السلام عليكم
«الإسلام الذاتيُّ والإسلام الوراثيُّ أيُّهما ينهض بالأُمَم؟»(١)
الشيخ محمد علي فركوس الجزائري حفظه الله
[ـ ١ ـ]
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فقَدْ قال الشيخ عبد الحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ:
«يُولَدُ المَرْءُ مِنْ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ فَيُعَدُّ مُسْلِمًا(٢)، فَيَشِبُّ وَيَكْتَهِلُ وَيَشِيخُ وَهُوَ يُعَدُّ مِنَ المُسْلِمِينَ، تَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ كَلِمَاتُ الإِسْلَامِ، وَتُبَاشِرُ أَعْضَاؤُهُ عِبَادَاتٍ وَأَعْمَالًا(٣) إِسْلَامِيَّةً، فِرَاقُ رُوحِهِ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنْ فِرَاقِ الإِسْلَامِ، لَوْ نَسَبْتَهُ لِغَيْرِ الإِسْلَامِ لَرَأَيْتَ مِنْهُ: لَثَارَ(٤) عَلَيْكَ أَوْ بَطَشَ بِكَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّمْ يَوْمًا شَيْئًا مِنَ الإِسْلَامِ، وَلَا عَرَفَ شَيْئًا مِنْ أُصُولِهِ فِي العَقَائِدِ وَالأَخْلَاقِ وَالآدَابِ وَالأَعْمَالِ، وَلَمْ يَتَلَقَّ شَيْئًا مِنْ مَعَانِي القُرْآنِ العَظِيمِ وَلَا أَحَادِيثِ النَّبِيِّ الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؛ فَهَذَا مُسْلِمٌ إِسْلَامًا وِرَاثِيًّا لِأَنَّهُ أَخَذَ الإِسْلَامَ كَمَا وَجَدَهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ـ بِحُكْمِ الوِرَاثَةِ ـ قَدْ أَخَذَهُ بِكُلِّ مَا فِيهِ مِمَّا أُدْخِلَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ مِنْهُ مِنْ عَقَائِدَ بَاطِلَةٍ وَأَعْمَالٍ ضَارَّةٍ وَعَادَاتٍ قَبِيحَةٍ؛ فَذَلِكَ كُلُّهُ عِنْدَهُ هُوَ الإِسْلَامُ، وَمَنْ لَمْ يُوَافِقْهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فَلَيْسَ عِنْدَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ.
هَذَا الإِسْلَامُ الوِرَاثِيُّ هُوَ الإِسْلَامُ التَّقْلِيدِيُّ الَّذِي يُؤْخَذُ بِدُونِ نَظَرٍ وَلَا تَفْكِيرٍ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُ فِيهِ الأَبْنَاءُ مَا وَجَدُوا عَلَيْهِ الآبَاءَ؛ وَمَحَبَّةُ أَهْلِهِ لِلْإِسْلَامِ إِنَّمَا هِيَ مَحَبَّةٌ عَاطِفِيَّةٌ بِحُكْمِ الشُّعُورِ وَالوجْدَانِ.
هَذَا الإِسْلَامُ الوِرَاثِيُّ هُوَ إِسْلَامُ مُعْظَمِ عَوَامِّ الأُمَمِ الإِسْلَامِيَّة ِ، وَلِهَذَا تَرَاهَا ـ مَعَ مَا أَدْخَلَتْ عَلَى الإِسْلَامِ مِنْ بِدَعٍ اعْتِقَادِيَّةٍ وَعَمَلِيَّةٍ، وَمَعَ مَا أَهْمَلَتْ مِنْ أَخْلَاقِ الإِسْلَامِ وَآدَابِهِ وَأَحْكَامِهِ ـ مُتَمَسِّكَةً بِهِ غَايَةَ التَّمَسُّكِ، لَا تَرْضَى بِهِ بَدِيلًا وَلَوْ لَحِقَهَا ـ لِأَجْلِ تَمَسُّكِهَا بِهِ ـ مَا لَحِقَهَا مِنْ خُصُومِهِ مِنْ بَلَاءٍ وَهَوَانٍ(٥).
هَذَا الإِسْلَامُ الوِرَاثِيُّ حَفِظَ عَلَى الأُمَمِ الضَّعِيفَةِ المُتَمَسِّكَةِ بِهِ ـ وَخُصُوصًا العَرَبِيَّةَ مِنْهَا ـ شَخْصِيَّتَهَا وَلُغَتَهَا وَشَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الأَخْلَاقِ تَرْجَحُ بِهِ الأُمَمُ الإِسْلَامِيَّة ُ إِذَا وُزِنَتْ بِغَيْرِهَا؛ وَمِنْ ذَلِكَ خُلُقُ العِفَّةِ وَالطُّهْرِ الَّذِي حَفِظَ نَسْلَهَا فَتَرَاهُ يَتَزَايَدُ، بَيْنَمَا تَشْكُو أُمَمٌ أُخْرَى غَيْرُ إِسْلَامِيَّةٍ مِنْ نُقْصَانِ نَسْلِهَا(٦)، فَالشَّعْبُ الجَزَائِرِيُّ يَزْدَادُ فِي العَامِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةَ أَلْفٍ، وَالشَّعْبُ التُّونُسِيُّ يَزْدَادُ فِي العَامِ خَمْسِينَ أَلْفًا، بَيْنَمَا بَعْضُ الشُّعُوبِ غَيْرِ الإِسْلَامِيَّة ِ يَقِفُ عَنِ الازْدِيَادِ وَيَخَافُ النُّقْصَانَ رَغْمَ مَا عِنْدَ هَذَا مِنَ العِنَايَةِ وَمَا عِنْدَ أُولَئِكَ مِنَ الإِهْمَالِ.
