الحمد لله الذي جعل المؤمنين إخوة، وجعل لهم في نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم هدًى وأسوة، وأوصاهم بالتقوى، وجعل في قلوبهم الرحمة والإيمان والحكمة. أما بعد:
فقد أحكم الله تبارك وتعالى بفضله الرابطة الدينية والأخوة الإيمانية بين المؤمنين برباط وثيق، بل بعدة مواثيق تجعلهم أمة واحدة بالإيمان والتقوى، وبنيانًا قويًّا واحدًا متشابكًا متماسكًا يشد بعضه بعضًا، وجسدًا واحدًا إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
وإليك بيان هذه المواثيق:
الميثاق الأول: أنهم عباد الله، الإلهِ الحق، الذي لا خالق غيره، ولا رب ولا معبود بحق سواه، وقد رضوا به ربًّا وتعبدوا له بما شرع تقرُّبًا وحبًّا، وقد خاطبهم بقوله: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 92].
فمن طاعته وتحقيق عبادته بما يرضيه التحاب والتواد فيه، وترك التقاطع والتشاجر والتهاجر الذي يغضبه ويؤذيه.
الميثاق الثاني: وهم أيضًا أمة القرآن الذي أرسى قاعدة الأخوة الإيمانية بين المؤمنين بقوله: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 10].
ويثني عليهم بما هم عليه من التذلل لبعضهم، والتراحم فيما بينهم، فهم أحبة متراحمون فيما بينهم، أعزة أشداء على أعدائهم: ﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 54] ﴿ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29] فمتى ما نقص التذلل والتراحم فيما بينهم دلّ على نقص دينهم، وتركهم العمل ببعض كتاب ربهم.
الميثاق الثالث: وهم كذلك أمة الإسلام الذي شرعه الله لهم، فأكمله، وأتم به النعمة عليهم، ورضيه لهم دينًا، يقول تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم.
ومن كمال الإيمان والتلذذ بحلاوته أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، فإذا نقص حبه لأخيه في الدين ـ من غير مسوغ شرعي ـ دلّ ذلك على نقص إيمانه؛ لتقصيره في حق إخوانه.
الميثاق الرابع: وهم أتباع لنبي واحد هو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وأشرف المرسلين الذي أرشدهم بقوله: «وكونوا عباد الله إخوانًا»، وقوله: «والمسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم»، وإخباره أن الحب في الله بين المؤمنين أوثق عرى الإيمان، وأنه تنال به ولاية الله تعالى.
الميثاق الخامس: وهم أرحام يرجعون إلى أصل واحد، فالتواد بينهم والتعاطف والتواصل من صلة الرحم التي يصل الله تعالى ببره وإحسانه من وصلها، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
فصلة الرحم من قوة الدين، وقطيعتها من ضعف الدين، فالتقي وَصُول كريم عند الله، والشقي قَطُوع هين على الله، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13].
فكل هذه الروابط والمواثيق القوية المحكمة تقتضي من أهلها أن يتحابوا، ويتوادوا، ويتناصروا، ويتزاوروا، ويتباذلوا في الله، وأن يتعاونوا على فعل الطاعات، وترك المخالفات، وأداء الحقوق الواجبات، والإحسان في سائر الأوقات، وأن يتواصوا بالحق ويتواصوا بالصبر وبالمرحمة؛ رغبةً إلى الله تعالى، ورجاءً له، ورهبةً منه وخوفًا، وسعيًا في تحقيق مراضيه، وفرارًا مما يغضبه ويؤذيه، يقول تعالى: ﴿ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ﴾ [الإسراء: 57].
وقد أوجب الله تعالى على كل مسلم حقوقًا لأخيه لابد أن يؤديها إليه ولو أساء إليه، تعبدًا لله تعالى وتقربًا إليه، ولهذا يؤديها المؤمن الحق لله، ولا ينتظر من أخيه جزاءً ولا شكرًا له؛ لأنه يطلب ثوابه من ربه؛ وعليه فإنه لا يتأثر بحسن المعاملة، ولا يمنع ويتغير لسوء المقابلة.
فمن تلك الحقوق:
أ*- ابتداؤه بالسلام، ورده التحية بمثلها أو أحسن منها، لقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ﴾ [النساء: 86]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا لقيته فسلم عليه» وقوله: «وأن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف».
فالبادئ بالسلام هو أولى الاثنين بالله عزَّ وجلَّ، والبخيل من بخل بالسلام أو رده. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم».
ب*- إجابة الدعوة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا دعاك فأجبه»، وخاصة وليمة العرس؛ لأحاديث تدل على وجوب إجابتها ما لم يكن ثَمّ منكر.
ت*- النصيحة؛ ولا سيما عند طلبها، لقوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا استنصحك فانصح له»، وقال صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة ـ ثلاثًا ـ قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»، وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ على أصحابه عند البيعة النصح لكل مسلم، والنصيحة: هي حيازة الحظ أو الخير للمنصوح له، فتدله على خير ما تعلمه له، وتحذره وتنهاه عن شر ما تعلمه له، وغايتها وكمالها أن تحب له من الخير ما تحب لنفسك، وتكره له من الشر ما تكره لنفسك، فإذا استنصحك في أمر زواج أو وظيفة أو شخص، فأخلص له في النصيحة، واختر له ما تختار لنفسك.
ث*- إذا عطس، فحمد الله، فَشَمِّتْهُ، أي: قل له: يرحمك الله.
ج*- تنصره ظالـمًا أو مظلومًا، فإن كان ظالـمًا، فنصره حجزه ومنعه عن الظلم، وإن كان مظلومًا، فتدفع عنه الظلم، لقوله صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالـمًا أو مظلومًا»، قالوا: يا رسول الله قد عرفنا كيف ننصره إذا كان مظلومًا، فكيف ننصره إذا كان ظالـمًا؟ قال صلى الله عليه وسلم: «تحجزه عن الظلم فذلك نصره»، وما ذلك إلا لأنك بمنعك إياه عن الظلم تقيه شر نفسه وغيره في الدنيا والآخرة.
فالأخذ على أيدي الظالمين، والسعي في دفع الظلم عن المظلومين بحسب الإمكان من أعظم الحقوق وأجل القرب، وفي الصحيح: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»، وفيه: «ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته».
وإذا كان من حق أخيك عليك أن تمنعه من الظلم أو تدفع الظلم عنه، فلأن لا تظلمه من باب أولى، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه»، أي: لا يظلمه بنفسه ولا يسلمه لغيره حتى يظلمه.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/137153/#ixzz6591qCyek