحِ، ووعدَهم الله الجنَّة، وغير ذلك مِنَ الأمورِ، وتشرَّفوا برؤيةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ومع هذا يعلمون عِلْمَ اليقينِ أنَّ عَمَلَهم وجِهَادَهم وبَذْلَهم لنْ يُوْصِلَهم إلى منزلةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فبمجرَّد أنْ سمعوا هذا الحديثَ مِنَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم " المرءُ مع مَنْ أحبَّ " و" أنت مع مَنْ أحببتَ " قالَ أنس:فما فرحنا بشيءٍ فَرَحَنا بقولِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم " أنتَ مع مَنْ أحببتَ "رضيَ الله عنهم وأرضاهم.
فهذه القضيَّةُ قضيَّةُ المحبَّةِ في لله تباركَ وتعالى سواء محبَّة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ومحبَّة أصحابه ومحبَّة الصَّالحين ومحبَّة بعضِنا لبعضٍ، كلّ هذه ترفعُ مِنْ درجاتِنا، وتكوِّنُ فعلاً أخوَّةً في الله تباركَ وتعالى، فنكونُ فعلاً كما قالَ الله تباركَ وتعالى: " وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ... 63 " سورة الأنفال، الله تباركَ وتعالى ألَّف بين القلوبِ سبحانه وتعالى وجعلَنا بنعمتهِ إخواناً سبحانه وتعالى، هذا فَضْلٌ مِنَ الله جلَّ وعلا، لذلك يجبُ علينا أنْ ننتهزَ هذه الفرصَ، أنْ لا تضيعَ علينا، وأنْ نكونَ فعلاً كما قالَ الله تباركَ وتعالى: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ... 10 " سورة الحجرات، أنْ نكونَ إخوةً كذلك بمثلِ هذه الأمورِ التي ذكرتُ بعضَها، وإنْ كانَ غيرها كثير مما يقرِّب القلوبَ، ويجعلُنا إخوةً في الله تباركَ وتعالى.
طبعاً كلُّ ما ذكرتُ مِنَ الأحاديثِ والآياتِ ليستْ خاصَّةً بالرِّجالِ، الرِّجالُ والنِّساءُ في هذا سواء، حتَّى النِّساءُ تحبُّ المرأةُ أختَها في الله تباركَ وتعالى، فترتفعُ عند الله تباركَ وتعالى درجةً بل درجاتٍ إذا فعلتْ ذلك.
أسالُ الله تباركَ وتعالى أنْ يجمعَنا على الإيمانِ، وأنْ يجعلَنا إخوةً في الله تباركَ وتعالى متحابِّين فيه.
و الله أعلى وأعلمُ، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبيِّنا محمَّد.