لَكِنَّ هَذَا الإِسْلَامَ الوِرَاثِيَّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْهَضَ بِالأُمَمِ، لِأَنَّ الأُمَمَ لَا تَنْهَضُ إِلَّا بَعْدَ تَنَبُّهِ أَفْكَارِهَا وَتَفَتُّحِ أَنْظَارِهَا، وَالإِسْلَامُ الوِرَاثِيُّ مَبْنِيٌّ عَلَى الجُمُودِ وَالتَّقْلِيدِ، فَلَا فِكْرَ فِيهِ وَلَا نَظَرَ ..».
[ش: ج ٣، م ١٤، ص ١٠٥ ـ ١٠٧، ربيع الأوَّل ١٣٥٧ﻫ ـ فيفري ١٩٣٨م].
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
تعليقات الشيخ فركوس حفظه الله تعالى :
(١) «آثار ابن باديس» (٣/ ٢٤٠).
(٢) في عبارة الشيخ ابنِ باديس ـ رحمه الله ـ بيانٌ لحكم المولود، وأنه تبعٌ لأبوَيْه في أحكام الدنيا، فإِنْ كانا مُسلمَينِ أُلحِقَ بحكم الإسلام، لأنَّ فطرة المولود مُقتضِيَةٌ للإيمان والهدى، وسالمةٌ مِنْ تغييرٍ بالأصالة ـ هذا مِنْ جهةٍ ـ وأنَّ لأبوَيْه ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ تأثيرًا في تغييرِ فِطرَتِه وتحوُّلِه عنها ـ كما سيأتي ـ.
ففي عبارته إشارةٌ واضحةٌ إلى حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِه ِ وَيُمَجِّسَانِه ِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟» ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ﴾ [الروم: ٣٠]» [مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الجنائز» (٣/ ٢١٩) باب: إذا أَسلمَ الصبيُّ فمات هل يُصلَّى عليه، وهل يُعرَض على الصبيِّ الإسلامُ، ومسلمٌ في «القَدَر» (١٦/ ٢٠٧) بابُ معنَى: «كُلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفطرة» وحكمِ مَوْتَى أطفالِ الكُفَّار وأطفالِ المسلمين].
وليس المرادُ بالفطرة في الحديث: الخِلقةَ التي خُلِقوا عليها مِنَ المعرفة بربِّهم، ولا هي البداءةُ التي ابتدأهم اللهُ عليها، ولا هي ما أخَذَه اللهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ عليه السلام مِنَ الميثاق قبل أَنْ يخرجوا إلى الدنيا، ولا هي ما فُطِروا عليه مِنَ الإنكار والمعرفةِ والكفر والإيمان؛ وإنما المعنيُّ بالفطرة في الحديث السابق هو الإسلامُ المتضمِّنُ لمعرفة الله والإقرارِ به على الصحيح مِنَ الأقوال المختلفة في تفسيرِ معنى الفطرة؛ وهذا القول الأخير «هو المعروف عند عامَّة السلف مِنْ أهل العلم بالتأويل» [«التمهيد» لابن عبد البرِّ (١٨/ ٧٢)].
وحديثُ أبي هريرة رضي الله عنه ـ في حدِّ ذاته ـ يدلُّ على أنَّ المراد بالفطرة: هو الإسلامُ مِنْ جوانبَ مُتعدِّدةٍ، منها:
١ ـ ورود عِدَّةِ رواياتٍ أخرى تدلُّ ـ بمجموعها ـ على هذا المعنى، منها: قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم في حديثِ ابنِ نُمَيْرٍ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَهُوَ عَلَى المِلَّةِ»، وفي روايةِ أبي بكر [بنِ أبي شيبة] عن أبي معاوية: «إِلَّا عَلَى هَذِهِ المِلَّةِ حَتَّى يُبَيِّنَ عَنْهُ لِسَانُهُ»، وفي روايةِ أبي كُرَيْبٍ عن أبي معاوية: «لَيْسَ مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الفِطْرَةِ حَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهُ لِسَانُهُ» [«صحيح مسلم» (١٦/ ٢٠٩ ـ ٢١٠)].
٢ ـ تناوُل الحديثِ مِلَلَ الكفر بالذِّكر دون الإسلام: مِنَ اليهوديَّة والنصرانيَّة والمجوسيَّة والمُشرِكيَّة، كما وَرَد في روايةٍ لمسلمٍ (١٦/ ٢٠٩): «وَيُشَرِّكَانِ هِ»؛ فدلَّ الحديثُ على أنَّ الفطرة هي الإسلامُ؛ لأنه أصلُ النشأة، إذ لم يتناوله الحديثُ بالذِّكر؛ والتحوُّلُ عنه إنما يكون مِنْ أصل النشأة إلى غيره مِنَ الديانات، بتأثير الوالدَيْن أو بغيره مِنَ التأثيرات.
٣ ـ والنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم شبَّه الفطرةَ بالبهيمة جَمْعاءِ الخَلْق التي لا نَقْصَ فيها، ثمَّ تُجدَعُ بعد ذلك؛ فإنَّ هذا التشبيهَ يدلُّ على أنَّ التغييرَ طَرَأ على الفطرة السليمة التي وُلِد عليها المولودُ وهي الإسلام.
٤ ـ في خاتمة الحديث فسَّر أبو هريرة رضي الله عنه الفطرةَ بأنها دِينُ الإسلام عند قوله: «وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَا..﴾ [الروم: ٣٠]»، فقَدْ أَطبقَ أهلُ التفسير مِنَ السلف على أنَّ المراد بفطرة الله في الآيةِ المذكورة: هو دِينُ الإسلام [انظر: «التمهيد» لابن عبد البرِّ (١٨/ ٧٢)]؛ وراوي الحديث ـ وهو أبو هريرة رضي الله عنه ـ أعلمُ بما روى وأعرفُ بالمعنى الذي سَمِع.
وفي المسألةِ أدلَّةٌ أخرى خارجيَّةٌ.
فالحاصل: أنَّ المولود يُولَدُ على فطرةٍ سليمةٍ مُقتضِيَةٍ للإيمان ومُستلزِمةٍ للهدى مِنْ غير تغييرٍ كما دلَّ عليه الإجماعُ السابق في الآيةِ والآثارُ المنقولة عن السلف، ثمَّ يصير إلى ما سَبَق في علم الله مِنْ سعادةٍ أو شقاوةٍ بما يطرأ على فِطرَته السليمةِ، وما يعرض لها مِنْ تأثيرٍ؛ فيصير أمرُه إلى ما سَبَق به القَدَرُ، [انظر الاختلافَ في الفطرة في: «معالم السنن» للخطَّابي (٥/ ٨٦ ـ ٨٨)، «التمهيد» لابن عبد البرِّ (١٨/ ٦٨ ـ ٩٥)، «شرح السنَّة» للبغوي (١/ ١٥٦ ـ ١٦١)، «تفسير القرطبي» (١٤/ ٢٥)، «درء التعارض» لابن تيمية (٨/ ٣٥٩ ـ ٤٣٥)، «شفاء العليل» لابن القيِّم (٢/ ٧٧٥ ـ ٨٣٦)، «فتح الباري» لابن حجر (٣/ ٢٤٨ ـ ٢٥٠)].
ويجدر ـ بهذا الصدد ـ أَنْ أُنبِّه على مسألتين مُهِمَّتَيْن، وهما:
ـ الأولى: أنَّ القول بأنَّ الفطرة هي الإسلامُ لا يعني أنَّ المولود يُولَدُ عالمًا بالإسلام ومُقتدِيًا به قولًا وعملًا، وإنما المراد: أنه يُولَدُ المولودُ على محبَّةِ فاطرِه سبحانَه وإقرارِه له بربوبيَّتِه وادِّعائه له بالعبوديَّة إذا ما سَلِمَتْ فِطرتُه مِنَ المُعارِض، فإِنْ خَلَتْ فِطرَتُه مِنْ طارئٍ أو مُعارِضٍ لم يعدل عن الإقرار بخالقه ومحبَّتِه وإخلاصِ الدِّين له؛ ففي الفطرة ـ إذن ـ قوَّةٌ كامنةٌ مُوجِبةٌ للإسلام، ومُقتضِيَةٌ للهدى، ومُستلزِمةٌ للعبوديَّة الخالصة لله تعالى؛ وهذا ـ بلا شكٍّ ـ قَدْرٌ زائدٌ عن الخِلْقة والتمكين مِنْ قَبول الإسلام وقابليَّتِه له؛ وقد أَفصحَ ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ عن هذا المعنى في [«شفاء العليل» (٢/ ٧٨٩ ـ ٧٩٠)] بقوله: «وممَّا ينبغي أَنْ يُعلَم: أنه إذا قِيلَ: إنه وُلِد على الفطرة أو على الإسلام أو على هذه المِلَّة أو خُلِق حنيفًا فليس المرادُ به أنه ـ حين خَرَج مِنْ بطنِ أمِّه ـ يعلم هذا الدِّينَ ويريده؛ فإنَّ الله يقول: ﴿وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡ*ٔٗا﴾ [النحل: ٧٨]، ولكنَّ فِطرَتَه مُوجِبةٌ مُقتضِيَةٌ لدِين الإسلام ولقُربه ومحبَّتِه، فنفسُ الفطرةِ تستلزم الإقرارَ بخالقه ومحبَّته وإخلاص الدِّين له، ومُوجَباتُ الفطرةِ ومُقتضَيَاتُها تحصل شيئًا بعد شيءٍ بحسَبِ كمال الفطرة إذا سَلِمَتْ مِنَ المُعارِض؛ وليس المراد ـ أيضًا ـ مجرَّدَ قَبولِ الفطرة لذلك، فإنَّ هذا القَبولَ تغيَّر بتهويد الأبوين وتنصيرِهما بحيث يُخرِجان الفطرةَ عن قَبولها، وإِنْ سَعَيَا بين بنيهما ودعائهما في امتناعِ حصول المقبول؛ وأيضًا ليس هو الإسلامَ، وليس هو هذه المِلَّةَ، وليس هو الحنيفيَّة؛ وأيضًا فإنه شبَّه تغييرَ الفطرة بجَدْع البهيمة الجمعاء، ومعلومٌ أنهم لم يغيِّروا قَبولَه، ولو تغيَّر القَبولُ وزال لم تَقُمْ عليه الحجَّةُ بإرسال الرُّسُل وإنزالِ الكُتُب؛ بل المراد أنَّ كُلَّ مولودٍ فإنه يُولَدُ على محبَّتِه لفاطره وإقرارِه له بربوبيَّتِه وادِّعائه له بالعبودية، فلو خُلِّيَ وعدمَ المُعارِض لم يعدل عن ذلك إلى غيره».
ـ الثانية: وجود فرقٍ في حكمِ الْتِزام الصبيِّ دِينَ آبائه بعد البلوغ والعقلِ بين حالتين ذَكَرهما ابنُ أبي العزِّ ـ رحمه الله ـ في [«شرح العقيدة الطحاوية» (٢٧٣)] بقوله: «فإنَّ الدِّين الذي يأخذه الصبيُّ عن أبويه هو: دِينُ التربية والعادة، وهو لأجل مصلحة الدنيا، فإنَّ الطفل لا بُدَّ له مِنْ كافلٍ، وأحقُّ الناس به أبواه، ولهذا جاءَتِ الشريعةُ بأنَّ الطفل مع أبوَيْه على دِينهما في أحكام الدنيا الظاهرة، وهذا الدِّين لا يُعاقِبُه اللهُ عليه ـ على الصحيح ـ حتَّى يبلغ ويعقل وتقوم عليه الحجَّةُ، وحينَئذٍ فعليه أَنْ يتبع دِينَ العلم والعقل، وهو الذي يعلم ـ بعقله هو ـ أنه دِينٌ صحيحٌ، فإِنْ كان آباؤه مُهتدِين كيوسفَ الصدِّيق مع آبائه، قال: ﴿وَٱتَّبَعۡتُ مِلَّةَ ءَابَآءِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ﴾ [يوسف: ٣٨]، وقال ليعقوبَ بَنُوهُ: ﴿نَعۡبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ إِبۡرَٰهِ*ۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ﴾ [البقرة: ١٣٣]، وإِنْ كان الآباءُ مُخالِفين الرُّسُلَ كان عليه أَنْ يتبع الرُّسُلَ كما قال تعالى: ﴿وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حُسۡنٗاۖ وَإِن جَٰهَدَاكَ لِتُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَآ﴾ [العنكبوت: ٨] الآية، فمَنِ اتَّبع دِينَ آبائه بغير بصيرةٍ وعلمٍ ـ بل يعدل عن الحقِّ المعلومِ إليه ـ فهذا اتَّبَع هواه، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلۡ نَتَّبِعُ مَآ أَلۡفَيۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَآۚ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَآؤُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ شَيۡ*ٔٗا وَلَا يَهۡتَدُونَ ١٧٠﴾ [البقرة]، وهذه حالُ كثيرٍ مِنَ الناس مِنَ الذين وُلِدوا على الإسلام، يتبع أحَدُهم أباه فيما كان عليه مِنِ اعتقادٍ ومذهبٍ وإِنْ كان خطأً ليس هو فيه على بصيرةٍ، بل هو مِنْ مُسلِمة الدار، لا مُسلِمةِ الاختيار، وهذا إذا قِيلَ له في قبره: [«مَنْ ربُّك؟» قال: «هاه هاه، لا أدري]، [سمعتُ الناسَ يقولون شيئًا فقُلتُه]»». [ما بين المعقوفتين الأُوليَيْن فيه إشارةٌ إلى ما أخرجه أبو داود في «السنَّة» (٥/ ١١٥) بابٌ في المسألة في القبر وعذابِ القبر، وأحمد (٤/ ٢٨٨)، مِنْ حديثِ البراء بنِ عازبٍ رضي الله عنهما، وصحَّح إسنادَه الألبانيُّ في تحقيقِ «المشكاة» (١/ ٤٧). أمَّا ما بين المعقوفتين اللَّتَيْن تَلِيانِهما ففيه إشارةٌ ـ أيضًا ـ إلى ما أخرجه البخاريُّ في «العلم» (١/ ١٨٢) بابُ مَنْ أجاب الفُتْيا بإشارة اليد والرأس، ومسلمٌ في «الكسوف» (٦/ ٢١٠ ـ ٢١١) بابُ ما عُرِض على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في صلاة الكسوف مِنْ أمر الجنَّة والنار، مِنْ حديثِ أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رضي الله عنهما].
(٣) وفي الأصل: «وأعمال» بالرفع، والصوابُ كما أَثبتُّه بالنصب.
(٤) [ع.ط]: كذا في الأصل.
(٥) قسَّم الشيخ ابنُ باديس ـ رحمه الله ـ المسلمين إلى قسمين:
ـ الأوَّل: المسلمون بالوراثة والتقليد:
ويُطلِقُ عليهم الفقهاءُ ـ أيضًا ـ اسْمَ: «مُسْلِمة الدار»، وهُم مَنْ لم يتعلَّموا شيئًا مِنْ دِينهم الإسلام، ولا دَرَسوا شيئًا مِنْ أصوله ومبادئه في العقائد والأعمال والأخلاق، ولا عرفوا شيئًا مِنَ الكتاب والسنَّة: علمًا وتفسيرًا، وعملًا وسلوكًا، ولا استبانوا سبيلَ المؤمنين وسبيلَ المجرمين، وإنَّما أخذوا دِينَهم عن طريقِ تقليد الآباء والأجداد والسيرِ على مذهبهم الذي وَرِثوه، فمنه الصحيح مِنَ الإسلام، ومنه الدخيلُ والمُحدَثُ ممَّا ليس مِنَ الدِّين مِنْ: عقائدَ فاسدةٍ، وبِدَعٍ مُحدَثةٍ، وأعمالٍ مُنكَرةٍ، وعاداتٍ قبيحةٍ، ونحوِ ذلك ممَّا يعتقدون أنه مِنْ صُلب الدِّين؛ فيتعصَّبون له مع ما دَخَله مِنْ طوامِّ الشرك، وأباطيلِ الافتراء على الله، وخرافاتِ المسالك، ويتمسَّكون به غايةَ التمسُّك ظنًّا منهم أنه مِنْ سبيل المؤمنين، وهم يحسبون أنهم ـ بذلك ـ يُحسِنون صُنعًا.
ونتيجةً لذلك لا يقبلون الإسلامَ المُصفَّى مِنْ رذائل الجاهليَّة ورواسبِها المذمومة؛ لاعتقادهم أنَّ ما هم عليه هو دِينُ الحقِّ المُوصِلُ إلى مقصود ربِّهم، ومَنْ خالفهم في ذلك فليس ـ هو عندهم ـ مُتَّبِعًا سبيلَ المؤمنين المهتدين، بل هو في طريقِ هَلَكةٍ مِنْ خصوم الدِّين وأعداءِ الإسلام.
وهذا حالُ كثيرٍ ممَّنْ نَشَأ في عافية الإسلام وجَهِل ما يدعو إليه الإسلامُ ويُنوِّهُ به ويحضُّ على الْتِزامِه والاستقامةِ عليه، وخاصَّةً العقيدة الصحيحة، فلا يعرف ما يخالفها أو ما يُضادُّها بسببِ إعراضه عن تعلُّمها، أو لعدمِ تقريرها في مُقرَّرات المدارس النظاميَّة والحرَّة، أو لقلَّةِ العناية بها، أو لعدمِ شعوره بتلبُّسِ إيمانه بظلمٍ مِنَ الشرك والإلحاد والضلال، أو لعدمِ تفطُّنِه لِمَا يُفسِد عقيدتَه ويُلوِّثُها مِنْ مسائل الجاهليَّة؛ لأنه غَلَب على ظنِّه أنَّ مسائل الجاهليَّة إنما حصَلَتْ لقومٍ سَبَقوا وانتهى أمرُهم باندثارهم، ولم يعقبوا وارثًا يُحيِيها بعد نور الإسلام وهدايته.
ولا يخفى أنَّ مِثلَ هذه الأسبابِ وغيرها مِنْ عدمِ معرفة الجاهليَّة وشركيَّاتها وأباطيلِها، وعدمِ التبصُّر بسبيل المُجرِمين، تُفْضي ـ بلا ريبٍ ـ إلى امتزاج الحقِّ بالباطل، والهدى بالضلال، والرشدِ بالغيِّ دون تمييزٍ، وهو الأمرُ الذي يحول بين المرء وبين فهم الحجَّة الرساليَّة والانتفاعِ بها؛ وعندئذٍ يعتقد الباطلَ حقًّا والحقَّ باطلًا؛ إذ هو جاهلٌ بحقيقةِ ما يُعارِضُ العقيدةَ الصحيحةَ ليتبيَّن له فسادُه، فيستجيز الشِّركَ والبِدَعَ والخرافاتِ والأباطيلَ وغيرَها، ويستدرك على الشرع ما هو غريبٌ عنه، وعلى الدِّين ما هو دخيلٌ فيه، ما أَنزلَ اللهُ به مِنْ سلطانٍ، ويعتبر هذه البِدَعَ والاستدراكاتِ مِنْ صُلبِ الدِّين والتوحيد لأنه لا يعرف أباطيلَ الجاهليَّة، بل وَجَد آباءَه على ذلك فمَضَى مُعتقِدًا إيَّاه تقليدًا وتعصُّبًا، فكان ذلك سببًا في نقضِ عُرَى الإسلام كما قال عمر بنُ الخطَّاب رضي الله عنه: «إِنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً إِذَا نَشَأَ فِي الإِسْلَامِ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الجَاهِلِيَّةَ» [انظر: «مجموع الفتاوى» (١٠/ ٣٠١، ١٥/ ٥٤) و«منهاج السنَّة النبويَّة (٢/ ٣٩٨، ٤/ ٥٩٠) كلاهما لابن تيمية؛ ولم أَجِدْ هذا الأثرَ مرويًّا بهذا اللفظ، ولعلَّه نُقِل بالمعنى كما في «شُعَب الإيمان» للبيهقي (١٠/ ٢٨) وغيرِه].
هذا، وقد شَرَح ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ قولَ عمر رضي الله عنه في [«مدارج السالكين» (١/ ٣٤٣)] بقوله: «وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهليةَ والشرك، وما عابه القرآنُ وذمَّه وَقَع فيه وأَقرَّه، ودَعَا إليه، وصوَّبه وحسَّنه، وهو لا يعرف أنه هو الذي كان عليه أهلُ الجاهليَّة أو نظيرُه، أو شرٌّ منه أو دونه، فينقض بذلك عُرَى الإسلام عن قلبه، ويعود المعروفُ مُنكَرًا والمُنكَرُ معروفًا، والبدعةُ سُنَّةً والسُّنَّةُ بدعةً، ويُكفِّر الرَّجلَ بمحض الإيمان وتجريدِ التوحيد، ويبدِّع بتجريد متابعة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم ومفارقةِ الأهواء والبِدَع، ومَنْ له بصيرةٌ وقلبٌ حيٌّ يرى ذلك عيانًا، واللهُ المُستعانُ».
هذا، ومُعظَمُ مُسلِمةِ الدار ـ أي: المسلمين بالوراثة والتقليد ـ هم مِنْ عوامِّ الأُمَمِ الإسلاميَّة وأشباهِهم ـ أيضًا ـ مِنَ المُنتسِبين للعلم والمعرفة، الذين طابعُ إسلامهم مبنيٌّ على التقليد المذموم والجمود والتعصُّب المَقيتين، وَرِثوه عن طريق الانتساب إلى دِينِ آباءٍ مسلمين، واكتسبوه عنهم بالتربية والعادة؛ فمحبَّتُهم للإسلام ودفاعُهم عنه ونُصرتُهم له إنما هي مؤسَّسةٌ على العاطفة الدِّينيَّة بحكم الشعور والوجدان، لا على محبَّةٍ قلبيَّةٍ مبنيَّةٍ على العقل والحجَّة والبرهان، إذ لم تتبيَّنْ لهم حقيقةُ ما هم عليه مِنَ المآخذِ والهَنَات بما اعتقدوه مِنْ آفات الجاهليَّة وأضرارِها على دِينِ الله تعالى، زعمًا منهم أنه مِنْ سبيل المؤمنين، وقد أَوقعَهم في ذلك عدمُ معرفتهم بالضدِّ الذي وَرِثوه ولَبِسوه، وهو بعضٌ مِنْ تفاصيلِ سبيل المجرمين ممَّا يُنكِرُه الإسلامُ بدليله وآياته؛ إذ «بضِدِّها تتميَّز الأشياءُ»، وإذا حلَّ الغموضُ والعمى انتشر الجهلُ واختلط الحقُّ بالباطل وعشعشَتِ العداوةُ والبغضاء، وكما قِيلَ ـ أيضًا ـ: «مَنْ جَهِل شيئًا عاداه»؛ قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ في [«الفوائد» (١١٨) عند قولِ عمر بنِ الخطَّاب رضي الله عنه السابق ما نصُّه: «وهذا مِنْ كمال علمِ عمر رضي الله عنه؛ فإنه إذا لم يعرف الجاهليَّةَ وحُكمَها، وهو كُلُّ ما خالف ما جاء به الرسولُ، فإنه مِنَ الجاهلية، فإنها منسوبةٌ إلى الجهل، وكُلُّ ما خالف الرسولَ فهو مِنَ الجهل، فمَنْ لم يعرف سبيلَ المجرمين ولم تَستبِنْ له أَوشكَ أَنْ يظنَّ في بعضِ سبيلهم أنها مِنْ سبيل المؤمنين، كما وَقَع في هذه الأمَّةِ مِنْ أمورٍ كثيرةٍ في باب الاعتقاد والعلم والعمل، هي مِنْ سبيل المجرمين والكُفَّار وأعداءِ الرُّسُل أَدخلَها مَنْ لم يعرف أنها مِنْ سبيلهم في سبيل المؤمنين، ودَعَا إليها، وكفَّر مَنْ خالفها، واستحلَّ منه ما حرَّمه اللهُ ورسولُه».
ـ الثاني: المسلمون بالذات:
ويُطلِقُ عليه الفقهاءُ اسْمَ: «مُسلِمة الاختيار»، وهم الذين عرفوا دِينَهم الحقَّ فأخذوه عن دليلٍ وبرهانٍ مِنَ الكتاب والسنَّة والفطرة والحسِّ الصحيحين، واستبانَتْ لهم تفاصيلُ سبيلِ المؤمنين وسبيلِ المجرمين، كما جاء في التنزيل قولُه تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ وَلِتَسۡتَبِينَ سَبِيلُ ٱلۡمُجۡرِمِينَ ٥٥﴾ [الأنعام]، وقولُه تعالى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ١١٥﴾ [النساء]، فهؤلاء اعتقادُهم مبنيٌّ على علمٍ بقواعد الإسلام ودرايةٍ بمَحاسِن الدِّين في الاعتقاد والعمل والأخلاق، وبصيرةٍ وفهمٍ لتفاصيلِ سبيلِ أهل الحقِّ والهدى مِنْ سبيلِ أهل الباطل والضلال، على ما وَصَف اللهُ تعالى رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم وأتباعَه بقوله: ﴿قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٠٨﴾ [يوسف].
وعلى ضوءِ ما تقدَّم فقَدْ أَوضحَ ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ هذا القسمَ مِنَ المسلمين ممَّنِ استبان لهم السبيلان علمًا وعملًا في [«الفوائد» (١١٨)] بقوله: «فالعالمون بالله وكتابه ودِينه عرفوا سبيلَ المؤمنين معرفةً تفصيليَّةً، وسبيلَ المجرمين معرفةً تفصيليَّةً، فاستبانَتْ لهم السبيلان كما يستبين للسالك الطريقُ المُوصِلُ إلى مقصوده والطريقُ المُوصِلُ إلى الهلكة، فهؤلاء أعلمُ الخَلْقِ وأنفعُهم للناس وأنصحُهم لهم، وهم الأدِلَّاءُ الهُدَاةُ، برَّز الصحابةُ على جميعِ مَنْ أتى بعدهم إلى يومِ القيامة، فإنهم نشأوا فى سبيل الضلال والكفرِ والشرك والسُّبُلِ المُوصِلة إلى الهلاك، وعرفوها مُفصَّلةً، ثمَّ جاءهم الرسولُ فأَخرجَهم مِنْ تلك الظلمات إلى سبيل الهدى وصراطِ الله المستقيم؛ فخرجوا مِنَ الظلمة الشديدة إلى النور التامِّ، ومِنَ الشرك إلى التوحيد، ومِنَ الجهل إلى العلم، ومِنَ الغيِّ إلى الرشاد، ومِنَ الظلم إلى العدل، ومِنَ الحيرة والعمى إلى الهدى والبصائر؛ فعرفوا مِقدارَ ما نالوه وظَفِروا به، ومقدارَ ما كانوا فيه؛ فإنَّ الضِّدَّ يُظهِرُ حُسنَه الضِّدُّ، وإنما تتبيَّن الأشياءُ بأضدادها؛ فازدادوا رغبةً ومحبَّةً فيما انتقلوا إليه، ونفرةً وبغضًا لِمَا انتقلوا عنه، وكانوا أَحبَّ الناسِ في التوحيد والإيمانِ والإسلام، وأبغضَ الناسِ في ضِدِّه، عالمين بالسبيل على التفصيل».
(٦) ذَكَر الشيخ ابنُ باديس رحمه الله ـ كما في المتن ـ بعضَ الجوانب الإيجابية مِنْ آثار الإسلام الوراثيِّ منها: أَنْ حَفِظ على الأُمَمِ الضعيفة ـ وخاصَّةً العربيَّة منها ـ شخصيَّتَها ولُغتَها ونصيبًا مِنْ خُلُق العِفَّةِ والطُّهر ترجح به الأُمَمُ الإسلاميَّةُ على بقيَّةِ الأُمَم إذا ما قُورِنَتْ بها.
ويحسن ـ في هذا المَقامِ ـ التنبيه على أمرين:
ـ أحَدُهما: أنَّ اللغة العربيَّةَ إذ بَقِيَتْ صامدةً ـ طِيلةَ الغزو الفكريِّ الطويل ـ أمامَ الغارات المُدمِّرة مِنْ قِبَل المستدمر الفرنسيِّ الحاقد؛ فإنما ذلك ـ بعد توفيق الله ـ لوجودِ أنصارٍ صادقين يدافعون عنها ضِدَّ المُتآمِرين عليها، ويؤمنون بالحقيقة التلازمية بين اللغة العربيَّة والدِّين الإسلاميِّ، التي ـ مِنْ خلالها ـ تتميَّز شخصيةُ المسلمِ الأصيل؛ إذ لا يخفى أنَّ اللسان العربيَّ شعارُ الإسلام وأهلِه، وهو السبيل المُوصِلُ إلى معرفةِ ما في الكتاب والسنَّةِ والآثار مِنْ عقائدَ وأحكامٍ وأخلاقٍ.
فهؤلاء رجالٌ حافظوا على شخصيَّتِهم الأصيلة مِنَ التمييع والانصهار؛ يريدون للعربيَّةَ البقاءَ لا الفَناء، وهم يعلمون بالأساليب الماكرة للمُستدمِر الفرنسيِّ ومخطَّطاته الخبيثة لتمزيق الوَحْدة العربيَّة والإسلاميَّة، التي وسيلتُها اللسانُ العربيُّ، وقِوامُها الدِّينُ الإسلاميُّ، وهم متفطِّنون لمَساعِيهم الحثيثةِ لإطفاءِ نور حضارتهم الإسلاميَّة المجيدة وتدميرِها، ووأدِ تراثهم الفقهيِّ الزاخر بعلوم الشريعة والدِّين، وتحطيمِ علومهم الفكريَّة والأدبيَّة، وطمسِ معالم شخصيَّتِهم العربيَّة الإسلاميَّة العريقة؛ بُغيةَ تذويبها ومسخِ عُقول أبناء الإسلام مسخًا يصعب معه ـ والحالُ هذه ـ تربِيَتُهم على الهدى والخُلُق الكريم.
والمُستدمِرُ الفكريُّ الغربيُّ ـ وفي طليعته فرنسا ـ لا ييأس مِنْ تكرير محاولاته المتعدِّدة ـ دون كللٍ ولا مللٍ ـ ما دام وَجَد أرضيَّةً يستطيع ـ مِنْ خلالها ـ «تشكيلَ هذه الأمَّةِ في قالبٍ غربيٍّ تابعٍ للمُسْتَعْمِر، يَسْتمِدُّ مُقوِّماتِه وتشريعَه وثقافتَه ولُغتَه مِنْ مَحاضِنِ الغربِ العلمانيِّ المتربِّصِ بها، تلك المَحاضنُ التي تَخرَّجَ منها متغرِّبون مِنْ أبناء جِلْدَتِنا، ممَّنْ حَطَبُوا بحبلِ أعداءِ الإسلام وكَالُوا بصاعِهم؛ فرجعوا حربًا على أُمَّتِهم بأَنْكَى وسائلِ الهدم والتذويب، سواءٌ للجانب الدينيِّ أو الخُلُقيِّ أو اللغويِّ؛ فاتَّحَدَ التابعُ بالمتبوع في تبعيةٍ فكريةٍ مخطّطةٍ للتآمر على اللغة العربية، وغايتُها هَدْمُ الدينِ بهَدْمِ لسانه الذي يتعبَّدون به، وقَدْ تَقَدَّمَ التلازمُ بين اللغة والدِّين؛ هذا، ولا يَزال الاستعمارُ الفكريُّ ـ وعلى رَأْسِه فرنسا ـ يُحاوِلُ ـ جاهدًا ـ بيدِ أبناءِ الوطنِ هَدْمَ اللغةِ العربيةِ وإضعافَها في نفوسهم، وهو ما يُلاحَظُ ـ عِيانًا ـ مجسَّدًا في تَراجُعِ اللغةِ العربيةِ في مَيادينَ شتَّى، وذلك إمَّا بإحلالِ الفرنسيةِ أو اللغاتِ الأجنبيةِ مَحَلَّها، سواءٌ في خطاباتِ الناسِ والمسؤولين خاصَّةً، أو في واجهات المَحَلَّات، وإمَّا بالدعوة إلى استخدام اللهجات العامِّيَّة الدارجةِ المَحشُوَّةِ بالفرنسيَّة لغةً للتخاطب على القنوات الإذاعيَّة العربيَّة الرسميَّةِ وغيرِها مِنَ المجالات، بل أَصْبَحَتِ اللغةُ العامِّيَّةُ الدارجةُ لغةً للتأليف والكتابة، وإمَّا بالدعوة إلى كتابتها بالحروف اللاتينيَّة»، واللهُ المُستعانُ، [انظر الكلمةَ الشهرية رقم: (٩٨) الموسومة ﺑ: «اللُّغةَ العربية وتآمر الأعداء عليها» على الموقع الرسميِّ].
ـ ثانيهما: أنَّ المرأة المسلمة التي كرَّمها الإسلامُ، ورَفَع مكانتَها، وضَمِن لها ـ في محيطِ تعاليمِ دِينِها وأحكامِ شريعتِها ـ الكرامةَ والسعادة في الدنيا والآخرة، وأَعزَّها بأَنْ جَعَلها صانعةَ الرجالِ ومُربِّيةَ الأجيال، قد طالَتْها يدُ أعداءِ الدِّين الماكرةُ الخبيثةُ التي سَعَتْ إلى تغريبها وإخراجها عن أخلاقها وقِيَمِ دِينِها لتغتالَ عِفَّتَها وطُهرَها وشرفَها، بدعوى التحرُّرِ ـ زعموا ـ وانتزاعِ الحقوق، والمطالبةِ بمساواة الرجل، وبدعوَى فكِّ قيودِ المحظور الدِّينيِّ والمطالبةِ بالتمدُّن الحضاريِّ وما إلى ذلك مِنَ المَطالِب.
فتلك هي الدعواتُ البرَّاقةُ والمُغرِيَةُ والمُضلِّلةُ التي انخدع بها الكثيرُ مِنْ أبناءِ أمَّتِنا وبناتها، وبتنفيذٍ مِنْ بني جلدتنا؛ فانساقَتِ المرأةُ خاصَّةً على إِثْرِ هذه الأباطيلِ الكاذبة ـ بدونِ إدراكٍ أو تفكيرٍ ـ إلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ، وانجذبَتْ لتقليد الإفرنجيَّات في الفساد والإفساد، في تبعيَّةٍ كاملةٍ ومُفرِطةٍ على النمط الغربيِّ الذي تأثَّرَتْ به فكريًّا وأخلاقيًّا وسلوكيًّا واجتماعيًّا.
ونتيجةً لذلك أصبحَتْ كثيرٌ مِنَ النساء المتأثِّرات بالنموذج الغربيِّ وأمجادِه الزائفة متهتِّكاتٍ بائراتٍ، قَلَّ فيهنَّ الحياءُ، وضاعَتِ الأعراضُ، وضَعُفَ خُلُقُ العِفَّةِ والطُّهرِ الحافظُ للنَّسل الذي هو ذخيرةُ الأُمَم، وانحطَّتِ الكرامةُ إلى الحضيض مِنَ الإنسانيَّة الراشدة إلى الحيوانيَّة الهابطة المُقلَّدة، وما زاد المرأةَ تقليدُها الأعمى للإفرنجيَّة إلَّا نكوصًا وتقهقرًا وانهيارًا بعد ازدهارٍ؛ فهذه اليد التي امتدَّتْ إليها ما هي إلَّا يدٌ مغتالةٌ مُجرِمةٌ مدمِّرةٌ زجَّتْ بها في مُستنقَعِ الرذيلة والعار، تلهث خلف سحابٍ حسِبَتْه ماءً، وعرَّضَتْها إلى طُرُق التِّيه والانحلال، في واقعٍ مُنحَطٍّ لدرجةٍ تدعو إلى القلق والأسى، بعدما أَنصفَها الإسلامُ وأعلى قَدْرَها، فجَعَلها أمًّا مُكرَّمةً حَنونًا، وأختًا معزَّزةً مُحترَمةً، وبنتًا مصونةً محبوبةً، وزوجةً ودودةً مكفولةً.
هذا، وأمرُ الذكور ـ في هذا المجال ـ ليس بمَنْأًى عمَّا عليه شأنُ الإناث، إذ لا يختلف واقِعُهم المُشترَكُ في الاستسلام لروح الخنوع والاستكانة والانبطاح والانهزاميَّة، في تبعيَّةٍ عمياءَ للغزو الفكريِّ الغربيِّ المُدمِّر، ممَّا يدعو إلى الحيرة، ويبعث على القلق، ويُوقِعُ في الانسلاخ والفَناء والذوبان، واللهُ المُستعان.